ولقد علم شعب تونس علم اليقين منذ آماد، أنه لا يتغلب بالقوة المادية الصرفة على الجيش الفرنسي في الحرب الحقيقية التي شنتها فرنسا عليه، وعلم أيضا أن طرق المقاومة متنوعة متعددة، فاختار منها أنجعها وأقربها من طبعه، فقرر سياسة عدم التعاون مع السلطات الاستعمارية، وأظهر إرادته القارة الراسخة على نبذ الحكم الأجنبي ومقاطعته وعدم الانصياع لأوامره والتمرد عليه في جميع الميادين. وكانت كلمة الشعب موحدة وصفوفه متراصة منظمة، فقال التونسيون جميعا للاستعمار البغيض: لا! لن نتقبله ولن نرضى به، ولن نخلد لحكمه ولن نعيش عيشة العبودية والرق، ولن نبقي أجانب في وطننا. وللتونسيين أرواح مؤمنة بالحق مؤمنة بحقهم وحق وطنهم، وليس لهم غير صدورهم يستقبلون بها رصاص الاستعمار الجائر، وليس لهم غير دمائهم، فقدموها هدية للحق، لعل العالم الذي يسمي نفسه حرا يعترف لهم بحقهم في الحرية.
فلم تهدأ للتونسيين حركة ولم يمكنوا السلطات الاستعمارية من رقابهم ومن بلادهم، بل صبروا وصابروا وثبتوا وصمدوا، وكانوا يردون الفعل بما لديهم من وسائل، فلم تقم قوات الشر بجريمة إلا وأعقبتها اضطرابات جديدة.
وكانت الاضطرابات العامة تتوالى من غير انقطاع، إضراب طويل بعد اعتقال الزعماء يوم 18 يناير، ثم استئناف الإضراب إثر فظائع الدخلة، وإضراب عقب الاعتداء على الوزارة التونسية ومرات أخرى.
وأضربت مدينة صفاقس يوم 7 مارس عندما اعتقل البوليس عددا كبيرا من النساء والشبان والطلبة وأحالتهم إلى المحاكم الزجرية، واستمر الإضراب أياما متوالية. كما تجددت المظاهرات الشعبية من غير انقطاع، ففي حدود الساعة الواحدة والنصف من يوم 10 مارس اجتمعت جماهير غفيرة من الشبان بربض صفاقس، وساروا بالهتافات والأناشيد، واتجهوا إلى إدارة العمل للاحتجاج على تلك المحاكمة، فلاحقتهم قوات البوليس، ولكنها لم تتمكن من إلقاء القبض إلا على شاب واحد.
وفي الساعة الرابعة والدقيقة العشرين بعد الظهر إثر التصريح بالأحكام القاسية، تجمهر الشعب في سوق الزيتون، ثم ساروا في مظاهرة رهيبة بشوارع بيكفيل هاتفين بحياة الرئيس الحبيب بورقيبة منادين بالاستقلال، وصدحوا بالأناشيد، فاعترضتهم قوات البوليس وهاجمتهم هجوما عنيفا وضربتهم ضربا مبرحا وأثخنتهم جراحا، واعتقلت عددا وافرا من الشبان.
وقامت القوات الفرنسية المسلحة إثر تلك المظاهرات بتفتيش واسع النطاق في الأحياء العربية من مدينة صفاقس، وألقت القبض على 22 شخصا.
ولكن الحالة لم تهدأ، وقد انتشرت الأخبار بأن زعماء العمال الذين اعتقلوا يذوقون العذاب ألوانا بالسجن، ويعتدى عليهم يوميا بالضرب والإهانة والتنكيل، فخرج العمال في مظاهرة كبرى، والتفت حولهم الجماهير وساروا إلى مسكن عامل (مدير) صفاقس ليبلغوه احتجاجهم، فطاردتهم قوات البوليس والجند وشتتتهم.
وتظاهر طلبة الفرع الزيتوني بمدينة قابس وسلموا للعامل لائحة احتجاج على تعسف السلطات الفرنسية، ثم اتجهوا نحو المراقبة المدنية الفرنسية، فاعترضت قوات البوليس وشتتتهم وألقت القبض على خمسة منهم.
وقام أهالي بلدة مدنين في الجنوب التونسي بمظاهرة كبرى يوم 13 مارس، وسارت في نظام كامل إلى إدارة العمل (المديرية)، وسلموا إلى العامل (المدير) لائحة احتجاج شديدة، والتحقت بهم قوات الجيش والبوليس وشتتتهم بعنف واعتقلت سبعة منهم.
وانتظمت بمدينة قفصة مظاهرة شعبية قوية يوم 17 مارس، وسارت في الساعة العاشرة والنصف صباحا من الجامع الكبير إلى المراقبة المدنية، فأوقفتها القوات المسلحة في الطريق، وصادمتها بشدة وانهالت على المتظاهرين ضربا ولكما ودفعا، حتى شتتتهم وألقت القبض على جماعة منهم.
Bog aan la aqoon