[85_2]
اليوم، فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم، على عادة المجوس. فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟ فقال أكره أن أبيت ليلة على غير دين.
دان ابن المقفع بالإسلام عن عقيدة وعلم، وغدا في الكهولة نابه الذكر، وما زاده إعلانه الإسلام إلا ما أوجب عليه القيام به من التكاليف. وما كان له مطمع دنيوي يتطلبه بإسلامه، وهو الرجل الذي لابسه المسلمون على مجوسيته، وعهد إليه أمراء الإسلام بشؤون دواوينهم. وائتمنوه على أسرارهم، وأعجبوا به مجوسيا، فلما امتل ملة الإسلام زادوا به إعجابا.
أدبه وأسلوبه:
كان تمكن ابن المقفع من الآداب الفارسية على مقدار ضلاعته من العربية جمع بين الأدبين، وفاق الأقران والنظراء بثقافته العربية إلى ما لم يكد يصل إليه أحد من معاصريه. ساعده تمكنه من الفارسية على الرسوخ في العربية، وأتى لغة تربيته الحديثة بأساليب جديدة، وطرق في التفكير قل أن عرفت قبله.
يقول صاحب الصناعتين: إن من عرف ترتيب المعاني، واستعمال الألفاظ على وجوهها، في لغة من اللغات، ثم انتقل إلى لغة أخرى، تهيأ له من صنعة الكلام مثل ما تهيأ له في الأولى. ألا ترى أن عبد الله الكاتب ابن المقفع استخراج أمثلة الكتابة التي رسمها لمن بعده من اللسان الفارسي، فحولها إلى اللسان العربي، فلا يكمل لصناعة الكلام إلا من يكمل لإصابة المعنى، وتصحيح اللفظ، والمعرفة بوجوه الاستعمال. ولا شك أنه حفظ القرآن ودرس إعجازه وعرف محكمه ومتشابهه، وقرأ ما شاء من دواوين شعراء الجاهلية، وأدراك معانيهم وتدبر ألفاظهم. وقيل إنه تخرج في البلاغة بخطب علي بن أبي طالب؛ وما نخال ذلك كافيا في بلوغ الغرض لقلة المأثور من تلك الخطب يومئذ.
كان ابن المقفع من أول من ترجم في الملة الإسلامية من اللغة الفارسية إلى
Bogga 85