أطلت من نافذة السيارة برأسها، سقط ضوء القمر على وجهها، كان الطريق خاليا إلا من أعمدة النور، منتصبة على جانبي الطريق في وضع رأسي، ومن ناحية اليمين ترتفع الأذرع عاليا، ومن ناحية اليسار رشقت في كل أذن أصبعا.
تعرفت على البقع السوداء فوق الأصبع، فهمست بصوتها الخافت: حميدو! لم يسمع حميدو شيئا، وظل واقفا منتصبا، رأسه مرفوع نحو السماء، وأصبعه الأسود في أذنيه (جميع المسافرين إلى الخارج كانوا يرون في مدخل كل بلد هذا النصب التذكاري للجندي المجهول).
مدت يدها وأمسكت يده، أصابعه كأصابعها والخطوط فوق كفه تشبه خطوطها، أشفقت عليه بحكم المصير المشترك، وحاولت أن تثني ذراعه المرفوعة في إعياء، لكن الذراع الحجرية أبت الانثناء وظلت مرفوعة في الهواء، رفعت عينيها إلى فوق ورأت العينين الواسعتين السوداوين تلمعان بدمعة حقيقية كدمعة الأطفال، سقطت الدمعة على خدها ساخنة، وزحفت من زاوية فمها مرة كالعلقم تحت لسانها، فابتلعتها، سقطت واحدة أخرى ساخنة على خدها، وزحفت إلى زاوية أنفها مرة كالعلقم فابتلعتها، وبدأ الحزن يغزو جسدها من جميع المسام والفتحات، يدخل أنفها وفمها وأذنيها كمسحوق ناعم، مدبب الذرات، كقطع الزجاج المبشور، تمزق الأغشية الرقيقة التي تغلف الأنف والفم والشعب الهوائية، فتسعل بشدة، وينز من صدرها سائل أبيض يجري في قناة طويلة ضيقة تصل القلب بالأنف بالأذنين بالعينين، فإذا بها تمخط لعابا من عينيها، وتبصق دموعها من أنفها وفمها وأذنيها، وكلها بيضاء تخللها شعيرات من دم.
رفعت وجهها إلى ضوء القمر، أصبح بياضه شديدا خاليا من شعيرات الدم، وملامحه غريبة تشد البصر لتناقضها الشديد، فالذقن صغير مستدير وناعم كذقن طفل، والجبهة بارزة خشنة مجعدة كجباه العجائز، الشفتان عذراوان منفرجتان عن حرمان لا يرتوي كشفاه الزوجات العفيفات، والخدان بارزان في شراهة حادة لا تشبع كخدود الأزواج المحترمين، والأنف مستقيم عال في كبرياء، سفيه كسفاهة المجرمين والخارجين على القانون، والأذنان صغيرتان مستكينتان بغير حركة كآذان موظفي الحكومة، والعينان سوداوان واسعتان، فيهما نظرة بدائية وقحة مرفوعة إلى أعلى وثابتة، لا تغض البصر كعيون النساء المحتشمات المطرقات إلى الأرض حياء من أفكارهن الوقحة.
ملامح غريبة شديدة التناقض، والتناقض لشدة الغرابة كان منسجما مع الملامح على نحو متسق مألوف، ويبلغ من شدة انسجامه واتساقه درجة من الجاذبية غير المألوفة، تشد إليها البصر شدا، كأنما ليس لها وجه واحد وإنما وجهان أو ثلاثة أو أربعة، أو أن وجهها ليس وجها وإنما شيء آخر.
شيء آخر مثير للحيرة والارتباك، والقلق بل والغضب، فالإنسان يغضب بطبيعة الحال حين ينظر في وجه إنسان آخر فلا يرى نفسه وإنما عورته، ويشتد غضبه بطبيعة الحال أيضا إذا كانت عورته غير مألوفة في شكلها أو غير طبيعية، والطبيعي أن يكون للعورة شكل مخجل مخل بالشرف، وأن يكون لها رائحة نجاسة (كرائحة العرق أو البول أو غيرها من إفرازات الجسد السامة)، ولكن أن تكون الرائحة طيبة معطرة فهذا هو الغريب، لأن الجسد في تلك الحالة يحتفظ في جوفه بالعرق والسموم، فيصبح الجوف عفنا تفوح منه رائحة النجاسة، أما الوجه فيظل نظيفا أبيض تكسوه ملامح النبل وعراقة الأصل (وغيرهما من السمات الرفيعة التي تظهر بوضوح على وجوه النبلاء أمثال سيدها).
وتحرك وجه سيدها نحوها وهي واقفة في ضوء القمر، ظلت عيناها في عينيه سوداوين واسعتين مفتوحتين لا تغضان البصر، أراد أن يبصق في وجهها من شدة الغضب، لكنه كان قد تعود أن يكظم الغضب، فأصبح الغضب لا يحرك في وجهه إلا عضلة صغيرة عند زاوية أنفه، تتقلص فجأة، وتشد شفتيه في انفراجة، تبدو للعين المجردة كالابتسامة.
لم يكن لديها موعد آخر فصعدت إلى السيارة، مرت السيارة من أمام بيته الرئيسي في الزمالك، رأت سيدتها تطل من النافذة العالية المزركشة، كان رأسها بحجم الدبوس (بسبب الارتفاع الشاهق)، لكنه رآها فأخفى وجهه بيده اليمنى وداس على البنزين بقدمه اليسرى فانطلقت السيارة ولم يره أحد، سار على مهل في شارع النيل واجتاز الكوبري، فأصبح على مشارف حي بولاق، حيث بيته الفرعي (كان لكل زوج محترم في ذلك الوقت بيت فرعي إلى جانب البيت الرئيسي، ويزيد عدد بيوته الفرعية كلما زادت درجته).
وتجرد من ملابسه بسرعة (كعادة المشغولين بأمور هامة)، ثم رفع قدمه ووضعها على طرف السرير، وبقيت القدم الثانية فوق الأرض (كان قد تدرب على الوقوف على ساق واحدة في سنوات الخدمة العامة)، تصادف في هذه اللحظة أن حركت رأسها ناحيته فلم تجد آلة القتل، وإنما الجرح القديم المسدود، كان يمكن أن تتسع عيناها السودوان في دهشة، لكن شيئا لم يكن يدهشها، فحركت رأسها ناحية الحائط بغير اكتراث، رأت فوق الحائط سيدتها بملابسها العسكرية داخل إطار مذهب، وعيناها شاخصتان فوق الكتلة العارية، تتابعان حركتها بنظرة الحكام الوقورة المتجهمة، وتلتقطان الصور من جميع الزوايا (ملحوظة: حفظت هذه الصور في أرشيف المخابرات المركزية).
وأصبح وجهها معروفا، حين تطل من نافذة العربة تلتوي ناحيتها الأعناق حانية الرءوس بطبيعة الحال، وأصبح وجهها فوق الجدران، في ناصية كل شارع، حين كانت تقف تنتظر، وأحيانا حين يطول بها الانتظار ترفع رأسها إلى فوق، وترى صورتها معلقة، شفتاها منفرجتان في ابتسامة عريضة، ومن بينهما (عند ركن الفم) خيط طويل أبيض من اللعاب الدافئ يجري صاعدا إلى زاوية الأنف ثم يدخل في الركن بين الأنف والعين.
Bog aan la aqoon