Wahat Cumr
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Noocyada
التي تصدر أولى طبعاتها في العاشرة صباحا، فوجدت التفاصيل المفزعة عن ضرب الطيران المصري، وعن القتال الدائر في سيناء وفي هضبة الجولان وفي الضفة الغربية! محال محال محال! وعندما عادت نهاد في الخامسة من العمل، لم يكن لنا هم إلا متابعة الأنباء، فاجتمعنا في القاعة المخصصة للتليفزيون؛ حيث أذاعت الإذاعة جانبا من الحديث الذي أدلى به عبد الناصر، ثم تحقيقا مصورا عن ضرب الطائرات المصرية، وقال المعلق العسكري في النهاية: «لقد انتهت الحرب فعليا على الجبهة المصرية في الساعات الأولى من هذا الصباح، فلن يستطيع الجيش المصري أن يصمد للقتال في سيناء دون غطاء جوي.»
د. محمد نوح، د. محمد مصطفى رضوان عام 1967م.
ويعلم الله كيف قضينا تلك الليلة، وفي الصباح الباكر خرجت الصحف جميعا وعلى صدر صفحاتها خرائط وصور فوتوغرافية، وتصريحات لا نهاية لها، وتعليقات، وكنت أترجم ما أقرأ والعرب حولي يستمعون حتى حل المساء فانصرفوا، وفي صبيحة اليوم الثالث (الأربعاء) سمعت جلال معوض يقول إن تحولا قد وقع في سير المعارك؛ إذ تدخلت طائرات أجنبية فتأكدنا أنه يعني الطائرات البريطانية والفرنسية؛ ومن ثم أرسلت استقالتي إلى ماري بيرتون فمن المحال أن أعمل في جهة معادية، ولو كانت رسميا مستقلة عن الحكومة، وانتابني مرض غريب لا أعرف وصفا له حتى الآن؛ إذ كنت في شبه غيبوبة، فاستدعت نهاد الطبيب، وعندما فحصني بدت عليه علامات الحيرة، وقال إنها إنفلونزا مصحوبة بارتفاع مفاجئ في الضغط، ووصف عدة أدوية خرجت نهاد فأحضرتها، ومكثت في قبضة ذلك المرض أكثر من أربع وعشرين ساعة، ونهاد يعتصرها القلق ولا تفارقني، حتى تماثلت للشفاء واطمأنت، وأعلن الراديو قبول قرار الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار، وقال إن عبد الناصر سوف يوجه حديثا إلى الأمة في المساء.
د. محمد نوح 1967م.
واجتمع العرب في نحو الخامسة مساء في غرفة سيدة أردنية كانت حاملا ولديها مذياع ممتاز يمكن الاستماع فيه إلى معظم المحطات العربية، وفي نحو الخامسة والنصف بدأ عبد الناصر حديثه فروى الخدعة التي تعرض لها، ويبدو أنني لم أكن منتبها لدلالة ما يرمي إليه، ولم أنتبه إلا إلى السيدة وهي تصرخ وتلطم وتقول: «لا لا يا عبد الناصر! لا تتركنا!» وكان لم يعلن بعد عن القرار الذي قرر أن يتخذه ولكنها أحست بفطرتها بما يرمي إليه، فبدأ بكاء وعويل غريب؛ ومن ثم اصطحبت نهاد وخرجنا من المبنى وطفقنا نسير ونسير كأنما لنستوعب ما حدث، هل نصدق ما تقوله الصحف البريطانية؟ هل وصل اليهود فعلا إلى قناة السويس؟ وفي ثلاثة أيام؟ ألم نحارب حقا؟ هل دمر سلاح الطيران المصري؟ وأهم من ذلك كله، هل فقدنا عبد الناصر؟
ولم نعد إلا في ساعة متأخرة، ولم نستغرق في النوم إلا هما وكمدا، وفي التاسعة صباحا طرق أحدهم على الباب فقلت له تفضل فإذا به محمد مصطفى رضوان يقول لي إن الجماهير في القاهرة قد خرجت في مظاهرات تطالب عبد الناصر بالعدول عن قرار التنحي. ولم تغرب شمس يوم الجمعة حتى قبل عبد الناصر أن يعود وإن استمرت الجماهير في الإعراب عن حبها وتأييدها له في اليوم التالي، وتنفسنا الصعداء، وإن كنا ما نزال نتابع أخبار الحرب على الجبهة السورية، وكانت أنباء ضياع القدس قاتلة، وضياع الضفة الغربية، وما إن حل الأسبوع الجديد حتى توقف إطلاق النار على جميع الجبهات، ستة أيام عصفت بنا قبل أن تعصف بالجميع؛ فنحن نعيش وسط الأعداء، وكان موقف العرب الذين يعملون في الإذاعة لا يحسدون عليه، وكان الهنود يسألونني لماذا لم تطلقوا الصواريخ؟ وكان معظم الإنجليز لا يدرون حقيقة ما جرى رغم كم الألفاظ الهائل المنهال عليهم ليلا ونهارا، وكان خالي الدكتور كمال يعتصره القلق على أسرته في الإسكندرية، فقرر الرحيل مع زوجته وقطع فترة عمله في لندن، وظل يتردد على شركات الطيران حتى وجد مكانين على إحدى الطائرات بصعوبة بالغة، وبتنا وحدنا نواجه صيف النكسة.
3
وحاولت استعادة توازني فذهبت إلى الكلية لمقابلة المشرف، فحدد لي موعدا في يوم الإثنين التالي، وعندما قابلني بدا عليه التعاطف وقال لي «ماذا كنت تفعل؟ الأنباء من مصر لا تساعد على التركيز!» وعجبت لتلك «المخافضة» (understatement)
في التعبير، وناقشته في مستقبل العمل، واتفقنا على أن نحاول وضع الرسالة في صورتها النهائية في سبتمبر، وأن أتقدم للامتحان في أكتوبر. وعدت للعمل الدراسي بانتظام، ولكنني لم أكن أستطيع التركيز فيما أقرأ، وكانت ليالي صيف يوليو مشحونة بالكوابيس، وكنت أحلم وأنا بعد يقظ أحاول الاستغراق في النوم، كنت أحلم حلما لا يتغير ولا يتبدل، وهو أننا أعددنا الصواريخ سرا، وفاجأنا العدو فدمرناه تدميرا، وكنت أسرح في تفاصيل الأسلحة التي سنستعملها، ثم أرسم لنفسي صور الأنباء التي ستنقلها أجهزة الإعلام، وما إن يشرق الصباح حتى نعود إلى النقاش فيما حدث، وكيف حدث - ولماذا حدث؟
ووصل إلى لندن بعض الضباط الذين أصيبوا في الحرب للعلاج، وكان من بينهم رائد يدعى حسيب أصيب بقنبلة نابالم في سيناء، وهذا النوع من القنابل المحرمة دوليا يشعل النار التي لا يطفئها شيء، ولحسن حظه كان يرتدي بلوفر ذا أكمام طويلة وكان يرسل لحيته فخلع البلوفر المشتعل وأكلت النار لحيته، وكنا قد خرجنا في رحلة من رحلات نادي الطلاب العرب، فانطلق يقص علي ما فعله الإسرائيليون، وكيف حاربوا، وقال لي تفصيلا كيف كانوا يحاصرون إحدى الكتائب بست وعشرين بطارية مدفعية ولا يتوقفون إلا بعد تدمير الكتيبة، ثم ينتقلون إلى غيرها، ولا منجاة لكتيبة في الصحراء لا تملك من سلاح الجو ما يعوضها عن العراء المفزع. وتوالت لقاءاتنا مع القادمين من مصر، وتوالت متابعتنا للصحف المصرية، حتى جاءت سميرة قنديل التي كانت تعد رسالة للدكتوراه في الزراعة بعد أن جمعت المادة العلمية من مصر وقالت لنا في أسى إن أهلها لم يعلموا أن اليهود قد وصلوا إلى القناة إلا في سبتمبر! وفي سبتمبر بدا أن الجميع قد استعادوا توازنهم، وكثرت اللقاءات التي كنا نعقدها في نادي الطلاب العرب، ووصلني خطاب من إدارة البيت يقول إن علي أن أرحل بعد أن انتهى العامان الدراسيان المسموح بهما، وكنت شاهدت العمل وهو يجري على قدم وساق في بيت قديم قريب من بيت الطلاب في شارع ساسكس جاردينز
Bog aan la aqoon