ولقد اعتقلت السلطات الفرنسية المدنية والعسكرية عشرات الآلاف من التونسيين؛ فمنهم من نفته، ومنهم من وضعته في المعسكرات والثكنات، ومنهم من سجنته وحاكمته، ومنهم من أطلقت سبيله بعد أن عذبته. ثم أرادت التضليل والمكابرة، فنشرت السلطات العسكرية بلاغا في أواخر شهر أبريل قالت فيه: «إنه في يوم 25 أبريل كان مجموع المبعدين التونسيين 1315، موزعين على الصورة الآتية: 35 في رمادة، و500 في زعرور، و500 في بنقردان، 280 في تبرسق.
ومن جهة أخرى فإن ألف تونسي قدموا للمحاكم العسكرية، ولا يزالون في حالة إيقاف.»
هذا اعتراف الفرنسيين أنفسهم، ولو أضفنا لذلك مثله؛ إذ إنه لم يتحدث عن المحاكم الفرنسية المدنية ولا عمن اعتقلتهم السلطات المدنية خاصة، وأن الاعتقالات قد استمرت بعد ذلك مدة عامين تقريبا!
وأطل شهر مايو، شهر العمل والنشاط، وكانت تونس كلها - بواديها وقراها ومدنها - تحتفل بغرة مايو، بالعيد العالمي للعمل في كل سنة، وكان الشعب بأجمعه يشارك الاتحاد العام التونسي للشغل في مهرجاناته واستعراضاته وحفلاته، ولكن القائد الأعلى الفرنسي لجيوش الاحتلال أصدر بلاغا منع فيه تنظيم الاستعراضات والتظاهر والتجمع في الميادين العمومية بمناسبة عيد العمل، وانتشرت سيارات الجند والبوليس في أهم المراكز والنقط والميادين تأهبا لقمع كل حركة، وعلقت جريدة «الصباح» التونسية على ذلك المنع، قالت (2 / 5 / 1952):
ولم تحتفل تونس هذه السنة بعيد الشغل كسابق عهدها، ولم تجر المهرجانات العمالية البهيجة التي كان ينظمها الاتحاد العام التونسي للشغل.
وكان ذلك اليوم يوم غضب واضطراب ودماء، وقد انتظمت مظاهرات شعبية قبل الظهر، وتعددت في أحياء المدينة، وسارت الأولى في حي الباب الجديد، وخرقت الثانية شارع باب المنارة ومرت أمام ثكنة العساكر الفرنسية ، وخرجت الثالثة من شارع باب الجزيرة، وسارت الرابعة إلى بيت الوزير الخائن بكوش، وأسرعت قوات الجندرمة والبوليس نحوها بقصد تشتيتها، وأطلقت عليها نيرانها، فأكثرت من الجرحى، وقام البوليس كامل نهار أول مايو بحملة عنيدة في الأحياء العربية، وملأ عرباته بالعدد العديد من التونسيين الذين سيقوا إلى مراكزه المتنوعة للتعذيب والتنكيل. وقد بلغت الاعتقالات أرقاما لم يسبق لها نظير، وأخذ نطاق الاعتقالات يتسع حتى شمل القطر كله.
1
وكانت معاملة التونسيين في المحتشدات قاسية وحياتهم فيها صعبة أليمة، فقد أقامت السلطات العسكرية الفرنسية معسكرا بجهة باردو قرب القصر الملكي، ولم تتحدث عنه أصلا في بلاغاتها الرسمية وخاصة بلاغ 25 أبريل، فإنها نصبت هناك خياما لإيواء السادة الذين ألقي عليهم القبض بمنوبة، وأضافت إليهم معتقلي الكاف وسوق الخميس وسوق الأربعاء والجديدة وطبرية، وتعددت الخيام حتى غدا المعسكر كسوق من أسواق البادية لكثرة ما فيه من أناس.
وظهرت قسوة الفرنسيين خاصة في معاملة المرضى، وكان ألقي القبض على السيد علي بن سالم مدير مدرسة الضواحي بمنوبة - يوم 26 مارس - واعتقل بمعسكر زعرور، واشتد به المرض ولكن السلطات لم تسمح له بالمعالجة.
وإن الوطنيين التونسيين الذين لا يعرفون في المقاومة هوادة أو استسلاما، قد تمادوا في كفاحهم داخل السجون والمعسكرات، وكان كفاحهم شديدا جبارا وإن اتخذ قالبا سلبيا. لقد دعا القبطان المكلف بمعسكر جلال في جهة بنقردان، رئيس لجنة المبعدين الأستاذ الحبيب المولهي يوم 24 أبريل، وأعلمه بأن المقيم العام قرر مبدئيا إطلاق سراح المبعدين السياسيين. ومن المفروغ منه أن ذلك الإجراء يشمل أولا وبالذات المبعدين الذين قدموا مطلبا كتابيا يعربون فيه عن إخلاصهم - لفرنسا بطبيعة الحال - ويتبرءون من الإرهابيين والحركات السياسية، ولا يقبل ذلك المطلب إلا بضمان شخصين، فجمع الأستاذ المولهي أعضاء لجنة المبعدين وأعلمهم بذلك، فرفضوا ما عرض عليهم بالإجماع، ولما علم القبطان الفرنسي بقرارهم ازداد شدة وقسوة، وأصدر تعليماته بتحديد التجول وإطفاء الأنوار بالمعسكر على الساعة التاسعة والنصف مساء، مع التحجير على المبعدين مغادرة زنزاناتهم مهما تكن الدواعي، وأمر الحراس بإطلاق النار من غير سابق إنذار على كل من يخالف تلك الأوامر، فلم يبق للسجناء إلا أن حرروا برقية احتجاج وسلموها للقبطان، فأخذها ومزقها ورمى بها.
Bog aan la aqoon