قلت: وهذا الاحتجاج من معرق في الجدل بصير بالإيراد والإصدار لا ينتقض إلا بعدم الموافقة في العمل بمفهوم الصفة ( ولا يصح التقييد بالتوبة في إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء لإطلاق السلب) وهو لا يغفر (والإيجاب) وهو ويغفر (فإن قيدا) أي السلب والإيجاب (بها) أي بالتوبة (بطل السلب إتفاقا) للإجماع على أن توبة المشرك توجب المغفرة له (وبطل تقييد الإيجاب بالمشية) للإجماع على تساوي التايبين (وإن قيد الإيجاب بها فقط) أي والسلب بعدمها (كان تحكما مع فساد تقييده) أي الإيجاب (بالمشية أيضا وإن قيدا ) أي السلب والإيجاب (بعدمها) أي بعدم التوبة (كان ذلك هو المطلوب) وهو عموم العفو للموحد بشفاعة أو توبة أو تعذيبه بالنار لتطهره ثم يصير إلى الجنة أو الإستيفاء في الدنيا أو في البرزخ (وبه يصح تقييد الإيجاب بالمشيه تبقية لحكمة الخوف) فيجب حمل القرآن على ما به يصح دون ما به يفسد (ورد بعموم المغفور) والمغفرة هي الستر والحلم فيحتمل على هذا بستر أصحاب الكباير في الدنيا أعني عدم تعجيل العذاب فيها أو في الآخرة والمحتمل ظني فلا يعارض القطعي ثم إنكم قد قطعتم بالمغفرة فأين البقاء لحكمة الخوف؟ (وتخصيصه بالمشية المجمل لمن هي له) وما خص بمجمل تطرق إليه الإجمال أيضا (والآية أيضا تقضي بالغفران لمن يشاء تفضلا وعفوا فمن أين أنه قد شاء غفران الكباير تفضلا وهو محل النزاع وعدم تعجيل العقوبة والتوبة المنصوص عليها من العفو والتفضل وحملها) أي المشية (على المنصوص) وهو التوبة (أولى لئلا يتناقض القرآن) إذ هو كالكلمة الواحدة (والمجمل) من القرآن (يحمل على المبين ) وهي أن تجتنبوا كباير ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وتقييد المطلقات بالتوبة (والقرأن يفسر بعضه بعضا) ومثل المجمل لا يؤخذ به في العلميات ( مع أن في استدلالهم بها نظر لا يخفى على اللبيب) وذلك ان يقال لو سلمنا دلالة الآية على غفران الكباير فإن الله لو قال إن الله لا يغفر أن يشرك به ولا أكل أموال اليتامى ولا الفرار من الزحف ولا قتل المؤمن بغير حق ويغفر ما دون ذلك لكنا نقطع بعدم غفران شيء من هذه الكباير وقد توعد سبحانه على هذه الكباير في غير هذه الآية فوجب أن لا يختلف الحكم المذكور لأن القرآن كله كالكلمة الواحدة في البعد عن التناقض والاختلاف فلا تعلق لأحد من فرق المرجية بدلالة الآية أما من قال: لا وعيد على مرتكبي الكباير من الموحدين فيرد عليه أنه لا غفران لمن لا ذنب عليه لسقوط ذلك بشهادة التوحيد فلا معنى لهذا الغفران المسوق للتمدح به وأما من يقول يستحق مرتكب الكباير عذابا منقطعا فيقال له قد قطعت بالعذاب وقطعت أن الآية تقضي بالغفران فأين الغفران فإن قال بعده، قلنا: الآية مطلقة، فإن قيدت بأخبار دخول النار لتطهرهم ثم يخرجون إلى الجنة فتقييدها بالقرأن وهي قوله تعالى: {إن تجتنبوا}، والتقييدات بالتوبة أولى لما قدمنا ولتقديم القطعي على الظني، والمسألة علمية لا يؤخذ فيها بالمظنون وأما من قال بالوقف وهم جمهور المرجية فيقال لهم إن ظاهر الآية عندكم يقتضي القطع بالمغفرة لمن عدى المشرك وأنتم تتوقفون وقوله لمن يشاء لا يقتضي الوقف لأن الذي علق بالمشية هو تعيين المغفور له لا المغفور فمطلق فإذا كان ظاهر الآية لا يقتضي مالا يقول به أحد من الأمة وجب صرفها إلى الكباير والصغاير مع التوبة وأيضا فإن الآية مجملة كما عرفت لم يبين الله فيها من يشاء له المغفرة وبيانه في قوله: {إن تجتنبوا كباير...الآية}، إلى غير ذلك مما تحتمله الآية ولئن سلمنا فبهذه الإحتمالات التي قد عرفناك تكون ظاهرة ولا تقاوم القاطع من آيات الوعيد وأقول إن الاية تحتمل وجها غير ما ذكر وقد أشرنا إليه فيما قدمنا وهو ما ذكره الإمام صارم الإسلام إبراهيم بن محمد المؤيدي اليحيوي قدس الله روحه في الجنة ما لفظه: وهو أنه تعالى توعد أهل الكتاب في الآية التي قبلها بتعجيل العقوبة أيضا إن لم يؤمنوا، فقال سبحانه: {يا آيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت} أي يمسخهم قردة وخنازير وكان أمر الله مفعولا ثم حذرهم بأنه سبحانه وتعالى لا يقع منه غفران للمشرك في حالة من الحالات بل يستحق من أشرك تعجيل العقوبة أيضا كما استحقها من تقدم ذكره فأتى بالنفي الداخل على المضارع الذي هو في معنى النكرة فلم يعجل عقوبة الشرك لكان(1) تأخيرها غفرانا كما قال تعالى حاكيا: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى} فجعل المتاع الحسن إلى الموت من موجبات المغفرة، ثم قال سبحانه: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فلا يعاجل بعض المشركين للكباير بالعقوبة بل يغفرها بتأخير العقوبة في الدنيا كما قال تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم}، وبهذا يندفع الإشكال ولله الحمد. انتهى بحروفه.
(و) احتج (للرابع) وهو ابن تيمية (بأن النار تفنى لأنها من عالم الفساد) وهو ما لا صلاح فيه (ورد أنه إن كان خلقها راجحا) على مقتضى حكمة الله (فلا) فساد بها كيف وهي محل نقمة الله من العاصي ومحل غضب الحكيم وعقابه كما أن الجنة محل رحمته (والله يتعالى عن خلق ما لاحكمة فيه) فثبت أنها مصلحة، وقد تقدم أن العبرة برجحان الفعل على تركه (ومنكر الحكمة منكر ما ثبت بالضرورة) الدينيه، لأن قولهم إنها من عالم الفساد يؤدي بأن في أفعال الله ما ليس بمحكم وقد ذكر في الإيثار أن منكر الحكمة في أفعال الله منكر لضرورة من الدين (قالوا) أي ابن تيميه وأصحابه: (دوام العذاب ينافي التمدح بأسمي الرحمن الرحيم ونحوهما) العفو والغفور من صيغ المبالغة المقتضية للنهاية في الرحمة.
Bogga 29