168

Tuunis Thaira

تونس الثائرة

Noocyada

وقد أكثر «م. بيني» ومسيو دي هونكلوك من التشدق ومن الثرثرة والكلام على وزارة شنيق رامين إياها بالتطرف، مدعين أن ليس لنهمها حد، معيدين أنها عاجزة عن إدارة البلاد. وهذا كله ثلب، فلنرجع إلى بعض الحقائق، فلا شك في أنه للمرة الأولى في تاريخ الحماية تصل تشكيلة وزارية تمثل الرأي العام إلى الحكم طبق اتفاق 17 / 8 / 1950 الذي تم بين المقيم لويس بريليه وجلالة الباي، ورضي بها الجميع بكامل الحرية ومن بينهم حزب الدستور الجديد، ولم يعد المقيم الفرنسي يفرض الوزارة كما كان يفعل من قبل، وقبلت الحكومة الجديدة إزاء ذلك ألا تخرج عن نطاق الحماية فيما ستسنه من إصلاحات وما ستدخله من تطور يرمي إلى الحكم الذاتي، وكانت الحالة واضحة والهدوء سائدا في البلاد والتفاهم مستمرا، وتم تطبيق الإصلاحات المنتظرة، ولم تبق في طور الإعداد إلا الإصلاحات المتعلقة بنظام البلديات. وقد أنجزت اللجنة المختلطة جميع النواحي الفنية، ولم تبق إلا مشكلة مبدئية تتعلق بميدان الانتخابات وتمثيل الفرنسيين في المجالس البلدية، وكادت الحكومة التونسية أن تقبل ذلك لو لم يرفض سلطان مراكش التوقيع على «ظهير» (مرسوم) مماثل، فرأى جلالة الباي ووزراؤه - للتضامن مع سلطان مراكش - أنهم لا يستطيعون قبول ذلك التمثيل بدون الحصول على ضمانات تشمل دراسة مبادئ ومجموع السلطات النيابية والتشريعية، وكانت من نتائج مشكلة الفرنسيين خطاب العرش في مايو 1951، وإعداد مفاوضات جديدة مع الحكومة الفرنسية نفسها بباريس، وكان موضوعها الحقيقي الحصول على تحديد دقيق للاستقلال الداخلي، وعلى تعريف المبادئ التي يجب أن يستند إليها تحقيق الإنجازات المقبلة، ولم يتطرق الحديث إلى آجال تلك الإنجازات إلا بصفة سطحية في مذكرة 31 أكتوبر، المتينة في تحريرها، الموزونة في لهجتها، والتي كان يمكن أن تتخذ أساسا لمفاوضات تقوم على الكياسة والمنطق، ولا يمكن بحال أن نغفل الصلة الوثيقة بين (التصريح المشترك) في 17 / 8 / 50 ومذكرة الوزارة التونسية (في 31 / 10 / 51)، وقد طلب لويس بريليه الذي سهر على تنظيم محادثات أكتوبر 1951 من وزارة شنيق أن تفض جميع المسائل الإدارية الهامة قبل القدوم إلى باريس؛ إذ ينبغي ألا تعرقل تلك المسائل الإدارية سير المفاوضات، وتتلخص تلك المسائل في توزيع الأراضي الإيطالية على قدماء المحاربين التونسيين والفرنسيين، وفي زيادة الأجور، ومنح الموظفين الفوائد التي يعطيهم إياها تطبيق قانون الوظيفة الفرنسي، وإحداث إيرادات لتسديد تلك المصاريف الجديدة، وتمت الأمور كلها وأحرزت على رضى الجميع، وخاصة مسيو روبير شومان الذي تبني طلبات لويس بريليه.

وقد رأينا من الضروري بيان تلك التفاصيل الفنية؛ لأن المشاكل كانت دقيقة فعلا، وإن ذلك الواقع المحسوس ليكذب وحده ادعاءات بيني ودي هوتكلوك. أما حججهما فلا قيمة لها؛ لأنهما استنتجاها من فترة ما بين 21 أكتوبر و4 مارس التي جعلها موقف فرنسا نفسها فترة استثنائية، ومن أراد قتل كلبه فمن السهل أن يدعي أنه مصاب بداء الكلب.

والعنصر الثاني الدال على سوء نية الحكومة الفرنسية ردها على المذكرة التونسية؛ إذ رأينا أن الوزراء التونسيين كانوا يطالبون بجواب يوضح المبادئ ويحدد الحكم الذاتي تحديدا كاملا، وكانوا يظنون أن هاتين العبارتين مسلم بهما متفق عليهما، فماذا حصلوا بعد مفاوضات دامت شهرين كاملين؟ حصلوا على جزم بات في نص مكتوب، بأن تونس مرتبطة بفرنسا ارتباطا أبديا؛ أي بمبدأ السيادة المشتركة التي عوضت هكذا الحكم الذاتي، فقد أخلفت فرنسا وعدها هذه المرة أيضا، وأبرزت فرنسا فكرة سيادة الباي، عندما حاولت في يناير 1952 التراجع عما تعهدت به. وتلك عبارة عابرة تظهر معارضة فرنسا لفكرة السيادة التونسية مهما تكن معارضتها، ولكل حل يرمي إلى السير بالشعب التونسي نحو استلام مسئوليات الحكم في بلاده، وفي ذلك الوقت نفسه صارت ليبيا مستقلة.

والعنصر الثالث الدال على سوء النية من جانب الحكومة الفرنسية، ادعاؤها المستمر بأن الدستور الجديد والحزب الشيوعي شيء واحد وإن اختلفت الأسماء، ولا فائدة في الكلام عن ذلك الادعاء المخالف للحقيقة.

وقائمة المخازي لم تنته بتلك القائمة مع الأسف، فبقي الاستناد إلى قانون الأحكام العرفية لاعتقال وزارة كاملة، وبقي الاضطهاد، وبقيت مساومة الباي وتهديده بالخلع (راجع: سيادة جلالة الباي)، وبقي اعتقال نويرة الزعيم الدستوري المعتدل؛ لأنه رفض أن يكون وزيرا في تشكيله بكوش التي طال بها المخاض وصعبت ولادتها.

وبقيت أيضا مسألة تتطلب شيئا من الإيضاح، وهي نشر الحكومة الفرنسية، في أوائل شهر أبريل الرسائل التي كتبها الحبيب بورقيبة، وقد عثر عليها البوليس أثناء إجراء تفتيشاته، فقدمتها غذاء للرأي العام الفرنسي الذي زعزع فكرته الإفراط في الاضطهاد والإغراق فيه.

وكأن تلك الحجة بينة في ظاهرها، فالرسائل تعتبر من غير شك إمكانية استخدام القوة بما فيها من نواح مادية كالسلاح والأموال والحركة الدبلوماسية، وتواطأت الصحافة - عن قصد أو عن غير قصد - مع الحكومة الفرنسية على الأمر، فلم تقدم أي بيان عن تلك المراسلة ولم تقم بنقد نصوصها، ولو دققنا النظر في تاريخها لرأينا أنها كتبت 12 / 5 / 1950 وفي 5 / 7 / 1950 أي قبل أن تبدأ تجربة «شنيق-بريللي»، وقبل أن يقبل حزب الدستور الجديد المشاركة في الوزارة التي تألفت في 17 / 8 / 1950.

ولنتحدث عن الأشخاص؛ لمن يكتب بورقيبة؟ بل كان في الحقيقة يجيب، ولكن يجيب من؟ لم تعط لنا أي معلومات عن شخصية مراسلي الزعيم الوطني، ويبدو بوضوح من النص الذي قرأناه (لوموند في 6 و7 أبريل سنة 1952) أن الحبيب بورقيبة كان يكتب لشخص أكثر تطرفا منه، وهو يحاول إقناعه بأن سياسة الحزب الدستوري الجديدة (وهي معتدلة) تمكن تونس أيضا من الوصول إلى استقلالها، وهو بذلك يريد إزالة قلق ويرد على نصيحة بالتشدد، ولكي يقنع مراسله (وهذا أمر طبيعي) ركز تفكيره في المواضيع التي طرحها من وجه إليه السؤال. إن الحبيب بورقيبة يدافع عن سياسته، فتطرقه هكذا إلى الحديث عن «الكفاح المسلح» (الذي أوعز به مراسله) ولكنه وضعه بعد استحالة الوصول إلى تسوية بالطرق السلمية، فقال: «إذا أصرت فرنسا (وهذا هو المحتمل مع الأسف) على رفض كل تسوية حقيقية وشريفة.» وقال: «إذا حصل صدع لا يلتئم وجرح لا يداوى ولا يندمل. وأمر لا يمكن تلافيه وإصلاحه - وهذا ما لا بد من وقوعه إذا أصرت فرنسا على عماها ...» ولا يمكن أن يؤاخذ على شكه في نوايا الحكومات الفرنسية.

وسوف لا نحلل ما أتى به زعيم الدستور الجديد في تلك الوثائق من أحكام سياسية حصيفة نيرة، ولنذكر منها تنبؤه بموقف الباي إذا أصبح النزاع خطيرا، وحوادث مارس الماضي أيدت رأيه، وتحليله الدقيق المتين لموقف الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في السياسة العالمية، وإيضاحه لضغط الجالية الفرنسية بتونس على الحكومة وكفاحهم ضد المقيم بريليه.

والمسألة الوحيدة التي يمكن المؤاخذة عليها حسب نظر موضوعي في تلك المراسلة، هي جزم نزيه بفكرة قومية متحمسة ومتطرفة أحيانا، ولسنا في حاجة إلى تلك الرسالة لتعلمنا بما كنا نعلمه من قبل، ولكن حكامنا في حاجة إليها ليعدوا العدة تمهيدا لمحاكمة الحبيب بورقيبة.

Bog aan la aqoon