فلما وقع هذا الكتاب في يد إيليا هم أن يصيح بموضوعه أمام أمه، ولكنه كتم الأمر إلى ما بعد الاطلاع عليه، وكان إيليا يومئذ في التاسعة عشرة من العمر، وكان قد أصبح فتى قوي البنية رقيق العود طويل القامة أبيض اللون أسود العينين جميل الهيئة قليل الحركات كثير السكنات، وكان يلذ له الصعود إلى الجبال التي فوق الناصرة للتأمل فيها. حتى إنه لو كان رنان في عصره ونظره يتأمل من تلك الجبال في المناظر الشائقة التي تحت قدميه؛ لظن أن الناصري عاد إلى الأرض مرة أخرى فولد من عذراء وشب حتى صار فتى، وجلس على تلك الجبال التي كان يلذ له الجلوس عليها؛ للتفكير بإنقاذ العالم مرة أخرى.
فقرأ إيليا هذا الكتاب، وأكثر كتبه الأخرى هناك في ذلك المكان البديع، وما فرغ من كتابه حتى تغير رأيه في الثلاثة الذين تقدم ذكرهم. فإنه كان قبل قراءة الكتاب يبغض اثنين منهما بغض الشيطان لما قرأه وسمعه حتى إنه كان يرى الناس إذا ذكروا أمامه أحدهما فإنهم كانوا يصلبون استعاذة منه بالله، وأما الآن بعد قراءة تاريخ حياتهم فقد ذهب بغضه لهم؛ لأنه لم يرهم سودا كما وصفوا له؛ بل إنه أعجب بجرأتهم على الجهر بما اعتقدوه حقا، وذكر لهم فضل العمل والصدق في الفكر والقول، ولكنه لم يقتنع بمذهبهم؛ لأن أمه أرضعته مع اللبن حب كنيسته وأمه الحنون التي سيندمج في سلك أبنائها بعد حين، ولذلك أطبق الكتاب بعد الفراغ منه، وتنهد قائلا: «لا تدينوا لكي لا تدانوا» إلا أنه بقي في ذهن الفتى برق من هذه المطالعة السرية وهو حب البحث وحرية القول والفكر.
وفي العام التالي أخذته أمه إلى القدس؛ ليندمج في السلك الإكليريكي. فذهب إليها إيليا بسرور وشوق كما يذهب إلى الفردوس الأرضي لو علم بمكانه، ودخلها كملاك خلقا وخلقا، وقلبه يرقص طربا؛ لأنه سيكون في المستقبل من أولئك الرجال الضعفاء الذين تحنى أمامهم رءوس القياصرة والملوك والكبراء، ولا سلاح لهم غير ثوبهم الأسود.
ففي القدس لقيت أم إيليا في كنيسة القيامة الراهب النسطوري الذي أعطاها الكتاب الذي تقدم ذكره؛ فقدمت إليه ابنها المحبوب، وأطلعته على نيتها، وكان ذلك الراهب يدعى «ميخائيل» وهو شيخ في الخمسين من العمر أصله من بلاد الكلدان، ولكنه يقيم في بيت المقدس. فلما وقع نظره على الفتى وآنس في وجهه الروح الملائكي الذي تقرأ النفوس الكبيرة آياته في عيون النفوس الكبيرة التي لا تزال صغيرة قرع ظهره بيده تحببا، وقال: «فلتكن روح سيدنا المسيح معك يا بني، إنني أرى نورا إلهيا في وجهك، ولو لم ينقض عصر الأنبياء لقلت إنك ستكون النبي الذي تنتظره المسيحية».
فبكت أم إيليا من هذا القول المؤثر، ولم يبق لديها شك في أن ابنها فوق البشر تقريبا، ولا نكتم القارئ أنها فتشت في السر كثيرا في التوراة والإنجيل؛ لتعلم هل هنالك نبوءات عن ظهور نبي جديد من الناصرة أم لا، ولولا مجيء ابن الإنسان منذ نحو 628 عاما، فربما كان حنانها الوالدي أطلق على صغيرها النبوءات الواردة في التوراة بشأن مجيئه.
وكان الراهب ميخائيل قد اهتم بإيليا اهتماما شديدا؛ فلزمه إيليا، وصار يزور الآثار المقدسة معه، وفي عيد الإمبراطور في ذلك العام أقيم قداس حافل أمام القبر، فذهب إيليا والراهب لحضور هذه الصلاة، وكانت هذه أول مرة يحضر بها إيليا صلاة هيئة دينية كبيرة، وكان أسقف بيت لحم هو المتولي رئاسة القداس، وحوله الكهنة والشمامسة والرهبان صفوفا صفوفا، وكلهم متجهون إلى القبر المقدس، وحولهم الجموع. فلما حان وقت تلاوة الإنجيل مد الأسقف يديه ليتناول الكتاب المقدس. فتقدم شماس ليفك أزرار كمه فاضطرب وأبطأ، فغضب المطران ولطمه على وجهه بيده اليمنى الممدودة، ويظهر أن الشماس الذي ذهب ليأتي بالإنجيل أبطأ أيضا، واضطر الأسقف أن ينتظر قليلا، فلما جاءه بالإنجيل لطم بيده اليسرى ذلك الشماس؛ لئلا تغار من اليمنى، وهو يقول له باليونانية كأسد يزمجر «دياولي».
2
فلما رأى إيليا ذلك المشهد الغريب ارتعدت فرائصه، وصبغ الدم وجهه حتى كاد يخنقه. ثم نظر إلى الأسقف ليرى هل يجترئ بعد صنعه هذا على مس الإنجيل بيده الضاربة؛ فوجد أنه تناول بها الكتاب بكل قوة - ذلك الكتاب الذي يحرم عليه الصلاة بعد ذلك إن لم يستغفر أخاه الشماس الذي أساء إليه - وصار يتلوه بصوت جهوري.
أما الراهب ميخائيل فإنه لما نظر تأثر إيليا ابتسم ابتسامة هو وحده يعرف معناها.
ولما انتهى القداس وخرج الناس نظر إيليا إلى صفوف الرهبان الخارجين فوجدهم وقد تفرقوا شتاتا في فناء الكنيسة كأنهم أسرى وأطلق سراحهم، وكانوا يضاحكون بعضهم بعضا وهم خارجون، ويثبون وثبا كأنهم مبتهجون بانطلاقهم من قيد النظام الذي كان يجعلهم أمام رؤسائهم كأصنام جامدة.
Bog aan la aqoon