فحسب، بل إن أكمل ما جمع بين الصورتين، وما توج برسالة فنية عالية للحياة والأحياء، والرسالة التي تزجيه نفسه وشاعريته إلى بثها هي رسالة التفاؤل الإنساني والاندماج الفلسفي في النوع اندماجا يجعله يحس حقيقة بأنه خالد في نوعه، وأن الفرد - أو الحياة المحدودة - يضحي في سبيل تجميل النوع - أو الحياة المستمرة - فهو يرضى قريرا بهذه التضحية في سبيل ما تنزع إليه الحياة من جمال وكمال،
3
وهو بهذا الشعور متصوف، وتتجلى روحه الصوفية - على أقوى ما تكون- في مناجاته الطبيعة بأناشيده التي تراها، وإن اختلفت أنغامها ومعانيها متجهة إلى قبلة واحدة.
وهو، وإن لم يغمط الشاعر الذاتي البحت، ولا الشاعر الموضوعي الصرف حقه بالنسبة إلى مدى قوته في الشاعرية، إلا أنه ينظر إلى المثل الأعلى من الشعر نظر المؤمن إلى رسالة قدسية، فهو لا يعتبره شعورا عميقا، وخيالا ساميا، وعاطفة حارة، وتعبيرا فنيا فقط، بل يراه - مع كل هذا - نشيدا لوحي سماوي يصعد بالإنسانية من حضيض البهيمية ويبوئها مكانتها الروحية الجديرة بها.
فإذا شئت أن تعرف روح هذا الشاعر ولبه فحسبك عبرته «إخناتون» - وهو أول من ألف رواية عنه وحاول إنصافه في أدبنا العربي، وتابعه شوقي بك في محاولته إنصاف كليوباترة، وإن كان الفرق بين الشخصيتين شاسعا.
وفي ديوانه «الشفق الباكي» - فضلا عن دواوينه السابقة - نماذج شتى لما يوصف بشعره الإنساني العالمي، وكذلك ترى في ديوانه الأخير «وحي العام»
4
بجزءيه لسنتي 1928 و1929م، وفي ملحمته الشعرية الفلسفية المشهورة «شوبنهاور والحياة» تعابير شتى من عقيدته هذه ومن تصوفه القوي، وإذا رجعت إلى شعره القديم وجدت نفس هذه الروح الإنسانية متمشية معه في نموه الفكري الوجداني منذ نيف وعشرين عاما. •••
وأنت - إذ تقرأ شعره القومي السياسي - لا تقرأ شعرا ديمقراطيا مثلما تقرأ شعرا إنسانيا في روحه، ولا غرابة في ذلك ما دامت هذه هي النزعة الغالبة على الشاعر في جميع أدوار حياته وفي كل نواحي عيشته، مما يدل عليها تعلقه بمظاهر التعاون الأمي الفكري، واشتراكه فيما يستطيع الاشتراك فيه منها.
ولشعره القومي - إلى جانب إنسانيته - صبغة ديمقراطية سليمة تجدها في حدبه على الفلاحين، ألا ترى ذلك في قصيدته «كوخ الريف»؟
Bog aan la aqoon