وفي أثناء ذلك كان الشعب في الأسواق لا يزال يضج ويلعب، ويطلب تعميد الفتاة، فأبلغوه أنهم قرروا إرسالها إلى الدير، وبعد ذلك يرون رأيهم فيها.
الفصل الخامس
النبي أرميا ومشروعه العظيم
في السبب الذي لأجله أحب إيليا حبا فجائيا. ***
وانقضى ذلك العيد في بيت لحم بفرح وسرور بين طبقات الشعب، إلا أن البطريرك صفرونيوس وقائد الحامية في القدس وواليها كانوا في شغل شاغل وهم شديد، وفي يوم العيد بينما كان الناس منتشرين على طريق بيت لحم عائدين إلى القدس كان إيليا على طريق جبل الزيتون فوق القدس صاعدا إلى الجبل بخطى ثقيلة ورأسه إلى الأرض كأنه يعد خطاه أو يفتش عن شيء أمامه، والحقيقة أنه كان يتأمل ويتفكر.
وإنما كان إيليا يفتكر بحوادث أمس، وسوء حظ تلك الفتاة اليهودية، وكان إيليا كلما افتكر بها شعر بذوبان في قلبه وشفقة لا حد لها، وقد يستغرب القارئ أن يحب هذا الشاب الفتاة من أول نظرة، ويخاطر بنفسه وبراحته في سبيلها، ونحن نشاركه في هذا الاستغراب لو لم يكن هنالك سر صغير بث في دمه سم الحب بقوة الصاعقة وسرعتها، وإليك هذا السر الصغير الحقيقي الذي لم يطلع عليه أحد قبل الآن.
منذ عشر سنوات كان إيليا في يافا لحاجة له، ولما قصد العودة منها إلى القدس ركب في قافلة وسار معها، ولكنه قبل المسير رأى في المحطة قافلة أخرى تستعد للمسير وراء قافلته وفيها رجل يهودي ومعه فتاة في نحو العشرين من العمر، وكان إيليا يومئذ في السادسة عشرة من العمر، وكان هوائيا شديد التصورات والانفعالات، وقد قرأ بإمعان التوراة وتاريخ يوسيفوس في حروب اليهود وأخبارهم، فصار يرى في اليهود معاصريه بقايا أمة عظيمة، ومما كان يفتنه منها على الخصوص قوة نفوس نسائها وجمالهن الذي حل في التاريخ مشاكل كثيرة، فخيل له أن للمرأة الإسرائيلية نفسا خصوصية جاذبيتها أشد من كل جاذبية. فما وقع نظره على تلك الفتاة التي هي من ذلك الدم القديم حتى شعر بانجذاب شديد إليها، وكان جمال الفتاة ولطف عينيها الهادئتين الصافيتين مما ساعد على أسر ذلك الفتى الصغير، وكان على جبينها عصابة بيضاء مزركشه تزيد وجهها بياضا وجمالا. فسار الفتى إيليا في قافلته تاركا قلبه الصغير لدى تلك الفتاة الكبيرة، وكان كلما نزلت القافلة على الطريق يشخص في أنوار القافلة القادمة بعدها، ويود لو تصل إلى قافلته لتسيرا معا، وكان يخيل له حين رؤية أشباح تلك القافلة في الظلام من بعيد أنه يرى تلك العصابة البيضاء ذات الزركشة اللامعة وتحتها العين اللامعة، وبالحقيقة أنه كان يراها بعين بصيرته، ولما سمع أن أحد اللصوص هاجم على القوافل افتكر إيليا الصغير بذات العصابة البيضاء قبل افتكاره بنفسه، وعلى ذلك كان حب ذلك الفتى الصغير حبا حقيقيا؛ لأن هذا هو مقياس الحب الحقيقي، وقد بقي إيليا على هذه الحال وبهذه الأماني حتى غابت القافلة، ولم يعد يرى لها أثرا، فعلم أنها حادت عن طريق القدس إلى بلدة غيرها. فأطرق الصغير حينئذ يتأمل في ذهاب حبه سدى، فكان ذلك أول هم دخل قلبه الخلي. فيا حب الملائكة إنك لا تكون أبدا أطهر من هذا الحب ولا أثبت منه؛ لأن إيليا الصغير بقي يتذكر حتى في أحلامه تلك الرؤيا التي مرت أمام عينيه كشهاب أضاء فكان نوره أول نور دخل إلى قلبه.
ولكن بعد عشر سنوات لما وقع نظر إيليا في بيت لحم على الفتاة أستير في ظلمة الليل وهي مضطربة خائفة، وعلم أنها من دم تلك الفتاة التي أحبها في أحلامه في صغره ثارت نفسه دفعة واحدة، وأحبها من أول نظرة، وخيل له أنه يحب في هذه الفتاة حبيبين: الحبيب الحاضر الذي يستحق كل حب، والحبيب الغائب الذي ذهب في أوقيانوس العالم ذهاب حجر في البحر فلم يعد يظهر له أثر، وكأن إله الحب قصد إيليا بسوء فأرسل إليه أستير شبيهة بفتاته الأولى في كثير من ملامحها وسنها وقوامها، ولم تكن تنقصها وا أسفاه غير العصابة البيضاء المزركشة ...
فصعد إيليا الجبل وهو يفتكر بالفتاتين معا، ولكن أستير - وهي الحاضرة - بدأت تحتل محل الخيالية الغائبة، وكان يتساءل كثيرا عن سبب وجودها مع أبيها في بيت لحم في تلك الليلة، ويعد نفسه بلقاء أبيها في ذلك اليوم للوقوف على سر هذه المسألة.
وما زال إيليا صاعدا حتى انتهى إلى أعلى الجبل فقصد أرزة كانت قائمة هناك كملجأ لطيور السماء في ذلك المكان الجاف
Bog aan la aqoon