Dhaqanka Classic: Hordhac Gaaban
التراث الكلاسيكي: مقدمة قصيرة جدا
Noocyada
في تلك الصورة الإيطالية لأركاديا، أوجد فرجيل «مكانا آخر» خاصا، يمكن فيه للخيال أن يفر من الزمن الدنيوي وأن ينسجم مع مشهد الغناء الأصلي. لقد صار هذا مكانا يستطيع العقل فيه أن يهيم، وقد عاد إليه الشعراء والموسيقيون منذ ذلك الوقت، معيدين تخيل هذا المجتمع الذي يعني فيه الغناء أكثر من المكانة والممتلكات. لكن في الوقت عينه، صور فرجيل هذا العالم الشاعري الرعوي بوصفه مجتمعا مهددا بالفعل من جانب التبعات الكارثية للصراع على السلطة في المجتمع «الحقيقي»؛ فالمدينة وحروبها تلقيان ظلالا كثيفة على حياة وأغنيات هؤلاء الرعاة والمزارعين. يواجه بعض هؤلاء الطرد والنفي التعسفي، فيما يكافأ آخرون، على نحو عشوائي تماما، أو يعفى عنهم. وفي كلتا الحالتين تكون تلك نتائج القرارات المفروضة من روما، بيد أنها تتجاوز كثيرا فهم المغنين الأركاديين. تتضمن رؤية فرجيل كلا من براءة الغناء والاعتداء المهدد لقوات ضخمة عازمة على تدمير طبيعة أركاديا الرقيقة الهشة. يمنحنا الشاعر لويس ماكنيس شيئا من هذه النكهة المرة/الحلوة حين يبدأ قصيدته «مختارات لعيد الميلاد» ببيت يقول فيه: «أقابلك في زمن شرير»، ثم يأتي الرد مباشرة: «الأجراس الشريرة؛ أخرجت من رءوسنا، كما أرى، التفكير في أي شيء آخر.»
الجنس والإحساس
يعد بان ورحلات صيده «الأركادية» أيضا موضوع قصيدة غنائية شهيرة كتبها صديق فرجيل، هوراس، لكن الأسطورة تحمل نكهة مختلفة للغاية في هذا القالب الغنائي. تخاطب القصيدة تيندريس، واحدة من سلسلة النساء اللاتي يثرن الرغبة لدى الشاعر. يخبرها الشاعر الراغب في إغوائها أن بان (هنا يحمل اسمه الروماني فاونوس) يثب من جبال أركاديا مباشرة كي يحمي مزرعته الرعوية في التلال الإيطالية، خارج روما مباشرة. يدعوها الشاعر إلى مزرعته، ويقدم لها أفكارا عن حماية بان وعن آلته الموسيقية العذبة التي يتردد صداها بين الوديان، ويعدها كذلك بكل ثروات الريف، وأن يمنحها أذنا مصغية لغنائها، وكئوسا بريئة من النبيذ في الظل: هنا لا حاجة بها إلى القلق، فلن يختطفها محب غيور ويمزق ملابسها وينتزعها، وهي التي لا تستحق مثل هذه المعاملة ...
إن تطمينات الشاعر مبالغ فيها؛ إذ تلمح كلماته بمواربة أقل إلى أن هناك ثمنا لقاء قبولها حماية هوراس. فمثلما لا يمكن أن تأمن حورية على نفسها من بان، لا يمكن لأي أنثى بشرية أن تأمن على نفسها من ال «بان» الرابض في كل ذكر بشري. بعبارة أخرى، إن هوراس يطلب من تيندريس أن تقبل محاولاته للتقرب منها قبل أن يتحول (كما سيفعل هو، أو كما سيفعل بان) إلى الرعب والعنف والاغتصاب. إن العالم المتخيل هنا لأركاديا لا يقل عن كونه صورة خيالية عن الإغواء، إغواء تخيلي. لقد صار هذا العالم الأسطوري فيما وراء المدينة ملعبا لأحلام اليقظة الذكورية؛ حيث تهدد الطبيعة بإطلاق العنان للرغبات الأساسية. ويمكنك أن تجد نسخة «أنثوية» حديثة لهذه الصورة في قصة رحلات فيونا بيتكيثلي إلى اليونان؛ حيث يأخذها سعيها خلف ما تسميه «مبدأ بان» إلى جميع أرجاء أركاديا بان. إن «المنظر الرومانسي» لباساي يغويها، نهارا وليلا، إلى هذا «المعبد المهيب [الذي] سر قلوب أجيال من العشاق.»
إن دراسة التراث الكلاسيكي معنية ببحث المشاعر الشهوانية المجسدة في النصوص والفنون القديمة، سواء كانت مصاغة (كما في هذه القصيدة الغنائية) في صورة شعر بديع، أو مدهونة في رسمة جدارية غير متقنة أو مرسومة على قدر رخيصة. وفي قصص وخيالات العالم القديم نصادف كل أشكال التنويعات في العلاقة بين الجنسين، وبين أفراد الجنس عينه؛ فالأمر لا يقتصر على اللقاءات الشهوانية بين الرجال والنساء اللاتي تحت طلبهم؛ فعلى مر القرون استكشفت رغبات جنسية مكبوتة وغير تقليدية (ووجدت سوابق لها) تحت جناح دراسة التراث الكلاسيكي. وقد قدمت الكتابات والفنون الكلاسيكية الفرصة لنا كي نتدبر السحاق الذي مارسته النساء على جزيرة لسبوس الإغريقية، وكانت الشاعرة صافو هي السبب في شهرته، أو نرتجف أمام الجمال السالب للألباب للثنائية الجنسية الشبقة لأي خنثى، أو نقشعر من كهنة الإلهة كوبيلي، الذين كانوا يجبرون على بتر أعضائهم التناسلية كي يخدموا ربتهم بشكل أفضل. على النقيض، كانت العفة والتبتل وحماية عذرية الابنة أمورا راسخة بثبات في الأعراف الأخلاقية للعالم القديم، مثلما هي في أشد أعراف المتزمتين صرامة.
إذن تفعل دراسة التراث الكلاسيكي ما هو أكثر من إثراء المخزون الخيالي لتراثنا الثقافي؛ فهي تقدم نسقا من سوابق السلوك الشخصي، وهي «مخالفة» لتلك النسق الموجودة في خبراتنا الفعلية إلى درجة تتحدى فهمنا، وإن كانت في الوقت ذاته «مشابهة» لخبراتنا بحيث تستثير أعصابنا وتقض معتقداتنا اليقينية. إن قراءة أشعار صافو، بما فيه من احتفاء بالحب بين النساء، يعني لا محالة التشكك في «أعراف» السلوك الجنسي، القديم والحديث. وحتى أساطير «أركاديا» الرعوية لا بد وأن تحثنا على مواجهة ما نتبعه من أساليب للإغراء والاغتصاب والعنف الجنسي.
مضت الصور الأخرى لأركاديا في اتجاهات مختلفة. إن أحد مواضع مجد نهضة الحضارة الكلاسيكية كانت أركاديا القرن السادس عشر، التي صورها الشاعر الإيطالي ياكوبو سانازارو. لقد بلغت شهرته كل بلاط ملكي في أوروبا بفضل توليفته التي لا تقدر بثمن التي مست رعاة الغنم وراعياته الكامنين في خيال كل دوق وأميرة. هذه الأركاديا، بحورياتها المحببة ورعاتها الشباب الجذابين، تجسد المتاعب الملتاعة للمدعو سينشيرو، وهو شاب منفي من مكانته العالية المستحقة في الحياة، ويتنهد في نغمات عذبة. هذا الحبيب التعيس، الآسر الذي تصلح شخصيته للتجسيد في الأوبرا، يحول نفسه إلى دور أورفيوس آخر، الموسيقي الأسطوري الذي بعد أن فقد محبوبته يوريديس، كان بمقدوره أن يجعل الأشجار ترقص والصخور تسمع. هنا يستطيع قراء سانازارو أن يجدوا تعبيرا بلاغيا مصقولا عن الحب، حديثا عذبا عن السلوى، وأرضا تقدر الشعر فوق كل شيء. كان ذلك مكانا ملائما كي يضمر فيه الحب.
من بين ردود الفعل المباشرة لهذه الرؤية تحديدا لأركاديا، كانت «قصائد» البطل الإليزابيثي الإنجليزي، سير فيليب سيدني. إن أركاديا التي يصورها، وهي مكان طبيعي خيالي حطمه الألم والحزن والفقد بالفعل، تعود إلى المخاوف التي تحف قصائد فرجيل. إنها جنة تعرف أنها مهجورة ومنهوبة بالفعل، تعرف أن الموسيقى «تفشل» في أن تنقذ الكون، تعرف أن «أركاديا» كابوس مثلما هي قصيدة رعوية؛ عاجزة تماما عن أن تنقذ نفسها من جنونها . يقدم لنا سيدني أركاديا مليئة بالمشاعر والطاقة، تنحي التفصيلات الجميلة التي رسمها سانازارو في رؤيته الساحرة جانبا مرة أخرى.
هنا، وكذلك في مرات عدة قبل ذلك الوقت وبعده، وجد فنانون مبدعون رؤيتهم في كتابات العالم الكلاسيكي، وخلال هذه العملية، أكد هؤلاء على جوانب مختلفة من «الأصل»، وقدموا تأكيدات جديدة ودمغوا النتيجة بهويتهم الخاصة. إن كلا من سانازارو وسيدني، بعبارة أخرى، يعتمدان على فرجيل ويحاكيانه، وفي الوقت عينه يخلقان شيئا هو في حد ذاته «أصيل»، مختلف، وينتمي لهما على نحو مميز. لكنهما أيضا يقدمان شيئا جديدا لفهمنا للكتابة الكلاسيكية التي اتخذا منها إلهاما لهما. فكل قراءة و«محاكاة» جديدة تستثمر نص فرجيل بأهمية متجددة، أهمية كانت موجودة طوال الوقت، لا شك في هذا، لكنها ظلت مستعصية على الإدراك إلى أن جعلتها عين فنان آخر مرئية أمام أعيننا. بتعبير آخر، يحثنا سانازارو وسيدني على أن نرى الاحتمالات ونسمع الأصداء في كتابة فرجيل التي من شأنها أن تضيع دونهما.
هذا إذن سبب آخر يجعل من المستحيل أن نجعل من التراث الكلاسيكي موضوعا بعيدا يختص بالماضي، يبعد عنا بألفي عام؛ فالتراث الكلاسيكي يجد دوما شكلا جديدا في أعماله الفنية والأدبية - فتتغير معانيه وتتجدد - من واقع ردود الفعل وعمليات إعادة الدراسة المتعددة التي يقوم بها جمهور قرائه العريض عبر آلاف السنين.
Bog aan la aqoon