فصاحت أستير: ولماذا لم تخبرني بذلك قبل الآن؟ فأجاب أرميا وقد استشاط غضبا: لأنك لم تسأليني عنه، وما أهمية رحيله، فإن الأرض لا تزال أرضا.
نعم يا أرميا، إن الأرض عندك لا تزال أرضا لم تتغير ولم تتبدل، ولكن قلب أستير كان قد تغير وتبدل، وليس شيء كالجفاء يغير قلوب النساء. فإن أستير مع حبها لإيليا في ما سبق قد قدرت على فراقه في المزرعة فرارا منه، وقد شعرت يومئذ أنها بفعلها هذا قد فعلت فعلا جميلا ساميا؛ لأن ذكر «واجباتها لدين آبائها ولأمها» كان يعزيها عن كل شيء، ولكن لما تركها إيليا وذهب عنها تغير وجه المسألة عندها. فإن هذا الجفاء منه أحدث في نفسها حدثين عظيمين: الأول أنه زاد حبها له وهذا شأن الجفاء على الدوام، والثاني أنه جرح كبرياءها وأنانيتها جرحا بليغا، ولهذين السببين صارت أستير لا تطيق ترك إيليا قبل معرفة سبب جفائه هذا.
ومنذ هذا اليوم بدأت أستير تنحل وتذبل كزهرة انقطعت عنها مادة حياتها، وصارت تذهب في كل يوم إلى طريق المدينة مع أبيها؛ لعلها تجد إيليا راجعا، وكان يذهب أكثر الليل وهي قاعدة على فراشها، وإذا نامت قبيل الصباح قليلا فإن صورة إيليا كانت تطاردها في رقادها، وكان يتمثل لها إيليا في أحلامها هذه غاضبا عليها معرضا عنها، فتنتبه باكية مذعورة، وتبقى النهار كله مفكرة متألمة.
فلما مضت على أستير بضعة أيام على هذا المنوال هزلت، وانقلب لونها الوردي إلى الاصفرار، وقل طعامها. فجزع عليها أبوها وأمها جزعا شديدا، ولكنهما لم يقفا على سبب علتها؛ لأن الآباء والأمهات قلما يقفون على أمثال هذه العلل.
وفي أثناء ذلك اشتد التحاسد عليها بين ضرار وعمرو بن معدي كرب، واغتاظت أستير من تعرضهما لها، فعزم أبوها على الرحيل بها عن معسكر العرب. إلا أن أستير رفضت السفر لغير المدينة المقدسة، وأقنعت أمها العجوز المتدينة بالإقامة لحضور الحفلة الكبرى التي سيقيمها العرب؛ لإعادة بناء هيكل اليهود القديم. فتمسكت العجوز بهذا المطلب؛ لأنه كان من أقصى أمانيها كما تقدم.
وكان اليوم الذي تم فيه عقد الصلح يوم أحد من شهر آذار * ففي مساء اليوم التالى وهو يوم الإثنين عزم الإمام عمر على دخول المدينة؛ لتخطيط مسجد فيها * فركب في نخبة من أمراء المسلمين وأعيانهم، ودخل إلى المدينة ليلا. فاضطربت المدينة لدخولهم، وصار الناس يسترقون النظر إليهم من النوافذ، وكان الشيخ أبو أستير معهم في دخولهم؛ ليدلهم فيها، وأمامه حمار عليه زوجته العجوز وابنته أستير وهي تكاد لا تستطيع الاستواء على مطيتها من الضعف والاعتلال.
ومما لا يحتاج إلى بيان أن أرميا كان وراء مطيتها بجانب أبيها.
ولما صار عمر ورجاله في المدينة أخذهم الشيخ إلى دائرة الحرم الحالية. فلما أشرفوا على هذا المكان الذي فيه المسجد الأقصى وبيت المقدس هللوا وكبروا، وكان بيت المقدس
1
مدفونا بالتراب وفضلات المنازل، ولم يكن ظاهرا منه غير الجدار الذي في زاوية سور الحرم إلى الجنوب الغربي، وهو من آثار هيرودوس الكبير * ولا يزال إلى اليوم مناحة الإسرائيليين كما تقدم في موضع آخر.
Bog aan la aqoon