المماليك البحرية وقضائهم على الصليبيين في الشام
المماليك البحرية وقضائهم على الصليبيين في الشام
Daabacaha
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
Lambarka Daabacaadda
السنة الحادية والعشرون-العددان الواحد والثمانون والثانى والثمانون-المحرم
Sanadka Daabacaadda
جمادى الآخرة ١٤٠٩هـ
Noocyada
مدخل
...
المماليك البحرية وقضاؤهم على الصليبين في الشام
الدكتور شفيق جاسر أحمد محمود أستاذ مشارك بقسم التاريخ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:
فما من زمن تفرق فيه المسلمون، وضعفت شوكتهم، وتكالب عليهم أعداؤهم، إلا ووفى الله تعالى للمؤمنين بوعده في حفظ دينه، فيسر لهم من يجمع شملهم، وبقيل عثرتهم، ويقودهم إلى مجاهدة عدوهم.
والمماليك البحرية نموذج لمثل هؤلاء الذين وفقهم الله للدفاع عن الإسلام وبلاد المسلمين، فتمكنوا مِن رد الخطر المغولي الماحق، ومن تطهير البلاد من بقايا الصليبيين. فلله الحمد أولًا وآخرًا.
المماليك: يطلق اسم (المماليك) اصطلاحا، على أولئك الرقيق- الأبيض غالبا- الذين درج بعض الحكام المسلمين على استحضارهم من أقطار مختلفة وتربيتهم تربية خاصة، تجعل منهم محاربين أشداء، استطاعوا فيما بعد أن يسيطروا على الحكم في مصر وأحيانا الشام والحجاز وغيرها قرابة الثلاثة قرون من الزمان ما بين ٦٤٨-٩٢٢ هـ (١٢٥٠-١٥١٧م) . وكلمة (مماليك): جمع مملوك، وهو الرقيق الذي يباع ويشترى، وهي اسم مفعول من الفعل (ملك)، واسم الفاعل (مالك) والمملوك هو عبد مالكه١، ولكنه يختلف عن العبد الذي بمعنى الخادم٢. كما أن كلمة (مماليك) تختلف في معناها عن كلمة (موالي) _________ ١ د. علي إبراهيم حسن، تاريخ المماليك البحرية، ص: ٢٣، ٢٤، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثالثة، ١٩٦٧ م. ابن منظور: لسان العرب كلمة (ملك) . ٢ جاء في الموسوعة الإسلامية encyclopidia of Islam: art mamluk ١٣، p.٢٣٠"تعني كلمة مملوك ما يملك بقصد تربيته والاستعانة به كجند وحكام، على عكس لفظ (العبيد) التي تعني العبودية، فالعبد يعني الأسود بينما قد يكون المملوك أبيضا، ويشتري الحكام الرقيق الأبيضا من أسواق النخاسة لتكوين فرقة عسكرية خاصة. انظر عبد المنعم ماجد: سلاطين دولة المماليك ورسومهم في مصر: ١/ ١١، مكتبة الأنجلو.
المماليك: يطلق اسم (المماليك) اصطلاحا، على أولئك الرقيق- الأبيض غالبا- الذين درج بعض الحكام المسلمين على استحضارهم من أقطار مختلفة وتربيتهم تربية خاصة، تجعل منهم محاربين أشداء، استطاعوا فيما بعد أن يسيطروا على الحكم في مصر وأحيانا الشام والحجاز وغيرها قرابة الثلاثة قرون من الزمان ما بين ٦٤٨-٩٢٢ هـ (١٢٥٠-١٥١٧م) . وكلمة (مماليك): جمع مملوك، وهو الرقيق الذي يباع ويشترى، وهي اسم مفعول من الفعل (ملك)، واسم الفاعل (مالك) والمملوك هو عبد مالكه١، ولكنه يختلف عن العبد الذي بمعنى الخادم٢. كما أن كلمة (مماليك) تختلف في معناها عن كلمة (موالي) _________ ١ د. علي إبراهيم حسن، تاريخ المماليك البحرية، ص: ٢٣، ٢٤، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثالثة، ١٩٦٧ م. ابن منظور: لسان العرب كلمة (ملك) . ٢ جاء في الموسوعة الإسلامية encyclopidia of Islam: art mamluk ١٣، p.٢٣٠"تعني كلمة مملوك ما يملك بقصد تربيته والاستعانة به كجند وحكام، على عكس لفظ (العبيد) التي تعني العبودية، فالعبد يعني الأسود بينما قد يكون المملوك أبيضا، ويشتري الحكام الرقيق الأبيضا من أسواق النخاسة لتكوين فرقة عسكرية خاصة. انظر عبد المنعم ماجد: سلاطين دولة المماليك ورسومهم في مصر: ١/ ١١، مكتبة الأنجلو.
1 / 107
التي مفردها (مولى) ١، والتي تعني- اصطلاحا- عند المؤرخين المسلمين: كل من أسلم من غير العرب. فالموالي قد يكون أصل بعضهم من أسرى الحروب الذين استرقوا ثم أعتقوا، أو من أهل البلاد المفتوحة الذين انضموا إلى العرب فصاروا موالي بالحلف والموالاة٢.
والرق وأسباب الاسترقاق قديم قدم الإنسان، عرفته الأمم الغابرة من سكان ما بين النهرين، ووادي النيل، واليونان، والرومان، والعرب في الجزيرة العربية، وأقرته معظم الديانات كاليهودية والنصرانية، أما الإسلام فإنه لم ينص على إلغائه وتحريمه صراحة، ولكنه حض على تحرير الأرقاء، وعلى حسن معاملتهم، كما نظم العلاقة بينهم وبين سادتهم٣ بما يجعلهم إخوانا في الإسلام والإنسانية متحابين، يعلم كل منهم حقوقه وواجباته، حتى صار الكثيرون من الموالي شديدي الوفاء والإخلاص لسادتهم.
والتاريخ الإسلامي ملئ بأمثلة تدل على أن المسلمين استجابوا لشرائع دينهم، فأكرموا هؤلاء الموالي والأرقاء، ووثقوا بهم، ورفعوهم إلى أعلى الدرجات، ولو أردنا أن نذكر جميع الأمثلة على ذلك لأطلنا، ولكنني أجتزئ بعض الأمثلة على ذلك، فقد تولى وردان مولى عمرو بن العاص خراج مصر٤، واستعمل مسلمة بن مخلد- والي مصر وأفريقيا في عهد معاوية بن أبي سفيان- استعمل مولاه أبا المهاجر دينار على أفريقية عام ٥٠ هـ٥. كما ولى أفريقية عام ٧٣ هـ تليد مولى عبد العزيز بن مروان٦. وكان موسى بن نصير القائد
_________
١ المولى والولي: بمعنى واحد في كلام العرب، وهو يدل على عدة مسميات، فهو الرب، والمالك، والسيد، والمنعم، والمعتق، والناصر، والمحب، والتابع، والجار؟ وابن العم، والحليف، والعقيد، والصهر، والعبد، والمعتق. ابن منظور: لسان العرب: ٥/ ٤٠٩، القاموس المحيط: ٤/ ٢٩٤. انظر: د. جميل المصري، الموالي، موقف الدولة الأموية منهم، صر: ٢٣، دار أم القرى للنشر والتوزيع، عمان، ١٩٨٨م، الطبعة الأولى.
٢ ابن خلدون، عبد الرحمن بن أحمد (٨. ٨هـ - ٥ ١٤٠ هـ)، مقدمة ابن خلدون، ص: ٩٦، بيروت، ١٩٠٠ م.
٣ حض الإسلام على تحرير الأرقاء، وجعل ذلك من أعظم الصدفات وكفارة للظهار والأيمان، والقتل الخطأ وغير ذلك من الذنوب الكبيرة ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ سورة البلد، آية: ١١، ١٢. كما حض الرسول ﷺ على حسن معاملة الرقيق (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم؟ فمن كان أخو تحت يده، فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفهم ما يثقلهم، فإن كلفتموهم فأعينهم عليه) صحيح البخاري جـ ١ باب ٢٢ الإيمان
٤ ابن عبد الحكم، ٢٥٧ هـ- ٨٧٤ م، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم، فتوح مصر "والمغرب، ١٩٢٤ م.
٥ الطبري، ٠ ٣١ هـ- ٩٢٣ م، أبو جعفر محمد به جرير، تاريخ الرسل والملوك، ١٣ جزءا ٠ ١٨٩، ص ٦٧، وابن عبد الحكم ص:١٩٧.
٦ ابن عبد الحكم، ص: ٢٠٣.
1 / 108
المشهور، وفاتح أفريقيا، مولى لامرأة لخمية، وقيل بل مولى لبني أمية١.
كما كان طارق بن زياد ... وهو بربري من قبيلة نفرة٢ مولى لموسى بن نصير٣.
وكان العالم الجليل الحسن البصري مولى لزيد بن ثابت ﵁ من سبي ميسان٤.
هذا وقد حذا العباسيون حذو سابقيهم من الأمويين والراشدين في الاستعانة بالموالي ومعظمهم من مماليكهم، حيث روى عن أبي جعفر المنصور أنه سأل أحد الأمويين عمن وجد الأمويون عندهم الوفاء بعدما أصابهم فقال: الموالي، فقرر المنصور أن يعتمد على مواليه ويستعين بهم٥.
وكان الخليفة المأمون العباسي (١٩٨- ٨ ١ ٢ هـ) - (٨١٣ - ٨٣٣ م) أول من استكثر من المماليك، حيث ضم بلاطه عددا من هؤلاء المماليك المعتوقين٦، ثم تلاه أخوه المعتصم (٢١٨-٢٢٧ هـ) - (٨٣٣ هـ ٨٤٣ م) الذي أراد أن يحد منِ نفوذ جنوده من الفرس والعرب فكون جيشا أغلبه من التركمان٧، كان يشتريهم صغارًا ويربيهم حتى وصل عددهم إلى عشرين ألفا٨.
أما أحمد بن طولون والي مصر، فقد اعتمد على المماليك اعتمادا يكاد يكون كليا، حيث كان والده طولون مملوكا تركيا أهدي للمأمون عام ٢٠٠ هـ (٨١٥ م)، فقد أحضر أحمد هذه المماليك من بلاد جنوب بحر قزوين وبلاد الديلم، حتى زادوا عن الأربعة عشر ألف تركي وأربعين ألف مملوك أسود، بالإضافة لسبعة آلاف من المرتزقة٩.
_________
١ الذهبي ٧٤٨ هـ، شمس الدين محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء٤ /٤٩٧.
٢ ابن خلدون ٨٠٨ هـ، ١٤٠٥ م، العبر وديوان المبتدأ والخبر، ٨ أجزاء، ٤/ ٤٠٢، القاهرة، ١٢٨٤.
٣ الذهبي: ٤١٧.
٤ المرجع السابق ٥٦٤٠.
٥ ابن الأثير ٦٣٠ هـ (١٢٣٢ م) علي بن محمد الجزري، الكامل في التاريخ ١٢ جزءًا، بولاق،١٣٩٠م: ٥/٤٩. انظر: د. جميل المصري، الموالي: ٤٣.
٦ علي إبراهيم حسن، تاريخ المماليك الحرية، ص ٢٣، مكتبة الفضة المصرية، الطبعة الثالثة، ١٩٦٧ م.
Hitti، p.k.، the history of the Arabs، (London ١٩٤٠) p.٤٦٦. ٧
ابن كثير، البداية والنهاية ١٠/ ٢٩٦.
٨ السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، تاريخ الخلفاء، أمراء المؤمنين القائمين بأمر الدولة، المطبعة الأميرية، ١٣٥١، ٩١١هـ (١٥٠٥ م)
٩ المقريزيَ، تقي الدين أحمد بن علي، ٨٤٥ هـ (١٤٤١م) المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار: ٩٤، جزءان، بولاق ١٢٧٠ هـ تحقيق مصطفى زياد.
1 / 109
وقام الأخشيديون بالسير على نفس السياسة، حتى أن محمد بن طغج الأخشيد مؤسس دولتهم في مصر ٣٢٣- ٣٥٨ هـ (٩٣٥-٩٦٩م) ١، جعل منهم جيشا يضم أربعمائة ألف من الديلم والترك، بالإضافة لحرسه الخاص الذيَ تجاوز الثمانية آلاف٢.
وأعتمد الفاطميون خلال حكمهم في أفريقيا على المغاربة المصامدة٣، وعندما استولوا على مصر عام ٣٥٨هـ (٩٦٩ م) استكثروا من الديلم والأتراك والغز والأكراد.
أما الأيوبيون، فإن استكثارهم من المماليك كان سببا في قيام الدولة المملوكية، حيث إنهم قاموا منذ وقت مبكرين دولتهم ٥٩٧ هـ (١٢٠٠م)، بجلب أعداد كبيرة من المماليك الصغار عن طريق النخاسين الذين كانوا يحضرونهم من شبه جزيرة القرم، وبلاد القوقاز والقفجاق٤، وما وراء النهر، وآسيا الصغرى، وفارس، وتركستان، وحتى من البلاد الأوربية٥ حيث ازدهرت حركة تجارة لنخاسة في أوربا قبل عصر المماليك، ومارسها البنادقة٦ والجنويون فكانوا يشترون المماليك من سواحل البحر االأسود ويبيعونهم في مصر، فبلغ من كانوا يبيعونهم في العام الواحد ألفين من المغول والشراكسة والروم والألبانيين والصقالية والعرب٧.
وكانت أشهر أسواق بيع هؤلاء المماليك، خان مسرور في القاهرة٨، وسوق الإسكندرية. والذي شجع الأيوبيين في مصر والشام على الاستكثار من هؤلاء المماليك هو ضعف شأنهم بعد وفاة صلاح الدين ﵀ ٥٨٩ هـ (١١٩٣م)، وانقسام الدولة بين الأيوبيين الذين لقبوا أنفسهم بالملوك في كل من مصر، ودمشق، وحلب، والكرك، وبعلبك، وحمص، وحماه، حيث قامت بينهم منافسات وحروب كثيرة، كما قامت بينهم من
_________
١ أبو النحاس، جمال الدين يوسف بن تغري بردي ٨٧٤هـ - ١٤٩٦م، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ٩ أجزاء: ٣/٥٩، دار الكتب، ١٩٣٩م.
٢ علي إبراهيم حسن، تاريخ المماليك البحرية، ص: ٢٤.
٣ نسبة إلى قبيلة مصمودة المشهورة في شمال إفريقية.
٤ وتشمل حوض الفلجا والأراضي الواقعة حول بحر قزوين.
٥ عاشور، سعيد عبد الفتاح، الحركة الصليبية: ٢/١٠٧٥، الطبعة الأولى، مكتبة الأنجلو المصرية، ١٩٦٣م.
٦ انظر: علي إبراهيم حسن، تاريخ المماليك البحرية ص: ٢٥ حاشية: ٣،٢. Heyd، w.، histoire du commerce du Levant au moyen age. ٢ vols (Leipzig ١٨٩٩) p. ٤٤٢
heyd. Op. cit. p. ٤٤٣،٥٦٠. ٧
٨ المقريزي ٨٤٥هـ (١٤٤٢م) تقي الدين بن أحمد بن علي: ٢/٩٢، المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار، جزءان، بولاق، ١٢٧٠هـ.
1 / 110
جهة وبين أبناء البيوتات الأخرى مثل آل زنكي وأهل البلاد الآخرين حروب مشابهة١، مما اضطر كل منهم للبحث عن عصبية تحميه وقت الشدة، وتساعده في صد أعدائه، فكان الإكثار من الرقيق الأبيض (المماليك) خير وسيلة لتحقيق ذلك وللوقوف في وجه الصليبيين في الشام، ولذلك بني لهم الملك الصالح- نجم الدين أيوب ٦٣٧-٦٤٧ هـ (١٢٤٠-١٢٥٠م) المعسكرات في جزيرة الروضة ٦٣٨ هـ (١٢٤١م) وسماهم بالمماليك البحرية٢ الصالحية، وسكن في القلعة عندهم ورتب جماعة منهم حول دهليز، واعتمد عليهم في صد غزوة لويس التاسع بمصر.
ومما زاد من دالتهم عليه كونهم قد دبروا مؤامرة لخلع العادل الثاني وأحلوا الملك الصالح محله ٦٣٧ هـ (١٢٣٩م)، ثم زاد خطرهم حتى أنهم دبروا مؤامرة لقتله عندما غضب عليهم لإهمالهم في الدفاع عن دمياط أمام لويس التاسع٣ عام ٦٤٧ هـ، ولولا مرضه الذي توفى فيه لما نجا من شرهم٤.
_________
١ عاشور: سعيد عبد الفتاح، العصر المملوكي في مصر والشام، ص: ٣.
٢ نسبة إلى بحر النيل الذي أحاط بثكناتهم في جزيرة الروضة، ولكن الدكتور أحمد مختار العبادي في كتابه "قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام " ص: ٩٧ يرى أن هده النسبة غير صحيحة، وكان أول من شك في صحتها هو الأستاذ محمد مصطفى زيادة في بحثه المنشور بمجلة كلية آداب القاهرة، المجلد الرابع، ١٩٣٦م، بعنوان: (بعصر ملاحظات جديدة في تاريخ دولة المماليك)، وان مما يؤيد عدم صحة هذه النسبة إلى بحر النيل أن المؤرخين المعاصرين للصالح أيوب أمثال ابن واصل، وأبي شامة، لم يشيروا إلى بحر النيل كأصل لكلمة بحرية، وان المتأخرين كالمقريزي وأبو المحاسن مم الذين أوردوا هذه التسمية. بالإضافة لأن الفاطميين قد استعملوا هذه التسمية قبل الملك الصالح، فكانوا يطلقون على قسم من جنسهم اسم (العمل البحرية) (أبو المحاسن ٨٧٤هـ (١٤٦٥م) جمال الدين يوسف بن تغري بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرةَ، ١٣جزءًا، القاهرة، ١٩٤٣: ٤/ ٩٠، كما أن جد الملك الصالح وهو السلطان العادل الأول كانت له فرقة مماليك سماها (البحرية العادلة) . د. محمد زيادة، المرجع السابق. وذكر الخررجي علي بن حسن (القرن الثامن الهجري) في العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية، جزءان ١/٨٢، أن سلطان اليمن نور الدين عمر بن رسول ٦٤٧ هـ (١٢٤٩م) كان له مماليك بحرية رغم بعد اليمن عن نهر النيل. والأغلب أن التسمية جاءت من أنهم جلبوا من وراء البحار، حيث ذكر جونفيل الذي حارب جند المماليك في حملة لويس التاسع وأسر- "إنهم سموا بحرية أو رجال ما وراء البحر". Joinville، jean sire de history of st. Louis. Tr. Joan Evans. P. ٨٤
٣ انظر: حول سيرة لويس التاسع، العدوان الصليبي على مصر للدكتور جوزيف نسيم يوسف، دار النهضة العربية، ص:٣٣ وما بعدها.
٤ المقريزي ٨٤٥ هـ- ١٤٤٢، السلوك: ١/ ١٤٦-١٤٧، تحقيق محمد زيادة، القاهرة،١٩٣٠م.
أساليب تربية وتدريب هؤلاء المماليك: عني سلاطين الأيوبيين ومن بعدهم سلاطين المماليك، بتربية مماليكهم تربية خاصة، وتثقيفهم وتعليمهم فنون الحرب والقتال، وخصصوا لذلك ثكنات عسكرية في قلعة الجبل
أساليب تربية وتدريب هؤلاء المماليك: عني سلاطين الأيوبيين ومن بعدهم سلاطين المماليك، بتربية مماليكهم تربية خاصة، وتثقيفهم وتعليمهم فنون الحرب والقتال، وخصصوا لذلك ثكنات عسكرية في قلعة الجبل
1 / 111
عرفت بالطباق، كان عددها اثني عشرة طبقة واسعة تشبه كل منها حارة كبيرة تشتمل على مساكن عديدة، تتسع لحوالي ألف مملوك١، ولم يكن يسمح لهؤلاء المماليك، وخصوصا الصغار منهم بمغادرة تلك الطباق إلا فيما ندر٢.
وقد وصف المقريزي الحياة والعادات ومواد التدريس ومراحله فقال: "كان للمماليك بهذه الطباق عادات جميلة، منها أنه إذا قدم بالمملوك تاجره، عرضه على السلطان، وأنزله في طبقة جنسه، وسلمه لطواشي برسم الكتابة، فأول ما يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن الكريم، وكانت كل طائفة لها فقيه يحضر إليها كل يوم، ويأخذ في تعليمها كتاب الله تعالى، ومعرفة الخط والتحدث بآداب الشريعة، وملازمة الصلوات والأذكار، وكان الرسم إذ ذاك ألا يجلب التجار إلا المماليك الصغار، فإذا شب الواحد من المماليك، علمه الفقيه شيئا من الفقه، وأقرأه فيه مقدمة، فإذا صار إلى سن البلوغ، أخذ في تعليمه أساليب الحرب، من رمي السهام، ولعب الرمح، ونحو ذلك فيتسع في ذلك حتى يبلغ الغاية في معرفة ما يحتاج"٣.
وكان السلاطين يشرفون بأنفسهم على تربية مماليكهم ويتفقدون أحوالهم، ومنهم السلطان الناصر قلاوون ٦٧٩-٦٨٩ هـ (١٢٨٠-١٢٩٠م) الذي كان يهتم بطعامهم ومعيشتهم بنفسه، ويقول معتزا بهم: "كل الملوك عملوا شيئا يذكرون به ما بين مال ورجال وعقار، وأنا عمرت أسوارا وعملت حصونا لي ولأولادي وللمسلمين وهم المماليك"٤.
وصدق ظنه بهم إذ قال أبو المحاسن عن مماليك قلاوون هذا: "فكان بهم- أي المماليك- منفعة للمسلمين ومضرة للمشركين، وقيامهم في الغزوات معروف، وشرهم عن الرعية معكوف"٥.
وكان السلاطين ومقدمو المماليك يوصون القائمين على شؤونهم وخصوصا على شؤون الطباق المذكورة أن يأخذوهم بالحسنى وأن يعطفوا عليهم، حيث جاء في وصية أحد
_________
١ ابن شاهين الظاهري عز الدين خليل (ت ٨٧٣هـ - ١٤٦٨م) زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك، تحقيق بول رافيس، ص: ٢٧، باريس، ١٨٩٥م.
٢ المقريزي، الخطط: ٢/ ٢١٤.
٣ المقريزي، الخطط: ٢/ ٢١٣.
٤ المقريزي، الخطط: ٢/ ٢١٣
٥ أبو المحاسن، النجوم الزاهرة: ٧/ ٣٢٣.
1 / 112
المقدمين إلى القائمين على شؤون تربيتهم:"ليحسن إليهم، وليعلم أنه واحد منهم، ولكنه مقدم عليهم، وليأخذ بقلوبهم، مع إقامة المهابة التي تخيل إليهم أنه معهم، وخلفهم، وبين أيديهم، وليلزم مقدم كل طبقة بما يلزمه عند تقسيم صدقاتنا الجارية عليهم، وليكن لأحوالهم متعهدا ولأمورهم متفقدا ... "١.
هذا ولا يعني التهاون معهم إلى الحد الذي يفسد تربيتهم فقد كانوا يؤخذون أحيانا بالقسوة والشدة إذا ما ارتكبوا خطأ. وقد وصف المقريزي ذلك فقال:
"ولهم أزمة من النواب، وأكابر من رؤوس النوب، يفحصون عن حال الواحد منهم الفحص الشافي، ويؤاخذونه أشد المؤاخذة، ويناقشونه على حركاته وسكناته، فإذا عثر أحد مؤدبيه الذين يعلمونه القرآن، أو الطواشي الذي هو مسلم إليه، أو رأس النوب الذي هو حاكم عليه، على أنه اقترف ذنبا أو أخل برسم أو ترك أدبا من آداب الدين والدنيا، قابله على ذلك بعقوبة شديدة قدر جرمه ... فلذلك كانوا سادة يديرون الممالك، وقادة يجاهدون في سبيل الله، وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل، ويردعون من جار واعتدى"٢.
ولكن هذه السياسة المتزنة في تربيتهم بين الشدة عليهم، والرحمة بهم، لم تدم طويلا، وحل محلها الدلال والتهاون، خصوصا في الأمور الدينية، مما سبب فساد أجيالهم فعم بذلك ضررهم على الخاصة والعامة، وأضعف شأنهم، وحط من قيمتهم.
قال المقريزي في وصف تلك التربية المتهاونة وما نتج عنها: "واستقر رأي الناصر على أن تسليم المماليك للفقيه يتلفهم، بل يتركون وشأنهم فبدلت الأرض غير الأرض، وصارت المماليك السلطانية أرذل الناس، وأدناهم قدرا، وأخسهم، وأشحهم نفسا، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراضا عن الدين، ما فيهم إلا من هو أزنى من قرد، وألص من فأرة، وأفسد من ذئب، ولا جرم أن خربت أرض مصر والشام من حيث يصب إلى مجرى الفرات بسوء إيالة الحكام، وشدة عيب الولاة، وسوء تصرف أولي الأمر"٣.
_________
١ العمري، التعريف بالمصطلح الشريف، ص ٩٨- ٩٩.
٢ المقريزي، الخطط: ٢/ ٢١٤.
٣ المقريزي، الخطط: ٢/٢١٤.
مميزات المماليك: بسبب كونهم غرباء عن أهل البلاد، ولخضوعهم لتربية خاصة أعدتهم إعدادًا ثقافيا وعسكريا، ليكونوا جنودا وحكاما وسياسيين، يتولون الوظائف العليا حسب الكفاية
مميزات المماليك: بسبب كونهم غرباء عن أهل البلاد، ولخضوعهم لتربية خاصة أعدتهم إعدادًا ثقافيا وعسكريا، ليكونوا جنودا وحكاما وسياسيين، يتولون الوظائف العليا حسب الكفاية
1 / 113
الشخصية في المجتمع دون اعتبار لنشأتهم الأولى، فقد عاشوا كطائفة منفصلة عمن حولهم، ولم يختلطوا إلا نادرا بالسكان المحليين من مسلمين ونصارى، ولم يتزاوجوا معهم إلا فيما ندر.
كما احتكروا الجندية عليهم، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوها وقفا على المماليك الصغار الذين يجلبون حديثا، ولم يسمحوا لأبناء المماليك الكبار من الانخراط فيها، بل قصروهم على الوظائف الإدارية والكتابية.
ورغم اختلاف أصول مولدهم، "انقسامهم حسب خشداشياتهم وسادتهم إلى أحزاب متطاحنة، فإنهم كانوا يجتمعون ويتماسكون لمواجهة االأخطار المشتركة التي يتعرضون لها من قبل أهل البلاد من مصريين وشاميين أو من المغول أو الصليبيين.
وكانوا يتعلمون القرآن الكريم والفقه الإسلامي وينشؤون- في الغالب- تنشئة إسلامية ويعلمون أن التحلي بالأخلاق الإسلامية يكسبهم ثقة العامة، فكان بعضهم يتظاهرون بالصلاح والتقوى، ويقدمون على بناء العمائر الدينية من مساجد١ وتكايا ومدارس، بينما يمارس بعضهم في خلواتهم أشد أنواع الفسق والفجور، ولم يكونوا يتحرجون من الانتساب إلى مشتريهم الأول أو أستاذهم مثل الصالحي، والمعزي، أو يلحقون بأسمائهم ما يدل على أثمانهم التي بيعوا بها مثل الألفي٢. وكان المملوك شديد الوفاء لسيده أو أستاذه أو رابطته مع زملائه الذين تربوا لدى سيد واحد (الخشداشية) ٣.
_________
hautecoeur et wiet: les moskuees de caire. Pp. ٤٦ - ٤٧١
٢ ابن شاكر الكتبي فخر الدين محمد بن أحمد ٨٧٣ هـ ١٤٦٩م، فوات الوفيات، بولاق، ١٢٩٩هـ: ٢/١٣٤.
٣ ابن الفرات المصري، ناصر الدين محمد بن عبد الرحيم (٨٠٧هـ - ١٤٠٥م)، ص:٢٥، تاريخ ابن الفرات المعروف باسم الطريق الواضح المسلوك إلى معرفة تراجم الخلفاء والملوك، ٩ أجزاء، من ٥٠١_ ٧٩٩، تحقيق: قسطنطين زريق والمستشرق ليفي دلافيدا.
قيام دولة المماليك البحرية ٦٤٨_٦٥٨ هـ (١٢٥٠- ١٢٦٠م) في قمة الهجمية الصليبية- التي تمثلت في الحملة السابعة التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا ضد مصر عن طريق دمياط٤- وخلال انشغال الملك الصالح نجم الدين أيوب _________ ٤ دمياط: مدينة قديمة بين تنيس ومصر، وهي من ثغور الإسلام، عندها يصب نهر النيل (القزويني، آثار البلاد واجتهاد العباد، ص٢٤، دار صادر بيروت. ولا يعرف اليوم موقعها القديم بسبب هدم الصليبيين لها سنة ٦٤٨هـ ١٢٥٠م. (المقريزي، الخطط: ١/٢٢٣) .
قيام دولة المماليك البحرية ٦٤٨_٦٥٨ هـ (١٢٥٠- ١٢٦٠م) في قمة الهجمية الصليبية- التي تمثلت في الحملة السابعة التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا ضد مصر عن طريق دمياط٤- وخلال انشغال الملك الصالح نجم الدين أيوب _________ ٤ دمياط: مدينة قديمة بين تنيس ومصر، وهي من ثغور الإسلام، عندها يصب نهر النيل (القزويني، آثار البلاد واجتهاد العباد، ص٢٤، دار صادر بيروت. ولا يعرف اليوم موقعها القديم بسبب هدم الصليبيين لها سنة ٦٤٨هـ ١٢٥٠م. (المقريزي، الخطط: ١/٢٢٣) .
1 / 114
بالدفاع على المنصورة- التي وصل الصليبيون إليها إلى بعض أنحائها بعد أن فر أمام هجمتهم بنو كنانة وبعض المماليك١- وقع الملك الصالح مريضا٢ ولم يلبث أن توفى بعد مرض عضال.
وهنا ظهرت شخصية وعبقرية زوجته شجر الدر٣، التي أدركت مدى الخطر المحدد بالمسلمين، إذا أنّ علم الجيش والعامة بخبر موت السلطان، محل شأنه أن يوقع الوهن في العزائم، ويثير الأحقاد والمطامع الكامنة في نفوسهم وأن يطمع الصليبيين فيهم، فقامت بإخفاء خبر موته، وأرسلت سرا وعلى عجل تستدعي ابنه تورانشاه من حصن كيفا بأطراف العراق ليتولى عرش والده.
وخلال هذا الوقت تبدت بطولة الأمراء المماليك، فتصدىَ بيبرس البندقداريَ ومعه فرقة من المماليك البحريين الصالحين للصليبيين، فشن عَليهم هجوما من خارج المنصورة، وطردهم من بعض نواحيها ثم لاحقهم الأمير أقطاي- القائد العام للجيش- مستعملا النار الإغريقية حتى قرروا الهروب إلى دمياط.
وعندما وصل تورانشاه بن السلطان الملك إلى صالح إلى مصر عام ٦٤٧ هـ (.١٢٥م) ٤ ولي السلطة دون معارضة، فكان من أول أعماله أن حاصر الصليبيين وحاد بينهم وبين وصول المدد إليهم عن طريق دمياط، وقطع عليهم طريق العودة. وعندما اضطر الملك لويس التاسع بسبب حراجة موقفه إلى طلب الهدنة، ولكن المصريين رفضوا طلبه،
_________
١ فرّ فخر الدين قائد بعض قوات السلطان من وجه الصليبيين دون قتال، وأخلا لهم مدينة دمياط التي فر منها أيضا بنو كنانة مما سهل وقوعها بأيديهم في الثاني والعشرين من صفر عام ٦٤٧هـ (١٢٤٩م)، مما أغضب الناصر فشنق أكثر من خمسين من بني كنانة، وكاد يقتل القائد فخر الدين. (المقريزي، الخطط: ١/٢٢٠) .
٢ "كان الملك الصالح نجم الدين أيوب وهو بأشموم طناج قد عرض له مرض في مخاصيه، ثم فتح وحصل له تعسر بول، وبعد ذلك حصلت له قرحة تيقنت الأطباء أنه لا خلاص له منها، لكنه لم يشعر بذلك ... " (ابن واصل ٦٩٧هـ - ١٢٩٧م) جمال الدين أبو عبد الله محمد بن مسلم، مفرج الكروب: ٢/٣٥٣أ، حول مرض الصالح صورة عنه بمكتبة الإسكندرية، تحقيق جمال الشيال.. والمقريزي: الخطط: ١/٢١٩) . وأشموم طناج بلدة قرب دمياط، وهي مدينة الدهقلية (معجم البلدان جـ١ص٣٠٠) .
٣ "شجر الدر أو شجرة الدر بنت عبد الله، أول سلطانة" لمصر من غبر الأيوبيين، كانت أرمينية الأصل وقيل تركية، ذكية، جميلة، أهداها الخليفة العباسي المستعصم إلى نجم الدين أيوب في عهد ابن السلطان الكامل، فأنجبت منه ابنه خليل، الذي كان جميلا ومات صغيرا، وأصبحت أم ولده فأحبها ورافقته في رحلته إلى المشرق وكذلك عندما حبسه الملك ناصر داود في الكرك ٦٣٧هـ". أبو المحاسن، النجوم الزاهرة: ٦/٩١. وقد أعتقها الملك الناصر وتزوجها عندما أصبح سلطانا. واختلف المؤرخون حول اسمها الصحيح وفيما إذا كان شجر الدر أم شجرة الدر، والأغلب أن الأول هو الصحيح لإجماع معظم المصادر عليه. انظر: جوزيف نسيم "العدوان الصليبي على مصر"ص ١٣٦ حاشية (١) .
٤ أبو الفداء ٧٣٢هـ، المختصر، مجلدان، ٩أجزاء، دار الكتب، بيروت: ٦/٨٤
1 / 115
وعندئذ حاول التسلل ليلا والانسحاب تحت جنح الظلم، فلم تفلح حيلته، حيث إن المسلمين قد علموا بالأمر فاستعدوا لإفشاله وطاردوا الصليبيين حتى فارسكور١، وقتلوا منهم خلقا كثيرًا بلغ أكثر من ثلاثين ألفا٢، وسقط الملك نفسه أسيرا، فسجنه المسلمون في دار ابن لقمان بالمنصورة، وكلفوا الطواشي صبيح بحراسته.
وظل الملك لويس التاسع في أسره حتى أخلى المسلمون سبيله مقابل انسحاب الصليبيين من دمياط ودفع مبلغ طائل من المال فدية لنفسه وتعويضا للمسلمين عما خسروه في هذه الحرب، ومقابل إطلاق أسرى المسلمين في مصر والشام وإطلاق سراح أسر ى الصليبين وغير ذلك مما سنذكره في حينه٣.
وبذلك تم فشل هذه الحملة المسعورة وذلك بفضل الله، ثم فرسان المماليك كاقطاي وبيبرس الذين سماهم ابن واصل (داوية الإسلام) ٤ إعجابا منه بشجاعتهم.
_________
١ قرية قرب دمياط من كور الدقهلية. (ياقوت/ معجم البلدان: ٦/٣٢٧) .
٢ المقريزي، السلوك، جـ١ ق٢ ص٣٥٧. أبو الفداء، المختصر: ٦/٨٥.
٣ انظر: د. جوزيف نسيم يوسف، العدوان الصليبي على مصر ص:٢١٦ حاشية، الطبعة الأولى، ١٩٨١م، دار النهضة العربية، بيروت. Davis. E.j.: invasion of Egypt in a.d. ١٢٤٩ (a.h.٦٤٧) . by Louis ix of France (st. Louis) (London ١٨٩٧) p.٥٨.
٤ ابن واصل، مفرج الكروب: ٢/٣٧٠، نسبة إلى فرقة فرسان الداوية الصليبية التي اشتهرت بشجاعتها في قتالها للمسلمين ويعرفون أيضا بفرسان المعبد، تأسست جماعتهم عام ١١١٨م، وهم من الرهبان المشهورين بالشجاعة. King: the knights of hospitallers. P. ٣٠٣.
مقتل السلطان تورانشاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب: لم يكن تورانشاه بالشخص المناسب فكان سيئ التدبير غير مستقيم الأخلاق، مفتقرا للمعارف والأنصار من المماليك والمصريين على السواء، لأنه قضى معظم حياته في حصن كيفا، وقد وصفه ابن الجوزي بأنه "كان سيئ التدبير والسلوك ذا هوج وخفة"٥. وقد دفعه ندماؤه الذين كانوا لا ينفكون عن تذكيره بأنه ليس ملكا إلا بالاسم، وأن السلطة الفعلية بيد زوجة أبيه شجر الدر والمماليك٦، إلى الإساءة للمماليك الذين عليهم جل اعتماده، كبيبرس وأقطاي ورفاقهم، فأبغضوه وصاروا يخشون غدره ويتحينون فرصة القضاء عليه٧. _________ ٥ ابن الجوزي، مرآة الزمان حوادث سنة ٦٤٨هـ (١٢٥٠م) . ٦ أبو الفداء، تاريخ مختصر الدول، ص: ٤٥٤- ٤٥٥. ٧ المقريزى، السلوك: ١/ ٣٥٨- ٣٥٩. أبو المحاسن، النجوم:٦/ ٣٧.
مقتل السلطان تورانشاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب: لم يكن تورانشاه بالشخص المناسب فكان سيئ التدبير غير مستقيم الأخلاق، مفتقرا للمعارف والأنصار من المماليك والمصريين على السواء، لأنه قضى معظم حياته في حصن كيفا، وقد وصفه ابن الجوزي بأنه "كان سيئ التدبير والسلوك ذا هوج وخفة"٥. وقد دفعه ندماؤه الذين كانوا لا ينفكون عن تذكيره بأنه ليس ملكا إلا بالاسم، وأن السلطة الفعلية بيد زوجة أبيه شجر الدر والمماليك٦، إلى الإساءة للمماليك الذين عليهم جل اعتماده، كبيبرس وأقطاي ورفاقهم، فأبغضوه وصاروا يخشون غدره ويتحينون فرصة القضاء عليه٧. _________ ٥ ابن الجوزي، مرآة الزمان حوادث سنة ٦٤٨هـ (١٢٥٠م) . ٦ أبو الفداء، تاريخ مختصر الدول، ص: ٤٥٤- ٤٥٥. ٧ المقريزى، السلوك: ١/ ٣٥٨- ٣٥٩. أبو المحاسن، النجوم:٦/ ٣٧.
1 / 116
ولم يحفظ جميل شجر الدر التي أخذت له البيعة، واستدعته من مقره البعيد، وولته السلطة، فاتهمها بإخفاء أموال كانت لأبيه، حتى اضطرت لمعاداته ومغادرته إلى القدس هربا من مضايقاته١، ثم لم تلبث أن عادت وجعلت تتصل بأنصارها من المماليك البرجية المعادين لتورانشاه، فقاموا بمهاجمته وهو في معسكره في فارسكور، وذلك في ٢٩ محرم عام ٦٤٨ هـ (١٢٥٠م) ٢ مما اضطره لإلقاء نفسه في البحر من فوق برج خشبي كان قد التجأ إليه، فحرقوه عليه بعد أن قذفوه بالسهام، فمات جريحا غريقا حريقا، دون أن تنفعه استعطافاته وصياحه "ما أريد ملكا، دعوني أرجع، خذوا ملككم ودعوني أعود إلى حصن كيفا"٣ ولكنهم لم يلاقوا بالا لأقواله وقالوا: "بعد جرح الحية لا ينبغي إلا قتلها"٤.
وقيل إنه حاول الاستنجاد بأبي عز الدين رسول الخليفة العباسي، الذي كان معه في المعسكر فصاح: "يا أبا عز أدركني" ولكن أبا عز الدين لا يملك أن يفعل شيئا تجاه هؤلاء القادة الغاضبين٥.
وقيل: بقيت جثته على شاطئ النيل ثلاثة أيام، ثم دفنت مكانها وقيل: بل كشف عنها الماء بعد ثلاثة أيام، فنقلت إلى الجانب الآخر وذلك بجرها في الماء بصنارة من قبل شخص راكب في مركب كما يجر الحوت٦.
_________
١ أبو الفداء، تاريخ مختصر الدول، ص: ٤٥٤- ٤٥٥.
٢ ابن واصل، مفرج الكروب ٢/ ٣٧١. أبو الفداء، المسطر: ٣/٠ ١٩.
٣ ابن واصل، مفرح الكروب: ٢/ ٣٧١. أبو المحاسن، النجوم: ٦/ ٣٧١.
٤ أبو شامة، عبد الرحمن به إسماعيل بن إبراهيم الدمشقي (٦٦٥- ١٢٦٨م)، الذيل عام الروضتين ص: ١٨٠، تحقيق عزت العطار بعنوان تراجم رجال القرنين السادس والسابع، ط. القاهرة، ١٩٤٧م.
٥ أبو شامة، الذيل، ص: ١٨٥.
٦ أبو شامة، الذيل، ص: ١٨٥، نقلا عن كلام والي القاهرة.
حكم شجر الدر: كان هم القادة المماليك التخلص من السلطان تورانشاه قبل أن يتخلص منهم، ولذلك لم يفكروا فيمن سيولونه الملك من بعده، لهذا ففي اللحظة التي قتلوه فيها، وجدوا أنفسهم في حيرة من أمرهم، حيث إن المتطلعين لهذا المنصب، من قادة المماليك كثيرون، ولكن أهل مصر والملوك الأيوبيين في الشام لم يكن من السهل أن يتقبلوا جلوس مملوك علىَ عرش مصر، لهذا قرروا أن يولوا شجر الدر٧ (أم خليل) فنصبوها سلطانة على مصر في _________ ٧ أبو شامة، الذيل على الروضتين، ص: ٩٦.
حكم شجر الدر: كان هم القادة المماليك التخلص من السلطان تورانشاه قبل أن يتخلص منهم، ولذلك لم يفكروا فيمن سيولونه الملك من بعده، لهذا ففي اللحظة التي قتلوه فيها، وجدوا أنفسهم في حيرة من أمرهم، حيث إن المتطلعين لهذا المنصب، من قادة المماليك كثيرون، ولكن أهل مصر والملوك الأيوبيين في الشام لم يكن من السهل أن يتقبلوا جلوس مملوك علىَ عرش مصر، لهذا قرروا أن يولوا شجر الدر٧ (أم خليل) فنصبوها سلطانة على مصر في _________ ٧ أبو شامة، الذيل على الروضتين، ص: ٩٦.
1 / 117
الثالث من صفر عام ٦٤٨ هـ السابع من مايو آيار ١٢٥٠ هـ، في ذروة احتفال مصر بهزيمة لويس التاسع ملك فرنسا وحملته الصليبية السابعة، ومغادرتهم لدمياط، ولقبوها باسم "الملكة عصمة الدين شجر الدر والستر العالي والدة الملك خليل"١ ودعواها على المنابر، وكانت علامتها "والدة خليل" كما كان نص الدعاء لها على المنابر: "احفظ اللهم الجهة العالية الصالحية ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية، صاحبة الملك الصالح" كما نقشوا على السكة "المستعصمية الصالحية، ملكة المسلمين، والدة خليل، أمير المؤمنين"٢.
وعينوا عز الدين أيبك٣ الجاشنكير الصالحي المعروف بالتركماني أحد أمراء البحرية من الصالحية أتابكا في ربيع الآخر سنة ٦٤٨هـ٤، ويبدو آن هذا التعيين لم يكن لأن أيبك كان أقوى الأمراء٥ وإنما لتجنب حلول أقطاي في هذا المركز لما كان الأمراء يخشونه من قوته وتسلطه٦.
لقد اشتهرت شجر الدر بالدهاء حتى وصفها ابن اياس بأنها "صعبة الخلق، قوية البأس، ذات شهامة زائدة، وحرمة وافرة، سكرانة من خمرة التيه والعجب"٧ وقد سبق وبينت مقدرتها الإدارية في إخفاء موت زوجها الملك الصالح بحجة مرضه، حتى لا ينخذل المسلمون أمام الصليبيين، وكيف قامت بنقله إلى القاهرة ودفنته سرا في قلعة الروضة، في حين أرسلت تستدعي أبنه تورانشاه من حصن كيفا، وحال حضوره سلمت إليه السلطة.
كان أول ما قامت به شجر الدر بعد تسلمها السلطة أن صفت الموقف مع الصليبيين، ففاوضت لويس التاسع ملك فرنسا، وقائد الحملة الفاشلة، واتفقت معه على رحيله من مصر وتسليم دمياط، وذلك في يوم الأحد الرابع من صفر ٦٤٨ هـ الثامن من مايو ١٢٥٠ م، ونص هذا الاتفاق على أن ينسحب لويس من دمياط ويردها إلى المصريين،
_________
١ المقريزي، السلوك: ١/٣٦٢.
٢ وذكر د. أحمد العبادي في كتابه قيام دولة المماليك الأولى ص: ١١٩، أنه توجد بالمتحف البريطاني عملة ذهبية ضربت في القاهرة سنة ٦٤٨هـ تحمل ألقاب شجر المذكورة.
٣ لفظ أيبك من التركية بمعنى "الأمير القمر" وكان في الأصل مملوكا لأولاد التركماني، وهم بنو رسوم في اليمن فعرف بأيبك التركماني، ثم انتقل لخدمة الملك الصالح أيوب. (أبو المحاسن، النجوم:٧/ ١٩) .
٤ أبو الفداء، المختصر: ٦/ ٨٦.
٥ المرجع السابق: ٦/ ٨٦.
٦ أبو المحاسن، النجوم: ٤/٧.
٧ ابن إياس ٩٣٠هـ - ١٥٢٣م، بدائع الزهور في وقائع الدهور (كتاب تاريخ مصر): ١/٨٩_ ٩١.
1 / 118
وأن يطلق جميع أسرى المسلمين، وأن يتعهد بألا يعود لمهاجمة سواحل بلاد الإسلام مرة أخرى، كما يدفع لها ثمانمائة ألفا دينار فدية لنفسه وللأسرى الصليبيين، وعوضا عما أتلفه في دمياط، ومقابل ذلك يتعهد المسلمون برعاية الجرحى من أسرى الصليبيين، وقيل أيضًا مقابل أن يحافظوا على بعض معدات الصليبين التي سيضطرون لإبقائها بمصر إلى أن يتمكنوا من نقلها، وجعلت مدة الاتفاقية عشر سنوات١.
ورغم كل ذلك فقد اضطربت الأمور في مصر عامة والقاهرة خاصة، وذلك احتجاجا وأنفة من حكم امرأة، وعمت الفوضى القاهرة، مما اضطر شجر الدر إلى الأمر بإغلاق أبوابها منعا لانتشار خبر هذه الاضطرابات٢.
وزاد من خطورة هذا الوضع انضمام علماء المسلمين إلى العامة في هذه المعارضة، وعلى رأسهم الشيخ عز الدين عبد السلام٣، الذي كتب كتابا حوله ما قد يبتلي به المسلمون بولاية امرأة٤. كما لم يوافق الخليفة العباسي على توليها السلطة، وعير أهل مصر بذلك قائلا في رده على رسالة من المماليك يطلبون فيه تأييده لحكمها "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نسير لكم رجلا"٥.
_________
١ السيوطي ٩١١هـ - ١٥٠٥م جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر: حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، ٣ أجزاء، بولاق، ١٣١٢هـ: ٢/٣٥. المقريزي، السلوك: جـ ١قسم ٢ص: ٣٦٣.
٢ عبد الله بن أيبك، أبو بكر (القرن الثامن) كنز الدرر وجامع الغرر، أو الدرة الزكية في أخبار الدولة التركية، تسعة أجزاء في ٢٧ مجلدًا، مخطوطة بدار الكتب المصرية برقم ٥٧٨، قسم ١ من جـ ٨ لوحة ٢.
٣ ولد الشيخ عز الدين عبد السلام عام ٥٧٧هـ، ودرس في دمشق على يد ابن عساكر، وتولى إمامة وخطابة المسجد الأموي، ورحل عن دمشق احتجاجا على استعانة الملك الصالح إسماعيل بالفرنج سنة ٦٣٩هـ، فولاه الملك الصالح خطابة جامع عمرو بن العاص ثم عهد إليه بتدريس المذهب الشافعي في مدرسته بين القصرين بالقاهرة، وتفي سنة ٦٦٠هـ. أبو الفداء إسماعيل بن علي بن عماد الدين ٧٣٢هـ - ١٣٣١م، ١٢٨٦هـ، المختصر في أخبار البشر: ٣/٢٢٤، القسطنطينية، ١٢٨٦هـ. السيوطي، حسن المحاضرة: ٣٤.
٤ السيوطي، حسن المحاضرة، ص: ٣٤.
٥ المقريزي، السلوك: ١/٣٦٨_ ٣٦٩.
تولي الأتابك عز الدين أيبك السلطة: وعند ذلك رأى المماليك البحرية الصالحية المؤيدين لشجر الدر أنه لابد لهم من حل لهذا الموقف وقالوا: "لا يمكننا حفظ البلاد والملك لامرأة، ولابد من إقامة رجل للمملكة تجتمع الكلمة عليه"٦. _________ ٦ ابن واصل، مفرج الكروب: ٢/٣٧٦.
تولي الأتابك عز الدين أيبك السلطة: وعند ذلك رأى المماليك البحرية الصالحية المؤيدين لشجر الدر أنه لابد لهم من حل لهذا الموقف وقالوا: "لا يمكننا حفظ البلاد والملك لامرأة، ولابد من إقامة رجل للمملكة تجتمع الكلمة عليه"٦. _________ ٦ ابن واصل، مفرج الكروب: ٢/٣٧٦.
1 / 119
وزاد من اقتناعهم بهذا الرأي، خوفهم من خطر الناصر يوسف الأيوبي صاحب حلب١، الذي استغل هذا الموضوع لصالحه ورأى فيه فرصة سانحة للاستيلاء على مصر، فقام بالاستيلاء على دمشق وبعض نواحي الشام، مما أخاف المماليك٢ فسارعوا إلى تزويجها من الأتابك عز الدين أيبك التركماني أتابك العسكر، وتنازلت له شجر الدر عن السلطة بعد ثمانين يوما من حكمها. فأصبح معز الدين أيبك سلطانا٣- ولو بالاسم- حيث إن شجر الدر "كانت هي المسئولة عنه في كل أحواله ليس له معها كلام٤.
وقد سبق أن ذكرت أن اختيار المماليك له لهذا المنصب كان لاعتقادهم بضعفه مقارنة بأقطاي وبيرس، وأنه سيكون من السهل عليهم عزله متى شاءوا٥.
وقد خاب ظنهم فيه، حيث أثبت أيبك أنه ليس بالحاكم الألعوبة، فمنذ بداية عهده بادر إلى اغتيال أكبر منافسيه وهو خوشداشة أقطايى الجمدار عام ٦٥٢ هـ (١٢٥٤م) وساعده في ذلك كل من قطز وبهادر وسنجر وعدد من المماليك المعزية، واضطر خشداشية أقطاي من المماليك إلى الفرار، ومنهم بيبرس البندقداري وقلاوون الألفي، حيث لم يستطيّعوا مغادرة القاهرة التي كانت موصدة الأبواب، إلا بحرق إحدى الأبواب التي ظلت تسمى بالباب المحروق، وتابعوا هربهم نحو الشام وتفرقوا ما بين دمشق وحلب والكرك ودولة السلاجقة٦.
وعند ذلك قام أيبك بمصادرة أموال المماليك الفارين، وتجريد من بقي منهم في مصر من سلطاتهم، ولم يفلح الملك الناصر يوسف صاحب حلب ودمشق والمنافس السابق لشجر الدر في مساعدتهم، فاضطروا للتوجه إلى المغيث عمر في الكرك٧. ولإبطال حجة الملوك
_________
١ هو الملك الناصر صلاح الدين يوسف، بن العزيز محمد، بن الظاهر غازي، بن صلاح الدين يوسف بن أيوب ولد ٦٢٧ هـ_ ١٢٢٩ م، وحكم حلب ٦٣٤- ٦٥٨ هـ (١٢٣٦ -١٢٦٠ م) ودمشق ٦٤٨- ٦٥٨ هـ (.١٢٥- ١٢٦٠م) وقتل ٦٥٨ هـ ١٢٦٠م. أبو شامة، الذيل ٢/ ٢٣٦
٢ امتنع الأمراء القيمرية بدمشق عن مبايعة شجر الدر وذلك بزعامة الأمير حمال الدين بن يغمور نائب السلطة بدمشق، وكتبوا يستعينون بالملك الناصر صلا الدين بن يوسف صاحب حلب فجاء ودخل دمشق ١٠ ربيع الثاني ٦٤٨ هـ ١٢٥٠م دون قتال.
٣ المقريزي، السلوك: ١/ ٣٦٧- ٣٦٩.
٤ أبو المحاسن، النجوم: ٦/ ٣٧٤.
٥ ابن إياس، بدائع الزهور: ١/ ٤٠.
٦ المقريزي، السلوك: ١/ ٣٦٦- ٣٦٨ ٠ ابن كثير البداية والنهاية جـ١٣ ص ١٨٥.
٧ هو الملك المغيث، فتح الدين عمر بن العادل سيف الدين أبي بكر بن الكامل بن العادل بن أيوب، كان بالقَاهرة عند عماته وذلك لدى موت الملك الصالح أيوب، فاعتقله الأمير حسام الدين نائب السلطنة حتى لا ينصبه فخر الدين ملكا، ولما جاء تورانشاه وتولى السلطنة، نفاه إلى الشوبك وسجنه، وهو آخر ملك أيوبي على الكرك، قبض عليه بيبرس وقتله عام ٦٦١ هـ (١٢٦٣م) . (القلقشندي، صبح الأعشى: ٤/ ١٧٦)
1 / 120
الأيوبيين في الشام، ومطالبتهم بعرش مصر، قام أيبك بتولية الطفل الأشرف، موسى الأيوبي١ السلطنة وهو في السادسة من عمره، وجعله شريكا له في الحكم، فخطب باسمهما على المنابر وسكت العملة باسمهما٢.
ولما لم تنطِل حيلته هذه على الناس، التجأ أيبك إلى الاستعانة بالخليفة العباسي المستعصم بالله في بغداد، ونصب نفسه نائبا له على مصر٣، ثم أخذ في الاستعداد للتصدي للملك الناصر يوسف، الذي كان قد كاتب الملك لويس التاسع في عكا، عارضا عليه التعاون ضد أيبك مقابل تسليمه القدس للصليبين- وكانت تحت حكم الأيوبيين-. ولما علم أيبك بهذه المفاوضات أرسل إلى لويس التاسع مهددا بقتل أسرىَ الصليبيين الذين لديه، وواعدا إياه إن رفض عرض الناصر أن يقوم بتعديل اتفاقية دمياط لإعفائه من نصف الفدية المتفق عليها، وطلب منه بدوره أن ينضم إلى جانبه، فرد عليه لويس بأنه قرر الوقوف على الحياد بينه وبن الناصر٤.
وتقدم الملك الناصر حتى العباسية بين مدينتي بلبيس والصالحية ٦٤٩ هـ- ١٢٥١م فهزمه أيبك٥ بسبب انحياز مماليكه العزيزية إلى المماليك، ولاحقه حتى الشام، واتفق أيبك مع لويس التاسع على أن يساعده ضد الناصر يوسف مقابل تسليمه القدس، ولكن هذا الاتفاق لم ينفذ، حيث تدخل الخليفة العباسي بين الناصر وأيبك ٦٥١ هـ (١٢٥٣م) لمنع تسليم القدس للصليبيين حيث أرسل رسوله الشيخ نجم الدين البادورائي فأصلح بين صاحب مصر وصاحب الشام، وأيضا لإحساسه- أي الخليفة- ببداية الخطر المغولي الذي داهم الخلافة من الشرق٦. واتفق على أن تكون مصر وجنوب فلسطين بما فيها غزة والقدس للمماليك٧.
_________
١ الملك الأشرف مصطفى الدين موسى بر الناصر يوسف بن الملك المسعود بن الملك الكامل، بن العادل بن أيوب، أقيم في السلطة سنة ٦٤٨ هـ، وخلعه أيبك سنة ٦٥٠هـ، وظل اسمه يذكر في الخطبة حتى سنة ٦٥٢هـ. (ابن واصل، مفرج الكروب جـ٢، لوحة ٣٧٦) .
٢ المقريزي، السلوك:١/ ٣٦٩ ٠ابن إياس، بدائع الزهور:١/٩٠. أفاد ابن كثير، البداية والنهاية ص١٧٩، إن عمره كان عشر سنين.
٣ أبو الفداء، المختصر: ٣/ ١٩٢.
٤ جوزيف نسيم، العدوان الصليبي على مصر ص ٢٧٤.
٥ ابن واصل، مفرج الكروب: ٣٨٢، ٣٨٣.
٦ المقريزي، الخطط: ٣٨٥ – ٣٨٦. وابن كثير، البداية والنهاية جـ١٣ ص ١٨٤.
٧ المقريزي، السلوك: ١/٣٨٥ _٣٨٦. انظر: تفصيل ذلك في ص ٢٢٣ من هذا الباب.
1 / 121
ثم دب الخلاف بين أيبك وزوجته شجر الدر، بسبب تسلطها وشدة غيرتها عليه، فحاول أن يتزوج من ابنة بدر الدين لؤلؤ الأتابكي صاحب الموصل، نكاية بها خصوصا وقد شعر بتآمرها مع أنصارها من المماليك البحرية عليه وعلى مماليكه المعزية١.
وعندما علمت شجر الدر بخطة هذا الزواج، ازدادت معارضتها وتآمرها مع المماليك البحرية وضوحا وتحديا، مما دفعه لسجن من بقي من هؤلاء المماليك في القاهرة، متحديا بذلك شجر الدر، مما جعلها تقرر قتله، وتتصل سرا بالملك الناصر في دمشق تعرض عليه التعاون معها في ذلك، وأن يتزوجها ويشركها معه في السلطة مقابل تسليمه مصر، ولكن الناصر لم يتحمس لهذا العرض ظانا أنه خدعة منها٢. وعَلم بدر الدين لؤلؤ بأخبار هذا الاتصال بين شجر الدر والناصر يوسف، فقام بإعلام أيبك به، فاحتاط لنفسه من غدر شجر الدر، وقرر في طويته قتلها، ولم تلبث شجر الدر أن سبقته في تنفيذ عزمها بأن تحايلت عليه، فاستدعته إلى القلعة- بعد أن كان هجرها إلى مناظر اللوق- ودست إليه خمسة من غلمانها فقتلوه في الحمام، وذلك في ٢٣ ربيع الأول ٦٥٥هـ (١٢٥٧م) ٣.
_________
١ المقريزي، السلوك:١/ ٣٩٥، والمعزية نسبةَ إليه (معز الدين أيبك) .
٢ المقريزي، السلوك:١/ ٤٠٢.
٣ أبو المحاسن، النجوم: ٦/٣٧٥- ٣٧٦. أبو الفداء، المختصر: ٦/٩٥، ٠٩٦ المقريزي، السلوك ١/٤٠٣.
استيلاء المظفر قطز على السلطنة: عندما علم المماليك المعزية بوفاة سيدهم في القلعة، حامت شكوكهم حول زوجته شجر الدر، لما كانوا يعلمونه من خصام بينها وبينه، فصعدوا إلى القلعة ليحققوا في سبب وفاته، فعلموا بالحقيقة، لذلك حاولوا قتلها، وكادوا ينجحون في ذلك لولا تدخل بعض المماليك الصالحية، الذين نقلوها على عجل إلى البرج الأحمر في القلعة حماية لها٤، أما المماليك المعزية فقاموا بتعيين الطفل نور الدين علي ابن معز الدين أيبك مكان أبيه باسم الملك المنصور، وكان عمره خمس عشرة سنة٥، وعينوا قطز أتابكا له وذلك رغم معارضة المماليك الصالحية، ورغم تعيين الأمير علم الدين سنجر الحلبي نفسه نائبا للسلطنة، فقد _________ ٤ أبو المحاسن، النجوم: ٦/ ٣٧٧. ٥ أبو المحاسن، النجوم: ٦/ ٣٧٦.
استيلاء المظفر قطز على السلطنة: عندما علم المماليك المعزية بوفاة سيدهم في القلعة، حامت شكوكهم حول زوجته شجر الدر، لما كانوا يعلمونه من خصام بينها وبينه، فصعدوا إلى القلعة ليحققوا في سبب وفاته، فعلموا بالحقيقة، لذلك حاولوا قتلها، وكادوا ينجحون في ذلك لولا تدخل بعض المماليك الصالحية، الذين نقلوها على عجل إلى البرج الأحمر في القلعة حماية لها٤، أما المماليك المعزية فقاموا بتعيين الطفل نور الدين علي ابن معز الدين أيبك مكان أبيه باسم الملك المنصور، وكان عمره خمس عشرة سنة٥، وعينوا قطز أتابكا له وذلك رغم معارضة المماليك الصالحية، ورغم تعيين الأمير علم الدين سنجر الحلبي نفسه نائبا للسلطنة، فقد _________ ٤ أبو المحاسن، النجوم: ٦/ ٣٧٧. ٥ أبو المحاسن، النجوم: ٦/ ٣٧٦.
1 / 122
رفض المعزية تأييد سنجر وقاموا باعتقاله وولوا قطز هذا المنصب١، وقيل إن شجر الدر فور قتلها للسلطان معز الدين أيبك قد عرضت السلطنة على عدد من الأمراء، ولكنهم رفضوها خوفا من المماليك المعزية٢.
وكان أول عمل قام به السلطان علي وأتابكه قطز، هو الأمر بقتل السلطانة السابقة شجر الدر، وذلك بتحريض من والدته، بعد أن ضعف شأن حماتها من المماليك الصالحية، فأمر بحملها إلى أمه حيث أمرت بقتلها، بأن أمرت جواريها "فضربتها الجواري بالقباقيب إلى أن ماتت، وألقوها عن سور القلعة إلى الخندق، وليس عليها سوى سروال وقميص. فبقيت في الخندق أياما. أخذ بعض أراذل العامة تكة سراويلها، ثم دفنت بعد أيام وقد نتنت، فحملت في قفة إلى تربتها قريب المشهد النفيسي"٣.
وكان أول خطر واجه قطز هو محاولة المغيث صاحب الكرك الاستيلاء على مصر في عامي ٦٥٥_٦٥٦ هـ (١٢٥٧_١٢٥٨م) بمعاونة المماليك البحرية الفارين من مصر. ولكن قطز قضى على هاتين المحاولتين ثم قام بعزل السلطان علي بن معز الدين أيبك، مستغلا في ذلك ما أصاب المصريين من ارتباك أثر سماعهم بما حل ببغداد، وبنوايا التتار تجاههم، ووصولهم إلى حلب. وتم له ذلك في عام ٦٥٧ هـ (١٢٥٨م)، حيث عزله ونفاه مع أمه وإخوانه٤. وبدأ قطز في إعداد مصر للتصدي للخطر المغولي، وتمكن بفضل الله كما سنبين فيما بعد من التصدي للمغول وهزيمتهم في معركة عين جالوت الحاسمة في الخامس عشر من رمضان عام ٦٥٨ هـ (. ١٢٦م) . وبعد أن رتب الأوضاع في الشام عاد إلى مصر التي استعدت لاستقباله استقبال الفاتحين، ولكن أعداءه الألداء من المماليك قتلوه غيلة في قرية القصير إحدى قرى مركز فاقوس، بمديرية الشرقية، وذلك في السابع عشر من ذي الحجة
_________
١ ذكر جوزيف نسيم في كتابه " العدوان الصليبي على بلاد الشام" ص ١٤٠، حاشية ١ ما موجزه: إن هناك خلافات بين المؤرخين حول نهاية الدولة الأيوبية وبداية الدولة المملوكية، فقد ذكر الغزي في (تاريخ حلب: ٣/١٢٦) أن الصالح نجم الدين أيوب هو آخر الملوك الأيوبيين. كما ذكر آخرون أن آخرهم هو ابنه تورانشاه. (نهاية الأرب: جـ٧) لوحة ٩٥. المقريزي: السلوك: جـ١ قسم ٢ ص ٣٦١) كما رأى فريق ثالث أن الطفل الملك الأشرف موسى هو آخر الملوك الأيوبيين (عقد الجمان: جـ ٨ قسم ٢ لوحة٣٣، العبر: ٥/٣٦٣، المختصر: ٣/١٩٩) . وذكر فريق رابع أن معز الدين أيبك هو أول ملوك الترك. (السيوطي: الأشرف قايتباي ورقة ١٣/ب) . وذكر آخرون أن شجر الدر هي آخر الأيوبيين باعتبارها زوجة الملك الصالح.
انظر: جوزيف نسيم: العدوان الصليبي على الشام ص١٤٠، والأصح أن تورانشاه هو آخر الأيوبيين وشجر الدر أول المماليك.
٢ أبو المحاسن، النجوم: ٦/٣٧٥.
٣ المقريزي، السلوك: ١/٤٠٤.
٤ ابن كثير (ت ٧٧٤هـ)، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل، البداية والنهاية، ١٤ جزءًا: ١٣/٢١٦، دار الفكر العربي.
1 / 123
عام ٦٥٨ هـ (١٢٦٠م) وكانوا بزعامة بيبرس، ثم دفن هناك بعد حكم دام سنة فقط١.
_________
١ أبو الفداء المختصر: ٣/ ٢٠٨، المقريرزي. الخطط: ٢/ ٣٠٠- ٣٠١
تولي السلطان الظاهر بيبرس السلطنة ... تولي السلطان ظاهر بيبرس السلطنة: وبمقتل السلطان قطز خرج أمراء المماليك الذين تآمروا عليه إلى الدهليز السلطاني بالصالحية وسلطنوا عليهم بيبرس٢ سنة ٦٥٨ هـ (١٢٦٠م) لأنه هو الذي قتله وأجلسوه مكانه٣ على مرتبة السلطان، فأخذ الملك بالقوة٤. وبعد أن حلف له القادة بمن فيهم فارس الدين أقطاي، والجند يومين الولاء، دخل القاهرة ظافرا٥. ويعتبر بيبرس من أعظم سلاطين المماليك لما قام به من أعمال شملت تنظيمات وعمران وغير ذلك. وكان من أهم أعماله إحياؤه الخلافة العباسية في القاهرة سنة ٦٥٩هـ (١٢٦٠م)، بعد أن قضي عليها التتار في بغداد. مما أكسبه سلطة شرعية مدعومة بموافقة الخليفة العباسي، كما استن نظام ولاية العهد في أسرته، بتعيين ابنيه السعيد بركه خان والعادل بدر الدين سلامش- الذي اغتصب قلاوون عرشه فيما بعد سنة ٦٧٩ هـ٦- وحفر الترع، وأصلح الحصون، وأسسِ المعاهد، وبنى المساجد، وكان حاكما مستبدا مستنيرا، كما قوى الجيش واستحضر أعدادًا كبيرة من المماليك، وكرس همته في محاربة الصليبيين. ولذلك يعتبر المؤسس الحقيقي للدولة المملوكية في مصر. وتوفي في السابع والعشرين من محرم عام ٦٧٦ هـ (١٢٧٧م) في دمشق وهو عائد من وقعة قيسارية. وتتابع سلاطين المماليك البحرية على الحكم حتى عام ٧٨٣ هـ (١٣٨٢م) ٧ ثم خلفهم على الحكم سلاطين دولة المماليك البرجية ٧٨٤- ٢٣ ٩ هـ (١٣٨٢- ١٥١٧م) ٨. _________ ٢ كان قفجاقيا في الأصل بيع في مدينة سيواس، تم أحضر إلى حماه، وعرض على صاحبها الملك المنصور فلم يعجبه، فاشتراه الأمير علاء الدين البندقدار مملوك الصالح نجم الدين أيوب، وعندما انتقل الأمير علاء الدين لخدمة الملك الصالح أخذ معه بيبرس الذي أخذه الملك الصالح إلِيه فانتسب إليه دون أستاذه. (المقريزي الخطط: جـ ٢ ص ٣٠٠) . ٣. المقريزي: السلوك: ١/ ٤٣٦. أبو المحاسن: النجوم: ٧/ ٨٤. ٤ ابن إياس: بدائع الزهور:١/ ٩٧. ٥ ابن إياس: بدائع الزهور: ١/ ٩٨. ٦ أبو المحاسن: النجوم الزاهرة: ٧/ ٢٦٧. ٧ انظر: قائمة سلاطين دولة المماليك البحرية، الملحقة بهذا البحث. ٨ سموا بالبرجية لأن غالبية سلاطينهم من المماليك الذين كانوا يقيمون في برج القلعة على جبل المقطم. وأبرزهم من بلاد الشركس (القوقاز بجوار بحر قزوين) وهم من الترك أيضا. وقد سقطت دولتهم على يد العثمانيين، وظلت بقاياهم تشارك في حكم مصر معه العثمانيين حتى قضى عليهم محمد علي باشا. (عبد المنعم ماجد، دولة سلاطين المماليك ورسومهم في مصر: ١/٢٥، مكتبة الأنجلو.
تولي السلطان الظاهر بيبرس السلطنة ... تولي السلطان ظاهر بيبرس السلطنة: وبمقتل السلطان قطز خرج أمراء المماليك الذين تآمروا عليه إلى الدهليز السلطاني بالصالحية وسلطنوا عليهم بيبرس٢ سنة ٦٥٨ هـ (١٢٦٠م) لأنه هو الذي قتله وأجلسوه مكانه٣ على مرتبة السلطان، فأخذ الملك بالقوة٤. وبعد أن حلف له القادة بمن فيهم فارس الدين أقطاي، والجند يومين الولاء، دخل القاهرة ظافرا٥. ويعتبر بيبرس من أعظم سلاطين المماليك لما قام به من أعمال شملت تنظيمات وعمران وغير ذلك. وكان من أهم أعماله إحياؤه الخلافة العباسية في القاهرة سنة ٦٥٩هـ (١٢٦٠م)، بعد أن قضي عليها التتار في بغداد. مما أكسبه سلطة شرعية مدعومة بموافقة الخليفة العباسي، كما استن نظام ولاية العهد في أسرته، بتعيين ابنيه السعيد بركه خان والعادل بدر الدين سلامش- الذي اغتصب قلاوون عرشه فيما بعد سنة ٦٧٩ هـ٦- وحفر الترع، وأصلح الحصون، وأسسِ المعاهد، وبنى المساجد، وكان حاكما مستبدا مستنيرا، كما قوى الجيش واستحضر أعدادًا كبيرة من المماليك، وكرس همته في محاربة الصليبيين. ولذلك يعتبر المؤسس الحقيقي للدولة المملوكية في مصر. وتوفي في السابع والعشرين من محرم عام ٦٧٦ هـ (١٢٧٧م) في دمشق وهو عائد من وقعة قيسارية. وتتابع سلاطين المماليك البحرية على الحكم حتى عام ٧٨٣ هـ (١٣٨٢م) ٧ ثم خلفهم على الحكم سلاطين دولة المماليك البرجية ٧٨٤- ٢٣ ٩ هـ (١٣٨٢- ١٥١٧م) ٨. _________ ٢ كان قفجاقيا في الأصل بيع في مدينة سيواس، تم أحضر إلى حماه، وعرض على صاحبها الملك المنصور فلم يعجبه، فاشتراه الأمير علاء الدين البندقدار مملوك الصالح نجم الدين أيوب، وعندما انتقل الأمير علاء الدين لخدمة الملك الصالح أخذ معه بيبرس الذي أخذه الملك الصالح إلِيه فانتسب إليه دون أستاذه. (المقريزي الخطط: جـ ٢ ص ٣٠٠) . ٣. المقريزي: السلوك: ١/ ٤٣٦. أبو المحاسن: النجوم: ٧/ ٨٤. ٤ ابن إياس: بدائع الزهور:١/ ٩٧. ٥ ابن إياس: بدائع الزهور: ١/ ٩٨. ٦ أبو المحاسن: النجوم الزاهرة: ٧/ ٢٦٧. ٧ انظر: قائمة سلاطين دولة المماليك البحرية، الملحقة بهذا البحث. ٨ سموا بالبرجية لأن غالبية سلاطينهم من المماليك الذين كانوا يقيمون في برج القلعة على جبل المقطم. وأبرزهم من بلاد الشركس (القوقاز بجوار بحر قزوين) وهم من الترك أيضا. وقد سقطت دولتهم على يد العثمانيين، وظلت بقاياهم تشارك في حكم مصر معه العثمانيين حتى قضى عليهم محمد علي باشا. (عبد المنعم ماجد، دولة سلاطين المماليك ورسومهم في مصر: ١/٢٥، مكتبة الأنجلو.
1 / 124
جهاد المماليك البحرية ضد الصليبيين:
لم يبق من الأراضي الإسلامية تحت حكم الصليبيين سوى شريط ساحلي يمتد على محاذاة البحر الأبيض المتوسط من ناحية الشرق، يضيق أو يتسع باختلاف الظروف والأزمنة، وذلك لأن الصليبيين حتى في عنفوان قوتهم، لم يتمكنوا من التوغل في داخل بلاد الشام، فبقيت حلب وحماه وحمص ودمشق بعيدة عن متناولهم١. وبفقدهم المبكر لإمارة الرها ظلوا محاطين بالمسلمين من الشمال والشرق والجنوب، لا يربطهم بأوربا مصدر قوتهم وإمدادهم سوى البحر، واقتصرت أملاكهم في مطلع عهد الدولة المملوكية البحرية على إمارتي طرابلس٢ وأنطاكيا٣، ومدينة عكا٤ التي أضحت مقرا لمملكة بيت المقدس بعد أن استرد المسلمون القدس.
لهذا فبعد أن باءت بالفشل حملة لويس التاسع ملك فرنسا على مصر المسماة بالحملة السابعة، خرج هذا الملك مذموما مدحورا خاسرا، فاشلا في تحقيق أحلامه في استرداد بيت المقدس عن طريق مصر، وغادر دمياط متوجها نحو قبرص، بعد أن فك المماليك أسره، مقابل فدية كبيرة وشروط مذلة.
ولم يلبث أن غادر قبرص متوجها نحو عكا، التي كان حاكمها يوحنا، شقيق ماري، إمبراطورة القسطنطينية، وزوجة الإمبراطور يلدوين الثاني، ومنها أخذ يعمل على تحقيق حلمه الذي لم يفارقه رغم كل النكبات، بل عاش معه حتى مات قي تونس وهو يقود الحملة الصليبية الثامنة عام ٦٦٩ هـ (٢٧٠ ١م) .
استغل هذا الملك فرصة النزاع الذي شب بين المماليك البحرية الذين استولوا على السلطة في مصر، بعد مقتل تورانشاه بن الملك الصالح أيوب وبن بقايا الأيوبيين في الشام،
_________
١ حتي، فيليب، تاريخ العرب: ص ٢٨٩.
٢ مدينة ساحلية حصينة، يحدها من القبلة جبل لبنان، تطل على بحر الروم من ثلاث جهات، وتقع شمالها قلاع الدعوة الإسماعيلية، وشرقها قلعة منيعة من الحجر، استولى عليها الصليبيون سنة ٥٠٣هـ (١١١٠) . المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق مصطفى زيادة، جـ١ قسم ٣ ص: ٧٤٧_٧٤٨. القلقشندي: صبح الأعشى: ٤/١٤٤.
٣ تقع أنطاكية إلى الغرب من حلب، على ساحل البحر المتوسط، لها سور عظيم من الصخر، يمر بظاهرها نهر العاصي، والنهر الأسود مجموعين. (أبو الفداء) إسماعيل بن علي عماد الدين صاحب جمال ت ٧٣٢ هـ- ١٣٣١م تقويم البلدان ص: ٢٥٧، القلقشندي: صبح الأعشى: ٤/ ٢٢٩.
٤ تقع على الساحل الشرقي لبحر الروم، جنوب صور وشمال غرب طبرية، استَولى عليها الصليبيون عام ٤٩٧ هـ (١١٠٤م) واستردها صلاح الدين عام ٥٨٣ هـ (١١٥٧م)، واستولى عليها الصليبيون مرة أخرى عام ٥٨٧ هـ (١١٩١م) ثم استردها الأشرف خليل القلقشندي، أبو العباس أحمد، (٨٢١ هـ-١٤١٨م)، صبح الأعشى في صناعة الإنشاء: ٤/١٥٢، ١٤ جزءا (١٩١٣- ١٩١٩م) انظر: مادة عكا بدائرة المعارف
1 / 125
الذين رأوا في ذلك ضياعا لجزء هام من أملاك الأسرة الأيوبية، فعارضوا ذلك بشده وعلى رأسهم السلطان يوسف صاحب حلب ودمشق، فصار الملك لويس يساوم كلا الجانبين- الأيوبيين والمماليك- ويعدهما بالمساعدة حتى اتفق أخيرا مع السلطان معز الدين أيبك على أن يطلق المماليك عددا كبيرا من الأسرى الصليبين، وعلى إعادة رؤوس الفرنجة المعلقة حول أسوار القاهرة منذ وقعة غزة، وأن يتنازل المماليك عن النصف الثاني من الفدية المفروضة على لويس التاسع، وتعهدوا بإعادة بيت المقدس إلى الصليبيين، وذلك كله مقابل أن يقف الملك لويس، إلى جانبهم في حِربهم ضد الناصر يوسف صاحب الشام وأتفق على "أن تكون هذه الاتفاقية خمسة عشر عاماَ"١.
هذا ولم تشر المصادر الإسلامية إلى هذه الاتفاقية غير ما أورده العيني عندما قال: "ومال الجيش المصري بالفرنج، ووعدوهم أن يسلموا إليهم بيت المقدس- إن نصروهم على الشامين- وكانت قد اشتدت الحرب بينهم"٢ ورغم شعور الإنسان بالأسى والأسف لهذه المعاهدة، إلا أن من يعرف المماليك يوقن أنهم لم يكونوا معنيون بتنفيذ بعض بنودها، وخصوصا ما يتعلق منها بإعادة القدس إلى الصليبيين، أو تسليمهم ما هو غرب نهر االأردن، وأنهم كانوا يرون فيها خدعة تكتيكية لكسب الصليبين إلى جانبهم أو إبقائهم على الحياد، فباشروا أولا في تنفيذ بعض البنود كدليل على مصداقيتهم، فأخلوا سبيل باقي أسرهما الافرنج، وتنازلوا عن بقية الفدية المتبقية والبالغة حوالي ربع مليون جنيه ذهبي مصري، وأعادوا رؤوس قتلى الفرنج التي كانت معلقة على أسوار القاهرة منذ واقعة غزة٣.
وعليه توجه لويس التاسع من جانبه بقواته من قيسارية إلى يافا، وانتظر وصول المماليك للانضمام إليه لمحاربة الناصر يوسف، ولكن الملك الناصر يوسف أرسل جيشا رابط في غزة ليحول دون اجتماع جيوش الصليبيين والمماليك٤، مما أفسد عليهم خطتهم، وأخيرا تدخل الخليفة العباسي المستعصم بالله فسارع إلى التوسط بين الأيوبيين والمماليك فجنب بذلك القدس من السقوط مرة أخرى بأيدي الصليبيين٥، كما جنب المسلمين سفك دماء
_________
١ انظر: جوزيف نسيم، العدوان الصليبي على بلاد الشام، ص: ١٧٧_ ١٨٧، دار النهضة، بيروت، ١٩٨١م نقلًا عن مصادر أجنبية معترضة.
٢ العيني: عقد الجمان: ١٨ قسم ٢ لوحة ٣٤٤، وكذلك عقد الجمان (مجموعة الحروب الصليبية جـ٢ قسم ١ص٢١٥)، انظر كذلك: ابن كثير، البداية والنهاية: ١٣/١٨٤.
٣ انظر: د. جوزيف نسيم، العدوان الصليبي على بلاد الشام، ص: ١٨٢ نقلًا عن جونفيل وهو مؤرخ مغرض
٤ المقريزى، السلوك: جـ١ قسم ٢ ص ٣٨١، ابن خلدون: العبر: ٥/ ٣٧٥.
٥ د. أحمد العبادي، قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام، ص٢٢١، دار النهضة، بيروت، ١٩٦٩م.
1 / 126