وينبغي ألا ننسى أن الفرنسيين استحوذوا شيئا فشيئا على جميع الميادين، سياسية وإدارة، وتعليما، واقتصادا، وزراعة، وتجارة، وكادوا يقفلونها في أوجه التونسيين، ويحرمونهم من كل نشاط ما عدا الاشتغال كعمال عند الفرنسيين. ولكن التونسيين لم يستسلموا في أي ميدان، وقاوم كل جماعة منهم لإثبات وجودهم وضمان حياتهم، حتى جاء الحزب فوحد الجهود ، ونظم الصفوف، واتخذت إذ ذاك المقاومة شكلا جديدا متناسقا لإيقاف ذلك التيار الجارف والموت الداهم.
تلك هي بعض الصعوبات الرئيسية التي يجب التغلب عليها، وذلك هو الاستعمار الذي تعززه فرنسا بأموالها وجيشها وقوات مستعمراتها، فكيف يمكن صدها عن دوس تونس الصغيرة ومحوها؟ فلا بد إذن من التفكير الرصين لتوفير أسباب النجاح واجتناب ما أمكن من أسباب الخيبة. وشروط النجاح ثلاثة؛ أولها: اعتماد الشعب على نفسه حتى يكون من ضعفه قوة، ومن تشتته وحدة، ويغذي في أبنائه روح التضحية. وثانيها: تكوين عطف عالمي من الشعوب والحكومات لتساند تونس في قضيتها. وثالثها: اختيار الظروف العالمية الملائمة. (3) غايات الكفاح التونسي أو المبادئ التي جاهد من أجلها شعب تونس
ليس من باب الصدف أن صرح الصحفي الفرنسي الشهير «جان روس» فقال: «أغرب ما أحدثه الحزب الدستوري بتونس أنه كون رجالا أحرارا مستقلين في تفكيرهم في بلاد لا تتمتع بالحرية ولا بالاستقلال.» ولم يعرب عن رأيه هذا إلا بعد أن زار أغلب جهات المملكة التونسية، بصحبة الحبيب بورقيبة، وجالس جميع الطبقات، وتحدث مع جميع الأوساط من مثقفين وتجار وعمال وفلاحين وغيرهم، ولقد تعجب مما شاهده وسمعه، وأن ملاحظاته تنبئ عن أمر واقعي محسوس كان نتيجة لعمل دام عشرين سنة، وجه الحزب أثناءها عنايته إلى تكوين الفرد التونسي وتبديل نفسيته حتى أيقظه ودربه وصيره عضوا عاملا صالحا في المجتمع، عارفا بواجباته وحقوقه، مميزا لأدق المواقف السياسية، متفطنا لألاعيب الاستعمار وأذنابه، معتمدا على نفسه. وقد كانت الثورة الوطنية الكبرى في النفوس والعقول، فأذهبت عنها الجمود والركود، وخلصتها من الخوف والأوهام وعبادة التقاليد البائدة، وأحيتها من جديد فكأنها بعثتها بعثا وغيرت في نظرها سلم القيم، حتى آمنت بأن الموت أفضل من حياة الذل والهوان، وأن حياة بلا كرامة شخصية ولا عزة وطنية، ولا ضمان للعيش ولا حرية فردية وجماعية؛ إنما هي الموت نفسه، بل أشنع منه، لأنها تنزل بالإنسان إلى مستوى الحيوانات والبهائم، حقا إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وقد غير التونسيون ما بأنفسهم، ثم انقلبت تلك الثورة النفسية إلى ثورة دامية لا تعرف الكلل ولا الملل في شعب اشتهر بلينه وهدوئه ولطفه ورقته، حتى قال فيه جورج ديهاميل الكاتب الفرنسي العالمي: «إن تونس أثينا العالم الشرقي»، لما شاهد في أهلها من اتزان في الأفكار ومرونة في العقل وتناسق في الأجواء وسهولة على هضم المدنية الأوروبية من غير أن ينصرفوا عن مدنيتهم العربية الإسلامية.
إن شعب تونس لم يقدم على ما أقدم عليه من تضحيات جسيمة إلا وهو عارف لماذا يضحي ولماذا يستميت، مقتنعا أن لا طريق آخر لتحقيق الأهداف التي وضعها أمام أعينه، فما هي تلك الأهداف؟
لقد قام التونسيون بتجارب عديدة متنوعة في شتى الميادين لينهضوا ببلادهم ويحققوا لها الإصلاح المطلوب بمشاريع طويلة النفس تسعى إلى الإنشاء والبناء، وقالوا: إن استقلالا لا يتم من غير اقتصاد سليم زاهر، فكونوا الشركات المختلفة للتصدير والاستيراد والتجارة بأقسامها، وأسسوا معامل للنسج، وأحدثوا البنوك الوطنية، وإذا بالسلطات الاستعمارية توقف عملهم التجاري بأن تمنع أحيانا بطرق منعوجة وبدعوى تنظيم التصدير والاستيراد، وأحيانا تمنعهم جهرة من الاتجار مع الخارج، وتضيق عليهم وتعطي أوامرها للبنوك الفرنسية لتقطع عنهم القروض، وإذا بجميع تلك الشركات تعلن إفلاسها بعد مدة وجيزة. وأما معامل الغزل والنسج والشيكولاتة والمصبرات والزيوت، فإنها تقتلها بطرق أخرى، فعوض أن تحميها من المنافسة الأجنبية وخاصة الفرنسية، تفتح أبواب الجمارك للبضائع المماثلة لإنتاجها، ثم تجبرها على شراء المواد الأولية من السوق الفرنسية، رغم ارتفاعها عن الأسواق الأجنبية، ثم تضيق عليها بالأنظمة والقوانين، حتى أرغمت كثرتها على توقيف عملها. أما البنوك التونسية فإن سلطات الحماية تحاربها من غير قناع، فتفتك منها أموالها عنوة، وتغلق أبوابها بأمر عسكري مدعية أن تلك البنوك مجعولة لتمويل الحركة الوطنية.
وقد رأينا تلك السلطات الاستعمارية تحارب المزارعين التونسيين حربا لا هوادة فيها، فتثقل كواهلهم بالجبايات المجحفة، وتسلط عليهم أعوانها ليسلبوا منهم أموالهم بالارتشاء، وتوقف أعمالهم لأقل قضية تلعق بهم، وتطلق في غالب الأحيان يد المرابين والبنوك العقارية الفرنسية لبيع أملاكهم وما يكسبون، وتشكك في حقهم في ملكية أرضهم والتمتع باستثمارها ، وتحرم على التونسيين شراء أرض تونس إذا ما كانت في ملك الفرنسيين والإيطاليين أو غيرهم من الأوروبيين، فإن نهضت الفلاحة التونسية وبدلت طرقها العتيقة وعوضتها بالطرق العصرية في كثير من الجهات، وازدهرت، فتلك معجزة أتى بها الفلاح التونسي رغم عرقلة الاستعمار له في كل خطوة يخطوها.
ثم قال التونسيون: إنه لا نهضة تمكن، ولا تقدم يحصل، ولا استقلال يتم إلا بالتربية والتعليم، ولكن الاستعمار بالمرصاد، يعد علينا أنفاسنا، ويسعى لإفساد مشاريعنا؛ ولذا رأيناه يسعى لتعطيل الإصلاح بجامع الزيتونة حتى أصبح التيار جارفا، فلم يقدر على وقفه. أما المدارس الحرة التي نسميها بتونس المدارس القرآنية، فإن إدارة العلوم والمعارف الاستعمارية أخذت تضايقها بالقوانين والأنظمة، حتى منعت التونسيين أخيرا من إنشاء مدارس جديدة أو زيادة فصول في المدارس القديمة إلا بعد موافقتها، ومعنى ذلك أن حركة إنشاء المدارس أو توسيعها قد كاد يتوقف تماما. وقد شوهت برامج التعليم إلى درجة أنها مسخت مسخا؛ لا هي عربية صريحة ولا هي فرنسية صرفة، بل هي مزيج بلا روح، وخلط يفسد عقول الناشئة.
وبعد التجارب المرة والخيبات المتوالية، تبين شعب تونس أن القضية الوطنية وحدة لا تتجزأ، وأن الإصلاح في أي ميدان من الميادين مستحيل ما دام نظام الحماية الاستعماري قائم الذات، وأصبحت المشكلة السياسية هي أم المشاكل لا يمكن أن يحل غيرها إلا بحلها.
وهكذا كان أول مبدأ أقيمت عليه الحركة الوطنية، هو مبدأ الاستقلال، ويتمثل الاستقلال أولا وبالذات في إلغاء معاهدة الحماية التي مكنت الأجنبي من السيطرة على البلاد وبررت احتلاله لها، واستثماره لخيراتها. وتوجهت الجهود كلها إلى إزالة الحكم الفرنسي المباشر، وتوحدت الصفوف وتكتلت القوى لتلك الغاية المقدسة، فما دام الحكم الأجنبي مسلطا على المملكة التونسية يستحيل عليها أن تخطو خطوة حقيقية نحو الرقي والمدنية والازدهار المادي والأدبي، وإذا ما خطت خطوة إلى الأمام في ميدان فإنها تتقهقر خطوات إلى الوراء في الميادين الأخرى، فالحكم الأجنبي هو السبب الرئيسي في بطء نهضتنا، وهو السد المنيع بيننا وبين النهضة الشاملة التي تمكننا من الالتحاق بقافلة الأمم المتمدينة، كما قال الكاتب الفرنسي المعروف «دانيال جيران»: «يمكن لتونس أن تصبح - كالأقطار الاسكندنافية - جنة صغيرة على وجه الأرض لولا الاستعمار الفرنسي.»
ولما قامت حجة التونسيين حسب القانون والشرع، وحسب العدالة والحق، وحسب العواطف والرحمة والإنسانية، التجأ أصحاب النظريات الاستعمارية إلى ضروب من السفسطاء لا تروج على العقول، وأنواع من الادعاءات تخالف الواقع المحسوس، نأتي ببعضها كنماذج من تلاعب القوم ومهارتهم في قلب الحقائق. يقولون إن فرنسا لا ترى مانعا من إعطاء تونس استقلالها، ولكن سرعان ما تحتل دولة كبيرة أخرى مكانها، فتصبح تونس المسكينة مستعمرة لها؛ ولذا يجب المحافظة على معاهدة الحماية واحتلال الجيوش الفرنسية لتونس. وهذا منطق غني عن أي تعليق معناه: يجب أن آكل هذه الفريسة لكيلا يأكلها غيري، ومن أدراك أن غيرك يريد أكلها؟ ومن أنبأك بأنها لن تحافظ على استقلالها كغيرها من الشعوب الصغيرة في العالم؟
Bog aan la aqoon