وكان إيليا يسير وفكره شارد عند أستير وأبيها، ولذلك استعاذ بالله لما نظر أرميا قادما. فنوى أن لا يلتفت إليه، فأطرق إلى الأرض وبقي سائرا في طريقه.
أما أرميا فإنه ما اقترب من الركب ولمح إيليا من بعيد حتى صاح بأقوى صوته: كيريه إيليا كيريه إيليا. تعال تعال إلي.
فالتفت نحوه إيليا لفتة، ثم صرف وجهه عنه، وسار في طريقه.
وقد عجب الأمراء من حالة هذا الرجل وصرف إيليا وجهه عنه، ولكن أبا عبيدة أخبر الأمير أنه معتوه فحل الابتسام محل العجب عندهم.
أما أرميا فإنه هجم كالذئب الكاسر على إيليا وأخذ به. ثم جثا على الأرض صارخا بكل قواه: كيريه إيليا كيريه إيليا. رحماك خلصنا. صديقي. أخي. حبيبي. لا تتركنا.
فدهش إيليا من هذه اللهجة الجديدة فلم ير بدا من سؤال أرميا عن مراده وقصده، فصاح أرميا والجنون يقصف ويعصف في عينيه: - إيليا. إيليا. إذا تركت أستير فإنني أقتلك ... ها ها ... هلم معي إليها ... هي تنتظرك ... هي تنادي إيليا إيليا ولا أحد يجاوبها ... اسمع اسمع. إن البطريرك أرسلني إليك ... وأبوها عنده الآن ... وهو يطلب أن يراك ... ففتشت عليك المدينة كلها فلم أظفر بك إلا هنا ... إيليا إيليا ... لا تستغرب كلامي ... لا تظنني مجنونا فأنا أقول لك الحق ... نعم، قد دخل الشيطان منذ مدة إلى قلبي فصنعت ما صنعته معك ... ولكن ما كنت أظن أنها تحبك إلى هذا الحد ... فاسمع يا صاحبي ... يا أخي في المسيح. الله يبارك لك فيها ... انظر ... ها إنني أنفض يدي أمامك منها ... خذها وحدك ... لك وحدك يا إيليا ... ولا آخذ منها أنا غير خصلة من شعرها ... ولكن خلصها ... آه لو كنت علمت أنه سيحدث ما حدث لما كنت صنعت شيئا ... ولكن ما جرى جرى ... ولا نعود إليه ... هلم معي يا عزيزي لنخلصها.
فلما سمع إيليا هذا الكلام ونظر إلى حالة أرميا اشتد جزعه على أستير، فأنهض المعتوه وسكن باله واستخبره الخبر، ولما علم منه كل شيء طارت نفسه شعاعا، فاستأذن الأمير، وسار مسرعا إلى المدينة قاصدا المقام البطريركي.
ولما دخل إيليا على البطريرك وجده جالسا على مقعد وهو مطرق يفكر، ويظهر أن الأشهر التي مرت في اثناء الحصار وما تلا ذلك من فتح المدينة قد أثر في نفس البطريرك تأثيرا شديدا، ولذلك كان لونه الناصع الوردي الاعتيادي مشوبا بالاصفرار، وجسمه قد نحل قليلا، ولما وقع نظر البطريرك على إيليا صاح البطريرك: بم أجاب الأمير يا ولدي، فمد إيليا يده إلى جيبه وهي ترتجف، وأخرج له الرق السري، وأبلغه جواب الأمير. فتناول البطريرك الرق بيده وهي ترتجف أيضا، وقال بنزق: من أين وصل هذا الرق إلى يد ذلك اليهودي؟ فدهش إيليا وقال: أي يهودي يا مولاي؟ فقال البطريرك: أبو الفتاة التي قبض عليها الشعب في طريق بيت لحم ، ولذلك بعثت في طلبك مع أرميا لتدبر هذه المسألة. فازدادت دهشة إيليا، وظن أن أرميا كاذب بما قاله عن أستير. فقال: وما شأن هذا اليهودي؟ فقال البطريرك: اجلس يا إيليا.
ثم إن البطريرك أخذ يقص على إيليا ما حدث. فعلم إيليا أن أبا أستير جاء البطريرك باكيا منتحبا، فانطرح على قدميه، وأخبره أن إيليا أساء إلى ابنته، وقد أشرفت على الموت، ولذلك فهو يسأله أن يرسل إليها إيليا؛ ليظهر لها الرضى ويعزيها حتى إذا شفيت من علتها وعاودتها صحتها سافر بها أبوها. فدهش البطريرك من هذا الاقتراح البارد ورد الشيخ بخشونة. فذهب الشيخ باكيا، وأرسل إليه مع أحد الشمامسة ورقة مختومة فيها هذه العبارة: «إذا لم يفعل البطريرك ما ذكرته له، وماتت ابنتي، فإنني أنتقم لنفسي بأن أكتب للإمبراطور، وأطلعه على مسألة الرق السري الذي دفعه إلى أمير العرب».
فلما قرأ البطريرك هذه الورقة أسقط في يده، وأرسل يسترجع الشيخ. فرجع الشيخ، وعلم منه البطريرك ما يريد علمه عن أستير وإيليا، وكانت السيدة تيوفانا التي ذهبت بأستير إلى دير العذراء على جبل الزيتون قد عادت من الدير بعد فتح المدينة، فاستدعاها البطريرك، وطلب منها أن تنقل أستير من خيام العرب في حيز بيت المقدس إلى منزل موافق لصحتها وتحسن مداراتها. فاختارت تيوفانا «فندق البيت الأحمر» في بيت لحم فذهبت مع أبي الفتاة ونقلت أستير إليه، وقد وعد البطريرك الشيخ بأن يبعث إليه إيليا في المساء.
Bog aan la aqoon