رأى حميدة تجري وسط الأطفال، وتختفي وراء كوم السباخ، جلست القرفصاء حتى لا يظهر رأسها من خلف الكوم، فظهر فخذاها البيضاوان يتوسطهما شريط رفيع من الدمور الأسمر هو سروالها، خبأت رأسها الصغير بشعرها الأسود الناعم في التراب حتى لا يراها أحد، لكن حميدو كان يراها، وكان هو «المساكة» هذه المرة، فانطلق يجري نحوها مثيرا بقدميه الحافيتين زوبعة من التراب.
ثبت عينيه على كوم السباخ، متظاهرا بأنه لا يراها، وسار على أطراف أصابعه بخطوات بطيئة حذرة، واستدار ليختفي وراء الكوم، ثم وثب وثبة واحدة كالفهد، وأمسكها من شعرها بيده اليمنى، أما يده اليسرى فقد امتدت بسرعة البرق واستقرت فوق فخذها، وراحت أصابعها الصغيرة الصلبة تشد سروالها، لكن حميدة رفسته بقدمها، ونطحته برأسها، كما تفعل في كل مرة حين يمسكها المساكة، واستطاعت أن تتخلص من قبضته وجرت لتختبئ وراء كوم آخر.
لم تكن حميدة وحدها تلعب المساكة، كل البنات والأولاد يلعبونها، وحين تجري البنات ليختبئن ويجلسن القرفصاء تتعرى أفخاذهن الصغيرة البيضاء، وتظهر سراويلهن الرخيصة القذرة كالشريط الرفيع الأسود بين الفخذين، يحاول المساكة أن يمسكه ويشده إلى أسفل، لكن البنت تعرف كيف ترفسه بقدمها، أو بقدميها الاثنتين، وهو أيضا لا يستسلم، وإنما يقاومها بقدمه أيضا، أو بقدميه الاثنتين، معركة صغيرة غير مرئية؛ فكوم السباخ يخبئ جسديهما الصغيرين، لكن الأقدام الأربع تطل من وراء الكوم، صغيرة وناعمة لا تعرف قدم البنت من قدم الولد؛ لأن الأقدام في سن الطفولة كالوجوه، لا جنس لها، خاصة إذا كانت أقداما حافية، فالحذاء وحده هو الذي يحدد الجنس.
انكفأ على ظهره حين رفسته بقدمها، لكنه نهض بسرعة، وكانت هي أيضا قد نهضت، ورأى وجهها، لم تكن حميدة، تلفت حوله، في وجوه البنات والأولاد، جرى إلى البيت يبحث عنها في الزريبة، أو في فتحة الفرن، أو خلف زير الماء، أو تحت الحصيرة، خرج من البيت جريا يبحث عنها وراء أكوام السباخ، خلف جذع الشجرة، فوق النخلة، في بطن جسر الترعة، أدبر النهار وهبط الليل ولم يعثر لها على الأثر.
وقف في الظلام على جسر الترعة، ظله الوحيد منعكس على صفحة المياه الراكدة العكرة. ظل طفل لا يزال طفلا، لكن وجهه لم يعد كوجوه الأطفال الناعمة الملساء لا تعرف الذكر فيها من الأنثى، لو كانت صفحة المياه نقية كالماء العذب ربما أصبحت مرآة صافية وانعكس وجهه على صفحتها بطريقة أفضل، لكن الترعة كانت كجميع الترع، يختلط طينها بمائها، ويتعرج سطحها البطيء الحركة بثبات وتجاعيد كبشرة الوجه العجوز الموغل في الزمن.
أما عيناه فقد أصبحتا أيضا واسعتين، عجوزين، شاخصتين في الظلام، ثابتتين، الجفنان لا يتحركان، والرموش تجمدت، ودمعة كبيرة تجمدت فوق السطح.
لأول مرة تتجمد الدمعة فوق السطح، وكانت من قبل كدموع الأطفال لا تكف عن الحركة المستمرة إلى حد الرعشة كرعشة النجم المتلألئ، ويخلط المرء في الطفولة بين لمعة الدموع ولمعة الابتسام.
لكن أحدا لم يكن يخطئ في تلك اللحظة. إنه حميدو الآن الواقف بجسده على جسر الترعة. إنه ليس طفلا، وهذه الدمعة الكبيرة ليست دمعة طفل، وإنما هي دمعة حقيقية، لها ملمس مادي فوق الوجه، ولها طعم الملح في الفم.
ملح حقيقي، فالدموع ككل سوائل الجسم تحتوي على الملح، وحميدو لا يعرف كيف يعيش بغير حميدة؛ فهي ليست أختا عادية، ولكنها توأمه، والتوائم نوعان؛ نوع ينشأ عن الجنينين يعيشان في رحم واحدة، ونوع آخر ينشأ ذكر وأنثى داخل جنين واحد.
وكان حميدو وحميدة جنينا واحدا، ينمو داخل رحم واحدة، منذ البداية كانا شيئا واحدا، أو خلية واحدة، ثم أصبح كل شيء ينقسم اثنين، والملامح انقسمت اثنين، أدق الملامح انقسمت اثنين، حتى العضلة الضئيلة الصغيرة تحت كل عين انقسمت، ولم يعد ممكنا لأحد أن يعرف حميدو من حميدة، حتى أمهما كانت تخلط بينهما.
Bog aan la aqoon