[35_2]
جال فيه عقل عبد الحميد كان فسيحا بالنسبة لعصره وأهل طبقته، وكان من اتصل بهم قبل أن يلي الكتابة عن الخليفة جماعة من المنظور إليهم في الأمة؛ ولهذا ولغيره، أي لمولده في الشام وتنقله في البلاد، دخل كبير في اتساع عقله وتجاربه.
كان مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية عبد الحميد حبا جما، ويرفع منزلته بين الكتاب والعمال ولا يرى الدنيا إلا به لعلمه بنبوغه وتفرده في صناعته، وذهابه بفضل البلاغة وما ينبغي لها، حتى عرض عليه - لما أيقن أن أمره أدبر، وهزائمه تواترت، وسلطانه صائر إلى الزوال - أن يكون مع أعدائه ليسام حياته، قائلا: إنا نجد في الكتب أن هذا الأمر زائل عنا لا محالة، وسيضطر إليك هؤلاء القوم - يعني ولد العباس - لأدبك، وإن إعجابهم بك يدعوهم إلى حسن الظن بك، فاستأمن إليهم، وأضطر الغدر بي، فلعلك تنفعني في حياتي أو بعد مماتي؛ فقال له: وكيف لي بأن يعلم الناس جميعا أن هذا عن رأيك، وكلهم يقول: إني غدرت بك، وصرت إلى عدوك؟ وأنشد:
وذنبي ظاهر لا شك فيه ... لمبصره وعذري بالمغيب
وأنشد أيضا:
أسر وفاء ثم أظهر غدرة ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره
ثم قال: أمير المؤمنين، إن الذي أمرتني به أنفع الأمرين إليك، وأقبحهما بي، ولكني اصبر حتى يفتح الله عليك أو أقتل معك. وهكذا تجلت في عبد الحميد فضيلة الوفاء، فآثر أن يقتل مع صاحبه، على أن يتخلى عنه يوم الكريهة والشدة، وتجلت فيه خلة الشجاعة والاعتقاد بالاقتدار؛ فهو الرجل الذي شارك سيده في سعادته وبلائه.
قيل لما زال أمر مروان أتي المنصور بخواص مروان، وفيهم عبد الحميد
Bogga 35