وقديما، وحديثا، وربما لأمد مقبل، كان الدين هو الأسلوب الأكثر فعالية وعملية. وقد تمكن العبريون من التضلع في فنونه، واستثمروه وفق برامج جدوى عالية الكفاءة والجودة، مع انتهاز لماح لكل ما يطرأ في المنطقة من تغيرات على مختلف الأصعدة؛ لنشر القناعات المطلوبة بين أهلها، ومن هنا نفهم لماذا كانوا في عجلة من أمرهم لوضع كتاب مقدس
BIBLE ، جمعوا له حشدا من كل ما وقع تحت أيديهم من ميثولوجيا المنطقة وتراثها، مع التدخل بما يلزم وقتما لزم الأمر، فكان هذا الكتاب مأثرتهم الوحيدة، لكنه كان الأوحد الثابت، بعد اندثار الحضارات الأصلية، وانقطاع أهلها عن تاريخها، بينما كانت للمقدس العبري منهلا ومنبعا، بحيث أثبت صلابة لا تبارى، لا نجد لها سببا سوى الوعي بالتاريخ والتواصل معه. (3) تأسيس 2
وهكذا؛ وبعد أن تمكن العبريون من تهويد تراث المنطقة، وجعلوا جماعتهم وأسلافهم قطب الدائرة في كتابهم، فنسبوا بطولات الملاحم القديمة إلى آبائهم الأوائل أحيانا، وأدرجوا الأبطال في الميثولوجيا القديمة للمنطقة ضمن النسل العبراني أحيانا أخرى، أو غالبا ما كانوا يختارون البطل أيا كان جنسه، ثم يصوغون له شجرة نسب تولده من أسلافهم، فكان أن تلاحقت على صفحات الكتاب ثقافات شتى، أولدت هجينا تعشقت فيه رواسب شعوب المنطقة، وأدى فيها اليهود دور البطولة المطلقة.
ولعله من نافلة القول، وتكرار المعروف، أن هذا الكتاب لا يعد بحال مصداقا لما اصطلح على تسميته ب «كلمة الله الثابتة». ولدينا، وبين أيدينا، في مقدمة الطبعة الكاثوليكية للكتاب المقدس، الصادر سنة 1960م إقرار واضح يقول: «ما من عالم كاثوليكي في عصرنا، يعتقد أن موسى نفسه كتب كل التوراة منذ قصة الخليقة، أو أنه أشرف على وضع النص الذي كتبه عديدون بعده، بل يجب القول: إن ازديادا تدريجيا حدث، سببته مناسبات العصور التالية، الاجتماعية والدينية.»
ومعلوم أيضا أن الباحثين التوراتيين قد اختلفوا فيما بينهم حول ضبط جمع مادة هذا الكتاب وتوقيتها، وأنه لم يكتب بيد مؤلف واحد في عصر واحد لجمهور واحد، بل قام بهذه المهمة مؤلفون كثيرون، في عصور متباينة، لجماهير تتباين مزيجا ومزاجا، حتى امتدت هذه التفانين إلى أكثر من ألف عام، وقدر البعض تاريخ الانتهاء منها حوالي 440ق.م.
6
وربما في تقدير آخر، حتى القرن الأول قبل الميلاد.
7
ولعل أشهر المدارس البحثية في التوراة، وهي مدرسة «فلهاوزن
Willhaesen »، التي أكدت أن تصانيف التوراة قد بدأ جمعها بعد عهد «موسى» بقرون، وأن الجماع والمصنفين كانوا مختلفين مزاجا ومشربا، ودللت على ذلك بأدلة مهمة ، لعل أخطرها ولا يقبل جدلا، أن اسم الإله وطبيعته وعلاقته باليهود، يختلف ما بين سفر وآخر، إضافة إلى تكرار القصص في الأسفار؛ مما يشير إلى أن المصنفين لم يلتقوا معا، ليصفوا ما بينهم من خلافات حادة في التفاصيل. هذا مع فروق واضحة وعميقة إلى حد التنافر التام في اللغة والأسلوب بين هذه الأسفار.
Bog aan la aqoon