هذا كله أمر معقول.
أما غير المعقول فهو ما حدث؛ فلماذا يكلمني أحمد في التليفون؟
صحيح أني فوجئت به، ولكني أقول الحق فرحت، وأحسست أني افتقدته طويلا؛ فهناك أناس يفتقدهم المرء، يفتقد القيم؛ فالشرف في ذهن الواحد منا مرتبط بإنسان، والإخلاص بإنسان آخر، والحنان والمحبة بثالث، وأحمد عمر هذا كان يرتبط في ذهني - ولست أدري لماذا - بشيء يمس من قريب أو بعيد روح شعبنا؛ الشعب الضخم الخجول، الذي لا يسعده شيء مثلما يسعده أن يسخر من نفسه وأخطائه.
ولم أسأله لماذا هو في مصر الجديدة؛ فقد خمنت أن كتيبته، لا بد معسكرة هناك، تحمي شمال القاهرة؛ إذ كان الجيش يستعد للدفاع عن العاصمة. أما الشيء الذي حيرني فعلا، فقد كان لهجته اللهجة المتدفقة المملوءة بالانفعال، وصوته المحشو بضحكات موفورة الصحة، لا كحة فيها ولا بلغم.
وعجبت.
وسألته كيف يكلمني، وهل عندهم في المعسكر تليفون؟
وأجابني: احنا معسكرين قريب من هنا، وجنبي بقال. ياه! داحنا شفنا العجب؛ دي حرب بجد والله العظيم! والطيارات والمدافع؛ تك تم، تك تم ... تصور حضرتك ما غيرتش الشراب بقالي ست أيام لما بقى شربات! سامع الطيارات؟
وكنت حقيقة أسمع ضجة خافتة بعيدة، وكنت أعرف أن طائرات العدو، تركز ضرباتها على تلك المنطقة «مصر الجديدة» ليل نهار!
وانتباني شيء يشبه الخزي، وأنا أدرك أن أحمد في الميدان، وأنا في المكتب، وسلك طويل يفصل بين القتال الرهيب الدائر هناك، والمصلحة التي أنا فيها وروتينها ودرجاتها وعلاواتها ...
واندفعت أبثه كل حماسي وسخطي، وأشجعه.
Bog aan la aqoon