Wahat Cumr
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Noocyada
وذات يوم تأخرت في العودة إلى المنزل؛ لأنني كنت مشاركا في جمعية الرسم، وكنا نقضي الوقت في غرفة فسيحة تحولت إلى مرسم في الدور العلوي، وكانت الغرفة تدخلها الشمس بعد الظهر، وبها مرآة ضخمة، ولا أدري ما الذي جعلني أقترب من المرآة، وأتأمل وجهي فإذا بسواد ينتشر تحت أنفي ظننته أول الأمر من ألوان الرسم، وكدت أحاول أن أزيله، لولا أنني عندما دققت النظر شاهدت زغبا كثيفا يكاد أن يكون شعرا! وأحسست بالخوف والفرحة معا، فأنا تجاوزت الثانية عشرة وربما بلغت مبلغ الرجال دون أن أدري! ودخل الغرفة فجأة إبراهيم عثمان، وكان فنانا موهوبا، وكان مدرس الرسم مفيد تاوضروس (الذي حذرنا من هجاء اسمه تادرس) يقول إن إبراهيم لديه من الصبر ما يجعله فنانا، ونظر إبراهيم إلي وقال بطريقة عابرة: «أنت طلع لك شنب! احلقه!» وأحسست كأن الرعدة تسري في أوصالي، ولم أعقب، بل عدت إلى اللوحة التي كنت أرسمها ونسيت الوقت حتى دخل الأستاذ مفيد وصاح بي: «اللوحة خلصت! لازم تبوظها؟» وقال إن عيبي أنني لا أعرف متى أتوقف! وأبديت الأسف وعدت إلى المنزل.
وفي اليوم التالي أحسست أن في الفصل همسات تتعلق بي، وضحكات مكتومة، وفجأة قبل أن يدخل المدرس بلحظات وجه إبراهيم شحتوت الخطاب إلي قائلا: «أنت جالك زردق؟» وارتفعت في مؤخرة الفصل ضحكات عالية، ولم يتح لي أن أسأل من هو زردق، وإن كان اسما معروفا لأسرة تعمل بنشر الأخشاب وإعدادها للنجارة في حي «قبلي». وشغلت بموضوع زردق طيلة النهار، حتى إنني كنت لا أستطيع التركيز في الدرس. وعندما انتهى اليوم الدراسي عدت في طريق المنزل شاردا، أفكر في حل ذلك اللغز، وكنت مارا في طريق السوق على مقهى صاخب يصدح فيه عبد الوهاب بأغنية الجندول، وتسمرت في مكاني! كانت الألحان قاهرة، والكلمات باهرة، واللحظة نفسها ساحرة! وناداني عامل المقهى ودعاني إلى الجلوس، ولكنني شكرته وانصرفت. وعندما وصلت إلى المنزل أحسست بعزوف عن الجميع، فأبدلت ملابسي وارتديت الجلباب وخرجت. كان في نفسي حزن غريب، حزن له جمال ورقة، دفعني إلى شاطئ النيل ، بدلا من «السكة الزراعية» وهي الطريق الذي يمر بين الحقول ثم يفضي إلى الصحراء، وظللت أسير وأبيات من الشعر تتزاحم في ذهني، كان أولها من أبي العلاء:
عللاني فإن بيض الأماني
فنيت والظلام ليس بفاني
وسمعت الصوت الداخلي ينشد أبياتا أخرى وأخرى، حتى انتهيت إلى:
يا شاطئ النيل هل أشجتك أنغامي
وهل سمعت صدى شدوي وآلامي
وهل سمعت ترانيما معذبة
تفيض من خاطر يحيا بأوهام
واستقرت في داخلي إيقاعات عزيز أباظة وأحسست براحة عميقة لا علاقة لها بمعاني الكلمات، وعندما آذنت الشمس بالمغيب قفلت عائدا وأنا أستمع إلى الصوت الداخلي ينشد:
Bog aan la aqoon