Utilizing the Orphan's Wealth in Contracts of Exchange and Donations
الإفادة من مال اليتيم في عقود المعاوضات والتبرعات
Daabacaha
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
Lambarka Daabacaadda
السنة السادسة والثلاثون
Sanadka Daabacaadda
العدد ١٢٥ - ١٤٢٤هـ/٢٠٠٤م
Noocyada
مقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن من محاسن هذه الشريعة الأمر بالإحسان إلى اليتامى والسعي في رعايتهم، والقيام على أموالهم، وبيان ما يترتب على ذلك من أجر عظيم، قال تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى﴾ ١ وقال تعالى: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ ٢ وقال تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ ٣.
وروى أنس أن النبي ﷺ الله قال: “كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة” وأشار أنس بالسبابة والوسطى ٤.
ولما كان ولي اليتيم قد يطمع في ماله أو شيء منه؛ إذ هو المستولي عليه المتصرف به، ولا رقيب عليه سوى الله ﷿، جاءت الشريعة بالتحذير من الاعتداء على أموالهم، وظلمهم فيها.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ ٥ وروى أبو هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: “اجتنبوا السبع الموبقات ... وذكر منها أكل مال اليتيم” ٦.
_________
١ سورة النساء آية (٣٦) .
٢ سورة الأنعام آية (١٥٢) .
٣ سورة النساء آية (١٢٨) .
٤ أخرجه مسلم في الزهد، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين ... (٢٢٨٦) .
٥ سورة النساء آية (١٠)
٦ أخرجه البخاري في الوصايا، باب قوله تعالى: ﴿إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما..﴾ (٢٧٦٦)، ومسلم في الإيمان، باب بيان الكبائر (١٤٤)
1 / 285
وقد أباحت الشريعة للولي وغيره شيئًا من مال اليتيم، فأردت أن أجلي في هذه الكتابة ما يباح من ماله.
وقد اشتمل البحث على:
مقدمة وتمهيد وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الإفادة من مال اليتيم في عقود المعاوضات.
وفيه مطالب:
المطلب الأول: بيع الولي وشراؤه من نفسه.
المطلب الثاني: أخذ جزء من الربح مقابل المضاربة به.
المطلب الثالث: بيعه بأقل من ثمن المثل، والشراء بأكثر من ثمن المثل.
المطلب الرابع: بيعه نسيئة.
المطلب الخامس: بيعه بالعرض.
المطلب السادس: رهن ماله.
المبحث الثاني: الإفادة من مال اليتيم في عقود التبرعات، وفيه مطالب:
المطلب الأول: إقراض ماله.
المطلب الثاني: إعارة ماله.
المطلب الثالث: هبته، والصدقة به، ووقفه ونحو ذلك.
المطلب الرابع: أكل الولي من ماله.
المطلب الخامس: خلط الولي ماله بمال اليتيم.
المبحث الثالث: الإفادة بإخراج ما وجب في ماله.
منهج البحث:
سلكت في كتابة هذا البحث المنهج العلمي في كتابة البحوث، كما يلي:
أولا: اقتصرت في بحثي هذا على المذاهب الأربعة، والمذهب الظاهري، كما أذكر رأي مشاهير فقهاء السلف أحيانا.
1 / 286
ثانيا: أقوم بعرض المسألة الخلافية بذكر القول أولًا، فالقائل به، ثم أتبعه بالاستدلال، وما ورد عليه من مناقشة، وما أجيب به عنها، وهذا في جملة البحث، وقد يختلف المنهج تبعًا لاختلاف المسألة.
وحيث كانت المناقشة من عندي صدرتها بعبارة: “لعله يناقش بـ “.
ثالثا: اعتمدت في نسبة كل قول لكل مذهب على أمهات كتب المذهب.
رابعا: اجتهدت في التوفيق بين الأقوال، فإن تعذر ذلك رجحت ما ظهر لي رجحانه، بناء على قوة الأدلة، وبما يتمشى مع قواعد الشريعة ومقاصدها العامة.
خامسا: عزوت الآيات القرآنية إلى مواضعها في كتاب الله، بذكر السورة ورقم الآية.
سادسا: خرجت جميع الأحاديث الواردة في البحث، وما كان منها في صحيح البخاري، أو مسلم: اكتفيت به، وما لم يخرجه أحدهما، أو كلاهما خرجته من الصحاح، والسنن، والمسانيد المتبقية، مع بيان درجة الحديث.
سابعا: خرجت الآثار الواردة في البحث من مصدرها، مع بيان درجة الأثر، بالنظر في إسناده والحكم عليه.
ثامنا: وضحت معنى ما يرد في هذا البحث من كلمات وألفاظ غريبة ١.
تاسعًا: عملت فهرسا لهذا البحث اشتمل على ما يلي:
١- فهرسٍ لمصادر البحث ومراجعه.
٢- فهرسٍ لموضوعات البحث.
_________
١ لم أترجم لشيء من الأعلام خشية الإطالة.
1 / 287
التمهيد
المطلب الأول: تعريف العنوان
...
التمهيد
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف العنوان
الفائدة: الزيادة تحصل للإنسان، وهي اسم فاعل من قولك: فادت له فائدة فيدا، وأفدته مالًا أعطيته، وأفدت منه مالًا: أخذت ... ١.
وأما اليتيم: فاليتم: الإنفراد، واليتم في الناس: فقدان الأب، وفي البهائم من قبل الأم.
فاليتيم: الذي مات أبوه، فهو يتيم حتى يبلغ، والجمع أيتام، ويتامى، ويتمة ٢.
وروى في حديث علي مرفوعا: “لا يتم بعد احتلام” ٣.
وورد موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما٤.
_________
١ ينظر: الصحاح ٢/٥٢١، ومعجم مقاييس اللغة ٤/٤٦٤، والمصباح المنير ٢/٤٨٥.
٢ ينظر: الصحاح ٥/٢٠٦٤، ومعجم مقاييس اللغة ٦/١٥٤، ولسان العرب ١٢/٦٤٥.
٣ أخرجه أبو داود في الوصايا، باب ما جاء متى ينقطع اليتم (٢٨٧٣)، والعقيلي في الضعفاء ٤/٤٢٨، والطحاوي في المشكل ٢/١٣١، والبيهقي ٦/٥٧.
والحديث أعله العقيلي بتفرد يحي بن محمد الجاري، وقال: “لا يتابع عليه يحي” وأعله ابن القطان بجهالة عبد الله بن أبي أحمد، وعبد الله بن خالد بن سعيد، وأبيه خالد بن سعيد (ينظر: تهذيب السنن ٨/٧٥، فالصواب أنه موقوف على علي، ومع ذلك لا يثبت. أخرجه عبد الرزاق ٦/٤١٦ عن الثوري عن جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي، وجويبر متروك الحديث. (تهذيب الكمال ٣/٤٦٣) .
٤ أخرجه الإمام أحمد ١/٢٢٤، وفي إسناده الحجاج بن أرطأة مدلس وقد عنعنه وله طريق أخرى، فقد أخرجه الإمام أحمد من طريق قيس بن سعد عن يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله ... وإسناده صحيح.
1 / 288
والمعاوضات: جمع معاوضة.
والعوض: هو البدل، والجمع أعواض، مثل: عنب وأعناب، واعتاض وتعوض: أخذ العوض، واستعاض: سأل العوض١.
والمراد بها: العقود التي يقصد بها الكسب والربح، كعقد البيع، ونحوه.
والتبرعات: جمع تبرع.
وبرع الرجل يَبْرَع، وبَرُعَ براعة: إذا فضل في علم، أو شجاعة، أو غير ذلك.
وتبرع الأمر: فعله غير طالب عوضًا.
والمراد بها: العقود التي يقصد بها الإرفاق والإحسان، كالقرض، والهبة ونحو ذلك ٢.
والمراد بالبحث: ما يباح للولي وغيره استفادته من مال اليتيم، سواء من خلال عقود المعاوضات، أو عقود التبرعات.
_________
١ المصباح المنير ٢/٤٣٨.
٢ المصباح المنير ١/٤٤.
1 / 289
المطلب الثاني:
الأصل في تصرفات الولي في مال اليتيم
الأصل أن من تصرف لغيره سواء كان وكيلًا، أو وليًا، أو ناظر وقف أو غير ذلك أن تصرفه تصرف نظر ومصلحة، لا تشهٍ واختيار، لا سيما فيما يتعلق بمال اليتيم ١.
قال الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ ٢.
وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ ٣، وقال تعالى: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ ٤، وقال تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ ٥.
فهذه الآيات وغيرها تدل على أن تصرفات الولي في مال اليتيم مبنية على المصلحة، وأنه لا يجوز قربانها إلا بالتي هي أحسن لهم، وأصلح لمالهم.
_________
١ ينظر: الأصول والقواعد الجامعة للشيخ عبد الرحمن السعدي ص (٨٥) .
٢ سورة البقرة آية (٢٢٠) .
٣ سورة النساء آية (١٠) .
٤ سورة الأنعام آية (١٥٢) .
٥ سورة النساء آية (١٢٧) .
1 / 290
المبحث الأول: الإفادة من مال اليتيم في عقود المعاوضات
المطلب الأول: بيع الولي وشراؤه من نفسه
...
المبحث الأول: الإفادة من مال اليتيم في عقود المعاوضات
وفيه مطالب:
المطلب الأول: بيع الولي وشراؤه من نفسه
اختلف العلماء ﵏ في بيع وشراء الولي من مال اليتيم لنفسه على قولين:
القول الأول: أنه يجوز للولي أن يبيع وأن يشتري مال اليتيم لنفسه. إذا زالت التهمة، بأن يزيد على ثمن المثل في الشراء، وينقص عنه في البيع.
وهو مذهب الحنفية ١، والمالكية ٢، وهو رواية عن الإمام أحمد٣، فقد ورد عن الإمام الجواز بشرطين:
أ - أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء.
ب - أن يتولى النداء غيره ٤.
وبه قال ابن حزم إلا أنه لم يشترط الزيادة، بل يشترط عنده عدم المحاباة٥.
لكن استثنى أبو حنيفة: القاضي ووصيه فلا يملك ذلك.
وحجة هذا القول:
١- قوله تعالى: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ٦.
_________
١ المبسوط ٢٨/٣٣، وبدائع الصنائع ٥/١٥٤، وتبيين الحقائق ٦/٢١١.
٢ المدونة ٤/٢٨٨، والإشراف ٢/٢٨، وبداية المجتهد ٢/٣٠٣.
٣ المحلى لابن حزم ٨/٣٢٤.
٤ كتاب الروايتين ١/٣٩٨، والإنصاف مع الشرح الكبير ١٣/٣٧١.
٥ المحلى ٨/٣٢٤.
٦ سورة الأنعام آية (١٥٢)، سورة الإسراء آية (٣٤)
1 / 291
وجه الدلالة: أن الآية أفادت جواز قربان مال اليتيم بالبيع والشراء إذا كان ذلك بالتي هي أحسن، وهذا عام يشمل الولي، وغيره.
٢- ما ورد أن ابن عمر ﵄ “أنه اقترض مال اليتيم” ١.
وجه الدلالة: أن في القرض نوعا من التبرع، فإذا جاز ذلك في القرض، فجوازه في عقود المعاوضات من باب أولى.
ونوقش بقول الإمام أحمد: “إنما استقرض نظرا لليتيم، واحتياطا إن أصابه شيء غرمه” ٢.
٣- أن تصرف الولي بولاية مستقلة فأشبه الأب والجد ٣.
٤- أنه متى باع من نفسه بزيادة على ما يباع به علم أنه أراد نفع اليتيم، فنفذ تصرفه فيه كما لو باع من أجنبي.
٥- أنه يجوز له بيعه من الأجنبي بما لا زيادة فيه متيقنة، فبيعه منه بالزيادة المتيقنة أولى.
٦- أن الغرض من البيع حصول الثمن لا أعيان المشترين بدليل أن الوكيل إذا ابتاع لموكله ولم يسمه جاز، فإذا ثبت ذلك فمتى حصل الثمن مستوفى فيجب أن يصح الشراء كما لو حصل من أجنبي ٤.
واحتج ابن حزم: أن الولي مأمور بالقيام بالقسط، والتعاون على البر، فإذا فعل ما أمر به فهو محسن، وما على المحسنين من سبيل، ولم يأت قط نص
_________
١ أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ٤/٧٠ ومن طريقه البيهقي ٢/٢٨٥ نا معمر عن سالم عن ابن عمر وهذا إسناد صحيح.
٢ الشرح الكبير مع الإنصاف ١٣/٣٧٨.
٣ تقويم النظر لابن الدهان ٣/٩٢٣ مضروب على الآلة الكاتبة.
٤ ذكر هذه الأدلة القاضي عبد الوهاب في الإشراف ٢/٢٧-٢٨.
1 / 292
قرآن ولا سنة بالمنع ١.
القول الثاني: أنه ليس للولي أن يبيع أو يشتري من نفسه.
وهو مذهب الشافعية٢، والحنابلة٣. لكن استثنى الشافعية الجد، فقالوا له: أن يشتري ويبيع من نفسه.
وحجته:
١- ما يروى عن النبي ﷺ: “لا يشتري الوصي من مال اليتيم” ٤.
ولعله يناقش: بأنه لا يثبت عن النبي ﷺ.
٢- ما ورد أن رجلا من همدان جاء إلى ابن مسعود على فرس أبلق، فقال: “إن رجلا أوصى إلي وترك يتيما فاشترى هذا الفرس، أو فرسًا آخر من ماله، فقال عبد الله: لا تشتر شيئا من ماله، وفي هذا الكتاب: لا تشتر شيئًا من ماله، ولا تستقرض شيئًا من ماله” ٥.
ولعله يناقش: بأنه محمول على الاحتياط لليتيم.
_________
١ المحلى ٨/٣٢٤.
٢ مختصر المزني مع الأم ٨/٢١٠، والوجيز ١/٢٨٤، وتقويم النظر لابن الدهان ٣/٩٢٣ مضروب على الآلة الكاتبة.
٣ مسائل أحمد لابنه صالح ١/٢٤٦، وكتاب الروايتين والوجهين ١/٣٩٨ والتنقيح المشبع ص (٢٠٦) .
٤ قال ابن حجر في التلخيص (١٢٥٧): لم أجده.
٥ إسناده صحيح، أخرجه سعيد بن منصور (٣٢٧)، وعبد الرزاق ٩/٩٤ والبيهقي ٦/٢٨٥، واللفظ له، وابن حزم ٨/٣٢٤ من طريق الثوري عن أبي إسحاق عن صلة بن زقر قال: جاء رجل ... وهذا إسناد صحيح.
1 / 293
٣- أنه متهم في طلب الحفظ له في بيع ماله من نفسه فلم يجعل ذلك إليه١.
ولعله يناقش: بأن الجواز مشروط بعدم التهمة.
٤- أن من لا يجوز له أن يشتري بثمن المثل لا يجوز له أن يشتري بأكثر كالوكيل٢.
ولعله يناقش: بأن الأصل المقيس عليه موضع خلاف بين أهل العلم.
٥- أن إطلاق البيع ينصرف إلى العرف، والعرف أن لا يبيع ولا يشتري الإنسان من نفسه ٣.
واستدل الشافعية على استثناء الجد: أن الجد لا يتهم في ذلك، لكمال شفقته ٤.
الترجيح: الراجح - والله أعلم - هو القول الأول، إذ لا فرق بين الولي وغيره مع زوال التهمة.
_________
١ انظر: كتاب الروايتين والوجهين ١/٣٩٩، والشرح الكبير مع الإنصاف ١٣/٣٧٢.
٢ تقويم النظر ٣/٩٢٤
٣ ينظر: المبدع ٤/٣٦٧، ومطلب أولي النهي ٣/٤٦٣
٤ المهذب مع تكملة المجموع الثانية ١٣/٣٥٦
1 / 294
المطلب الثاني: أخذ جزء من الربح مقابل المضاربة به
...
المطلب الثاني: أخذ جزء من ربح ماله مقابل المضاربة به
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: مشروعية المضاربة بمال اليتيم.
للولي أن يبيع ويشتري في مال اليتيم، وأن يدفعه لغيره مضاربة. بل صرح جمع من أهل العلم على استحباب ذلك ١.
وهذا قول جمهور أهل العلم ٢.
وحجة هذا القول:
١- ما تقدم من الأدلة على قربان مال اليتيم بالتي هي أحسن، والإصلاح في ماله ٣ ومما يدخل في ذلك المضاربة به.
٢- ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي ﷺ قال: “ألا من ولي يتيما له مال، فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصَّدَقة”٤. لكنه ضعيف لا يحتج به.
وورد أن عثمان بن أبي العاص “قدم على عمر، فقال له عمر: كيف متجر
_________
١ الاختيارات ص (١٣٨) .
٢ أحكام القرآن للجصاص ٢/٦٦، والمبسوط ٢٨/٢٨، والبحر الرائق ٨/٤٦٨، والمدونة ٥/٣١٤، والكافي لابن عبد البر ٢/١٠٣٣، وروضة الطالبين ٥/١٢٤، والفروع٤/٣٢١، والمبدع ٤/٣٣٨.
٣ ينظر: ص (٢٩٠) .
٤ أخرجه التّرمذي في الزّكاة؛ باب ما جاء في زكاة مال اليتيم (٦٣٦)،وأبو عبيد في الأموال (١٢٩٩)، والدّارقطني ٢/١٠٩. وفي إسناده المثنّى بن الصّباح؛ ضعيف كما في التّقريب ٢/٢٢٨. وتابعه محمّد بن عبيد العزرمي عند الدّارقطني، لكن الرّاوي عنه مندل؛ وهو ضعيف. وأيضًا عبد الله بن عليّ الإفريقي كما في الكامل لابن عدي٧/١٤٦؛وهو ضعيف، وخالفهم جميعًا حسين المعلّم فقال: عن عمرو بن شعيب عن سعيد أنّ عمر قال.
1 / 295
أرضك فإن عندي مال يتيم قد كادت الزكاة أن تفنيه؟ قال: فدفعه إليه”١.
٣- ما ورد عن عمر ﵁ أنه قال: “ابتغوا في أموال اليتامى لا تستغرقها الصدقة” ٢.
٤- ما رواه القاسم بن محمد٣. قال: “كنا يتامى في حجر عائشة، فكانت تزكي أموالنا، ثم تدفعه مقارضة فبورك لنا فيه” ٤.
٥- ولأن ذلك أحظ للمولى عليه؛ لتكون نفقته من فاضله وربحه كما يفعله البالغون في أموالهم ٥.
القول الثاني: أنه يكره أن يدفع ماله مضاربة.
وبه قال الحسن البصري٦، وعن الإمام أحمد عدم الجواز ٧.
وحجته: اجتناب المخاطرة به، وأن خزنه أحفظ له٨.
_________
١ إسناده صحيح، أخرجه عبد الرزاق٤/٦٧، وأبو عبيد في الأموال ص ٤٠٥ والبيهقي ٤/١٠٧ من طرق عن عبد الكريم بن أبي أمية وخالد الحذاء عن حميد بن هلال أن عمر.
٢ أخرجه مالك في الموطأ ١/٢٥١، وابن أبي شيبة ٣/١٥٠، وعبد الرزاق ٤/٦٨، وأبوعبيد في الأموال ص (٤٥٥)، والدارقطني ٢/١١٠، والبيهقي ٤/١٠٧، وقال: “هذا إسناد صحيح، وله شواهد عن عمر ﵁”.
٣ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أبو محمد، أعلم الناس بحديث عائشة ﵂، توفي سنة (١٠٥هـ) وقيل (١٠٦هـ) . (طبقات ابن سعد ٥/١٨٧، وتهذيب التهذيب ٨/٣٣٣)
٤ أخرجه مالك في الموطأ ١/٢٥١ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه به، وأيضا أخرجه عبد الرزاق ٤/٦٦، والشافعي في مسنده ص ٢٠٤، وأبو عبيد في الأموال ص ٤٥٦، وابن أبي شيبة ٣/١٤٩، والبيهقي ٤/١٠٨.
٥ المغني ٦/٣٣٩.
٦ المغني ٦/٣٣٩
٧ الفروع ٤/٣٢١.
٨ الإنصاف مع الشرح الكبير ١٣/٣٧٦
1 / 296
ونوقش هذا الاستدلال: بأن المضاربة بمال اليتيم مشروطة بانتفاء الخطر، ولا يسلم بأن خزنه أحفظ له، بل المضاربة به أحفظ له لماله لينفق من فاضل ربحه، وخزنه سبب لاستهلاك الصدقة له.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - هو القول الأول، إذ هو الوارد عن الصحابة ﵃.
فرع: ولا يتجر به إلا في المواضع الآمنة، ولا يدفعه إلا إلى الأمناء ١.
المسألة الثانية: أخذ جزء من ربح ماله.
اختلف العلماء ﵏ في استحقاق الولي، أو غيره ممن عمل في مال اليتيم جزءًا من ربحه على قولين:
القول الأول: أنه يجوز للولي أن يأخذ لنفسه، وأن يعطي غيره وهو مذهب الحنفية ٢، وتخريج للحنابلة ٣.
وحجة هذا القول:
١- الأدلة الدالة على جواز أكل الولي الفقير من مال اليتيم ٤.
فإذا جاز له الأكل مع عدم العمل، فجوازه مع العمل فيه وتنميته من باب أولى.
٢- ما تقدم من الآثار الواردة عن الصحابة في أمر الولي بالمضاربة في مال اليتيم٥، والمضاربة دفع مال لمن يعمل فيه مقابل جزء مشاع من ربحه.
_________
١ المصدر السابق.
٢ أحكام القرآن للجصاص ٢/٦٦، والفتاوى البزازية ٦/٤٤٥.
٣ الشرح مع الإنصاف ١٣/٣٧٦.
٤ ينظر ص (٢٩١) .
٥ ينظر ص (٢٩٤) .
1 / 297
٣- أنه إذا جاز للولي أن يدفع جزءًا من ربح مال اليتيم إلى غيره، فكذا يجوز له أخذ ذلك ١.
٤- ما تقدم من الأدلة على أن لولي اليتيم أن يشتري ويبيع من نفسه إذا زالت التهمة٢.
القول الثاني: أن الولي ليس له أن يأخذ شيئا من الربح، وله أن يعطي غيره ممن دفع له المال مضاربة.
وبه قال جمهور أهل العلم ٣.
وحجة هذا القول:
أن الربح نماء مال اليتيم، فلا يستحقه غيره إلا بعقد، ولا يجوز أن يعقد الولي المضاربة لنفسه ٤.
ولعله يناقش: بأن محصله أنه استدل بمحل النزاع، فلا يسلم.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - هو القول الأول، إذ لا فرق بين الولي وغيره مع زوال التهمة. ولأن الولي نائب عن اليتيم فيما فيه مصلحته، وهذا فيه مصلحته، فأشبه تصرف المالك في ماله.
_________
١ الشرح الكبير مع الإنصاف ١٣/٣٧٦.
٢ ينظر ص (٢٩١) .
٣ المدونة ٥/٣١٤، والكافي لابن عبد البر ٢/١٠٣٣، وروضة الطالبين ٥/١٢٤، والفروع ٤/٣٢١، والمبدع ٤/٣٣٨.
٤ الشرح الكبير مع الإنصاف ١٣/٣٧٧.
1 / 298
المطلب الثالث: بيعه بأقل من ثمن المثل، والشراء بأكثر من ثمن المثل
...
المطلب الثالث: تضمين الولي إذا باع أو اشترى بأنقص أو أكثر من القيمة
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: أن يكون ذلك بغبن فاحش.
إذا باع الولي مال اليتيم بدون قيمته، أو اشترى بأكثر من قيمته، وكان ذلك بغبن فاحش.
فيضمن باتفاتق الأمة ١.
قال شيخ الإسلام: “وإن اشترى بزيادة لا يتغابن الناس لمثلها كان عليه ضمان ما أداه من الزيادة الفاحشة” ٢.
وحجته: ما تقدم من الأدلة على حرمة مال اليتيم، ووجوب النظر بالأصلح لماله.
والبيع بغبن فاحش ليس من الأصلح له.
ولأن الظاهر أنه مفرط.
مع إمكانه الفسخ بخيار الغبن.
المسألة الثانية: أن لا يكون بغبن فاحش.
كأن يبيع بأقل من ثمن المثل، أو يشتري بأكثر من ثمن المثل يسيرا.
فاختلف العلماء في تضمين الولي على قولين:
القول الأول: أنه إذا اجتهد وتحرى فلا ضمان عليه، وإن فرط ضمن.
_________
١ بدائع الصنائع ٥/١٥٣، والكافي لابن عبد البر ٢/١٠٣٤، وتكملة المجموع الثانية ١٣/٣٤٦، ومعونة أولي النهى ٤/٥٦٩.
٢ مجموع الفتاوى ٣٠/٤٣
1 / 299
وبه قال شيخ الإسلام١، وهو ظاهر اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي٢ رحمه الله تعالى.
وحجته في ذلك:
١- ما رواه أسامة بن زيد ﵁ قال: “بعثنا رسول الله ﷺ في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلا، فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: أقال لا إله إلا الله وقتلته؟ “ ٣.
وجه الدلالة: أن النبي ﷺ لم يضمن أسامة بن زيد ﵁ بدية ولا كفارة؛ لأنه مجتهد غير مفرط٤.
٢- قال شيخ الإسلام: “وهو شبيه بما إذا قتل في دار الحرب من يظنه حربيا، فبان مسلمًا، فإن جماع هذا: أنه مجتهد مأمور بعمل اجتهد فيه وكيف يجتمع عليه الأمر والضمان؟ هذا الضرب هو خطأ في الاعتقاد والقصد لا في العمل ... ” ٥.
٣- أنه مأذون له في البيع والشراء، وما ترتب على المأذون غير مضمون ٦.
_________
١ الاختيارات ص (١٤٠)
٢ المختارات الجلية ص (١١٨) حيث جاء فيه: (كما أن الصحيح أن الوكيل إذا باع أو اشترى بأكثر من ثمن المثل، أو بأقل من ثمن المثل مع احتياطه واجتهاده لموكله أنه غير ضامن ...) .
٣ أخرجه مسلم في الإيمان باب تحريم قتل الكافر ... (١٥٨)
٤ ينظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام
٥ الاختيارات ص (١٤٠، ١٤١)
٦ المختارات الجلية ص (١١٨)
1 / 300
القول الثاني: أنه إذا باع بأقل من ثمن المثل، فإن كان مما يتغابن به الناس عرفًا فلا يضمن، وإن كان مما لا يتغابن به عرفا ضمن.
وهو مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة١.
وحجته: أن إطلاق البيع ينصرف إلى ثمن المثل، فيضمن إذا نقص أو زاد على ثمن المثل.
ولأن تصرفه مقيد بالنظر في حق الصغير، ولا نظر فيما لا يتغابن به الناس٢.
وما يتغابن فيه الناس جرى العرف بالتسامح فيه.
ولأن اليسير لا يمكن التحرر عنه، ويكثر وقوعه، ففي اعتباره تعطيل لمصالحه٣.
القول الثالث: أنه لا يجوز البيع إلا بأزيد من الثمن، إلا إذا كان هناك حاجة فيجوز بالثمن.
وهو مذهب المالكية ٤.
ولعل مأخذه الاحتياط لليتيم.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - القول الأول، وأن الولي مع الاجتهاد وعدم التفريط لا يضمن لقوة دليله؛ لأنه مأذون له في البيع والشراء، وما ترتب على المأذون غير مضمون، ولأنه أمين والأمين لا ضمان عليه مع عدم التعدي والتفريط٥.
_________
١ ينظر: بدائع الصنائع ٥/١٥٣، وروضة الطالبين ٤/١٨٨، و٣٠٣، والمبدع ٤/٣٦٩- ٣٧٠، وغاية المنتهى ٢/١٥٤، ومطالب أولي النهى ٣/٤١٢.
٢ ينظر: تبيين الحقائق ٦/٢١١، ومجمع الأنهر ٢/٧٢٤.
٣ المصادر السابقة
٤ مواهب الجليل ٥/٧٣، وحاشية الدسوقي ٣/٣٠٠
٥ القواعد والأصول الجامعة للسعدي ص ٧٥
1 / 301
المطلب الرابع: بيعه نسيئة١
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: ملك الولي لذلك.
اختلف العلماء ﵏ في الولي هل له بيع مال اليتيم نسيئة؟ على قولين:
القول الأول: أنه يجوز للولي بيعه نساء إذا كان هناك مصلحة، بأن يكون أكثر ثمنًا وأنفع، أو الخوف عليه من نحو نهب، ونحو ذلك.
وهذا ظاهر مذهب المالكية: حيث أناطوا تصرفات الولي بالمصلحة وهو مذهب الشافعية، والحنابلة٢.
وحجته: قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ ٣.
وقوله تعالى: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ٤.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ ٥
وإذا كان في بيع مال اليتيم نسيئة مصلحة، فهو من الإصلاح لماله، وقربانه بالتي هي أحسن، ومن القيام له بالقسط.
٢- أن الولي يملك الاتجار بمال اليتيم، والبيع نسيئة لمصلحته من عادة
_________
١ النّسيئة: التّأخير، المصباح ٢/٦٠٤.
٢ الفروق ٤/٣٩، والشرح الصغير ١/١٤٢، ونهاية المحتاج ٣/٣٧٥، وفتح الوهاب ١/٢٠٨والشرح الكبير مع الإنصاف ١٣/٣٧٧، والمبدع ٤/٣٣٩
٣ سورة البقرة آية (٢٢٠) .
٤ سورة الأنعام آية (١٥٢)، والإسراء آية ٣٤
٥ سورة النساء آية (١٢٧) .
1 / 302
التجار وعملهم ١.
القول الثاني: يجوز بيع مال اليتيم نسيئة إذا لم يكن الأجل فاحشًا لا يباع هذا المال به. وهذا قول الحنفية ٢.
وظاهره: أن الأجل إذا كان يسيرا يعفى عنه، وإذا كان بعيدًا اشترط زيادة الثمن لزيادة الأجل، وهذا يقول به جمهور أهل العلم.
ولعل حجته: أن الأجل اليسير مما جرى التسامح فيه بين الناس، كالغبن اليسير٣.
وأما الأجل البعيد مع زيادة الثمن، فدليله ما تقدم من دليل جمهور أهل العلم٤.
القول الثالث: أن الولي لا يملك البيع نسيئة مطلقًا.
وهو رواية عن الإمام أحمد٥.
ولم أقف له على دليل، ولعل حجته الاحتياط لمال اليتيم، وأن بيعه نسيئة لا يساوي بيعه حاضرًا.
ويمكن أن يناقش: بأنه يسلم مع عدم المصلحة في بيعه نسيئة، لكن مع المصلحة، فبيعه نسيئة كبيعه حاضرا، أو أنفع.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - هو القول الأول وأن للولي بيع مال اليتيم بثمن
_________
١ بدائع الصنائع ٥/١٥٣.
٢ الفتاوى البزازية ٥/٢٢١، والفتاوى الهندية ٣/١٧٦، وحاشية رد المختار ٦/٧٠٨.
٣ المصادر ص (٣٠٢)
٤ ينظر ص (٢٩٨) .
٥ الإنصاف مع الشرح الكبير ١٣/٣٧٧.
1 / 303
مؤجلًا إذا كان أصلح، لقوة ما استدلوا به، ولأن المصلحة تقتضي ذلك فالمصلحة لا تنحصر في زيادة الثمن فحسب، بل من المصلحة ألا تنفق السلعة إلا ببيعها نسيئة، وإلا فسدت على اليتيم، ولا شك أن البيع هنا أصلح ولو نسيئة، ومن المصلحة أيضا، تكثير المشترين ونحو ذلك.
المسألة الثانية: شرط ذلك عند من أجازه.
تقدم أن جمهور أهل العلم يرون جواز بيع مال اليتيم نسيئة، وقد ذكر بعض العلماء شروطًا مأخذها: حرمة مال اليتيم، والاحتياط له.
الشرط الأول: أن يأخذ على الثمن المؤجل رهنًا وفيًا به، ولا يجزئ الكفيل عن الرهن.
وهذا الشرط ذهب إليه الشافعية ١، واستثنوا الجد، فلا يشترط الرهن في حقه؛ لأنه أمين في حقه.
والقول الثاني: أنه يحتاط على الثمن برهن، أو كفيل موثوق به.
وبه قال جمع من الحنابلة٢.
الشرط الثاني: أن يشهد على البيع وجوبًا.
الشرط الثالث: أن يكون المشتري موسرًا ثقة.
الشرط الرابع: أن يكون الأجل قصيرًا عرفًا.
وهذه الشروط اشترطها الشافعية٣.
واشترط الحنفية: أن يأمن الجحود، وهلاك الثمن، وهو مقتضى كلام
_________
١ مغني المحتاج ٢/١٧٥، ونهاية المحتاج ٣/٣٧٨.
٢ الإنصاف مع الشرح الكبير ١٣/٣٧٧.
٣ المصادر السابقة للشافعية.
1 / 304