ولم يستحوذوا على الأرض فقط، بل احتكروا المياه القليلة الثمينة بشمال أفريقيا، ويتصرفون في اليد العاملة كما يشاءون، ولإبقائها راضخة طائعة فإن المحاكم والعمال (المديرين) والسجون والقوة العامة تحت أوامرهم وتحت تصرفهم، ويقيمون أحيانا سجونا خاصة في وسط مزارعهم لمن يظهر عدم الطاعة من عمالهم. ... وتكونت روابط متينة بين المستعمرين الكبار والشركات الصناعية والمناجم والبنوك، وتكتلت تلك المصالح الكبرى ضد «الأهلي»، ورفضت كل تنازل وكل إصلاح ... وعوض أن تقبل حلا وسطا يكون فيه إرضاء جماهير الأهلين، فهم يتشددون في موقفهم الرجعي، ولا يتكلمون إلا عن القمع والعقاب والنفي والخلع عن العرش والرمي بالرصاص، ولو أفسحنا لهم المجال لما كانوا ليتأخروا عن إضرام المغرب نارا ودماء مفضلين ذلك على التفريط في أقل جزء من سلطانهم، وذلك ما وقع بالفعل في أقطار أخرى.
4
وإن صنيعة المستعمرين الفرنسيين بتونس «الكونت دي هوتكلوك» بصدد إشعال حريق بشمال أفريقيا لا يقل عن الحريق الذي أشعله الأميرال «دراجانليو» وراءه بالهند الصينية المنكوبة، وقد كتب أخيرا ملاحظ أمريكي: «من الضروري العاجل أن تسترجع باريس رقابتها على السياسة الفرنسية بتونس، وإلا فإن هيكل فرنسا بشمال أفريقيا سينهار.»
ومن أعجب ما يجده الباحث في البلاد التونسية أن البلاد وميزانيتها مسخرة لخدمة الموظفين الإداريين، بخلاف ما يقع في الدنيا بأسرها من أن الموظفين مجعولون لخدمة الدولة والبلاد، فعددهم في تونس يزيد على الثلاثين ألفا، معظمهم من الفرنسيين، يتقاضون - كمرتبات ومنح - أكثر من ثلثي الميزانية. وقد أظهرت الإحصاءات الأخيرة أن 70 ألفا من الفرنسيين (المكونين من الموظفين وعائلاتهم) يعيشون عالة على الخزينة التونسية.
وبعد أن استحوذوا على جميع مناصب النفوذ والسلطة يتصرفون فيها كل حسب أهوائه ومطامعه؛ مالوا إلى الوظائف الصغيرة يعمرونها بأتباعهم وأفراد عائلاتهم نساء وأطفالا، حتى أصبح مدير الإدارة من الفرنسيين ورؤساء المصالح منهم والكتبة والبوابون، بل أصبح أيضا ساعي البريد والشرطي والسجان منهم أيضا، كأن تلك الوظائف البسيطة تستوجب معارف معينة ومؤهلات لا توجد إلا عند الأخصائيين الفرنسيين، وأن عدد هؤلاء الموظفين في ازدياد مطرد ألحق بهم من فر من الألمان أثناء الحرب ومن طرد من سوريا ولبنان ومن هرب من جحيم الحرب في الهند الصينية ومن تجنس جديدا من الأوروبيين.
وقد استصدرت فرنسا مرسوما جعلت بمقتضاه جميع الكنوز المعدنية ملكا للدولة، ثم وزعتها على شركات فرنسية تستثمرها لفائدتها، ولم تستثن إلا مناجم الفوسفات فسمحت بتملكها لبعض الشركات الفرنسية أيضا.
وإذا أضفنا إلى ذلك شركات الضوء والكهرباء والنقل والبنوك، يمكن أن نتصور مدى السيطرة الفرنسية على الاقتصاد التونسي وما تتمتع به الجالية الفرنسية من امتيازات جعلت في قبضتها جميع إمكانيات البلاد، فلهم جميع الحقوق من حرية وكسب وإثراء ولسماع كلمتهم وتنفيذ أغراضهم معتمدين على الإدارة التي في خدمتهم وطوع أمرهم، وعلى قوات البوليس التي لا تكتفي بحمايتهم وحماية أرزاقهم ومصالحهم، بل تسرع إلى تنفيذ إرادتهم، بل تفاقم أمرهم إلى أن أصبح البعض منهم يسجن من يريد من التونسيين في سجنه الخاص ويفرض الغرامات على عماله كأنه دولة في الدولة.
ولقد اعتادوا مدة أحقاب متوالية على تسيير الشئون العامة كلها والسيطرة على أنظمة الدولة واتخاذها آلة لخدمتهم ومنبع رزق لهم ولذريتهم، فسخروها تسخيرا كاملا لفائدتهم حتى ساد الاعتقاد بينهم أن مصالحهم الخاصة الفردية هي التي يجب أن تراعى قبل كل شيء، وظنوا أنها وحدها هي المصالح الفرنسية كلها، وذهب بهم الغرور إلى أن ثاروا على فرنسا نفسها كلما عارضت مصالحها العليا مصالحهم الشخصية، ولذلك باتوا ينظرون إلى «المقيمين العامين» - أي للممثلين الوحيدين للدولة الفرنسية بتونس - على أنهم خدام لهم ولمصالحهم، وكل مقيم عام أراد الحد من شرههم والتخفيف من امتيازاتهم المجحفة ناصبوه العداء وشهروا به، بل يريدون من كل مقيم عام أن يسير في ركابهم ويطأطئ الرأس أمامهم ويزيد في امتيازاتهم، فلا تستغرب إذا رأينا بعض المستعمرين - والحالة مماثلة في أقطار المغرب العربي كله - يتغنون بسلطانهم في تعيين المقيمين العامين وعزلهم، إلى أن تذمر الرأي العام الفرنسي بباريس وكتبت جريدة ليموند
Le Monde
بتاريخ 14 / 2 / 1951 تصف نفوذ أوكوتييرييه
Bog aan la aqoon