في الليل والعربة تجأر، تصعد، تميل، تتلوى، صندوقها المغلق الكبير يتأرجح؛ فهي تسلك الطريق الوعر، الخالي من أكشاك المرور وعساكر المرور؛ فقد سحبوا الرخصة منه من زمن لضعف بصره، وفي الليل يزداد ضعفا! ويزداد تأرجح اللوري فوق جسور المصافي غير الممهدة، وغير المعدة لمرور العربات، أي عربات.
في الليل والعائلة الغريبة منكمشة بجواره، الزوجة وضعها الرجل لصق الباب؛ غيرة عليها أن تكون محشورة في الوسط بينه وبين السائق، والأولاد في الدواسة وفوق ركب الأب والأم وفي كل مكان. في الليل وقد مضى النهار المزدحم، ذلك النهار، قصته الكاملة لو كتبت لاستغرقت كتبا، بل لا أحد بإمكانه أن يحيط بها كلها.
عباس السائق جذبته الأغنية وغرق في دوامتها؛ الليل صاحبه القديم، والليل عمره، بل أصبح قدره، ولم يعد سواه ملجأ يحميه من النهار، نهار الناس العاديين والقانون العادي، نهار البوليس والتفتيش والرخص، النهار الذي يضبط فيه كل شيء، ولا يفر منه أحد، ولم يعد له سوى الليل؛ ذلك الليل، الذي خلا إلا منه ومن محتويات «لوريه» من بشر وأشياء وخيالات، يستجير به معيدا حتى لا يتخلى عنه؛ إذ حتى لم يعد يرى أمامه أي مرفأ.
قطع عباس اندماجه وسأل: مريوط؟ مريوط؟
حجاج الراكب وصاحب الكومة الأسرة فرح؛ فالسائق في العادة ذلك الذي اعتاد الصمت، وقصر حواره دوما مع الموتور، إذا أجاب مضطرا خرجت الإجابة من أنفه؛ تكبرا يقولون، تكبر السائقين الذين يعرفون أنهم فوق الناس؛ لأنهم يعرفون ما لا يعرفه الناس؛ تحت إمرتهم سر الصنعة، والآلة اللغز، سلسلة في يدهم، الآلة لغز في عالم يحيا بآلات من الحمير والكارو والجاموس والنهيق. الآلة، أصبع الحضارة البعيدة، تخترق الفيافي وتظهر هنا، معجزة ومرعبة، وسيدها عباس، أو أي عباس، وحتى لو كان نظره شيش بيش ليجعل تكبره على الآخرين أقل شموخا، ولكنه حتما يملك ذلك الشموخ.
مريوط! لماذا مريوط؟ وهل يعقل - وفي هذه الساعة - أن يطرق حجاج «أفندي» باب أنيس أفندي، ولغرض كهذا الغرض؟! مريوط مريوط مريوط، وهذا البغل ذو الكرش المحشو جشعا ونتانة! مريوط يا ابن بائعة الفجل، الذي أصبحت صاحب أرض، وبفضلي أنا تحولت من «بقجة» القماش، تحملها لتبيعها بالمتر والنصف متر في الأسواق، إلى صاحب دفتر شيكات ضخم بقلمك المذهب، تستطيع أن تضع أي رقم وتوقع، ولتوقيعك قيمة وسمعة، أعظم من سمعة محافظ البنك الأهلي، وورقة دفتر شيكاتك أضمن من الورقة أم مادنة، والمميزة بالصورة المسحورة لأبي الهول. مريوط مريوط! يا حسن بن وهيبة بائعة الفجل، يا من سموك يوم ولادتك حسن الكبش؛ لفرط شبهك به، ثم لما تاجرت وأصبحت صاحب عربة خضار سموك المعلم، وتلاشى الكبش من اسمك، وذاكرة الناس للأسماء وللألقاب ضعيفة، خاصة إذا كان أصحابها يكبرون، والناس تصغر. وحسن بك أصبحت، مائة فدان تملكها رغم أنف قانون الإصلاح الزراعي، وقوانينه الصارمة لمنع التحايل، ومائة أخرى تستأجرها رغم أنف قوانين الإيجار الحاسمة؛ مائتا فدان! الجناين مائة، والخضار مائة، والسراية اسمها الشاليه، والسور الذي يحيط بالمائتي فدان أسلاكه شائكة، وفي الليل مكهربة، وماكينة النور تكفي لإضاءة مدينة، وحظك نار! بمائة جنيه لهفتها والأرض فدانها بألف، وصاحبها الخواجة يبكي؛ فالعمر أضاعه، يصنع من الجنينة جنة، قنواتها بالأسفلت، ونقل الفاكهة والخضار يتم بقطار صغير، ذي عربات قلابة وأوناش، وخيم للرش وموتورات، وببلاش أصبحت «بك»، ولو كان ممكنا لتخطيت - بأرض الخضار ومزرعة الدواجن والبهائم وخلايا النحل، وحتى بتقطير زهر الياسمين وحده - رتبة الباشا!
فلتكن مريوط.
الخواجة كان أحسن، ألف مرة أحسن! خواجة على غير الدين والملة، لا يكذب ولا يغش، ولم يذهب ليحج، ومعه حقيبة ضخمة فارغة، وعاد بملء عربة لوري بضائع للتجار والاستهلاك.
الخواجة كان أحسن، وكان في أيامه وطنيا صميما ووفديا قحا، وعباس السائق هذا نفسه كان حين يريد أن يسترضيه، يضغط على «سيرينة» العربة النقل، لتعزف ذلك الهتاف المموسق يحيا ... النحاس ... باشا ...
خواجة وأحسن، وذمته أنضف، ولكنه ذهب لأنه كان يمت إلى جنس كبير، حرفته السرقة المنظمة المقننة، والإرهاب بالقتل العسكري المباح، والاحتلال طريقته في السطو المسلح، خواجة واحد نظيف في عصابة قوامها عشرات الملايين من السفلة، وراح.
Bog aan la aqoon