لا أدري كيف أني شعرت بدافع يدفعني إلى هذا الشبح المختبط الذي يظهر لحظة ثم يغوص؟ فوثبت إليه. فإذا بي أقبض بكفي على كف. ثم شعرت بكف أخرى تقبض على ذراعي. وإذا بجسم كأجسام البشر قد ارتفع فكدت أغوص تحته. ثم سمعت مثل صرخة خافتة. الله أكبر! أهكذا تكون الجنيات؟! لماذا لا تخطفني إلى قعر اليم؟
ما عتمت أن انتفضت نفضة حتى أفلت من تينك الكفين وابتعدت. تالله، إن الجنية في ضيق. وثبت وثبة أخرى نحوها وقبضت على ذراعها وقذفت بنفسي قذفة شديدة إلى جهة الصخور. فإذا البدن يرتفع قليلا كأن العمق أقل. ثم جذبت الذراع قليلا ووثبت وثبة أخرى نحو الصخور، وأمسكت بنتوء فيها وجذبت نفسي إليه حتى اقتربت بذلك البدن إليه. ثم تمكنت من الصعود إلى ذلك الصخر وأصعدت ذلك البدن، فإذا هو بدن امرأة. يالله! هل جنيات البحر كالبشر؟ وهذه الملابس المبتلة، إنها من نسيج البشر. غريب! أصعدت الجنية إلى الصخر تماما وهي واهية القوى لا تكاد تستطيع حراكا. وإنما استغربت أمرا وهو أني رأيت سلسلة تقيد القدمين ومعها قطعة من الحديد مرتبطة بالسلسلة. الله، ما هي جنية! إن هي إلا بشر كريم.
وكان الثاني يسمع مبهوتا، فاختلج وقال: امرأة هي؟ لا ريب أنها مرأة. - نعم، إنها مرأة بنت حواء. وأول ما خطر لي حينئذ أنها أغرقت نفسها عمدا وكان الحديد والسلسة لأجل تثقيلها حتى لا تعوم. والظاهر أنها كانت تنتفض في القعر فتظهر فوق الموج. ثم تغوص. فأسرعت ورفعت ساقيها إلى فوق وأفرغت ما دخل من الماء إلى صدرها، واجتهدت في الحال بإعادة التنفس إليها.
عاد التنفس في الحال. وجعلت أدلك صدرها حتى أرد لها شيئا من الحرارة. فتحركت ثم جلست. فقلت لها: يجب أن نذهب حالا من هنا.
فما أجابت بكلمة قط، وإنما شعرت أنها لا تسطيع النهوض. فما ترددت أن احتملتها على منكبي ومشيت بها وأنا لا أحسب حسابا للعواقب. في وقت قصير جدا وصلت إلى بيتي. ليس عندي أحد في البيت. دخلت إليه بها، وألقيتها على المقعد ونزعت بعض ملابسها، وألقيت عليها لحافا وحراما من الصوف، ثم أوقدت النار، وجئتها بكأس من الكنياك ممزوج بالماء، وكنت أجرعها كل هنيهة جرعة، وأفرك يديها وذراعيها وقدميها، حتى دفئت قليلا وصارت تستطيع أن تتحرك. فجئتها بدثار من الصوف وبقميص من الفلانلا وألقيتهما إلى جنبها، وقلت لها: قومي إني أتركك وحدك هنا ريثما تبدلين ملابسك. فتركتها ودخلت إلى مخدعي وجعلت أبدل ملابسي المبتلة. إلى أن انتهيت. فكلمتها من وراء الباب فلم تجب. ففهمت أنها لا تزال في حالة ونى. فدخلت وكانت الغرفة قد دفئت جيدا، فجرعتها جرعة من الكنياك. وتأملت ذلك الوجه تحت النور فإذا بي أرى ملاكا. إذا قلت لك: إني كنت أرى وجه ملاك فلك أن تتصور ما تشاء من لطف الملائكة وأخلاقها. شعرت أن كل عواطفي الطيبة تجسمت في في تلك الساعة، وكل طبائعي الشريرة انتفت. أصبحت قديسا بكل معنى الكلمة. ركعت لديها وهي لا تزال في سباتها ولكنها تتنفس تنفسا طبيعيا مطمئنا. جثوت لديها وحدثتني نفسي أن أقبلها، فجزعت من هذه الفكرة وقلت : ويحك يا إنسان، لا تدنس طهارة الملائكة. فارتددت ثم قلت: أقبل يدها! كلا. لا فرق بين اليد والوجه. إذن أقبل رجلها! لا، لا. لا فرق بين الرجل واليد. فبقيت جاثيا أتأمل ذلك البهاء الغريب العجيب. ثم تنهدت وتململت وفتحت عينيها قليلا، وتنهدت ثم جعلت تبكي.
وكان الثاني يسمع مدهوشا وهو يترنح كل هنيهة بعد أخرى في مكانه ويختلج لكل كلمة يسمعها، فقال: ويحك يا هذا! هل أنت مختلق حكاية أو تروي حقيقة؟
فتمرمر الأول وقال: أبعد كل هذا الذي رويته لك تقول لي إني مختلق حكاية؟ قبحا لك، هل تحسبني مازحا في أقدس أخباري وحوادثي؟ - عفوا وعذرا يا صاحبي. إن ما تقوله غريب جدا، يكاد يتوهمه الإنسان رواية تخيلية.
فاستأنف الأول الكلام وقال: جعلت تبكي بكاء مرا، فقلت لها: ثقي يا سيدتي أنك في مكان أمين وفي منزل حصين، ليس منزلك أكثر تحصنا منه، وأنت فيه صاحبة الأمر والنهي المطلقين. فلا توجسي شرا.
فقالت بصوت خافت: ويلاه. أين أنا الآن؟
فأجبت: في منزل عبدك هذا. ومنذ هذه الدقيقة أصبح المنزل تحت أمرك وصاحبه خادمك الطائع، والمنزل أمين وليس أحد يعرف أنك هنا سواي.
Bog aan la aqoon