Unforgettable Stances - From My Mother's Biography, May She Rest in Peace
مواقف لا تنسى - من سيرة والدتي رحمها الله
Daabacaha
مطبعة سفير
Goobta Daabacaadda
الرياض
Noocyada
سلسلة مؤلفات سعيد بن علي بن وهف القحطاني
مواقف لا تنسى
من سيرة والدتي رحمها الله تعالى
(١٣٤٥ هـ- ١٤٢٨هـ)
تأليف الفقير إلى الله تعالى
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني
Bog aan la aqoon
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذه كلمات مختصرات من سيرة والدتي الغالية العزيزة الكريمة: نشطا بنت سعيد بن محمد بن جازعة: آل جحيش من آل سليمان، من عبيدة، قحطان، رحمها الله تعالى، ورفع منزلتها، بينت فيها سيرتها الجميلة، ومواقفها الحكيمة التي لا تنسى إن شاء الله تعالى، لعلّ الله أن يشرح صدر من قرأها إلى أن يدعوَ لها، ويستغفر لها، ويترحَّم عليها.
والله تعالى أسأل أن يجعل هذه الكلمات اليسيرات خالصةً لوجهه الكريم، وبِرًّا بوالدتي الغالية، وسببًا للدعاء لها، وأن يغفر لها، ويُعلي درجتها، وأن يجزيها عنِّي خير ما جزى والدة عن ولدها، وأن يجمعنا بها في الفردوس الأعلى مع نبيّنا محمد بن عبد الله ﷺ، ووالدينا، ومشايخنا، وذرّياتنا، وأزواجنا، وأحبابنا في الله جميعًا، وكل من قرأ هذه الرسالة من المؤمنين الصادقين؛ إنه تعالى على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وإذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون، لا إله إلا هو، ولا ربّ سواه، ولا
1 / 3
حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم.
وصلّى الله على عبده، ورسوله، وخليله، وأمينه على وحيه، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
قاله وكتبه ابنها: أبو عبد الرحمن
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
حرر بعد ظهر يوم الأحد الموافق ٤/ ٩/ ١٤٢٨هـ
1 / 4
* أولًا: ولادتها: وُلِدَتْ رحمها الله تعالى في ضواحي العرين التابع لأبها، يبعد عن أبها شرقًا ١٢٥ كيلو تقريبًا في البادية، وكان والدها من أهل الأغنام الذين يتتبّعون مواقع القطر، وشعف الجبال في هذه البلاد المذكورة، وكان زمن ولادتها على حسب إخبار كبار السن من أقربائها عام ١٣٤٥هـ تقريبًا.
* ثانيًا: نشأتها: نشأتْ بتوفيق الله تعالى ورعايته، وفضله، وإحسانه على ما نشأ عليه أهل التوحيد، وكانت في مجتمع أمّيّ لا يقرأ، ولا يكتب، إلا أنهم على فطرة التوحيد، فلا يعرفون في الرخاء ولا في الشدة الالتجاء إلاَّ إلى الله وحده، ولا يصرفون شيئًا من العبادات إلا له وحده لا شريك له.
وَتَربَّتْ مع والدها، وكانت ترعى البهم «صغار الأغنام» في طفولتها، وكان والدها ﵀ رجلًا صالحًا، كريمًا، شجاعًا، من الذاكرين الله كثيرًا، وقد عُرف بالإصابة في الرمي، فلا يُخطئ في رميه، سواء كان ذلك في رمي الصيد أو غيره، وقد ثبت عندي أنه: أثناء اصطياده للصيد قيل له: اجعل طلقة البندقية في أسفل قرن الغزال، فرماه فوقعت في المكان الذي حُدِّد له أسفل قرنها.
وقد عُرِفَ عنه إجابة الدعوة في مواقف كثيرة، منها: أن الوالدة نشطا رحمها الله كانت ذات يوم في صغرها تأكل من قطعة لحم قد وضعتها في يدها، فجاءت حدأةٌ فاختطفت قطعة اللحم من يدها، فأغضب ذلك والدها؛ لأن اللحم في ذاك الوقت كان عزيزًا، وربما لا يأكلون اللحم إلا من عيد الأضحى إلى عيد الأضحى لقلّة ما في اليد،
1 / 5
وشدّة الحال عند أهل البادية، فعند ذلك دعا والدها على الحدأة، فقال: «اللهم إن كان أجلها في السماء فأنزله عليها، وإن كان في الأرض فابعثه إليها»، أو كما قال في دعائه ﵀، وفورًا وقعت الحدأة قريبًا من بيت الشَّعْر الذي كانوا يسكنونه في ذلك الوقت، وإذا هي قد قُتلت، ونظروا فإذا الذي قتلها صقر هجم عليها، وضربها ضربة قضت عليها؛ من أجل قطعة اللحم التي كانت معها، استجابةً لدعوةِ والد الطفلة الصغيرة التي أخذت قطعة اللحم من يدها، وكانت أغلى ما تملك، وأحبَّ إليها من الحلوى للأطفال في عصرنا هذا.
* ثالثًا: زواجها؛ بعد أن أمضت مع والدها خمسًا وعشرين سنة في حدود عام ١٣٧٠هـ تقريبًا، زوّجها من ابن أخته علي بن وهف بن محمد ﵀، وكانت أمُّه مهرة بنت محمد بن جازعة عمة الوالدة، رحم الله الجميع رحمةً واسعة، وكانت الوالدة هي الزوجة الثانية للوالد ﵀، حيث كان قد تزوج قبلها بنت عمه صالحة بنت دغش بن محمد رحمة الله على الجميع، وختم لزوجة أبي صالحة بخير.
وبقيت الوالدة لم تحمل عند الوالد علي بن وهف لمدة سنتين تقريبًا، وكانت ترعى الأغنام عند زوجها: الوالد علي، كما كانت ترعاها عند والدها، فيسرحون بالأغنام من بيوت الشعر إلى الجبال والأودية بعد ارتفاع الشمس، وبعد ما يحلبون الأغنام، ويُرضعون البهم «صغار الأغنام»، ثم يعودون قبل غروب الشمس، ويسمّونه الرّواح، فيقولون: راحت الأغنام إذا وصلت البيوت بعد الرعي مساءً، ويقولون: سرحت
1 / 6
إذا ذهبت صباحًا.
* رابعًا: بعد سنتين من زواجها تقريبًا حملت بابنها الأكبر، وهو بكرها: سعيد، كاتب هذه الأسطر: عفا الله عني، وتجاوز، وغفر، وعن والدتي الغالية، ووالدي العزيز، وعن ذريتهما، وجميع المؤمنين المخلصين.
وكانت ولادتها ببكرها سعيد في شهر الفطر ٢٥/ ١٠/ عام ١٣٧٢ تقريبًا، كما أخبرتني الوالدة رحمها الله، وكانت حالة الوضع صعبة جدًا، فقد أخبرتني الوالدة رحمها الله أنها سرحت بالأغنام في ذلك اليوم من شهر الفطر من ذلك العام، وكان الوقت صيفًا، وفي حرٍّ شديد، فكانت تُطْلَقُ طلقًا شديدًا في الرّمضاء الحارّة الشديدة في منتصف النهار، فدخلت رحمها الله تحت سدرة تستظلّ، ويسمّون السّدْر «العِلْب»، فوضعت تحت شجرة السدرة وقت الظهر تقريبًا، وهي عند الأغنام، وليس معها أحد إلا الله ﷿، وقد جَهَّزَت سكّينًا معها؛ لتقطع السرَّ للمولود، وفعلًا قطعت السرّ، وقد كانت بكرًا لا تُحسن القطع للسرِّ رحمها الله، فلم تربط السرّ، بل قطعته، وتركته ينزف دمًا، وحملت الطفل الغالي عندها جدًا، بعد أن لَفَّته في خرقة، وقامت تسوق الغنم حتى وصلت بيت الشعر قبل غروب الشمس، وعندما رأتها عمّتها أخت أبيها، وهي أمُّ زوجها، مهرة بنت محمد بن جازعة استقبلتها، ودعت لها وبرّكت، وهالها ما رأت من الدماء المتدفّقة من سرِّ المولود، فما كان من عمّتها مهرة إلا أن ربطت السرّ، فوقفت الدماء، وقد كاد الطفل أن يموت لولا رحمة الله تعالى، وأنه تعالى جعل جدتي مهرة المذكورة سببًا في حياة الطفل، رحمها الله، وقد كانت جدتي
1 / 7
مهرة من الذاكرات الله كثيرًا، وخاصة في آخر حياتها، ومما سمعته من ذكرها في طفولتي: أنها كانت تستغفر الله كثيرًا، وتسبّح، وتهلِّل، وتكبّر، ومن ذلك أنها كانت تقول: «أستغفر الله ألفًا في ألف، عدد حروف القرآن حرفًا حرفًا، والملائكة تكتب، والله يعفو ...»، وكنت أسمع دويَّ صوتها بالذكر في غرفتها كدويّ صوت النحل، وكانت إذا شربت لبنًا أو حليبًا قالت بعد الشرب: «الحمد لله الذي أخرجه لي من بين فرثٍ ودمٍ»، أو: «الحمد لله الذي سقاني هذا من بين فرثٍ ودمٍ».
وقد كانت لا تقرأ ولا تكتب، ولكن دعاءها هذا مقتبس من قول الله تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) (١)، وقوله تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) (٢).
وكان مكان حادثة الولادة المذكورة -كما أخبرتني الوالدة رحمها الله، وكما أخبرتني أمي من الرضاعة زوجة أبي صالحة بنت دغش أحسن الله لنا ولها الخاتمة - في جبال السّود شرق وادي العلوبي أسفل العرين، في ظهر جبال السّود، في شِعبٍ يُقال له شوحطة، وَسَيْلُه يقع في وادي الإسلي، ووادي الإسلي في الجهة الغربية الجنوبية لوادي الأمواه، وسيل الإسلي يقع في وادي العَوَص غرب الأمواه، وسيل وادي العَوَص يقع في تثليث.
_________
(١) سورة النحل، الآية: ٦٦.
(٢) سورة المؤمنون، الآية: ٢١.
1 / 8
واستمرَّت الوالدة مع الوالد، ومع أمي من الرضاعة زوجة أبي صالحة، ومع عمتها أخت أبيها أم زوجها مهرة، يتنقَّلون من شِعبٍ إلى شِعبٍ يتتبعون مواقع القطر، وشعف الجبال بأغنامهم، وكانوا يحملون الماء على الحمير في القِرَب، وربما حملوها على الإبل، لكن الجمال في الغالب يحملون عليها الأثاث وبيوت الشَّعْر، ويركبون عليها، أما الماء فيحملونه على الحمير في الغالب.
ولم تحمل الوالدة بعد ولدها الأول إلا بعد سنتين تقريبًا، ثم حملت بالأخ الشقيق حسين أبي عليّ، مؤذّن الجامع الكبير بطريب، ومغسِّل الأموات هناك، أمدَّ الله في عمره على طاعته، ووضعت حملها في أسفل وادي العلوبي، وهو وادٍ في أسفل وادي العرين، يبعد عنه ثلاثين كيلو تقريبًا، وسيله يصبُّ في وادي عرقة، وسيل عرقة يصبُّ في وادي تثليث، وقد كان مكان ولادة الأخ حسين شمال شرق وادي العلوبي، في شِعبٍ يقال له كُرَيْشة، وبداية سيل شعب كريشة تبدأ من أعلى جبال السود، ونهايته تصبُّ في وادي عرقة، وهي معروفة الآن بعرقة آل سليمان.
وكان ذلك ليلًا، حين جاء الوالدة الطلقُ، فتركتني في وسط الغنم، وأمرت راعيةً عندنا أن تُشْغِلَني عنها «والراعية هي رفعة بنت جبران بن محمد بن جازعة، وهي بنت عم الوالدة، وهي أم زوجتي أم عبد الرحمن»، فوضعت الوالدة في الجبل، وكان من عادة النساء إذا أردن الوضع أن تذهب إحداهن لأعلى الجبل، لتستتر عن الناس، وتبتعد عنهم حتى لا يسمعوا ما يحصل عند الوضع، والله أعلم.
1 / 9
وكان ذلك الزمن يُعرَف بخريف كويع، وهو سيل شديد قلع الأشجار، وأهلك كثيرًا من الناس، وحصل به دمار عظيم، ومات فيه خلق كثير، منهم رجل يقال له: كويع، فأرّخوا به هذه الحادثة، وهو عام ١٣٧٥هـ.
ثم لم تحمل الوالدة بعد الأخ حسين مدة ست سنين تقريبًا، واستمرّوا على ما هم عليه من رعي الأغنام، والتنقلات من مكان إلى مكان على حسب الأمطار، ومواقع القطر، وشعف الجبال، والأودية، والشعاب.
وفي عام ١٣٨٢هـ وضعت الوالدة الأخ الشقيق الدكتور سعدًا أبا عبد العزيز، الأستاذ المشارك بجامعة الملك سعود، أمدَّ الله في عمره على طاعته.
وكنت على علمٍ بما يحدث، وكانت الولادة آنذاك في شعبٍ يقال له قرضة، في حدباء يُقال لها: البيضاء، وشِعب قرضة وحدباء البيضاء بداية سيلهما من جبال السود جنوب شعب شوحطة الذي وُلِدْتُ فيه، فإذا ذهب الذاهب إلى جبال السود من أعلى قرضة، وتجاوز الجبل، وقع في شعب شوحطة.
وشعب قرضة مع حدباء البيضاء يقع سيلهما في وادي العلوبي الذي سبق ذكره.
وفي يومٍ من الأيام من عام ١٣٨٢هـ وَلَدت أمي رحمها الله الأخ سعدًا داخل بيت الشَّعْر، وليس معها أحدٌ إلاّ الله تعالى، وأظن أن الأغنام كانت محيطة بها في ذلك البيت، وأظن أن ذلك كان وقت العصر،
1 / 10
ومن شدة التعب الذي حصل لها خرج الطفل أسود، والله المستعان.
ولكن أخبرني الأخ الشقيق حسين أنه كان عند الوالدة في ذلك اليوم، وكان في السابعة من عمره قال: ذهبتَ أنتَ يا أخي سعيد عند الغنم ترعاها في الجبال صباحًا، وبقيتُ أنا عند الوالدة في بيت الشعر، وفي الضحى أخرَجَتْني من البيت، فامتنعتُ، فأخذت ترميني بالحجارة حتى خرجتُ، وحينما كنتُ خارج البيت سمعتُ صوت الطفل يصرخ صُراخًا عظيمًا، فجئتُ مسرعًا، وجاء الكلب من خارج البيت ينبح نُباحًا عظيمًا لشدة صياح الصبي، وكاد الكلب أن يخطف الطفل من بين يدي الوالدة، فرمتْه رحمها الله بالتراب حتى خرج من البيت، ثم جئتَ أنت يا أخي سعيد بالأغنام وقت العصر.
وقد أخبرتني الوالدة رحمها الله أنها عندما وضعت الأخ سعدًا، وسمع الأخ حسين صياح الطفل، ونباح الكلب، ورأى الكلب يقترب وينبح، فزع الأخ حسين فزعًا شديدًا، وجاء إليها وقال: يا أمي لا تعطيهِ الكلب، وذكرت رحمها الله: أنها طلبت من الأخ حسين أن يعطيها السكين؛ لتقطع سرّ الطفل، ففزع وقال: يا أمي، لا تذبحيه، اتركيه معنا! فقالت له: لا، يا ولدي إنما أريد أن أقطع سرّه، فأعطاها السكين، فقطعت سرّه!.
وهذا يدلّ على أن الأخ حسين كان في سنِّ التمييز، ويدلّ على شدّة الحال، وعلى صبر الوالدة رحمها الله تعالى.
واستمرت الوالدة مع الوالد في رعي الأغنام، والانتقال من مكان
1 / 11
إلى مكان.
* خامسًا: في عام ١٣٨٤ أو ١٣٨٥هـ تقريبًا حصل الوالد على قطعة أرض زراعية في وادي الغرس، وهو وادٍ في أعلى وادي العرين، في شعب يقال له البقلة، فحفر هناك بئرًا، وغرس نخلًا، وفي هذا الزمن حملت الوالدة بالأخ هادي أبي سعد، أمدَّ الله في عمره على طاعته، ووَضَعَتْه في عام ١٣٨٦هـ تقريبًا، وأذكر أن حالة الوضع كانت وهي عند والدها سعيد بن محمد بن جازعة المذكور، وعند والدتها نورة بنت حسن، وكانت جدتي نورة من النساء الصالحات، الذاكرات لله تعالى، رحم الله الجميع.
وبعد إنجاب الأخ هادي استمرت الوالدة مع الوالد في حياة قرويّةٍ جديدة، في قرية البقلة بالغرس، وشاركت الوالدة الوالد علي بن وهف في بناء قصر من الطين، واستمرّت الوالدة تزرع في هذه المزرعة: البر، والشعير، والذرة، والطماطم، أما أمِّي من الرضاعة زوجة أبي صالحة بنت دغش فبقيت في البادية عند أغنامها وأغنام الوالد أحيانًا.
* سادسًا: في عام ١٤٠٠هـ انتقلت الوالدة نشطا رحمها الله إلى الرياض معي أنا ولدها: سعيد، وانتقل معها الأخ هادي، وقبله الأخ سعد، وبقي الوالد في مزرعةٍ له أخرى في وادي العلوبي المذكور آنفًا يسكن فيها، ويخدم أمَّه: مهرة بنت محمد بن جازعة، حيث بلغت من الكِبَرِ عتِيًّا، فكان الوالد لا يفارقها أبدًا، ولا يسافر مطلقًا، بل رابط عندها عدد سنين، وجعل نفسه لها مقام الخادمة في كل شيء، حتى اشتهر بذلك بين الناس في برِّ أمه، فلا
1 / 12
يرون أن أحدًا منهم يبلغ منزلته في خدمة أمِّه وبرِّها، وكان يسرُّه أن يخدمها سرورًا كثيرًا، وآثر خدمتها، ولم يرغب أن يخدمها غيره، لا خادمة ولا غيرها، حتى ماتت في الشهر السادس من عام ١٤٠٦ هـ عن عمر يقارب ١٥٠ مائة وخمسين سنة كما يذكر أخوها جدي لأمي سعيد بن محمد بن جازعة الذي توفي عام ١٤١٩هـ، وهو ممن بايع الملك عبد العزيز ﵀ بعد عام ١٣١٩هـ، فقد ذكر: أنه أصغر من أخته مهرة، وقال: عمرها ١٥٠ سنة تقريبًا، وقال: «بايعت الملك عبد العزيز ﵀ وأنا قد تزوّجت ثم طلّقت، وقد بلغت من العمر خمسين سنة تقريبًا»، وقد مات ﵀ عن عمر يقارب مائة وعشرين سنة تقريبًا.
وبعد أن ماتت أمُّ الوالد علي ﵀، صار يتنقَّل بين الرياض وبين مزرعته المذكورة، وكان رجلًا صالحًا، من الذاكرين الله تعالى، ومن ذلك أنه كان يستيقظ آخر الليل، ويصلي، ويذكر الله إلى طلوع الفجر، وكان من ذكره قبل الفجر: أنه كان يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» مائة مرة كل يوم قبل الفجر، وقد قال له بعض أبنائه: «ألا تجعل هذا التهليل بعد طلوع الفجر؟»، فردَّ عليه قائلًا: يا ولدي أخاف أن أنشغل عنه، وكان يقول في هذا الوقت: «سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» مائة مرة، ويقول: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
وقد كان ﵀ أُمّيًّا لا يقرأ، ولا يكتب، ولكنه يحفظ من القرآن ما تصحُّ به صلاته، وبعض قصار السور، والحمد لله. ثم منَّ الله تعالى عليه بعد السبعين من عمره، فدرس في مدرسة مكافحة الأمية الليلية
1 / 13
بالعلوبي، لمدة سنة تقريبًا، وذلك عام ١٤٠٥هـ تقريبًا، فحفظ أكثر سوَر جزء عمّ يتساءلون تلقينًا من بعض المدرسين في هذه المدرسة، وكنت أسمعه كثيرًا يكرر في قراءته عن ظهر قلب من سورة الأعلى إلى سورة الناس، وخاصّةً في خَلَواتِهِ، أو إذا كان جالسًا في المسجد، وأحيانًا يطلب من بعض أولاده، أو أحفاده: أن يسمِّعوا له ما يحفظ؛ ليثبِّت حفظه، رحمه الله تعالى.
وكان يحفظ مختصرًا للأصول الثلاثة، فإذا قلنا له: من ربك؟ قال: ربي الله الذي رباني وربَّى جميع العالمين بنعمه، وهو معبودي، ليس لي معبود سواه.
وإذا قلنا: ما دينك؟ قال: ديني الإسلام: وهو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
وإذا قلنا له: من نبيك؟ قال: نبيي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة، وأتمُّ التسليم، نُبّئ بـ (اقرأ)، وأُرسل بـ (المدثر)، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة، وبها توفي، لا خير إلا دلّ أمّته عليه، ولا شرَّ إلا حذّرها منه، من أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار.
وكان بعد أن توفيت والدته يعتمر كل سنة في رمضان، إلا سنة واحدة - على ما أظن -، وآخر حجّة حجّها عام ١٤١٦هـ، ثم رجع إلى مزرعته، وتوفي ﵀ بسبب حادث مروري وهو يقود سيارته في
1 / 14
سوق المضه على طريق الرياض، في يوم السبت ٢٧/ ٣/ ١٤١٧هـ عن ثلاث وثمانين سنة تقريبًا؛ لأنه أخبرني ﵀ أن والده وهف ﵀ حضر فتح أبها حينما فتحها الملك عبد العزيز ﵀ بقيادة ابنه الملك فيصل، وكان ذلك عام ١٣٤٢هـ تقريبًا، وكانوا يقولون: ضربة أبها، أي: فتح أبها، ويذكرون أن الجيش اجتمع في حِجلى بين مدينة أبها وخميس مشيط.
قال الوالد ﵀: «رجع إلينا والدي وهف ﵀ من ضربة أبها فأصابه مرض الجدري، وأصابني، فمات، وشفاني الله، وعمري ثمان سنوات تقريبًا». فعلى هذا يكون ميلاد الوالد علي بن وهف ﵀ عام ١٣٣٤هـ تقريبًا.
وكانت نعمةً من الله تعالى عليَّ حينما انتقلتِ الوالدةُ معي في مدينة الرياض؛ لِما رأيتُ من دينها، وخلقها الكريم، ومساعدتها لي، بالقول، والفعل، والرأي.
وبَقيتْ تصنع لي الطعام من وقت انتقالها إليَّ لمدة ثلاث سنوات، فقد عشت أعزبًا إلى شهر شوال عام ١٤٠٢هـ، حيث تزوجت بعد ذلك بأم عبد الرحمن في ذلك الشهر.
* سابعًا: كانت الوالدة تشتاق إلى تعلُّم القرآن الكريم بعد انتقالها إلى الرياض، ولكنها أميّة لا تقرأ، ولا تكتب، وكانت تحفظ ما تصحُّ به صلاتها، ولله الحمد: الفاتحة، وتحفظ من قصار السور ما تيسّر، وتعرضها عليَّ، وهي معذورة في تأخّرها في تعلّم القرآن إلى هذه السن المتأخرة
1 / 15
رحمها الله؛ لأنها كانت في مجتمعٍ أمّيٍّ في البادية، لا يعرفون القراءة، ولا الكتابة. وفي عام ١٤٠٣هـ طلبت منّي أن أعلمها القراءة؛ لكي تقرأ القرآن، فبدأتْ تتعلّمُ في ذلك الوقت الأحرفَ الهجائية، وكانت تتعلّم معها زوجتي أمُّ عبد الرحمن، وكانت في الرابعة عشرة من عمرها، فكانت الوالدة رحمها الله تداعبني وتقول: «أنت تهتم بالطالبة الصغيرة أكثر من اهتمامك بالطالبة الكبيرة»، وقد استفادت هذه المداعبة من ابنها الثالث الأخ سعد، حيث كان يداعبها عن طريق الهاتف من ألمانيا، أو من بريطانيا؛ لأنه تنقّل بين هاتين الدولتين، حيث كان في دورة هناك، فكان يقول لها: هل الأخ سعيد يهتمّ بالطالبة الصغيرة أكثر من الطالبة الكبيرة؟ فأعجبها ذلك، وصارت تداعبني بذلك رحمها الله.
* ثامنًا: بعد أن تعلّمتِ الوالدة الأحرف الهجائية قراءةً وكتابةً، بدأت تَتَهَجَّى القرآن الكريم، وتطلب من يتابع لها القراءة في المصحف.
ثم يسّر الله تعالى مدرسةً لتحفيظ القرآن في إسكان أفراد القوات المسلحة، حيث كنت إمامًا وخطيبًا لجامع هذا الإسكان، فسجّلت الوالدة في هذه المدرسة النسائية، وبدأت تحفظ القرآن الكريم بعد الستين من عمرها.
وفي عام ١٤١٢هـ حصلت على شهادة لحفظ جزأين من القرآن الكريم.
وفي ٢٥/ ١٠/١٤١٣هـ حصلت على شهادة تفوّق في حفظ ثلاثة أجزاء بتقدير ممتاز، وذلك في تمام السابعة والستين من عمرها رحمها الله.
وفي ٢٩/ ٧/١٤١٧هـ حصلت على شهادة تفوّق في حفظ أربعة
1 / 16
أجزاء بتقدير ممتاز.
وفي عام ١٤١٨هـ حفظت خمسة أجزاء، وحصلت على شهادة بتقدير ممتاز.
وفي عام ١٤٢٣هـ تقريبًا كمَّلت حفظ ثمانية أجزاء من سورة (يس) إلى سورة (الناس)،وذلك في تمام الثامنة والسبعين من عمرها، وكانت تراجع ما حفظت كثيرًا خشية النسيان؛ لكبر سنها رحمها الله تعالى.
وقد وجدنا عندها بعد موتها رحمها الله ثلاث عشرة شهادة في القرآن، ما بين شهادة تفوّق، ودورة، ومسابقة، وكلها في الأجزاء الثمانية المذكورة، وكلها ما بين عام ١٤١٢هـ إلى قبيل عام ١٤٢٣هـ، وهذا يدلّ على حرصها رحمها الله تعالى، وغفر لها.
* تاسعًا: صلاتها: كانت تحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها في أول الوقت ولله الحمد، وتَنْهَى عن تأخيرها عن وقتها.
* عاشرًا: نوافل الصلاة: كانت رحمها الله تحافظ على كثير من النوافل، ومنها:
صلاة الليل في السحر، فكانت تستيقظ قبل صلاة الفجر بساعة كاملة، ثم تتوضأ وتصلّي، وتدعو، وتذكر الله حتى يؤذّن مؤذّن الفجر، فإذا أذّن الفجر صلت سُنّة الفجر، ثم بعد ذلك تصلّي الفريضة إذا تأكدت من طلوع الفجر، ثم تبدأ بأذكار أدبار الصلاة، وأذكار الصباح، ثم تقرأ ما تيسّر مراجعته مما تحفظ من القرآن.
كانت تحافظ على سنة الوضوء، فإذا توضأت في أي وقت من ليلٍ أو
1 / 17
نهارٍ صلّت ركعتين.
كانت تحافظ على ركعتي الضحى إذا اشتدّ النهار ضحىً.
* الحادي عشر: صيامها: كانت رحمها الله تصوم رمضان، وتُتبعه ستًا من شوال كل سنة، وكانت تصوم ما تيسّر لها من صيام التطوع: كيوم عرفة، فلا تترك صيامه أبدًا إن لم تكن في الحج، وصيام يوم عاشوراء مع يومٍ قبله أو يومٍ بعده، وكانت تصوم ما تيسّر لها من عشر ذي الحجة، وما تيسّر من أيام الشهور الأخرى، رحمها الله.
* الثاني عشر: ذكرها لله تعالى: كانت رحمها الله تذكر الله كثيرًا: وتدعو دعاء الصباح والمساء، وخاصة سيّد الاستغفار، وقد كانت تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة، في اليوم، وغير ذلك من الأذكار والدعوات التي تذكر الله بها رحمها الله.
وكانت تكثر من قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكانت إذا صلت الفجر، وأدّت أذكار أدبار الصلاة، وأذكار الصباح، قرأت من القرآن مما تحفظ، مراجِعةً ما تيسّر لها.
وكانت تستمع إلى إذاعة القرآن الكريم كثيرًا، وتحبّ الاستماع لبرنامج «نور على الدرب»، وقد استفادت من هذه الإذاعة، ومن هذا البرنامج كثيرًا ولله الحمد، وكانت تنقل بعض ما تسمع من الفوائد
1 / 18
لغيرها من النساء والمحارم، وتفيدهم بذلك، جزاها الله خيرًا، وغفر لها.
* الثالث عشر: حجّها: حجّت حجّة الإسلام عام ١٣٩٨هـ بمرافقة الوالد علي بن وهف رحمهما الله، والأخ حسين، وبعض أولادها.
وحجّت عام ١٤٠٣ بمرافقة الأخ هادي، وأم عبد الرحمن، وبعض محارمها.
ثم حجّت عام ١٤٠٨هـ، بمرافقة بعض أولادها، والابن عبد الرحمن، والابن عبد العزيز، وهم صغار، ومعهم الأسرة، وأم عبد الرحمن، وأم عبد العزيز، وبعض محارمها.
ثم حجّت عام ١٤١٦هـ بمرافقة الوالد علي بن وهف رحمهما الله، وأم عبد الكريم، وبعض محارمها.
ولا أذكر، فربما حجّت ما بين ١٣٩٨ هـ إلى عام ١٤١٦هـ حجّة، لكني أُنسيت فلا أدري؟
وحصل موقف عظيم في حجّها عام ١٤١٦هـ، فقد أُصيبت قبل الحج بمرض في الرُّكَبِ، واحتكاكٍ في عظام الرُّكب، وكانت تتلقّى العلاج الطبيعي في المستشفى العسكري، واستمرّ معها الاحتكاك حتى نهاية الحج، وفي أيام التشريق كانت تنزل مع درج جمرة العقبة ترمي الجمار، ثم تُجهد نفسها مع الوالد علي بن وهف رحمهما الله في صعود هذا الدرج العالي، ولم تنتهِ أيام التشريق إلا وقد شُفيت تمامًا من هذا الاحتكاك في الرُّكب إلى أن تُوفيّت رحمها الله تعالى، فقد أعطاها الله العافية في رُكَبها مدّةَ اثنتي
1 / 19
عشرة سنة حتى تُوفيّت، وهذا ببركة الطاعة لله تعالى، وقبل ذلك بفضل الله (. حيث كان هذا الصعود لهذا الدرج العالي من أسباب شفائها العاجل الدائم.
* الرابع عشر: عُمَرُها: اعتمرت كثيرًا رحمها الله تعالى، ومن هذه العمر أربع عُمَرٍ مع حجاتها الأربع، وكانت تعتمر كثيرًا، ولكن الذي أذكر من عمرها أنها كانت تعتمر كلَّ رمضان لمدة سِتٍّ وعشرين سنة مع محارمها، من عام ١٤٠٠هـ إلى رمضان عام ١٤٢٦هـ.
ثم بدأ معها المرض في بداية عام ١٤٢٧هـ، فلم تعتمر بعد ذلك. وكانت تعتمر في الإجازات: إجازات الربيع والصيف، لكني لا أدري كم عددها، تقبَّل الله منها، ولا تسافر رحمها الله إلا مع محرم للحج والعمرة أو غيرها، وكانت تنهى النساء عن السفر بدون محرم رحمها الله تعالى.
* الخامس عشر: صدقاتها، وكرمها: كانت رحمها الله كريمةً كرمًا ظاهرًا، لا تكنز ككنز العجائز، فقد تصدّقت بكلّ ما تملك في حال صحتها ولله الحمد، وأرجو الله أن تدخل في قول النبي ﷺ حينما سُئل: أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: «أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تُمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا، وقد كان لفلان» متفق على صحته، ومن ذلك ما يأتي:
١ - قد يسّر الله تعالى لذرّية الوالد علي بن وهف ﵀ أن يتنازلوا
1 / 20
عن إرثهم منه، ويتصدّقوا به في بناء مسجدٍ على نيةِ والدهم رحمه الله تعالى في المنطقة الجنوبية في مركز طريب - مخطط الدخل المحدود- بجوار المحكمة العامة هناك، جزاهم الله خيرًا، وأصلحهم، وعندما علِمَت الوالدة بذلك كانت تشارك في هذا المسجد، فمرةً تعطي ألفي ريال، وتقول للمشرف على البناء من محارمها: خذ هذا مكان مصلٍّ، ومرة تقول: خذ هذا مكان مصلٍ أو مُصَلِّيين صدقة عن أمّي، ومرةً صدقة عن أبي، ومرةً صدقة عن نفسها، حتى كان جميع ما شاركت به في هذا المسجد أربعين ألف ريال، من آخرها جميع المكيّفات للتبريد من صدقاتها إلا قليلًا، وكانت تأمر من يأخذ المشاركة منها بعدم الإخبار، ولم يخبر المشرف على بناء هذا المسجد بما فعلت إلا بعد موتها رحمها الله، وتقَبَّل منها، وعفا عن المشرف بإخباره عن هذا السرِّ بعد موتها.
٢ - قبل موتها رحمها الله تعالى بسنة تقريبًا جمعت ما عندها من ذهب ونقود، وكان ذلك بعد رمضان عام ١٤٢٧هـ، وسلَّمت هذا المبلغ لبعض أولادها، فكان جميع ثمن الذهب وما معه: ستة عشر ألفًا وخمسمائة ريال ١٦٥٠٠، وقالت: تصدّق به حيث شئتَ؛ لأنها تعلم رحمها الله أن أولادها كلهم أغنياء، وليسوا بحاجة إلى شيء من المال، فجعل ولدها بأمرها هذا المال مشاركةً في مسجد عبد الرحمن بن عوف ﵁ في المنطقة الجنوبية في مخطط الدخل المحدود في طريب على بُعد خمسمائة متر شمالًا من مسجد علي بن وهف ﵀ المذكور آنفًا، واستلمه المقاول في يوم ٢٥/ ١٠/١٤٢٧هـ، وكانت تقول لمن تعطيه
1 / 21