وسلك سبيله في طريق وعر محفوف بالأشجار الباسقة إلى مأوى صديقه الراعي الشيخ الأمين، فوجده جالسا وحده في مدخل الحظيرة الشاسعة القائمة وسط المرج المعشوشب النضير.
ولقد سورها يومايوس - إذ سيده غائب في أقصى الأرض - بسور عظيم ضخم من حجارة قوية نحتها من محجر قريب، وجعل على السور فروعا من قتاد وشوك، وجذوعا من سنديان، حتى صارت أمنع من عقاب الجو ... كل ذلك دون أن يساعده أحد، ثم قسمها اثني عشر زربا،
1
جعل في كل منها خمسين خنزيرة كنازا، أما ذكران الخنازير فقد تركها سائبة في الخارج ليرسل منها إلى العشاق المعاميد ما يأكلون منه وما يريغون، وقد بقى منها بعد تلك الأعوام الطوال ستون وثلاثمائة، وربضت لدى الباب كلاب أربعة كسباع البرية تلحظ الحظيرة بأعين كالجمر، وجلس الراعي يعمل لنفسه نعالا من جلد ثور مدبوغ، بينما انطلق خدمه ومعاونوه الأربعة يعملون ويدأبون هنا وهناك، وكان رابعهم على وشك أن يترك الحظائر إلى المدينة، حاملا لحم خنزير حنيذ يذهب به برغمه إلى العشاق الفساق، ولمحت الكلاب أوديسيوس فأهرعت إليه، وظلت تعوى وتنبح، وترغي وتزبد، وأوشكت أن تفتك به، لولا أن هب يومايوس فكسر شرتها بما رماها به من الحجارة، ولولا أن ترك أوديسيوس عكازه يسقط من يده؛ لأن الكلاب لا يغيظها إلا أن يمسك لها أحد عكازا ... قال الراعي: «أيها اللاجئ العجوز، سلمت، خطوة واحدة وكانت هذه الكلاب قد مزقتك إربا، وكانت قد لحقت بي سبة لا تبيد! ألا كم ترسل علي الآلهة من كروب! وكم ترميني به من آلام! أنا هذا العجوز الهالك الذي أمضني الحزن وشفني الأسى من أجل سيدي ومولاي، ها أنا ذا أسمن قطعانه وأرعاها لينعم بها غيره، بينما هو نازح غريب يجوب الآفاق ويشتهي كسرة يتبلغ بها إن كان لا يزال حيا يرزق، أوه تعال أيها الصديق! هلم فاتبعني إلى داري أطعمك ما تيسر، وأسقك كفايتك من الخمر، وتخبرني بعدها من أنت؟ ومن أين أقبلت؟ وماذا وراءك؟» وانطلقا وقدم إليه الراعي الكريم حشيته التي كان يجلس عليها، والتي اتخذها من جلد عنز حشاه بالقش، فشكره أوديسيوس، ودعا له بما يحب وبكل ما تصبو إليه نفسه، فقال الراعي يجيبه: «أيها الصديق، ليس أمقت إلي من أن أذود لاجئا إلى داري، وإن يكن أرث منك حالا؛ لأن أبناء السبيل جميعا هم ضيوف زيوس رب الأرباب، وأنا مع ذاك أعتذر إليك إذا لحظت أن زادي قليل، وأن حالي رقيقة، فلقد مضى زمن العز والعيش الواسع المخفرج، وأصبحنا نعاني القل والفاقة، والعيش النكد تحت إمرة هؤلاء الرؤساء الأصاغر، آه يا مولاي يا زين الحياة ومؤدب الناس أين أنت وأين أيامك وخيرك الوفر؟ ليتها دامت، وليتك ظللت فعشنا في كنفك، وليت هيلين وكل من في بيت هيلين فداؤك، هيلين التي قتلت سادات هيلاس
2
ممن أبحروا مع أجاممنون؛ لينيلوه النصر في ميدان طروادة.» ثم لملم دثاره وذهب إلى الزرب الأول فجاء بخنزيرتين سمينتين، فذبحهما وسلخ جلديهما وجعلهما إربا إربا، ثم أشعل نارا عظيمة فسوى على جمرها السفافيد المثقلة باللحم، وجاء بالشواء فوضعه أمام أوديسيوس، ثم نثر عليه من الدقيق، وأحضر زق الخمر وجلس قبالته وقال: «هلم يا ضيفي العزيز فكل وارو، لا تؤاخذني إذا رأيت الشواء لا سمينا ولا حنيذا؛ فكل سمين حنيذ يذبح أولا فأولا، ويرسل إلى العشاق السفلة الذين لا يرعون في الآلهة إلا ولا ذمة، ولا يخافون سماء ولا بشرا! بالله من هؤلاء الفجرة! ألا يلمون شعثهم ويغيرون بخيلهم ورجلهم على بلد قاص فيثوبوا بأسلاب الغزو وسخط الآلهة؟ أم تراهم أوحي إليهم بموت مولاهم فهم هنا قائمون ما يريمون، ولزاده آكلون ومن خمره شاربون حتى فرغت الجرار وخوت الدار، وضؤل الزرع وجف الضرع! أبدا ما ملك أحد مثل ما ملك مولاي، لقد كانت ثروته تعدل ما يملك عشرة أو عشرون أميرا، ولا أزال أذكر مما ملكت يداه اثني عشر قطيعا من الأنعام كانت ترعى العشب في مروج الشاطئ
3
المقابل، وكثيرا من قطعان الأغنام وأرعال
4
الخنازير وأسراب الماعز، عليها أجزاء وخدم ورعاة لا يحصون، ورجال مخلصون يزرعون في حقوله الشاسعة ويحصدون، ورجال يجلبون من قطعانه كل كناز للذبح ... أما أنا، فقد عهد إلي بهذه الأرعال التي ترى، أطعمها وأعنى بها، وا أسفاه! وأرسل إلى العشاق كل يوم بخيارها.»
Bog aan la aqoon