ولما وقع نظر الشيخ سليمان على وجه إيليا من بعيد صاح به: أهلا وسهلا بمعلمنا حاج بيت لحم. إنني أرى في وجهك شيئا جديدا.
فأجاب إيليا: نعم يا أبت، فقد وصل العرب إلى المدينة.
فعبس الشيخ سليمان، وقال: كنت أنتظر هذا الأمر بعد فتح دمشق فليكن الله معنا، وإلا ذهبت مملكتنا بسوء تدبير رجالنا، ثم ابتسم الشيخ قليلا متناسيا ذلك الحديث المزعج، وقال: إلا أنني لا أظن هذا سبب خفة حركاتك، وبرق عينيك في هذا الصباح، فإنك ذهبت كسولا فاترا ضعيفا حسب عادتك في المدة الأخيرة وعدت نشيطا فائرا قويا، فأخبرني ماذا جرى لك.
فابتسم إيليا ابتسامة معناها أنت مصيب في ظنك، ثم أخذ يد الشيخ ودخل به إلى منزله، وجلس يقص عليه كل ما جرى له.
وكان الشيخ سليمان في سن الستين تقريبا بلحية بيضاء منتشرة على صدره الواسع، وجسمه الكبير الظاهر عليه لوائح القوة والصحة يحمل رأسا كبيرا فيه عينان كبيرتان كسرت السنون حدتهما، وكان لون وجهه الأسمر الذي لفحه حر الشمس والقوة التي تبدو منه مع شيخوخته في كل حركة من حركاته يدلان على أن هذا الرجل قد عارك الدهر في حياته عراكا شديدا.
ولما كان الشيخ يسمع قصة إيليا من حين قبض عليه العامة في بيت لحم إلى مفارقته تيوفانا أمام الدير كان تارة يضحك وطورا يعبس وآونة يقوم ويقعد، ولما استوفى إيليا قصته بهت الشيخ وبقي مبهوتا، وكان إيليا يقرأ حينئذ في هيئته وعينيه دلائل التأثر الشديد، ويرى في نظره بروقا ورعودا، وبعد برهة وثب الشيخ سليمان، وصار يتمشى بغضب في الغرقة. ثم صاح على حين بغتة: يا ولدي إيليا، لقد أخطأت خطأ عظيما.
فدهش إيليا وأجاب: وما ذنبي، فإنني بذلت جهدي لإقناع البطريرك بإطلاق سراح الفتاة فرفض ذلك؛ لأن الشعب كان يطلب تعميدها.
فهز الشيخ سليمان رأسه وصاح: هذه إحدى آفاتنا يا ولدي. الشعب الشعب الشعب. إنهم يأتون كل ضروب الظلم والاضطهاد والرياء بحجة الشعب، كما كان يقول أخونا ميخائيل، فإذا رام أحد فهم أصول دينه بعقله لا بعقل غيره
1
صاحوا عليه صياحا شديدا خوفا على ايمان الشعب. إذا اعترض أحد على الجزئيات الدينية التي ليست في شيء من جوهر الدين أقاموا القيامة عليه بحجة لزوم ذلك للشعب. إذا أثنى أحد على دين غير ديننا قاموا وقعدوا بحجة أن ذلك يضعضع إيمان الشعب. إذا وقع في يدنا مثلا فتاة ضعيفة وطلب الشعب تعميدها رغما عنها جاروه على هواه وأهانوا الإنسانية في تلك الفتاة إرضاء للشعب، وعلى هذا القياس يا ولدي تؤتى ضروب الظلم والافتئات والشرور والفساد صيانة لأوهام الشعب، ويكون أجهل رجل في الشعب أقدر من رئيسه وأقوى سلطة منه في كرسيه؛ لأنه يحرك الشعب عليه كلما رام تحريكه، وهكذا يكون الشعب محسوبا عندهم عبارة عن ولد جاهل أبله يدرءون جهله وشهواته وأوهامه، ولو أدى ذلك إلى الشر والفساد، وخنق كل ذكاء ونباهة وإصلاح في الأمة، ومن هذا الضلال والضعف يا بني يخرج التأخر للأمم؛ لأنك لم تنس أن الرهبان في مملكتنا كانوا في أكثر الأحيان أقوى من رؤسائهم؛ لتحريكهم الشعب عليهم * وكم حالوا دون إصلاحات مهمة بهذا السبب الصغير.
Bog aan la aqoon