ولم يجب، وإنما سارع يبتعد مخفيا دمعاته. كانت قد تعودت أن تعنف به ويقبل عنفها. امتنع عن الصخب مع الرفاق وامتنع عن ملذات الشباب، وامتنع عن متع كثيرة يعلم أن فقره لا يتيحها له، ولكن ما فرضه على نفسه مع سوسن كان أبعد الجراح غورا. وحين جاءت ثروة عمه كانت سوسن قد أنجبت طفلها الأول.
وحين التقى بها في الكلية بعد أن سمعت بغناه المفاجئ نظرت إليه نظرة طويلة، ولم يجد شيئا يقوله أو يعمله إلا أن يغمغم: لم أكن أدري.
وابتسمت في مرارة: لقد أصدرت حكمك على المستقبل دون أن تقرأ صحيفة الدعوى. - لا تزيدي آلامي. - إنها بعض آلامي. - أسعيدة أنت؟ - تريد أن تطمئن على تضحيتك؟! - أريد أن أطمئن عليك. - لا تطمئن. - اتركيه. - وماذا أقول لابني حين يصبح في مثل عمرنا؟ - ألا سبيل؟ - الأحكام التي تصدرها الحياة لا يجوز إعادة النظر فيها لسابقة الفصل في الدعوى. - بلا استئناف؟ - فات موعده. لا تطعن. أنت لم تخطئ في تطبيق القانون، ولكنك أخطأت في وجهة النظر. لا نقض ما دام القانون قد طبق. - تسدين علي المسالك. - أنا فقط أبقي عليها مسدودة كما أردتها. - أهذا ما كنت أريد؟ - أحببت أن ترى نفسك بطلا، افرح لقد أصبحته. - أحببت أن تعيشي في سعادة. - هيهات؛ أتعرف أنت أين سعادتك أو أين سعادتي. - خيل إلي، ظننت. - الأحكام في الحياة لا تبنى على ظنون. - ألا ترحمين؟ - إني راحمة لأني أعرف دوافعك. - لعلها تغفر لي عندك. - لقد غفرت لك عندي منذ دمعاتك التي أخفيتها.
وانصرف عنها إلى الأبد وهو يخفي دموعه عنها مرة أخرى.
ما الذي جعله يذكر هذا؟ لا يدري أفي نفسه حب جديد؟ ربما. حين ذهب إلى البيت أمسك بالرواية ونظر إليها بضع دقائق، قلب صفحاتها، كانت المرة الأولى التي يقرأ فيها سيناريو، كان الوقت متأخرا فألقى بها إلى جانبه، وانصرف يهيئ نفسه إلى النوم.
في الصباح كان أول شيء سمعه دعوى تليفونية من سهام سامي. - هل قرأت الرواية؟ - لم أبدأ بعد. - هل يمكن أن أقول لك رأيا؟ - واضح أنك دعوتني من أجل هذا. - أنت رجل مستقيم. - أرجو أن أكون كذلك. - ولكن أتحب الرأي المستقيم؟ - كنت أرجو أن تكوني عرفتني أكثر من هذا. - إذن اسمع. - أنا أسمع. - حرام أن تضيع مالك ووقتك. - هواية؛ أنا أعبد التمثيل. - اعبده كما تشاء ولكنك بلا موهبة. - هكذا مرة واحدة؟! - اسمع، أنا لست أستاذة في المعهد ولا تسمح لي سني أن أكون خبيرة، ولكن لي حاسة، وقد تدربت هذه الحاسة فأصبح لها حكم في هذا الوحش الذي يسمى التمثيل، ولي أيضا أصدقاء قالوا لي ما لا يستطيع أحد أن يقوله لك، أو ما يحب الكثيرون أن يخفوه عنك لمصالحهم الخاصة. ابتعد عن هذا الوحش إنه فتاك يمتص فريسته ويخدعها، ويسلط عليها غرورها حتى تصبح نفاية بشرية. - الحكم غاية في القسوة. - بعد سنوات قلائل ستدرك أنه غاية في الرحمة. - ولماذا تقولين لي هذا؟ - لو كان غيرك ما قلت له شيئا؛ فهذا الفن يجعل بعض العاملين فيه يتحاسدون. ولو كنت أعلم أنك من هذا الصنف لمنعت نفسي أن أصارحك؛ خشية أن تظن أنني أخشى على مستقبلي منك. - ما هذا الكلام الفارغ؟! أنت في مجدك هذا تخشين ناشئا؟!
قل أن يدرك ناشئ أنه ناشئ. وهو يبحث دائما عن سبب مثل هذه النصيحة غير أن تكون خالصة. فليطمئن نفسه أن الممثلة التي بلغت من شهرة تخاف على نفسها منه؛ ولهذا تنصحه أن يبتعد عن التمثيل.
وإذا تخلصت منه أليس من الطبيعي أن يأتي آخر يكون صاحب موهبة حقا؟
الفاشلون يعمون عن كل الحقائق، فلا يدركون مثلا أن لكل نجم في التمثيل فترة، وأن النجم لا بد له من نجوم حتى يؤكدوا وجوده، وكل هذا يغيب عن تفكيرهم ليؤكدوا لأنفسهم أنهم أصحاب مواهب. - وما رأيك في الإنتاج السينمائي؟ - مربح جدا لمن يفهمه، وخراب للهواة أمثالك. - ولكنك مع ذلك لم تجيبي على سؤالي. - لقد نسيته. - لماذا تقولين هذا لي؟ - أخشى على نفسي منك. - هذه فهمناها، وماذا أيضا. - أخشى عليك من نفسك. - هل تقدمين نصيحتك لأي إنسان تخشين عليه من نفسه. - لا شأن لك بهذا.
إنهم يحتفلون بعيد ميلاده الستين، تحتفل به ابنته إخلاص وابنه فتوح، ويحتفل أيضا به زوج ابنته سعيد مجدي المحامي، ويحتفل أيضا أبناء ابنته إلهام وبهجت، والجميع يلتفون حول الممثلة السابقة والجدة الحالية سهام سامي.
Bog aan la aqoon