وكان إلى جانبه قرص القذف الذي يستعمله أبطال الفياشيين في مبارياتهم، فانقض عليه واحتمله بيده القوية المفتولة، ثم دفعه دفعة هائلة كان لها هزيم وقصف، واستهولها بحارة الفياشيين الشجعان فخفضوا رءوسهم حتى استقرت بعيدا خلفهم، وهنا بدت مينرفا بين الملأ في صورة أحدهم، وهبت عجلى تقيس مدى القذفة، ثم قالت: «ألا أيهذا الغريب الأعمى نفسه لا ينكر برهانك الدامغ القوي، إنه مدى لا يستطيعه أحد غيرك، فته على هؤلاء الفياشيين، إن منهم من لا يستطيع أن يباريك في أي من هذه الألعاب فادعهم إليك وما عليك من بأس.» وشاعت الكبرياء في نفس أوديسيوس حين سمع هذا الهاتف من صميم الفياشيين يطريه ويثني عليه وينصب من نفسه قاضيا له، فقال وقد انكسرت حدة غضبه: «هلموا أيها الشباب فاقذفوا هذه القذفة أبعد منها وبقرص أكبر وزنا، هلموا ليأت أقوى ملاكميكم فإني له، وليقف أضرى مصاريعكم فأنا أخوه، وليجر معي أسرع عدائيكم فلن يلحق غباري، لقد هجتم ثائري فهلموا! إني أتحداكم جميعا، إلا لوداماس؛ فإنه مضيفي وصاحب قراي، وليس بي أن أنازل من أكرم مثواي في دار غربتي، وليس من النزق ما يحملني على شيء من ذلك. أما غيره فأنا له، وسيعلم منازلي مهما يكن مبلغ قواي؛ إنه ليس من ألعاب الناس ما يعجزني، فأنا رب القوس، وطالما صرعت الألوف من الأعداء تحت أسوار طروادة، وأبدا ما رمى أحد سهما كما رميت إلا فيلوكتيبتيس يوم حاز قصب سبقها دوني، على أنه من؟ إنني لم أبلغ من الحول بعض ما بلغ هرقل أو يوريتوس الذي نفس عليه، فإني أبلغ به المدى الذي لا تبلغه سهامكم، على أنني لا أطمع أن أبلغ خفتكم ورشاقة حركاتهم، فلقد قاسيت من الأرزاء ما قصم ظهري، وصارعت موج هذا الخضم حتى حطمني وأوهاني، ولقيت من الطوى ما براني.»
وخطرت أورورا فوق عرش المشرق وأرسلت من لدنها أمينا من الرسل يداعب جفني نوزيكا.
وصمت الفياشيون ولم ينبسوا، ثم تكلم الملك فقال: «عمرك الآلهة أيهذا النازح الكريم! لقد جلجلت في آذاننا كلماتك، فدلت على شجاعة وعنفوان، وأفحمت هذا الشاب الذي جرح عزتك وأهان كبرياءك أمام الجميع، ثم سكت عن تحديك، ولكن تعال فانظر إلى ما نريك من ضروب الخفة وفنون الرقص وفتون الغناء والسبق في العدو، ومهارتنا حين نسوس الفلك فوق أعراف الموج ورغاء الثبج، كيما تتحدث بهذا كله إلى أقرانك وبين ظهراني قومك وتحكيه لأطفالك، عمرك الله أيها الغريب المكرم! إنه لا فخر لنا في ميدان اللكم والمصارعة، بل غاية المتاع عندنا ثوب موشى وطعام ملون وقيثارة مرنة ورقصة خاطفة وحمام دافئ وفراش وثير، والآن هلموا أيها الفياشيون فالهوا أمام ضيفكم والعبوا، وأروه من رقصكم وشنفوا أذنيه بغنائكم، فلسوف يتحدث بكل ذلك في الآفاق، وحسبكم أن يذكر عنكم أنكم أمهر من ركب البحار، هلموا، ليحضر أحدكم دمودوكوس الإلهي يعزف على قيثاره ويلاعب قلوبنا بغنائه، ابحثوا عنه في بعض ردهات القصر.»
وانطلق منادي الملك يبحث عن المطرب الإلهي، وانطلق آخر يعد قيثاره، ثم نهض تسعة فياصل يمهدون أرض الملعب ويهيئون الحلقة ويزحزحون الجماهير، وأقبل المنادي والطرب يسعى بين يديه، وجلس في وسط الحلقة حيث أحدق به الولدان اليوافع اليوانع يميسون ويرقصون بسيقان تخطف كمثل خطيف البرق، بين دهشتي أوديسيوس وشدة تعجبه والمطرب فيما بين ذلك يوقع لهم النعم الحلو والموسيقى العالية، وفرغوا من رقصهم فشرع يتغنى أسطورة مارس ومعشوقته الآثمة سيتريا؛
4
إذ أغواها رب الحروب المستهتر بمعسول الكلام ومطلول الغرام، فلانت له، وكان أبوللو - إله الشمس - يرقبهما من مركبته الذهبية في علياء السماء، فطار بالفضيحة المشئومة إلى الزوج التعس، فلكان الذي استطير وثار ثائره، فراح يصنع أنشوطة كبيرة كالشرك من حلق الحديد المفرغ الذي لا يقوى عليه أحد، حتى إذا فرغ منها حملها إلى داره ودسها حول سريره، ثم ألم بالمنعرج النجس حيث أوى مارس إلى فينوس - الزوجة الآثمة، وكان مارس يغالب في عينيه أخريات غفوة الضحى، فلمح فلكان يطوي الرحب إلى أرض لمنوس أحب المدائن إلى قلب الإله الحداد، وطرب مارس أيما طرب، وأيقظ معشوقته قائلا: «هلمي فينوس، انهضي أيتها الحبيبة، لقد ذهب زوجك إلى لمنوس أرض البرابرة. هلمي إلى البيت إلى السرير الدفيء، إلى الحب، إلى نعيم الهوى.» وهبت فينوس، وانطلق الأثيمان إلى سرير فلكان، وفي قلب مارس غلة وملء جوانحه غواية وإثم، وفي دمه شبق إلى هذه الفاكهة يكاد يقتله، ولكن، وا أسفاه! إنهما ما كادا ينطرحان فوق الفراش الوثير حتى انطرحت فوقها الأنشوطة الهائلة، وأمسكت بهما إمساكا شديدا، لم يجدا منه حولا، ولم يجدا منه مخلصا، وكان أبوللو يرقبهما كذلك، وقد حدث فلكان بما رأى، فعاد الإله الحداد على عجل، ولم يكن قد بلغ شطآن لمنوس بعد، وكان قلبه يدق. لا، بل كان قلبه يكاد ينخلع فوقف في البهو الكبير، ثم أرسل صيحة مدوية يستصرخ بها الآلهة: «يا جوف العظيم! يا آلهة الخلود جميعا، انظروا، اشهدوا كيف تفضح فينوس زوجها مع عشيقها الفاجر مارس ولمه؟ لأنه وسيم قسيم قوي؛ ولأنني محطم موهون! ذنب من؟ إنها جريرة من أنسلوني وجاءوا بي إلى الحياة، انظروا كيف يتمرغ الأخبثان الأفسقان فوق فراشي، لقد تثلجت مشاعرهما فهما لا يباليان أن يأكلني الغيظ أو يقتلني الحنق، ولكن لا! حسبهما هذا الشرك الذي لن يفلتهما حتى يرى جوف فيهما رأيه؛ جوف الكبير المتعال، والد فينوس الذي أطلب إليه أن يرد إلى قناطير الهدايا الزوجية التي قدمتها باسم ابنته العاهرة كشروط لإطلاق سراحها.»
ولم يكد يفرغ من صرخته حتى اجتمع في بيت جوف ذي الأرض النحاسية جميع الآلهة، وكان أول من أقبل نبتيون رب البحار، ثم تلاه هرمز رسول الآلهة وصاحب القوس، ثم أبوللو، ثم غيرهم وغيرهم، ولم يحضر من ربات الأولمب واحدة؛ فقد احتجزهن الخجل عن شهود هذه الفضيحة، ثم ها هم الآلهة يقهقهون ويضحكون، ويتلهون بهذا المنظر العجيب، ويقول بعضهم لبعض: «يا للإثم ساق إلى أوخم العواقب، ويا للأعرج الأكسح يشائي
5
السباق المجلى، لقد استطاع فلكان أن يمسك بتلابيب مارس الذي هو من هو؛ مارس، أسرع العدائيين، إن عليه أن يؤدي الغرامة الفادحة للإله الأعرج.» ثم خاطب أبوللو - رب الشعاع الوضاء - هرمز فقال: «أيا ابن جوف، يا رسول السماء، ألك في هذه الغفوة الحلوة في حضن فينوس على أن تقع معها في هذا الشرك؟» وأجابه هرمز عابسا: «يا رب الرماة، بنفسي بنفسي، من ذا الذي يأبى حضن فينوس في شرك هو ثلاثة أضعاف هذا الشرك على أن يرمقه سكان الأرض والسماء؟» وتضاحك سكان السماء، ولكن نبتيون الذي ساءته هذه الحال خاطب فلكان فقال: «هلم فلكان ففك هذه السلاسل والأغلال، وإني زعيم لك كفيل أنه مؤد إليك كل ما تفرض عليه من غرم.» ورفض فلكان أن يطلق فريسته؛ «لأنه من يضمن ألا ينطلق مارس وهو لا يلوي على شيء غير عابئ بكل ما عساه أن يعد؟» وقال رب البحار: «ليطمئن قلبك يا فلكان؛ فوعزتي وجلالي لئن لم يف مارس لأنجزن أنا ولأؤدين عنه غرامته.» فأجاب رب الحديد الصناع: «إذن فلن يخيب رجاؤك ولن يرد طلبك.» وتقدم ففك الأغلال عن العاشقين الفاسقين، وانطلق مارس إلى مأواه بأرض تراقيه، وانطلقت فينوس إلى مرتعها الجميل بأرض بافيا، حيث تلقاها ربرب من أترابها بالبشر والترحاب، فغسلنها وضمخنها بالطيوب القدسية، وأسبلن عليها شفوف الصبا وأردية الشباب. •••
وفرغ دمودوكوس من إنشاده بين تأثر أوديسيوس وتلهف البحارة الفياشيين، ثم أومأ الملك إلى أبنائه، فوثبوا وسط الساحة، وأخذوا يرقصون في خفة، ويتقاذفون كرة غالية من صنع بوليب، فكان أحدهم يرسلها عالية حتى تدنو من السحب فيثب الآخر فيلتقطها وهو معلق في الهواء، ثم يتقاذفها أحدهم بعد الآخر بين تهليل الفتيان وتصفيقهم الشديد، وسر أوديسيوس مما أبداه أبناء الملك في الرقص، وأثنى عليهم لأبيهم، ورجاه في الذي رجاه فيه من تهيئة عدوته، فتوجه الملك إلى زعماء شعبه وقال: «يا زعماء الفياشيين وأشياخ الأمة، حري بنا أن نكرم مثوى هذا الضيف الذي بدا لكم من وقاره وحكمته، وأثير أرومته الشيء الكثير، هلموا إذن، إنكم اثنا عشر زعيما وأنا الثالث عشر، فليحضر كل منكم بدرة من الذهب وصدارا مفوفا فتكون من الجميع هدية سنية له. أما يوريالوس فعليه هدية كذلك، وعليه أن يعتذر مما فاه به.» ووافق الكل على ما اقترح الملك، وأرسلوا رسلهم يحضرون البدر والصدر، ثم نهض يوريالوس يعتذر ويقدم لأوديسيوس سيفا جرازا له مقبض من فضة وقراب مطعم بالعاج، ودعا له أن تكلأه الآلهة بعين الرعاية حتى يرى زوجه وولده وبلاده بعد كل الذي احتمل من عناء ونصب، وتقبل أوديسيوس الهدية ودعا لصاحبه بحياة الأمن والسلم والرفاهية، ثم علق الجراز فوق كاهله الضخم.
Bog aan la aqoon