السيرينات المغنيات. (2)
سكيللا الهولة. «والآن» وقد احتملنا العباب ذو الثبج، وذرعنا اليم المترامي، وعتمنا نضرب في موج كالجبال، فقد وصلنا بعد لأي إلى جزيرة أيايا المرجانية حيث ترتع أورورا ابنة الفجر الودية وتلعب، وحيث مطلع الشمس وراء البحر المضطرب، وألقينا مراسينا، وتلبثنا فوق رمال الشاطئ نرقب انبلاج الفجر، حتى إذا لاحت تباشيره أرسلت طائفة من رجالي إلى قصر سيرس فأحضروا جثمان ألينور «الذي خرج من السطح فدق عنقه»، ثم إننا بكيناه أحر البكاء، وجمعنا له من الحطب والخشب ما وسعنا، وطرحناه وسط الكومة التي صنعناها من هذا الوقود، وطرحنا معه سلاحه، وأقمنا إلى جانبه مجدافه العظيم، ثم أدينا له الشعائر الجنائزية التي أرويناها بأذى دموعنا، وأشعلنا النيران بعد أن أقمنا نصبا جليلا تحية وذكرى ولم تعلم بعودتنا سيرس، بيد أنها مع ذاك أقبلت في ربرب من وصيفاتها الحسان الأتراب يتهادين نحونا ، حاملات دنانا من أكرم الخمر، ووقفت بيننا العروس الهيفاء ثم قالت: «ويحكم أيها الأشقياء، كيف حلا لكم أن تموتوا مرتين بينما يموت جميع الناس مرة واحدة؟ ولكن تعالوا هلموا إلى طعامكم، وتحسوا من هذه الخمر لتقضوا يومكم فوق رمال الشاطئ في شراب وآكال؛ فإنكم ضاربون في ظلمات ذاك البحر فجر غد، وإني منبئتكم عما يروعكم في طريقكم عسى ألا تضل بكم، ويا ما أكثر ما تتجشمون من أهوال في البر والبحر!» ولبينا دعوة الربة المضياف، فأقبلنا على طعام شهي وشراب روي طيلة يومنا، حتى إذا توارت ذكاء بالحجاب، وشملنا ظلام الليل، تطرح رجالي فوق الرمال النائمة، ثم انتحيت أنا وسيرس ناحية، وجلست قبالتها وراحت هي تحدثني وتقول: «أما وقد أوشكت متاعبك أن تنتهي فأصغ إلي، افقه إلى ما أقوله لك وتدبره؛ فهو يوحى إليك من السماء ينفعك إذا جد بك الجد، وأزفت حولك الآزفة؛ ستصل أول ما تصل في رحلتك عبر هذا البحر إلى جزيرة السيرينات الشاديات اللائي يسحرن بغنائهن القلوب، ويخلبن بجرسهن الألباب، ويطبين
1
كل من أوصله سوء حظه إلى جزيرتهن بحلو تطريبهن وجميل شدوهن حتى ليلصق بأرضهن وينسى آله وأوطانه، ولا يخطر في باله أن يعود إلى بلاده ليهنأ بلقاء زوجه الحبيبة وأولاده الأعزاء، بل يجمد مكانه من الشاطئ حيث يكون بمسمع من السيرينات، وتكون عن يمينه وعن شماله رفات الضحايا الكثيرين الذين عرجوا من قبل ليشنفوا آذانهم بغناء أولئك العذارى فجمدوا مثله، وذهلوا عن أنفسهم حتى ذووا وذبلوا وضووا وحاق بهم الفناء، بينما تخطر السيرينات بين شجر البرواق متهاديات فوق السندس الحلو الجميل، فأوصيك أن تفرغ في آذان رجالك من سائل الشمع قبيل أن تبلغ أرضهن، فإنهم بذلك لا يسمعون شدوهن ولا يسحرون بغنائهن، أما أنت فلك أن تنصت إلى ذاك الغناء إن شئت، بيد أنه ينبغي أن يشد رجالك وثاقك في قلع سفينتك شدا قويا محكما، فيربطوا ذراعيك وساقيك بأمراس وأحبال، حتى لا يسبيك ما يشنف أذنيك من غناء وشدو فلا ترضى إلا أن تثوي بأرض السيرينات، فإذا اشتد بك الوجد من سحر ما تسمع، وطلبت إلى رجالك أن يخلوا عنك لزم أن يزيدوا في رباطك ويحكموا وثاقك أضعاف ما فعلوا بك من قبل، فإذا جزتم تلك الجزيرة وغابت مناظرها عن أبصاركم، فلرجالك أن يطلقوا سراحك؛ على أنني لا أدري أي السبل ينبغي أن تسلكوا بعد هذا؛ فهناك طريقان أحلاهما مر، وأيسرهما عناء وضر، وإني واصفة لك كليهما، وأدع لذكائك أن يختار لك؛ إنكم بالغون في سبيلكم إلى صخور هائلة ناتئة في البحر، تتكسر فوقها أواذيه، وترتطم بجلاميدها أمواجه، وتدافعه على أحيادها أمفتريت «زوجة نبتيون» الجبار، وقد أطلق الآلهة على هذه الصخور اسم «أبراتيك» وهي قلال موحشة لا يستطيع مخلوق أن يقترب منها، ولا يجسر الطير أن يهبط فيها، بل طير أبينا جوف نفسه الذي يحمل إليه غذاءه الإلهي المقدس لم يجازف مرة فحط فيها يستجم من سفر؛ لما يعلم من أنها مهلكة زلقة، ولم ترس عندها سفينة قط إلا ارتطمت فوق نتوئها وهوت إلى القاع بما حملت، أو ابتلعتها العواصف الهوج فغابت حيث لا يدري أحد ولا يعرف أحد سفينة جازت مهالك هذه الصخور إلا السفينة «آرجو» التي حاطتها جونو
2
برعايتها؛ رحمة بجاسون وحنانا من لدن سيدة الأولمب، حين أقلعت من جزيرة إيايا، وقوام تلك الصخور هضبتان شامختان شاهقتان، تمثل إحداهما صنما هولة ضخما يضرب في السماء بروقية وتتراكم فوقه منذ الأزل ثقال السحاب التي لا يذيبها خريف ولا صيف؛ لأن الشمس لم تنشر عليها أشعتها قط، ولو أن أحدا من العالمين له عشرون يدا وعشرون رجلا ما استطاع أن يرقى عليها أبدا؛ لأنها ملساء ناعمة كأنما صقلتها يدا مثال صناع، وإن في سنده الغربي لكهفا سحيقا نقر ثمة باسم «أربوس»،
3
وإني لأحذرك أن تقترب منه حين تجوز به يا أوديسيوس، بل كن بنجوة منه بعيدا بقدر ما تستطيع، أو على الأقل على مرمى سهم مراش من سفينتك إلى وصيده؛ ذاك لأنه مأوى سكيللا المخيفة التي تدوي بصوتها وعوائها، ويفرق الناس والآلهة من وجهها المكلثم القبيح، وحسبك أن تعلم أن لها اثنتي عشرة قدما كلها أمامية، وأن لها ستة أعناق طوال ينتهي كل منها برأس كبير فظيع، سلح بثلاثة صفوف من أنياب حداد أصلها ثابت وحشوها سم زعاف، وهي تربض في غور كهفها السحيق، بينما رءوسها بارزة من فوهة الكهف تبحث في الماء عن الدلافن وكلاب البحر ودواب الماء وجميع حيوان مملكة أمفتريت، وليس يجسر بحار أن يفخر بأنه نجا مرة من شرها؛ فهي تنقض كالصاعقة على السفينة العابرة، وتلتقم بأفواهها الستة الجائعة ستة من بحارتها مرة واحدة تقضمهم قضما، وتلقاء هذه الهضبة هضبة أخرى على مرمى سهم أوديسيوس، وقد نمت فوقها تينة برية كبيرة ذات أفنان وعساليج حانيات فوق الماء، وتحتها عين خاربديس الحمئة التي يغتص فيها ماء البحر كله، ثم تعود فتمجه ثلاث مرات في اليوم، ويك أوديسيوس خذوا حذركم، فوالله إنكم إن دنوتم منها فإنها تبتلعكم، ولا يستطيع نبتيون نفسه بعد ذلك أن ينجيكم، وإني أرى أن تدنو من الصخرة الأولى فتلتقم سكيللا ستة منكم؛ فهو خير لكم من أن تغرقوا جميعا.» وسكتت سيرس، وقلت أسائلها: «بحق الآلهة عليك يا ربة أن تخبري، أما أستطيع أن أنقذ رجالي المساكين من سكيللا إذا نجونا من خاربديس؟» فقالت تجيبني: «أيها التعس، أما تفتأ تحن إلى مجازفات الحرب وخوض غمار الوغي؟ إنه لا سلطان للآلهة نفسها على سكيللا، وهي ليست مخلوقا مما يجوز عليه الفناء، بل هي غول سرمدي شديد المراس، شكس شديد الشراسة، لا يغالب أحدا إلا غلبه، فأطلق سفينتك للريح، ولذ منها بالفرار، وإياك أن تفكر في التسلح لها، فهي لا بد ملتقمة ستة من رجالكم، وإذا حاولت مدافعتها فإنك منهم، فإذا بعدت فاضرع إلى كرافيس، أم هذه الهولة التي هي إلى الأبد طاعون للبشر، أن ترد كيد ابنتها عنكم فلا تتبعكم في سبيلكم ولا تلتقم منكم أكثر مما فعلت، وإنكم بالغون «تريناشيا» بعد هذا حيث ترعى الربتان الحسناوان، لمبتيا وفيتوزا ابنتا هيريون من عروس الماء نيرا، قطعان أبيها السبعة التي يشمل كل منها خمسين شاة ذوات صوف ناصع كالثلج، وكل هذه الشاء ترعى ثمة باسم رب الشمس العظيم، فإذا كنتم حقا تتشوفون لبلادكم، وتتحرقون شوقا إليها فاحذروا أن تصيبوا تلك القطعان بسوء، فإنكم إن فعلتم غرقت بكم سفينتكم وذهب رجالك أباديد، أما أنت فتنجو بعد لأي وبعد نضال وأهوال، فتصل إلى بلادك ملوما محسورا.»
هؤلاء الجبابرة ينشلون القتلى بحرابهم.
وتنفس الصبح الندى الرخي فذهبت تتبختر وتجرر أذيالها إلى قصرها المنيف، وذهبت أنا إلى الشاطئ فأيقظت رجالي، وأمرتهم فجروا السفينة حتى استوت في الماء ورفعت مراسيها، ثم جلس كل إلى مقعده، وأعملوا أيديهم في مجاديفهم فتدافعت الفلك في البحر، وما هي إلا لحظة حتى أرسلت سيرس - الربة المقدسة - نسيما رخاء كان خير رفيق لنا، إذ كفانا عناء التجديف، فتطرحنا في المركب، واشتدت الريح في غير عصف فأسرعت بنا دراكا، ثم كلمت رجالي وفي قلبي وجيب فقلت: «أيها الأصدقاء، تعالوا أحدثكم عما تنبأت به سيرس لنا في رحلتنا هذه، فإنه سيان إن أفلتنا من العذاب أو تردينا فيه، بل أردت أن أطلعكم على ما خبأته المقادير لنا؛ لتأخذوا حذركم وتبرموا أمركم، ويكون كل على نفسه وكيلا، لقد حذرتني أن يستمع أحدكم إلى غناء السيرينات الشاديات وحلو تطريبهن، وأجازت لي وحدي أن أصغي إليهن، بيد أنها أوصتني أن أخبركم أن تشدوا وثاقي بأمتن الأمراس في سارية السفينة فلا تطلقوا سراحي حتى نبعد عن جزيرتهن، وكلما رجوتكم أن تخلوا عني شددتم وثاقي أكثر فأكثر، هذا إن أردتم أن نكون بنجوة من الهلك في تلك الأرض الملعونة.» وهكذا نبهت غافلهم بتحذيري، ثم إننا انطلقنا في اليم، وأخذنا نقترب من جزيرة السيرينات، وعرفت ذلك لما هدأت الريح فجأة ونام الموج وخفتت أنفاس الطبيعة، وشمل الركود كل شيء حولنا، كأنما مسحت يد مقدسة علوية كل هذا الوجود الرحب، ونشط الملاحون إلى مجاديفهم، فالتمع تحتها بساط الماء، ثم نشطت أنا إلى قدر من الشمع فعالجته بسكين، ثم قومته براحتي، وتركته كي يلين قليلا في أشعة الشمس، ثم جعلت منه في آذان رجالي واحدا فواحدا، واستسلمت لهم بعد هذا فشدوا وثاقي في شراع السفينة شدا محكما، وجلس كل إلى مجدافه، وانسربت الفلك في الماء تشقه وتجرجر فيه ... وصرنا على مدى ما بلغ الصوت من الجزيرة إلى آذاننا فأصغيت وأصغيت، وإذا السيرينات الشاديات يتغنين هكذا:
Bog aan la aqoon