كتاب التحف والهدايا
لأبي البكر محمد وأبي عثمان سعيد ابني هاشم الخالديين
فاتحة الكتاب
"إن هذان لساحران، يغربان بما يجلبان، ويبدعان فيما يصنعان" أبو منصور الثعالبي
بسم الله الرحمن الرحيم
خصك الله بتحف إحسانه، ومنحك من هدايا امتنانه، وأجزل من الخير قسمك، ووفّر من اليمن سهمك، وأطال للمجد بقاك، ولأهل الرجاء نعماك، في دولة تغض عيون الخطوب، ورتبة تخرس لسان العيوب، ولا زلت للأدب معقلًا، ولأهله موئلًا؛ يصبحهم تطولك، ويغبقهم تفضلك. ما امتد العصران، وترادف الملوان.
وبعد، فإنك - أدام الله عزك - أمرتنا، لا زال أمرك نافذًا ونهيك مطاعًا: أن نختار لك بعض ما قيل في التحف والهدايا من النظم والنثر، وأن نتجنب ما لا معنى فيه، ولا فضيلة له، وأن نختصر ذلك، ونحذف فضوله، فبادرنا إلى ما أمرت، وسارعنا إلى ما رسمت، لنوفي الخدمة حقها، ونعطيها قسطها.
والشعر - أدان الله عزك - في هذا المعنى كثير الضروب، متشعب الفنون، غير أنه قليل في أشعار المتقدمين، موجود في أقاويل المحدثين.
ووجدنا - أيدك الله_ سائر ضروبه وجميع فنونه أحدد عشر ضربًا؛ فاخترنا من كل ضرب جيده وألغينا رديه.
واقتصرنا من كل فن على روحه، واطرحنا جسمه، ليكون جميع ما ينضم إليه، وتشتمل أقطاره عليه من الشعر والأخبار، والنوادر والآثار، عينًا تبهج القلوب، ولا تمجها الآذان. ورغبنا عما يذكره مصنفو الكتب من تفضيلها وتقريظها لأن كتابنا يصف نفسه ويبين عن محله، ولأنه يزف من سمعك إلى بعل كفى، ويرد من معرفتك إلى بحر من لجى. ونرجو أن يقع من قبلك - أيدك الله - بحيث أملنا، ومن رأيك بحيث توخينا. ولله القوة و[به] المعونة.
ذكر الأبواب التي نودعها الكتاب
الباب الأول -
في ذكر من أهدى هدية معها شعر
الباب الثاني - في ذكر من أهديت إليه هدية فشكر عنها بشعر.
الباب الثالث - في ذكر من استدعى الهدية بشعر.
الباب الرابع - في ذكر من استدعى الهدية بغير شعر.
الباب الخامس - في ذكر شيء من أخبار الهدايا.
الباب السادس - في ذكر من ذم ما أهدى إليه بنظم أو نثر.
الباب السابع - في ذكر من أستهدى شيئًا فمنع منه أم مطل به فذمه واستبطأ بشعر.
الباب الثامن - في ذكر من لم يقبل الهدية ترفعًا وردها تنزهًا.
الباب التاسع - في ذكر شيء من أشعار من قصرت يده عن الهدية فاقتصر على الدعاء واعتمد على الثناء.
الباب العاشر - في ذكر شيء من هدايا ملوك الأطراف [للسلطان] وكتبهم إليه.
الباب الحادي عشر - في ذكر هدايا النوكى وتحف المتخلفين.
الباب الأول
في ذكر من أهدى هدية معها شعر
حدثنا أحمد بن أبي خالد قال: أهدى الرقاشي إلى يزيد ابن مزيد سيفًا موصوفًا بالعتق والجودة وكتب معه:
بعثت ما أنت به أولى ... إليك يابن الشرف الأعلى
سيفًا رقيق الحد تعلو به ... هان العدى راحتك العليا
أنت تراه مقة نعمة ... كما أراه بغضة بلوى
وهو حرام قبل ذا أن يرى ... للعبد ما يصلح للمولى
وقد أخذ هذا المعنى يعقوب التمار فقال، وقد أهدى إلى محمد بن عبد الله بن طاهر بازيًا في يوم عيد:
قل للأمير الذي يداه ... قد صيغتا من ردى وجود
ما كان من حاجة الموالى ... فهو حرام على العبيد
ومع رسولي إليك باز ... أبرش ذو مخلب حديد
جعلته تحفة لعيد ... لاقاك بالطالع السعيد
ومثل هذا ما حدثناه الصولي عن يزيد بن محمد المهلبي أن الحريري أهدى إلى المتوكل فرسًا وكتب معه:
يا أمين الله في الأر ... ض وللخلق إمام
ملك ما يصلح للمو ... لى على العبد حرام
ولدى عبدك من طو ... لك آلاء جسام
وكميت اللون تحكى ... لون عطفيه المدام
قلق العذر يغنى ... بين لحييه اللجام
فإذا رام صهيلًا زمر الشيخ "زنام"
فتطول بقبول الط ... رف منى والسلام
وقريب من هذا ما يروى أن بعض من كان في جملة أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي أهدى إليه سيفًا وكتب معه:
قد بعثنا إليك قدح المعالي ... ورسول الآمال والآجال
وحرام على العبيد إذا ما ... ملكوا ما تخيرته الموالى
1 / 1
وما نعرف في هذا المعنى بعينه غير ما ذكرنا، وبيتًا آخر في أبيات نحن نثبتها في حبر حدثناه جحظة البرمكي قال: كان أوكد الأسباب في قتل عمي جعفر بن يحيى البرمكي وزوال النعمة عن أهله أبياتًا عملها بعض الشعراء لما بنى جعفر داره "بباب الشماسية" وألقاها في القصص، فوقعت في يد الرشيد وقد جلس للمظالم، فلما قرأها تغير وجهه، وأعاد النظر فيها مرات، ثم ختمها، ودفعها إلى بعض خدمه وأمره بحفظها، فكان يدعو بها في كل يوم، وينظر فيها ويعيد ختمها، ويدفعها إلى الخادم إلى أن أوقع بالبرامكة، ثم أظهر ما فيها، وكانت:
قل لأمين الله في خلقه ... ومن إليه الحل والعقد
هذا ابن يحيى جعفر قد غدا ... مثلك ما بينكما حد
أمرك مردود إلى أمره ... وأمره ليس له رد
ونحن نخشى أنه وارث ... ملكك إن غيبك اللحد
وقد بنى الدار التي مالها ... شبه على الأرض ولا ند
ما بنت الفرس نظيرًا لها ... كلا ولا الروم ولا الهند
وجدك المنصور لوحلها ... لما اطباه قصره "الخلد"
الدر والياقوت حصباؤها ... وتربها العنبر والند
ساواك في الملك فأبوابه ... آهلة يعمرها الوفد
وما يباهي العبد أربابه ... إلا إذا ما بطر العبد
البيت الأخير من هذه الأبيات معكوس قول الحريري:
ملك ما يصلح للمو ... لى على العبد حرام
وحدثنا أبو الفرج قدامة بن جعفر قال: أهدى الأخيطل الأهوازي إلى ابن حجر في يوم نوروز وردة، ويهمًا، ودينارًا، ودرهمًا، وهذه الأبيات:
قل لابن حجر ذي السماح الخضرم ... لا زلت كالورد نضير الميسم
ونافذًا مثل نفاذ الأسهم ... في عز دينار، ونجح درهم
وحدثنا جحظة قال: حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال: كان أبي قد ربى جارية من أكمل الجواري جمالًا وظرفًا وأدبًا وصنعة، واتصل خبرها بالأمين، فتطلعت نفسه إليها، وخشي أن يكوم إبراهيم قد دنا منها، وعلم أبي بذلك فأنفذها إليه في عقب كلام جرى له معه، وعليها قميص وشى، مكتوب على ذيله بذهب:
لا والذي تسجد الجباه له ... ما لي بما تحت ثوبها خبر
ولا بفيها ولا همت به ... ما كان إلا الحديث والنظر
فردها ولم يقبلها، فردها إليه ومعها عود من عود هندي، قلما نظرت إلى الأمين غنت:
هتكت الضمير برد اللطف ... وكشفت هجرك لي فانكشف
فإن كنت تحقد شيئًا مضى ... فهب للخلافة ما قد سلف
فقبلها منه ورضى عنه.
وحدثنا أبو النضر بن أسباط المصري: أهدى المريمي إلى أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون في يوم عيد مرآة وكتب معها:
ولما أتى عيد عليك مبارك ... تقابل فيه طالع السعد لا النحس
ولم أرض مدحي وحده لك تحفة ... وإن كان وشيًا لا يدنس باللبس
بعثت بأخت البدر والشمس والتي ... رأيت لها فضلًا على البدر والشمس
بأحسن مرآة لأحسن طلعة ... غدت طينة للمجد في صورة الإنس
مكشفة ستر العمى عم ذوى العمى ... ومنطقة في وصفها ألسن الخرس
بحيرة نور موجها متدافعٌ ... وليس لها غير التألق من حس
لها نور إفرند ورونق جوهر ... يكدره أدنى التنفس واللمس
صفت واستوت بالماء والنار واكتست ... من اللين ثوبًا وهي كامنة اليبس
أتتك محلاة تزف كأنها ... عروس توافى بعلها ليلة العرس
ولم أهدها إلا ونفسي تحبها ... ولكن نفسي آثرتك على نفسي
وأهدينا إلى أبي الفوارس سلامة بن فهد منثورًا من بستان في دارنا، وقد تقدم وقته وكتبنا معه:
يا بن فهد وأنت من ترانا ... في المعالي نرى له من ضريب
زعم الزهر أنه كسجايا ... ك شبيه في حال حسن وطيب
فأريناه أنه يكذب الدع ... وى فلم يلتفت إلى التكذيب
فبعثنا به إليك لتلقا ... هـ بتصديق قولنا من قريب
وحدثنا نصر بن أحمد الخبزأرزي البصري قال: أهديت إلى ابن يزداد وهو يتقلد البصرة فصًا حسنًا وكتبت معه:
أهديت ما لو أن أضعافه ... مطرح عندك ما بانا
كمثل "بلقيس" التي لن يبن ... إهداؤها عند "سليمانا"
هذا امتحان لك إن ترضه ... بان لنا أنك ترضانا
1 / 2
حدثنا القاضي التنوخي قال: أهدى إلي نصر بن أحمد الخبزأرزي سبحة سبج وكتب معها:
بعثت يا بدر بني يعرب ... بسبحة من سبج معجب
يقول من أبصرها طرفه: ... نعم عتاد الخائف المذنب
لم تحظ إن فكرت في نظمها ... ولونها من حمة العقرب
وأهدى بعض الشعراء إلى رجل جليل ثوبًا طريفًا وكتب معه:
هذي هدية واثق ... بمكانه منكم مدل
يرنو لمقلة معظم ... لك عن هديته مجل
والظرف كل الظرف من ... ك قبول ألطاف المقل
وحدثنا جحظة قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن حمدون النديم عن أبيه قال: غزونا مع المأمون والمعتصم بلد الروم فأهدى إلينا محمد بن عبد الملك الزيات ونحن بالبذندون شرابًا عتيقًا عراقيًا وكتب معه هذه الأبيات:
ما إن ترى مثلي فتىً ... أندى يدًا وأعم جودًا
أسقى الصديق ببلدة ... لم يرو فيها الماء عودًا
صفراء صافية كأن ... على جوانبها العقودا
فإن استقل بشكرها ... أوجبت بالشكر المزيدا
خذها إليك كأنما ... كسيت زجاجتها فريدا
فاجعل عليك بأن تقو ... م بشكرها أبدًا عهودًا
وأهدى علي بن العباس الرومي إلى بعض الرؤساء دواة سوداء محلاة بذهب وكتب إليه:
قد بعثنا إليك أم المنايا ... والعطايا زنجية الأحساب
قد تحلت بصفرة وكذا الزن ... ج تحلى شكلًا بصفر الثياب
في حشاها بغير حرب حراب ... هن أمضى من مرهفات الحراب
قال: وأهدى أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع نعلًا وكتب معها:
نعل بعثت بها لتلبسها ... تمشى بها قدم إلى المجد
لو كان يصلح أن أشركها ... خدي جعلت شراكها خدي
حدثنا النوبختي قال: افتصد المتوكل فقال لخاصته وندمائه: أهدوا إلي يوم فصدى؟ فاحتفل كل واحد منهم في هديته، وأهدى إليه الفتح بن خاقان جارية لم ير الراؤون مثلها حسنًا وظرفًا وكمالًا، فدخلت إليه ومعها جام ذهب في نهاية الحسن، ودن بلور لم ير مثله، فيه شراب يتجاوز الصفات، ورقعة فيها مكتوب:
إذا خرج الإمام من الدواء ... وأعقب بالسلامة والشفاء
فليس له دواء غير شرب ... بهذا الجام من هذا الطلاء
وفض الخاتم المهدي إليه ... فهذا صالح بعد الرواء
فاستطرف المتوكل ذلك واستحسنه، وكان بحضرته يوحنا بن ماسويه فقال له: "يا أمير المؤمنين، الفتح والله أطب مني فلا تخالف ما أشار به".
وأهدى أبو البكر الصنوبري إلى بعض إخوانه شمعًا وكتب معه:
يا أبا عمرو قد اختر ... ت فلم آل اختيارا
وتأملت الهديا ... ت صغارًا وكبارا
لم أجد شيئًا كشيء ... يجعل الليل نهارا
فتأمل من قريب ... شجرًا يحمل نارًا
واكسها منك قبولًا ... تكس مهديها فخارا
وحدثنا طاهر بن محمد الهاشمي الحلبي قال: أهدى الصنوبر إلى أبي شمعًا وكتب معه:
وصفر من بنات النحل تكسي ... بواطنها وأظهرها عوار
عذارى يفتضضن من الأعالي ... إذا افتضت من السفل الجواري
وليست تنتج الأضواء حتى ... تلقح في ذوائبها بنار
كواكب لسن عنك بآفلات ... إذا ما أشرقت شمس العقار
بعثت بها إلى ملك كريم ... شريف الأصل محمود النجار
فأهديت الضياء بها إلى من ... محاسنه تضيء لكل سار
وحدثنا الصولي قال: أهدى ابن المعتز إلى القاسم بن عبيد الله دفترًا وكتب معه:
فدونكه موشى نمنمته ... وحاكته الأنامل أي حوك
بشكل يأخذ الحرف المخلى ... كأن سطوره أغصان شوك
قال: وأهدى نطاحة الكاتب إلى بعض إخوانه دفترًا وكتب معه:
خذه فقد سوغت منه مشبهًا ... بالروض أو بالبرد في تفويفه
نظمت كما نظم السحاب سطوره ... وتأنق الوراق في تأليفه
وشكلته ونقطته فأمنت من ... تصحيفه ونجوت من تحريفه
بستان خط غير أن ثماره ... لا تجتنى إلا بشكل حروفه
قال: وأهدى أبو الجهم أحمد بن سيف إلى بعض إخوانه يوم النوروز شمامة مطيبة وكتب معها:
غاداك يوم وأي يوم ... قد حل فيه السرور عقده
فتحفة الناس فيه شتى ... وهذه تحفة المودة
لا زال حول يحث حولًا ... يفنى وتعطى البقاء بعده
1 / 3
حتى ترى ألف مهرجان ... تلبس من ثوبه أجده
وألف يوم يكون فيه ... دين وهجر المدام رده
وأهدى محمد بن هاشم الخالدي إلى عمرو بن اصطفن الكاتب مروحة طريفة، وكتب معها:
أيا عمرو يا بن العلى والحسب ... ومن حل في المنصب المنتخب
بعثت إليك أطال الإل ... هـ عمرك مات طال عمر الحقب
بمروحة راحة للقلوب ... لها نسبان إذا تنتسب
ففي سعف النخل نخل النبيط ... وفي خيزران غياض العرب
عليها الحداد كمهجورة ... رمتها عشيقتها بالغضب
منافعها أبدًا جمة ... لمالكها غير قول كذب
ترد التشارين في حمة ... من القيظ نيرانها تاتهب
وتجعل سترًا إذا ما أرد ... ت سرًا إلى صاحب في سبب
وإن شئت كانت قضيب الأقاع ... فأدت إليك فنون الطرب
وتصلح للضرب ضرب الدلال ... دلال الحبيب إذا ما عتب
وتومى بها في عروض الكلام ... إذا ما احتبيت لنثر الخطب
ومن بعد ذا كله فاسمك ال ... مبارك في ظهرها قد كتب
وحدثنا جحظة قال: أهدت جارية ظريفة إلى فتى كانت تهواه تفاحة معضوضة مكتوب عليها بذهب:
ليس هذا العض من عيب بها ... إنما ذاك رسول للقبل
فلما صارت إليه كنت إليها:
تفاحة جاءتك معضوضة ... قريبة العهد بكفيها
أكرم بها تفاحة أشبهت ... حمرتها حمرة خديها
وحدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد القمي الكاتب قال: أهدى أبو الغمر الطبري إل الحين بن زيد الراعي إلى الحق في يوم نوروز سهمين، ومعهما هذان البيتان:
أهديت للداعي إلى الحق سه ... مي فتوح الغرب والشرق
زجاهما النصر وريشاهما ... ريشا جناحي طائر السبق
وحدثنا أيضلً قال: كان في ناحية كاتب للصفار شاعر ظريف؛ وكان الكاتب كريمًا أديبًا فأهدى إليه بعض أصحابه في يوم النوروز هدايا جليلة. وكان ذلك الشاعر مملقًا فطالبه بالهدية فذكر إملاقه، فقال له: "دع عنك هذا لا بد أن تهدى إلي شيئًا" قال: "أفعل". وانصرف فابتاع وردًا كثيرًا أحمر وأهداه إليه وكتب معه:
أتاك من النوروز يوم مبارك ... وعيد على الدنيا أعد لنا فخرًا
فأهديت فيه الورد غضًا كأنه ... خدود جواري الروم شاربة خمرا
فباكر بها كأسًا مدامًا كأنما ... تدير يد الساقي به قمرًا بدرًا
تزيل مقام الهم عن مستقره ... وتمنعه العتبى وتستعبد الدهرا
فلما قرأ الأبيات استحسنها وأمر أن يصرف جميع ما أهدى إليه في النوروز إلى هذا الشاعر وكانت هدايا جليلة فوصلت كلها له.
وحدثنا الصولي قال: أهدى محمد بن بشر إلى أحمد بن يوسف الكاتب قارورة فيها دهن الحماحم وكتب معها:
هو دهن الحماحم الطيب النش ... ر كأرواحكم إذا كان صرفًا
إن ظرفًا هديتي لك هذا ... وإذا ما قبلته ازددت ظرفًا
فقبلها أحمد بن يوسف كتب إ ليه:
قد أتانا دهن الحماحم صرفاُ ... مرحبًا بالحمول ألفًا وألفًا
دهنة لو تشمها جنح ليل ... قلت إلف مخاطر زار إلفًا
وحدثنا أبو محمد الحسن بن محمد المهلبي قال: أهدى أبو الحسين بن أبي البغل الكاتب إلى علي بن عيسى في أيام وزارته أقلامًا، وكتب معها:
عبدك أهدى إليك أقلامًا ... زنجية اللون ناسبت جاما
وجئن طوعًا إليك من بلد ال ... كفر لكي يستعدن إسلاما
حائرة في سبيل كل هدى ... تكون للحائرين أعلاما
زارتك شوقًا إلى بنانك كي ... تحدث نقضًا لها وإبرامًا
فتخدم الملك حين تخدمها ... وسطى وسبابة وإبهاما
معدة للخطوب إن دهمت ... تبرى فتبرى الأكف وإلهاما
إذا تناولت للعدى قلما ... منها بذذت الليوث إقداما
تبصره العين مفصحًا وتعيه ال ... أذن عند الكلام نمناما
كأنه مبديًا عجائبه ... ليل يرى النائمين أحلاما
كأن في صدره لمعمله ... رمحًا وفي الردف منه صمصاما
وحدثنا أيضًا قال: أهدى إلي بعض إخوانه بغلة معها هذه الأبيات على طريق المجون لأنه يعرف بابن أبي البغل، فذكر أن البغلة من نسلهم، ويرمي الذي أهداها إليه أنه ينال منها وطرًا، وكانت الأبيات:
تخيرتها لك من نسلنا ... وكنت لها واليًا كافيا
1 / 4
فهنيتها راكبًا في الملا ... ومتعت خلوتها خاليا
لعلك ترزق منها فتى ... يكون لنما سيدًا كاليا
فيكسب أعمامه مفخرًا ... وأخواله شرفًا عاليا
حدثنا أبو سوادة الحاسب قال: حدثني عبد الرحمن بن أحمد الكاتب العبرناني قال: كنت أكتب لسليمان بن عبد الله بن يحيى بن معاذ فأتيت يومًا بمرماحوز فبعثت إليه منه شمامة في مكبة مختومة وكتبت معها:
لم تر مسكًا قبله نابتًا ... ينفح من فرع ومن أصل
يرى لكل البيت في جنبه ... مذلة الهجر مع الوصل
من ذاك وكلت به خاتمًا ... يمنعه من شمة الرسل
وأهدى علي بن الجهم إلى بعض إخوانه كلبًا وكتب معه:
أوصيك خيرًا به فإن له ... عندي يدًا لا أزال أحمدها
يدل ضيفي علي في غسق الل ... يل إذا النار نام موقدها
وحدثنا أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب قال: أهدى أحمد بن يوسف الكاتب إلى المأمون، في يوم نوروز، هدية جليلة القدر، وكتب معها:
على العبد حق فهو لا بد فاعله ... وإن عظم المولى وجلت فضائله
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
ولو كان يهدي للمليك لقدره ... لقصر فضل المال عنه وباذله
ولكننا نهدى إلى من نعزه ... وإن لم يكن في وسعنا ما يعادله
وقال: وأهدى عبد الرحيم بن أحمد بن يزيد ين الفرج إلى عمه دواة وكتب معها:
لم تر سوداء قبلها ملكت ... نواظر الخلق والقلوب معا
كأنما الليل حاك رونقها ... فكان طبًا بنسج ما صنعا
لا الطول أزرى بها ولا قصر ... لكن أتت والبهاء مجتمعا
تريك جنحًا من الظلام لها ... وبارقًا بائتلافها لمعا
وحدثنا الخباز البلدي قال: أهديت إلى بعض العمال نبيذًا وكتبت معه:
أستاذنا والذي نؤمله ... للدهر من كل ما يحاذره
لهذا نبيذ رايته حسنًا ... مستعذبًا يرتضيه خابزه
أحببت أن أوثر الرئيس به ... من دون نفسي ومن أعاشره
وإن عذري في فرط قلته ... باطنه واضح وظاهره
إذ كان هذا الذي بعثت به ... أول ما عندنا وآخره
وأهدى بعض إخواننا إلى صديق له سكينا عليها طائر مذهب، وكتب معها ابياتًا منها:
أوقد الصقل ماء إفرندها الجاري ... فجاءت كالنار ذات اشتعال
جو نور لم تخله بدعة الصن ... عة من طائر بديع المثال
عام في لؤلؤ ولكنه قد ... قام فيه مذهب السربال
الباب الثاني
في ذكر من أهديت إليه هدية فشكر عنها بشعر
حدثنا الصداني قال: أهدى محمد بن علي القمى إلى البحتري غلاما فاشتغل به أياما عن حضور مجلسه، فكتب إليه محمد:
هجرت كأن الوصل أعقب هجرة ... وما خلت وصلا قبلها أعقب الهجرا
فأجاب البحتري:
فتى مذحج عفوا فتى مذحج غفرا ... لمعتذر جاءت إساءته تترى
أتاني قريض منك يحدوه نائل ... فأنطقني جودا وأفحمني شعرا
وأكسبني شغلا عن الوصل شاغلا ... تعاتبني فيه وتعتده هجرا
فإن كنت مشغوفا بقربي آنسا ... بشخصي فلم خولتني ذلك البدرا؟
وما هو إلا درة لم أجد لها ... سوى جودك الأمسى إذ برزت نحرا
حملت عليه في سبيل فتوة ... هي الثغر خلف المجد بل تفضل الثغرا
وجدت نداك اليوم ألطف موقعا ... ود كنت لي خلا فأصبحت لي صهرا
قال وأهدى إليه عبد الله بن السحين بن سعد القطربلي نبيذا أصفر في إناء زجاج أزرق فكتب إليه البحتري شعرا منه هذه الأبيات:
حبذا أنت من منمم بر ... يفرج الهم أو معظم رفد
طرقتنا تلك اهدية والصه ... باء من خير ما تبرعت تهدي
لبست زرقة الزجاج فجاءت ... ذهبا يستنير في لازورد
قال: وأهدى إليه محمد بن علي القمي نبيذا مع غلام حسن الوجه، فجمشه البحتري، وكتب معه إلى صاحبه هذه الأبيات:
أبا جعفر كان تجميشنا ... غلامك إحدى الهنات الدنية
بعثت إلينا بشمس المدا ... م تضيء لنا مع شمس البرية
فليت الهدية كانت رسولا ... وليت رسولك كان الهدية
فوهب له الغلام لما قرأ الأبيات.
1 / 5
وحدثنا البرمكي عن أبي هفان قال: أهدى أحمد بن يوسف الكاتب إلى أبي الزرقاء الشاعر دابة، فكتب إليه أبو الزرقاء:
أيها السيد الذي ... شرفته أرومه
قد بعثت الجواد لي ... فعلى من قضيمه؟
فوقع على ظهر رقعته: "قضيمه على مهديه ما دام حيا فإن نفق أخلفنا عليك غيره".
قال: واستهدى بعض الشعراء من صديق له يكنى أبا العباس خطرا فلم يسعفه بما طلب، فكتب على معن بن زائدة وهو يتقلد بلاد اليمن يطلب منه ذلك فأنفذ إليه جراب خطر وفيه ألف دينار، وكتب إليه أن اختضب بالخطر، وانتفع بنخالته، فقال:
إذا ما أبو العباس ضن بخطره ... كتبنا إلى معن فأهدى لنا خطرا
وأهدى دنانيرا وأهدى دراهما ... وأهدى لنا بزا وأهدى لنا عطرا
فبلغ البيتان "معنا"، فوجه إليه ألف دينار ثانية وألف درهم وسفط بز وعتيد عطر.
وحدثنا البرمكي عن أبي هفان قال: وعد عبد الصمد بن المعذل خالي مسلمة بن مهزم غلاما يهديه إليه ثم أهدى إليه جارية فكتب إليه:
قد لعمري يا أبا القا ... سم ملحت الرسالة
قلت لي: أرسل ظبيا ... ثم أرسلت غزالة
قال: أهدى أبو القاسم التنوخي القاضي ﵁ إلى طيلسانًا فكتبت إليه:
قد أتي الطيلسان مستوعبا شك ... ري في حسن منظر ورواء
مثقلًا عاتقي وإن كان في الخف ... ة واللطف في قياس الهواء
تسرح العين منه والقلب في الآ ... ل وفي الماء والسنا والبهاء
يتلقى حر الصدود يبرد ال ... وصل والصيف في طباع الشتاء
يخفق الدهر في النسيم كما يفخ ... فق قلب الجبان في الهيجاء
كل جزء منه يمج إلى الأر ... واح روح المنى وبرد الوفاء
ليس فيه للنار والأرض حظ ... هو من جوهري هواء وماء
زاد في همتي ونفسي وتأمي ... لي علوا وزاد في كبريائي
فكأني إذا تبخترت فيه ... قد تطيلست نصف بدر السماء
قال: وأهدى الحسن بن وهب على أبي تمام غلاما جميلًا فكتب إليه:
قد جاءنا الرشأ الذي أهديته ... خرقا ولو شئنا لقلنا المركب
لدن البنان له لسان أعجم ... خرس معانيه ووجه معرب
يرنو فيثلم في القلوب بطرفه ... ويعن للنظر الحرون فيصحب
قد صرف الرانون خمرة خده ... وأظنها بالريق منه ستقطب
وأهدى إليه ثيابًا، فكتب إليه:
قد كسانا من كسوة الصيف قرم ... مكتس من مكارم ومساع
حلة ذات رونق ورداء ... كسحا القيض أو رداء الشجاع
كالسراب الرقراق بالقفر إلا ... أنه ليس مثله في الخداع
سابري يسترجف الريح متني ... هـ بأمر من الهبوب مطاع
رجفانا كأنه الدهر منه ... كبد الصب أو حشا المرتاع
لازمًا ما يليه تحسبه جز ... ء من المتنين والأضلاع
يطرد اليوم ذا الهجير ولو شب ... هـ في حره بيوم الوداع
خلعة من أغر أروع رحب الصد ... ر رحب الفؤاد رحب الذراع
سوف أكسوك ما يعفى عليها ... من ثناء كالبرد برد الصناع
حسن هاتيك في العيون وهذا ... حسنه في القلوب والأسماع
وأهدى بعض الرؤساء إلى صالح الديلمي ثيابا فكتب إليه صالح:
كسوت من تملكه كسوة ... جاءت إلى ملكك من ملككا
صنيعة أعطى نساجها ... أنموذج الرقة من وجهكا
فهي من الحسن ترينا الذي ... يعرفه الزائر من بشركا
طويلة في عرضها فضلة ... كأنما مرت على صدركا
أظنها من قبل إهدائها ... مرغها الخازن في خلقكا
فنشرها في وقت نشرى لها ... أذكى على الأنف من ندكا
وأهدى الحسن بن وهب إلى أبي تمام فرسا رائعا، فكتب إليه أبو تمام شعرا يقول فيه:
نعم متاع الدنيا حباك به ... أروع لا حيدر ولا جبس
اصفر منها كأنه محة الب ... يضة صاف كأنه عجس
هادية جذع من الأراك وما ... خلف الصلا منه صخرة جلس
يكاد يجري الجادي من ماء عط ... فيه ويجني من متنه الورس
ضمخ من لونه فجاء كأن ... قد كسفت في أديمه الشمس
هذب في جنسه فنال المدى ... بنفسه فهو وحده جنس
أحرز آباؤه الفضيلة مذ ... تفرست في عروقه الفرس
1 / 6
وهو إذا ما ناجاه فارسه ... يفهم عنه ما تفهم الإنس
كل ثمين من التلاد له ... غير ثنائي فإنه بخس
وأهدى إليه فرسا آخر فقال فيه شعرا، منه هذه الأبيات:
ما مقرب يختال في أشطانه ... ملآن من صلف به وتلهوق
حوافر حفر وصلب صلب ... وأشاعر شعر وخلق أخلق
وبشعلة تبدو كأن فلولها ... في صهوتيه بدو شيب المفرق
ذو أولق تحت العجاج وإنما ... من صحة إفراط ذاك الأولق
تغري العيون به ويفلق شاعر ... في نعته عفوا وليس بمفلق
صلتان يبسط إن ردى أو إن عدا ... في الأرض باعا منه ليس بضيق
مسود شطر مثل ما اسود الدجى ... مبيض شطر كابيضاض المهرق
قد سالت الأوضاح سيل قرارة ... فيه فمفترق عليه وملتق
صافي الأديم كأنما ألبسته ... من سندس بردا ومن استبرق
يرقى وما هو بالسليم ويغتدي ... دون السلاح سلاح أروع محلق
في مطلب أو مهرب أو رغبة ... أو رهبة أو مركب أو فيلق
أمطاكه "الحسن بن وهب" إنه ... داني ندى اليد من رجاء المملق
وحدثنا أحمد بن جعفر البرمكي قال: أهدى سعيد بن حميد الكاتب إلى أبي هفان قارورة من ماء الورد الفارسي فكتب إليه أبو هفان:
بعثتها حالية النحر ... بكرا وكل الخير في البكر
ملفوفة في حلل هن من ... خضر ومن صفر ومن حمر
تزر في الجيد ولكنها ... تجر أذيالا على الخصر
بيضاء في زرقاء كالش ... مس إذ تطلعت من زرقة الفجر
كجامد الياقوت أقطاره مملوءة ... مملوءة من ذائب الدر
جادت لمن ركب جثمانها ... روحها سيدة الزهر
ما حضرت والعطر في مجلس ... وإلا وكانت ربة العطر
نابت عن الورد كما نبت عن ... أبيك في العز وفي القدر
فعاد ذا منها إلى غصنه ... وقام ذا عنك من القبر
إن أنت حييت بها مسكة ... فمثلها الأبيات في النشر
ولم يضيع فارسي الندى ... في عربي الحمد والشكر
وحدثنا طاهر بن محمد الهاشمي قال: كان أبو بكر الصنوبري صديقًا لوالدي كثير الإلمام به والسلام عليه، وكان والدي محبًا له بارا به، وكنت وأنا غلام أميل إليه وأكتب شعره، فأهديت إليه يوما نبيذا ووردا فكتب إلي:
أهدى إلي فأي حسن معجب ... أو معوز في غيره لم يهده
الراح تضحك عن عتيق فرندها ... والورد يضحك عن حديث فرنده
فكأن حمرة ورده من راحه ... وكأن نكهة راحه من ورده
وكأن هذي تمترى من ريقه ... وكأن هذي تجتنى من خده
وأهديت إليه نعلًا صفراء فكتب إلي:
بخير الهدايا جدت يا خير منتم ... إلى خير باد في الأنام وحاضر
بمحذوة حذو اللسان شبيهة ... أوائلها في حسنها بالأواخر
مخالفة الوجهين قام خلافها ... مقام اتفاق عند أهل البصائر
فأما الذي من فوقها وجه عاشق ... وأما الذي من تحتها وجه شاعر
وحدثنا أبو منصور طلحة بن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: أهديت إلي علي بن محمد المعروف بابن طباطبا العلوي الأصبهاني خاتما فصه عقيق حسن، فكتب إلي:
جاءتك إبهامي وسبابتي ... تشكر ما أوليته خنصري
فالتتا في قلم ناطق ... يفصح عن شكرهما المضمر
أعانتا أختهما بالتي ... سطرتا لمدح من أسطر
جزاء ما أوليتها بالذي ... قد زانها من رائق الجوهر
ألبستها فص عقيق غدا ... يزهى على ياقوتها الأحمر
قال: وأهدى أبو جعفر محمد بن حميد إلى البحتري فرسًا، فكتب إليه البحتري يشكره، ويصف الفرس ويستهديه سرجا ولجاما بشعر يقول فيه:
أما الجواد فقد بلونا يومه ... وكفى بيوم مخبرا عن عامه
جارى الجياد فطار عن أوهامها ... سبقا وكاد يطير عن أوهامه
جذلان تلطمه جوان غرة ... جاءت مجيء البدر تحت تمامه
وأسود ثم صفت لعيني ناظر ... جنباته وأضاء في إظلامه
مالت نواحي عرفه فكأنها ... عذبات أثل مال تحت حمامه
ومقدم أذنين تحسب أنه ... بهما يرى الشخص الذي لأمامه
يختال في استعراضه ويكب في اس ... تدباره ويشب في استقدامه
1 / 7
وإذا التقى الثفر القصير وراءه ... فالطول حظ عنانه وحزامه
لانت معاطفه فخيل أنه ... للخيزران مناسب لعظامه
في ضعلة كالشيب مر بمفرقي ... غز لها عن شبيه بغرامه
ومردد بين القوافي يجتني ... ما شاء من ألف القريض ولامه
وكأن صهلته إذا استعلى بها ... رعد يقعقع في ازدحام غمامه
وكأن فارسه وراء قذاله ... ردف فليس تراه من قدامه
لا شيء أجود منه غير فتىً غدا ... من جوده الأوفى ومن إنعامه
وكأن كل عجيبة موصولة ... تتقسم اللحظات في أقسامه
والطرف أجلب زائر لمؤونة ... ما لم يزرك بسرجه ولجامه
حدثنا الأسباطي قال: أهدى بعض بني طولون إلى المريمي في يوم عيد هدية فيها دنانير جدد من ضرب السنة، فكتب إليه المرمي شعرا طويلا، يقول فيه:
لم ترض نيلا جاء يسبق موعدا ... حتى وصلت النيل منك بموعد
ورأيت في بر اللسان وإن حلا ... مذقا إذا لم تبله بر اليد
فحبوتني بعيون وشي مونق ... معه حباء من عيون العسجد
من كل ذي وجهين لم يقنع له ... في الحسن صانعه بوجه مفرد
واشتق من لونين مشرق لونه ... من أصفر في أحمر متوقد
لا روح فيه وما لذي روح غنى ... عنه ولا صبر إذا لم يوجد
مولى لمكرمة وعبد مهيبة ... وترى له الأحرار مثل الأعبد
قال: وامتدح عباس الخياط المصيصي علي بن عامر الحلبي، فدفع إليه دينارًا، فقال يشكره:
أبا حسن أصبحت زين الأقارب ... ودينارك البراق زين المواهب
رأته عيون الحاسدين فخلنه ... من الحسن في كفي إحدى الكواكب
ليهنك منه أنك الرجل الذي ... نجوت به من أمهات عقارب
وقال وامتدح أبا عثمان الأموي فدفع إليه دينارا، فقال:
يا عمرو يا مكنى بعثمان ... أصبح دينارك ذا شان
لما أتى في السبت صرنا به ... منك إلى معيار وزان
فلم يطق وزانه وزنه ... حتى وزناه بقبان
وفيه يقول أيضًا:
دينارك الواثقي نحن به ... نجلو عن العين ظلمة الغسق
إنك يا عمرو حين جدت به ... جاء على حاجة إلى الورق
حاولت تحريكه فأعجزني ... ورمت تعييره فلم أطق
حتى حملناه بين أربعة ... خشن إلى الصيرفي بالوهق
قال: وأهدى ابن يزداد إلى أبي القاسم الخبزأرزي البصري ثيابا وطيبا، ودراهم، ودنانير في بعض الأعياد، فقال يشكره، ويذكر الدراهم والدنانير في شعر طويل:
فأعطيتها تحكي أياديك في الورى ... بياضا وإن كانت أياديك أنصعا
زواهر أوضاحا لها أريحية ... إذا خامرت خمر القلوب تشعشعا
ومن بعدها قد نلت صفرا توقدت ... من السبك حتى صرن كالجمر لمعا
إذا اختلطا كانا كنور وزهره ... زكا بهما غرس النجار فأينعا
كأنهما بيض الوجوه تلألأت ... صفاء بتوريد الخدود مرصعا
وأهدى إليه بعض إخوانه وردا في طن آس وكان ذلك في ابتداء الورد، فكتب إليه:
أبدعت في كل المكارم سابقا ... حتى لقد أبدعت في إهدائكا
أتحفتني بالورد قبل أوانه ... في قضب آس غضة كإخائكا
فالورد عن نفحات عرضك مخبر ... والآس يخبر عن دوام وفائكا
فاسلم ونشر الورد حسن ثنائكا ... واعمر وعهد الآس طول بقائكا
الباب الثالث
في ذكر من استدعى الهدية بشعر
حدثنا علي بن العباس النوبختي قال: قال لي البحتري: رأيت عند أبي جعفر محمد بن حميد بن عبد الحميد غلاما أعجبني فعملت إليه شعرا أستهديه منه، وأشكو إليه غلمانا كانوا لي أحرارا، فأنفذه إلي، وسمع شعري جماعة من الرؤساء فأهدوا إلى عدة غلمان، والشعر طويل وأوله:
أبكاء في الدار بعد الدار ... وسلوا بزينب عن نوار
يقول فيه:
قد مللناك يا غلام فغاد ... بسلام أو رائح أو سار
سرقات مني خصوصا فإلا ... من صديق أو صاحب أو جار
أنا من ياسر ويسر وفتح ... لست من عامر ولا عمار
لا أحب الغلام يخرجه ال ... تم إلى الاحتجاج بالافتخار
وإذا رعته بناحية السو ... ط على الذنب راعنى بالفرار
هل بأرض العراق يا قوم حر ... يشتريني من خدمة الأحرار
1 / 8
أو جواد بأبيض من بنى الأصفر محض الجدود محض النجار
لم ترم قومه السرايا ولم يغزهم غير جحفل جرار
أو خميس كأنما طرقوا منه بليل أو صبحوا بنهار
في زهاه "أبو سعيد" على آ ... ثار خيل قد حاجزته بثار
يتلظى كأنه لصفوف السبى في جانبيه "ذو الأذعار"
فحوته الرماح أغيد مجدو ... لا قصير الزنار وافى الإزار
فوق ضعف الصغار إن وكل الأمر غليه ودون كيد الكبار
لك من ثغره وخديه ما شئ ... ت من الأقحوان والجلنار
أعجمي إلا عجالة لفظ ... عربي تفتح النوار
وكأن الذكاء يبعث منه ... في ظلام الخطوب شعلة نار
يا "أبا جعفر" وما أنت بالمد ... عو إلا لكل أمر كبار
ولعمري للجود للناس بالنا ... س سواه بالثوب والدينار
وعزيز إلا لديك بهذا الف ... خ أخذ الغلمان بالأشعار
* * * وحدثنا الصولي قال: قال لي ابن المعتز: الذي حداني على قول الشعر، ورغبني فيه أنى رأيت البحتري يومًا ينشد الماضي ﵁ شعرا افتن فيه برقة النسيب، وجودة المديح، ثم خرج من ذلك إلى استهداء خاتم ياقوت فأبدع، وأول الشعر:
بودي لو يهوى العذول ويعشق ... فيعلم أسباب الهوى كيف تعلق
والأبيات التي يستهدى بها الخاتم:
فهل أنت يابن الراشدين مختمي ... بياقوتة تبهي على وتشرق!
يغار احمرار الورد من حسن صبغها ... ويحكيه جادى الرحيق المعتق
إذا برزت للشمس قلت تجارتا ... على أمد أو كادت الشمس تسبق
إذا التهبت في اللحظ ضاهى ضياؤها ... جبينك عند الجود إذ يتألق
علامة جود منك عندي مبينة ... وشاهد عدل لي بنعماك يصدق
ومثلك أهداها وأضعاف مثلها ... ولا غرو للبحر انبرى يتدفق
* * * وحدثنا قال: أهدى محمد بن على بن عيسى الأشعري القمي إلى البحتري فرسا رائعا، فكتب إليه البحتري شعرا يمدحه، ويذكر الفرس، ويصفه، ويستهديه سيفًا، وأول الشعر:
أهلا بذلكم الخيال المقبل ... فعل الذي أهواه أم لم يفعل
يقول فيه:
وأغر في الزمن البهيم محجل ... قد رحت منه على أغر محجل
كالهيكل المبنى إلا أنه ... في الحسن جاء كصورة في هيكل
وافى الضلوع يشد عقد حزامه ... يوم الرهان على معم مخول
يهوى كما هوت العقاب وقد رأت ... صيدا وينتصب انتصاب الأجدل
تتوهم الجوزاء في أرساغه ... والبدر فوق جبينه المتهلل
متوجس برقيقتين كأنما ... يريان من ورق عليه موصل
ذنب كما سحب الرداء يذب عن ... عرف وعرف كالقناع المسبل
جذلان ينفض عذرة في غرة ... يققٍ تسيل حجو لها في جندل
صافى الأديم كأنما عنيت له ... بصفاء نقبته مداوس صقيل
وكأنما نفضت عليه صبغها ... صبهاء "للبردان" أو"قطربل"
وتخاله كُسِيَ الخدود نواعما ... مهما تواصلها بلحظ تخجل
هزج الصهيل كأن في نغماته ... نبرات "معبد" في الثقيل الأول
ملك العيون فإن بدا أعطينه ... نظر المحب إلى الحبيب المقبل
نفسي فداؤك يا "محمد" من فتى ... يوفى على ظلم الخطوب فتنجلي
قد جدت بالطرف الجواد فثنة ... لأخيك من أدد ابيك بمنصل
يتناول الروح البعيد منالها ... عفوا ويفتح في الفضاء المقفل
بإنارة في كل خطب مظلم ... وهداية في كل نفس مجهل
ماض وإن لم تمضه يد فارس ... بطل ومصقول وإن لم يصقل
يغشى الوغى فالترس ليس بجنة ... في حده والدرع ليس بمعقل
مصغ على حكم الردى فإذا مضى ... لم يلتفت وإذا قضى لم يعدل
متألق يبرى بأول ضربة ... ما أدركت ولوانها في "يذبل"
وإذا أصاب فكل شيء مقتل ... وإذا أصيب فما له من مقتل
وكأنما سود النمال وحمرها ... دبت بأيد في قراه وأرجل
حملت حمائله القديمة بقلة ... من عهد عاد غضة لم تذبل
* * * واستهدى أيضا من أبى جعفر محمد بن عبد الحميد فرسا وبغلا بقصيدة أولها:
لم يبق في تلك الرسوم "بمنعج" ... إما سألت معرج لمعرج
يقول فيها في المعنى الذي ذكرنا:
1 / 9
أزف الفراق فنحن سفر في غد ... بالبين من دعوى الترحل ننتجي
وهو المسير إلى الخليج لنية ... لولا "ابن يوسف" لم نشط فنخلج
فأعن على غزو العدو بمنطو ... أحشاؤه طى الكتاب المدرج
إما بأشقر ساطع أغشى الوغى ... منه بمثل الكوكب المتأجج
متسربل شية طلت أعطافه ... بدم فما تلقاه غير مضرج
أو أدهم صافى السواد كأنه ... تحت الكمي مظهر بيرندج
ضرم يهيج السوط من شؤبوبه ... هيج الجنائب من حريق العرفج
خفيت مواقع وطئه فلو أنه ... يجرى برملة "عالج" لم لم يرهج
أو أشهب يقق يضئ وراءه ... متن كمتن اللجة المترجرج
تخفى الحجول ولو بلغن لبانه ... في أبيض متألق كالدملج
أوفي بعرف أسود متغرببٍ ... فيما يليه وحافر فيروزجي
أو أبلق يلقى العيون إذا بدا ... من كل لون معجب بنموذج
جذلان تحسده الجياد إذا مشى ... عنقا بأحسن حلة لم تنسج
وأقب نهد للصواهل شطره ... يوم الفخار وشطره للشحج
لا ديزج يصف الرماد ولم أجد ... (حالا تحسن من رواء الديزج)
وعريض أعلى المتن لو عليته ... بالزئبق المنهال لم يترجرح
خاضت قوائمه الوثيق بناؤها ... أمواج تحنيب بهن مدرج
ولأنت أبعد في السماحة همة ... من أن تضن بموكف أو مسرج
* * * وقد حذا الصنوبري حذو البحتري في هذه المعاني، فقال يستهدي نعلا:
متى تتدارك نعلى ألا ... فقد ذهبت أو بدت تذهب
بسوداء ذات بريق تراه ... كالآل من فوقها يلعب
وإلا فصفراء كالشمس حي ... ن يجللها ثوبها المذهب
وإلا فبلقاء قد وشحت ... بنقش كما وشح المشجب
وإلا فدكناء عرسية ... يشاكلها العنبر الأشهب
وإلا فحمراء لون الشقي ... ق إن كان هذا فذا أغراب
وإلا فصهباء ما إن يزا ... ل ينافسها السوسن الأصهب
(ولو كنت أعرف خضراء قل ... ت كالماء دبجه الطحلب)
ومما يزينها في العيو ... ن كما زين الفرس المركب
شراك كخطافة رنقت ... تهم بشرب وما تشرب
وإلا كحمرة رفرفت ... فلا هي تنأى ولا تقرب
كأن عيون الدبى خرزها ... إذا ما بدا للدبى موكب
له شمسة سال كيمختها ... كما انقض من حالق كوكب
هي البكر يخطبها كفؤها ... كذا البكر أحسن ما يخطب
أبوها يمان ولكنها ... إلى السند في زيها تنسب
محذفة الوسط شابورة ... حكتها بآذانها الربرب
وفي وسطها طرة قصها ... على طرة العود بل أعجب
إذا أقبلت أدبرت حية ... وإن أدبرت أقبلت عقرب
وذا النعت يعزب إلا علي ... ك فأما عليك فما يعزب
* * * وعلى البحتري أيضا ومعانيه في القصيدة التي قدمنا عول المريمي، وقد استهدى تكة من ابن (عبد كان) كاتب أحمد بن طولون بقوله:
ياسيدي ومؤملي ... إن خفت من عنت الليالي
أشكو إليك مصيبتي ... في تكة كانت جمالي
لعب البلى بجديدها ... فكأنها دمن بوالي
ولديك منها عدة ... نخب من التكك الغوالي
فابعث بإحداهن لي ... حمراء مثل دم الغزال
أو جد بها صفراء مث ... ل الشمس في وقت الزوال
أو لا، فبيضاء القم ... يص كأنها رقراق آل
ومتى بعثت بها مور ... دة لعبدك لا يبالي
والخضر لون أشتهي ... هـ وأرتضيه بكل حال
ولئن أتت خمرية ... فقد اعتقدت بها وصالي
أو فلتكن زرقاء تش ... به زرقة الماء الزلال
وتجنب السوداء فه ... ى تعد في السقط الرذال
والعيش في منقوشة ... كأكف ربات الحجال
هبها وخذ حظي بها ... ألا تحل على حلال
قال: فأهدى إليه من كل لون ذكره عشر تكك.
* * * واستهدى البحتري من إبراهيم بن المدبر الكاتب غلاما روميا اسمه "ميخائيل" بشعر يقول فيه:
وقد زعموا أن ليس يغتصب الفتى ... على عزمه إلا الهدية والسحر
فإن كنت يوما لا محالة مهديا ... ففي المهرجان الوقت إذ فاتنا الفطر
وإن تهد "ميخائيل" ترسل بتحفة ... تقضى بها العتبى ويغتفر الوزر
1 / 10
عزيز تراءته العيون كأنما ... أضاءلها في عقب داجية فجر
ولو يبتدى في بضع عشرة ليلة ... من الشهر ما شك امرؤ أنه البدر
إذا انصرفت يوما بعطفيه لفتة ... أو اعترضت من لحظه نظرة شذر
رأيت هوى قلب بطيئا نزوعه ... وحاجة نفس ليس عن مثلها صبر
ومثلك أعطى مثله لم يضق به ... ذراعا ولم يحرج له أوبه صدر
تجاف لنا عنه فإنك واجد ... به ثمنا يغليه في مدحك الشعر
* * * واستهدى أبو تمام من محمد بن مالك بن طوق فرسا بشعر يقول فيه:
قالت ... وعى النساء كالخرس
وقد يصبن الفصوص في الخلس:
هل يرجعن غير خائب فرسا ... ذو سبب في ربيعة الفرس
كأنني قد زرت ساحتها ... بمسمح في قياده سلس
أحمر منها مثل السبيكة أو ... أحوى به كاللمى أو اللعس
أو أدهم فيه كمتة أمم ... كأنه قطعة من الغلس
فهو لدى الروع والجلائب ذو ... أعلى مندى وأسفل يبس
يكثر أن يستحم في الحر والقر حميما يزيد في النجس
* * * واستهدى أيضا من بعض آل المهلب بن أبى صفرة فروا بشعر يقول فيه:
دنا سفر والدار تنأى وتصقب ... وينسى سراه من يعافى ويصحب
وأيامنا خزر العيون عوابس ... إذا لم يخضها الحازم المتلبب
ولا بد من فرو إذا اجتابه امرؤ ... بدا وهو شات في الصنابر أغلب
يسرك بأسا وهو غر مغمر ... ويعتد للأيام حين يجرب
تظل البلاد ترتمى بضريبها ... وتشمل من أقطارها وهو يجنب
إذا البدن المقرور ألبسه غدا ... له راشح من تحته متصبب
إذا اعتد ذنبا ثقله منكب امرئ ... يقول الحشا إحسانه حين يذنب
يراه الشفيف المرثعن فينثنى ... حسيرا وتغشاه الصبا فتنكب
إذا ما أساءت بالثياب فقولها ... له كلما لاقته أهل ومرحب
إذا اليوم أمسى وهو غضبان لم يكن ... طويل مبالاة به حين حين يغضب
كأن حواشيه العلى وخصوره ... وما انحط منه جمرة تتلهب
فهل أنت مهديه بمثل شكيره ... من الشكر يعلو مصعدا ويصوب
فأنت العليم الطب أي وصية ... بها كان أوصى في الثياب "المهلب"
يريد بهذا البيت ما يروى أن المهلب بن أبي صفرة قال يوما لبنيه، وقد اجتمعوا عنده في أجمل اللباس، وأحسن الزي: "إن أحسن ما كانت ثيابكم غذ رآها الناس على غيركم".
* * * وحدثنا على بن العباس النوبختي قال: استهدى على بن العباس الرومي من أبى العباس بن بشر المرثدي لوزينجا عن مولود رزقه بشعر طويل أوله:
لا يخطئني منك لوزينج ... إذا بدا أعجب أو عجبا
لم تغلق الشهوة أبوابها ... إلا أبت زلفاه أن بحجبا
لو شاء أن يذهب في صخرة ... لسخر الطيب له مذهبا
يدور بالنفخة في جامه ... دورا ترى الدهن له لولبا
عاون فيه منظر مخبرا ... مستحسن ساعد مستعذبا
مستكثف الخبز ولكنه ... ارق جلدا من نسيم الصبا
كأنما قدت جلابيبه ... من أعين القطر إذا قببا
يخال من رقة خرشائه ... شارك في الأجنحة الجندبا
لو أنه صور من خبره ... أن يجعل لكان الواضح الأشنبا
من كل بيضاء يحب الفتى ... أن يجعل الكف له مركبا
ذيق له اللوز فلا مرة ... مرت على الذائق إلا أبى
وانتقد السكر نقاده ... وشاوروا في نقده المذهبا
فلا إذا العين رأته نبت ... ولا إذا الضرس علاه نبا
* * * قال: واستهدى من بعض إخوانه بخوانه بخورا بشعر أوله:
أبا على طلبت عيبك ما اسطعت فألفيت عيبك السرفا
يا أحسن الوجه والشمائل والأخلاق والخلق حيث ما انصرفا
عندي عليل أرد منته ... بطيب الطيب كلما ضعفا
فابعث بشيء من البخور له ... كبعض معروفك الذي سلفا
ولتك أنفاسه تشاكل ذك ... راك وحسبي بطيبها وكفى
من ندك الفاضل المفضل في الند على غيره إذا وصفا
ذاك الذي لو غدا يفاخره ... نسيم نور الرياض ما انتصفا
ولا يكن دخنة المعزم للعفريت من شم ريحها رعفا
لا تدخلن الجفاء في لطف ... فربما ألطف امرؤ فجفا
1 / 11
أطب وأقلل فإن أطبت وأكثرت نصيبي فيا له شرفا
* * * واستهدى من أبى عبد الله محمد بن سليمان بن فهد غروسا من الزهر لبستان بشعر يقول فيه:
قد تعرى بستاننا فاكس عار ... يه بنور يكسوه حلة نور
نحن في كأبة به فاجلب الله ... وغلينا بجالبات السرور
بغصون إذا تمايلن في الري ... ح عطفن القدود عطف الخصور
ما تبدت إلا حكت ظفر العا ... شق في غفلة الرقيب الغيور
وعرفنا في عرفها طيب أنفا ... سك ذات الذكاء والتعطير
فهي تهدي إلى النفوس مع الأن ... فاس مسكا فتقته بعبير
من نسيم تظل تحمله الري ... ح غلينا باكورة في الحجور
الخلوقى كالخلوق وكافور ... ريها في الذكاء كالكافور
مثل رقم الحرير أصفر في أح ... مر من فوق أخضر كالحرير
طاب في ظلها مراضعة الخم ... ر وتنفيس وعكة المخمور
قد بعثت المنظوم نحوكم مد ... حا فجودوا على بالمنثور
* * * وأهدى بعض إخوان أبى على البصير غليه مرفقة قرمز من مرفقتين أهديتا إليه، فقال أبو على يستهدى الأخرى:
مرفقة أعطيها فردة ... رمت لها أختا فلم يتفق
يقول من أبصرها عندنا ... موضوعة: ما هي إلا سرق
قالت ... وقد صدرت بيتي بها
مقال موتور مغيظ حنق
واستنكرت ما هو مستنكر ... من ضيعة القرمز بين الخرق
وذكرت أختا لها عندكم ... كانت وإياها معا في نسق:
تعسا لمن فرق ما بيننا ... ولم يكن في الحق أن نفترق
فوجه إليه بالمرفقة الأخرى.
* * * وحدثنا الأسباطي قال: استهدى المريمي من أبى الجيش خمارويه ابن أحمد بن طولون خمية بقصيدة طويلة يقول فيها:
وقد عرضت إليك حويجة لي ... مصغرة وموقعها جليل
مقدرة من الخيم اللواتي ... بها لطف وليس بها خمول
حواليها السيول ولا عليها ... إذا أفضت على الخيم السيول
ثناء يستهيل القطر فيه ... ولا يعفو كما تعفو الطلول
إذا حلت من الأطناب خرب ... كما خر النزيف أو القتيل
* * * قال أبو بكر المراغي الوراق: حدثنا اللبادي الشاعر أنه خرج من بعض مدن أذربيجان يريد أخرى وتحته مهر له رائع، وكانت السنة مجدبة، فضمه الطريق وغلاما حدثا على حمار له، قال: فحادثته فرأيته أديبا، راوية للشعر، خفيف الروح، حاضر الجواب، جيد الحجة، فسرنا بقية يومنا، وأمسينا أن يكون عنده شيء، فرفقت به على أن جاءني برغيفين، فأخذت واحدا، ودفعت إلى ذلك الغلام الآخر. وكان غمى على المهر أن يبيت بغير علف أعظم من غمى على نفسي. فسألت صاحب الخان عن الشعير فقال: ما أقدر منه على حبة واحدة. فقلت: فاطلب. وجعلت له جعيلة على ذلك.
فمضى وجاءني بعد طويل، فقال: قد وجدت مكوكين عند رجل حلف بالطلاق أنه لا نقصهما من مائة درهم. فقلت: ما بعد الطلاق كلام. ودفعت إليه خمسين درهما، فجاءني بمكوك، فعلقته على دابتي.
وجعلت أحادث الفتى، وحماره واقف بغير علف، فأطرق مليا، ثم قال: أتسمع -أيدك الله- أبياتا حضرت الساعة؟ قلت: هاتها، فأنشدني:
يا سيدي شعري نفاية شعركا ... فلذاك نظمى لا يقوم بنثركا
وقد انبسطت إليك في إنشادما ... هو بالحقيقة قطرة من بحركا
آنستني وسررتني وبررتني ... وجعلت أمري من مقدم أمركا
وأريد أذكر حاجة إن تقضها ... أك عبد مدحك ما حييت وشكركا
أنا في ضيافتك العشية هاهنا ... فاجعل حماري في ضيافة مهركا
فضحكت، واعتذرت غليه من إغفالي أمر حماره، وابتعت المكوك الآخر بخمسين درهما، ودفعته إليه.
* * * حدثنا الصولي عن أبى العيناء قال: كتب الحسين بن الضحاك إلى أحمد يوسف الكاتب، ليلة الميلاد، يستهديه شمعا:
سجاياك في طيب أعراقها ... تباهى النجوم بإشراقها
وما للعفاة غياث سوا ... ك كانك ضامن أرزاقها
وليلة ميلاد عيسى المس ... يح قد طالبتني بميثاقها
فهذى قدوري على نارها ... وفاكهتي ملء أطباقها
وبنت الدنان فقد أبرزت ... من الخدر تجلى لعشاقها
وقد قامت السوق بالمسمعا ... ت وبالمطربات على ساقها
1 / 12
فكن مهديا لي فدتك النفو ... س فجودك ممسك أرماقها
نظائر صفرا غدت فتنة ... بلطفة أنامل حذاقها
ومثل الأفاعي إذا ألهبت ... وللروم زرقة أحداقها
ولم أر من قبلها أنفسا ... تذيب الجسوم بإحراقها
وإن مرضت لم يكن برؤها ... بشيء سوى ضرب أعناقها
الباب الرابع
في ذكر من استهدى هدية بغير شعر
حدثنا الأصبهاني قال: كتب رجل إلى محمد بن منصور بن زياد كاتب البرامكة، وكان كريما سخيا، يلقب "الفتى العسكر" يستهديه جارية رقعة فيها" "حفظك الله وحفظ النعمة عليك، إن بين كل أمر يطالبه الرجل وبين المطلوب إليه ذريعة يتوسل بها إلى معروفه، ولي بارتجائك درجة توجب قضى الحقوق. وحاجتي -أبقاك الله - ظريفة من الجواري لم تتداولها أيدي التجار، ولم تمتهنها خدمة الموالى؛ ولى فيها شريطة أعرضها عليك، وأذكرها لك، لترى رأيك فيها.
وهي أنه كان يقال: إذا اتخذت جارية فاستجد شعرها؛ فإن الشعر أحد الوجهين؛ وتكون رائعة البياض تامة القوام، فإنه يقال: إن البياض والطول نصف الحسن. وأنا أقول: إنه الحسن كله، وتكون مليحة المضحك فإنه أول ما تسجلب به المرأة المودة وتعتقد الحظوة، وتكون جيداء العنق، غيداء الليث، كحلاء العين، لها طرف أدعج وحاجب أزج، موردة الخدين سهلتهما، واضحة الجبين، قنواء الأنف، حماء الشفتين، مفلجة الثنايا، نقية الثغر، مشرفة النحر؛ ولست أكره الانكسار في الثديين لأنه ليس للنهود عندي إلا لذة المنظر، وهي أيضا تحول بين المعانق وبين إرادته وليست من قول الشاعر:
حال الوشاح على قضيب زانه ... رمان صدر ليس يقطف ناهد
وأكره العجيزة الضخمة، ولا أحب الرسحاء بل أريدها وسطا، لأن "خير الأمور أوسطها". وتكون سبطة البنان فتلاء الساعد، ممتلئة الذراع، فخمة العضد، قباء البطن، نحيفة الخصر، يطويها الضجيع طي الحمالة؛ عبلة الفخذين، بردية الساقين، لطيفة القدمين.
ولولا إفراط الغيرة لذكرت ما أحبه مما هو مستور إلا عند الحاجة إليه.
وأريدها رخيمة الصوت، شهية النغمة، عذبة الألفاظ، بها غنة الحداثة، وبحة الاحتلام؛ أشجى حلقا من الغريض. وأنغم كلاما في الآذان من نغم "مخارق"، وأثبت حجة من "أبى الهذيل العلاف"، وأبين معنى من "النظام"، ظريفة المجون، حسنة الوقار إن أردتها دنت وإن كرهتها نأت، أطوع من الرداء وأذل من الحذاء.
وقدرك - أيدك الله- يحتمل اقتراحي عليك، وشكري لك يستوجب ما سألته منك، وأنا بالإسعاف جدير، وأنت بالإفضال قمين؛ والسلام.
فأجابه محمد بن منصور: "سألت أعزك الله عن هذه الصفة وطلبت هذا النعت فأعيتني في الدنيا، وما أراني أجدها في الآخرة وقد بعثت إليك ألف دينار لتلتمسها أنت، وتسأل إخوانك معاونتك على ذلك، فمتى وجدتها أو وجدها لك أحد دفعت الدنانير إليه عربون الدلالة وعرفتني مقدار الثمن حتى أنفذه إليك".
قال: وكتب بعض أصحاب معن بن زائدة، وهو ببرذعة، متقلدا لها رقعة فيها: " إن رأى الأمير أن يأمر بحملاني، فإني بغير مركوب فعل إن شاء الله". فوقع معن على رقعته: "يدفع إليه حجر ومهر، وبغلة وبغل، وحمارة وعير، وناقة ونجيب، وبقرة وثور، وسفينة وقارب، وجارية وغلام، وخف ونقل. وما أعلم أنه أبقى شيء مما يركب إلا فيل وزندبيل؛ وأرجو أن أملكها وأحملك عليهما إن شاء الله".
وحدثنا جحظة قال: كان جعفر بن عبد الواحد الهاشمي بخيلا موسرا، وكان ينزل سر من رأى وكان يستهدى في أيام الرطب من صديق له رطبا، فكان يوجه إليه في كل يوم سلة رطب، فكأنه ربما جاءته متشعثة، فيتهم الغلام أنه يأكل منها.
فلما طال ذلك عليه قال للذي كان يهديها إليه: إن أردت تمام العارفة عندي، وأحببت أن تهنئني بما تهديه إلي فاختمها فقد اتهمت الغلام؛ فكان يختمها ويوجهها إليه، فساء ظنه أيضا بالغلام، فقال: إن أردت سروري وإزالة الفكر عن قلبي فصير ختمك إياها زنبورين حتى لا يتهيأ للغلام فيها ما يريد، ففعل ذلك. فكان إذا فتحها وطار الزنبوران منها علم حينئذ أنها ما فتحت، ولا أخذ الغلام منها شيئا.
الباب الخامس
في ذكر شيء من أخبار الهدايا
1 / 13
حدثنا الصولي عن يزيد بن محمد المهلبي قال: أهدى أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي إلى المأمون في يوم مهرجان مائة حمل زعفران في شبك إبريسم على مائة أتان شهب وحشية مرببة.
فجاءت الهدية والمأمون عند الحرم فقيل له: قد وجه القاسم بن عيسى مائة حمل زعفران (على مائة حمار) فأحب المأمون أن ينظر إليها على حالها، وكره أن يكون من الحمير شيء لا يصلح للنساء، فسأل سؤال مستثبت عن الحمر أهي أتن أم ذكور؟ فقيل له: بل هي أتن وحشية مرببة، وليس فيها ذكر، فسر بذلك وقال: قد علمت أن الرجل أعقل من أن يوجه بها على غير أتن.
وشبيه بهذا الخبر ما حدثناه جحظة قال: حدثني علي بن يحيى المنجم أن المتوكل كان يميل إلى جاريته "شجن" ميلا تماما، ويفضلها على سائر حظاياه، ويصفها لهن. فعاتبته على تفضيله إياها، وميله إليها وأثرته لها عليهن، فأقبل يصفها ويذكر أحوالها وتمام ظرفها وكمال مروءتها ثم قال: وهذا المهرجان قد قرب وقته، ولابد لكن من أن تهدين إلي فيه هدايا، وتهدى هي أيضا وننظر إلى هديتها وهداياكن، فتعلمن أن هديتها أطرف من هداياكن جميعا.
فلما كان في يوم المهرجان أهدين هدايا نفيسة، واحتفلن في ذلك؛ وجاءت هدية "شجن" وهي عشرون غزالا مرببة بعشرين سرجا صينيا، على كل غزال خرج صغير من ذهب مشبك فيه المسك والعنبر وأنواع الطيب المرتفعة؛ مع كل غزال وصيفة بمنطقة من ذهب في رأسه جوهرة ياقوت أو زمرد أو غيرها من الجواهر الجليلة القدر، فقال المتوكل لحظاياه واستلمح ذلك؛ من كان يحسن منكن مثل هذا قال جحظة: فحدثني علي بن يحيى أنهن عملن في قتلها بشيء سقينها إياه فماتت.
وحثنا محمد بن يحيى قال: حدثني يزيد بن محمد قال: كان موسى بن عيسى بن يزدانير من وجوه الكتاب وسرواتهم، وكان يكتب للفضل بن الربيع، فاتصل بالفضل أنه يهوى "عريب" المغنية، فقال له يوما: يا موسى بلغني أنك تهوى عريب هوى لا يهنيك معه مطعم ولا مشرب، وما نملكه فبين يديك، فإن كان لما بلغني حقيقة فعرفنيه حتى أبتاعها لك بما بلغت، ولو أتى ذلك على جميع ما أملك. واعلم أن هذه الحال ليست بناقصتك عندي، واحذر أن تكتمني فيتأدى إلي الخبر بصحة ما بلغني فأتنكر لك.
فأنكر موسى ذلك، ودفعه، وحلف على بطلانه.
فلما كان بعد ذلك بأيام تغدى الفضل، فقدم إليه في آخر الطعام لباء ظباء مع تمر من التمر السابري في طبق غضار صيني زمردي؛ فاستحسن الفضل ذلك. وكان يعرف كاتبه بالظرف، فقال: هذه هدية ظريفة تصلح لكاتبنا موسى. فدعا بطبق ومكبة، ووجه بذلك إلى موسى، فلما وضع بين يديه استحسنه وقال: لا أهدى إلى عريب شيئا أملح من هذا فوجه بالهدية على حالها (إليها) فلما نظرت إليها استطرفتها وقالت: لا أتحف الأمير- يعني الفضل - بأحسن من هذه الزلة فبعثت بها إليه، فدخلت داره كما خرجت منها لم تغير، فأمر بها، فعزلت.
وحضر موسى بالعشي على رسمه فقال له الفضل: كيف رأيت تلك الهدية يا موسى؟ قال: حسنة، والله يا سيدي! قال: فأكلت منها؟ قال: نعم وأطعمت من في منزلي تشرفا. فقال له الفضل: يا فاسق أما زعمت أنك لا تحب عريب، هذه هديتنا إليك قد أتحفتنا بها عريب أما أنك لو كنت صدقتني عن مكانها من قلبك عند عرضي عليك ما عرضت من أمرها كنت قد ابتعتها لك بما بلغت، فأما الآن فلا.
فقال موسى: ظلمتني يا سيدي إني لو أعلمتك أنى أهواها لوجب أن أسقط من عينك وتقل منزلتي عندك إذا أظهرت حبها، ولم أصبر على كتمانه؛ فقال الفضل: دع هذا عنك فقد خجلت، يا غلام أزل خجلة بعشرة آلاف دينار ينفقها على عريب؛ فدفعت إليه.
وحدثنا أيضا قال: تقدم الواثق إلى إيتاخ - وكان على خزن الكسوة - أن يتخذ له حلتي وشي على صورة، ودفعتها إليه، وأمره بتعجيل ذلك في يوم ذكره له. فتقدم إيتاخ إلى كاتبه سليمان بن وهب فجد في اتخاذها حتى فرغ منهما وأتى بهما إلى الواثق، فرضيهما وأمر بقطعها له دراعة وقميصًا.
1 / 14
وعرض لسليمان شغل فسأل أخاه الحسن بن وهب النيابة عنه في ملازمة الخياطين وحثهم حتى يفرغوا. وكان الحسن يهوى "بنان" جارية محمد بن حماد كاتب راشد المعرى، فلما خلا بالثوبين قطع أحدهما قميصا لبنان؛ واستحث الخياطين في أمره حتى فرغوا منه، وأخذه وانصرف إلى منزله، وأحضر "بنان" فخلعه عليها، وجلس يشرب معها. واتصل الخبر بأخيه سليمان، فقامت القيامة عليه، وأيقن بالقتل، وأحضر الوشائين فطلب شكلا للثوب فلم يجده، فابتاع حلة دونه بستة آلاف دينار، وصدق إيتاخ الخبر.
وألح الواثق في طلب القميص والدراعة وإيتاخ يدافعه إلى أن فرغ الخياطون من ذلك، فأحضرهما إياه؛ فلما لبسهما أنكر الحلة المبتاعة فسأل إيتاخ عن السبب، واستحلفه بحياته أن يصدقه فصدقه عن الخبر، فضحك حتى استلقى على فراشه.
وأنفذ خدما لإحضار الحسن و"بنان" على الصورة التي هما عليها، فأحضرا فيوقته، فلما رآهما والقميص على بنان قال للحسن: ويحك؛ تأخذ ثوبا قد اخترته لنفسي فتقطعه للتي تحب عن غير أمري. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم؟ قال: لأنك الخليفة والدنيا كلها ملك يدك، وجميع أهلها رعيتك ولا يبعد عليك ما تطلب وأنا لا أقدر على مثله أبدا إلا أن تقطع حلة أخرى، ويستوى لي أن أتقلد أمرها فأسرقها.
فضحك الواثق أكثر من ضحكه الأول وأمر له بمائة ألف درهم، ول"بنان" بثلاثين ألف درهم وصرفها.
وكان في ناحية الحسان شاعر قد جفاه واطرحه، فقال في ذلك:
أهدى إليها قميصًا ... سلها فيه غيره
ففي السعادة حرها ... وفي الشقاوة تره
وحدثنا جحظة في كتابة الملقب "بكتاب المشاهدة" قال: كان الحسن بن مخلد شحيحا على الطعام، سمحا بالأموال الجليلة القدر، فسمعت علي بن يحيى المنجم يقول: كان الحسن بن مخلط يعمل لجاريته "لاثم" في كل يوم من مائدته وسطا ويهديه إليها، فتظهر السرور بذلك فأغفله يوما فعاتبته على ذلك، فعمل لها وسطا من ذهب في جوفه جوهرة بعشرة آلاف دينار فأهداه إليها.
قال: وكانت تسمى الوسط الذي يهديه إليها من المائدة في كل يوم "ما هناني". فقالت له عند إهدائه الوسط من الذهب: ليس هذا يا سيدي "ما هناني"؛ هذا ما أغناني.
حدثنا أحمد بن أبي خال قال: خرج الفيض بن أبي صالح، وأحمد بن الجنيد وجماعة من وجوه الكتاب من دار المأمون منصرفين إلى منازلهم، وكان يوما مطيرا، فتقدم الفيض بن أبي صالح، وتلاه أحمد ابن الجنيد فنضح دابة الفيض على ثياب أحمد بن الجنيد برجله من ماء المطر فتأفف أحمد وقال (للفيض) هذه والله مسايرة بغيضة، وما أدرى أي حق أوجب لك التقدم علينا؟ فأمسك الفيض حتى صار إلى منزله، ثم دعا وكيله، فأمره بإحضار مائة تخت في كل قميص وسراويل ومبطنة وطيلسان ففعل ذلك. فقال له: احمل هذه التخوت على مائة حمال، وصر بها إلى أحمد بن الجنيد، وقل له: أوجب لنا التقدم عليك أن لنا مثل هذا نهديه إليك إذا أفسدنا ثيابك فإن أهديت لنا مثله إذا تقدمت علينا وأفسدت دابتك ثيابنا قدمناك.
حدثنا الصولي قال: اختصم رجلان إلى قاض قد قدم أحدهما إليه هدية، فأراد القاضي أن يقضي عليه بحق وجب، فدنا منه فقال مسرا إليه: قد أهديت إلى القاضي شبابيط دجلية، وفراريج كسكرية، وحنطة بلدية، وجبنة دينورية، وشهدة رومية، فقال القاضي: قم! وصاح: ما هذا مما تسارني به، إذا كانت لك بينة بالرى انتظرناها وأخرنا الحكم وأجلناك. فقال: الغريم:
إذا ما صب في القنديل زيت ... تحولت الحكومة للمقندل
وعند قضاتنا حكم وعلم ... وبذر حين ترشوهم بسنبل
وحدثنا جحظة عن حماد بن اسحق الموصلي عن أبيه قال: طهرت بعض ولدي فكتب إلى إبراهيم بن المهدي: "لولا أن البضاعة قصرت عن بلوغ الهمة لتقدمت السابقين إلى برك، وشأوت المتقدمين إلى إكرامك، وكرهت أن تطوى صحيفة البر وليس لي فيها ذكر فوجهت إليك المبتدأ بنفعه والمختوم ببركته وطيبه: جراب ملح وجراب أشنان" ثم جائتني هداياه بما تقصر الألسن عن نعته.
الباب السادس
في ذكر من ذم ما أهدي إليه نظما أو نثرا
حدثنا الرجائي قال: حدثني صديق لي طريف أديب أنه وصف لجحظة ممقورًا كان عنده فاستهدى منه شيئا؛ قال: فوجهته كله إليه، فكتب إلي:
يا بن روحي فدتك روحي من الأس ... واء إني بك الغداة عميد
1 / 15
قد أتانا الممقور لازلت كالمم ... قور في خله وفي الخل دود
عملته العجوز حتى إذا ما ... جاد جادت به على من تريد
زوجه طالق وبنت شرود ... وأمور منها يشيب الوليد
قال: فلقيته وكنت له كالخادم، فقلت: من أنا ويحك حتى تهجوني؟ وأي شيء ذنبي إليك؟ فقال: سألتك ممقورا فوجهت إلي برفائد الفصد.
وحدثنا علي بن اسحق الكاتب قال: أهدى ابن اليتيم الكاتب إلى البسامي دن شراب فلم يرضه وكتب إليه:
أقبل الدن من بعيد فأيقن ... ابخفض ولذة وسرور
ففتحناه مسرعين فألقي ... ناه خلا يعد للممقور
قال: وأهدى إليه بعض إخوانه أقداحا وصفها له قبل إهدائها، وذكر أنها مخروطة في نهاية الحسن؛ فلما رآها لم تقع منه موقعا، فردها وكتب معها:
قد دعتني إلى التنسك أقدا ... حك بعد المجون والإفراط
هي مخروطة زعمت ولكن ... سقطت طاؤها من الخراط
قال: وأهدى إليه صديق له قمريا غير فصيح، فكتب إليه:
تعرضت مني للهجاء ولم يكن ... سوى الشكر والإحماد في كل مجلس
وما الناس إلا من تكامل فيهم ... سماحة أخلاق وعفة أنفس
فشأنك بالقمرى يا أهل مثله ... على صوته فأطرب وإياه فاحبس
ولكن من حق العجوز وبرها ... بعثت إلى غضب اللسان بأخرس
قال: وزار عبد الله -الذي كان أبو تمام يهواه - أبا تمام يوما ولم يكن عنده نبيذ، فأنفذ غلاما له إلى بعض إخوانه، يستهديه نبيذا بهذه الأبيات:
جعلت فداك "عبد الله" عندي ... بعقب الهجر منه والبعاد
له لُمةٌ من الكتاب بيض ... قضوا حق الزيارة والوداد
واحسب يومهم أن لم تجدهم ... مصادف دعوة منهم جماد
فكم بر من الصهباء سار ... وآخر منك بالمعروف غاد
فهذا يستهل على ضميمي ... وهذا يستهل على تلادي
دعوتهم عليك وكنت ممن ... يناديه إلى النوب الشداد
فحبس غلامه وقتا طويلا ثم أنفذ نبيذا ردئيا فكتب إليه أبو تمام:
قد عرفنا دلائل المنع أو ما ... يشبه اللوم باحتباس الرسول
وافتضحنا عند الحبيب بما ص ... ح لديه من قبح وجه الشمول
فاجأتنا كدراء لم تسب من تس ... نيم جريالها ولا السلسبيل
من عقار لا ريحها نكهة المس ... ك ولا خدها بخد أسيل
لا تهدى سبل العروق ولا تن ... ساب في مفصل بغير دليل
وكأن الأنامل اعتصرتها ... بعد كد من ماء وجه البخيل
وهي نزر لو أنها من دموع الص ... ب لم تشف منه حر الغليل
احتسابا بذلتها أم تصدق ... ت بها رحمة على ابن سبيل
كم مغطى قد اختبرنا جداه ... وعرفنا كثيره بالقليل
وحدثنا أبو نجدة الأنماطي الموصلي قال: اعتل البحتري بالموصل فأشار عليه الطبيب بتجنب اللحم وأن يتغذى بمزورة وصفها له، فقال بعض رؤساء الموصل: لي طباخ يجيد صنعة هذه المزورة، وأنا أتقدم إليه باتخاذها في كل يوم، وتوجيهها إليك، فقال له: افعل. فلما جاءته لم يستطبها فكتب إلى الرجل:
وجدت وعدك زورا في مزورة ... حلفت مجتهدا إحكام طاهيها
فلا شفى الله من يرجو الشفاء بها ... ولا علت كف ملق كفه فيها
فاحبس رسولك عنها أن يجيء بها ... فقد حبست رسولي عن تقاضيها
وأهدى معمر السدوسي إلى أبي الخطاب البهدلي جملًا مهزولًا فكتب إليه أبو الخطاب:
أهدى إلينا معمر خروفا ... كان زمانا عنده مكتوفا
يعلفه الكستج والسفوفا ... والغارقون بعده مدوفا
حتى إذا ما صار مستجيفا ... أهدى فأهدى قصبا ملفوفا
عظما وجلدا فوقه وصوفا ... وكان من أفعاله موصوفا
واستهدى ابن طباطبا من صديق له نبيذا في قرابة، فوجه إليه نبيذا ممزوجا فكتب إليه:
كنت استمحتك في قرابة ماء ... "أبا الحسين" أم استهديت صهباء
خطبت جارية سمراء قد جليت ... على زفت إلي اليوم بيضاء
فرطت في ختم بر قد سمحت به ... قدبر اللص فيه أمس ما شاء
وأهدى رجل إلى دعبل بن علي أضحية مهزولة فلم يرضها وكتب إليه:
بعثت إلي بأضحية ... وكنت حريا بان تفعلا
ولكنها خرجت غثة ... كأنك أعلفتها حرملا
1 / 16
فإن قبل الله قربانها ... فسبحان ربك ما أعدلا!
الباب السابع
في ذكر من استهدى شيئا فمنع منه أو مطل به فذم واستبطأ بشعر
حدثنا أبو الفرج قدامة بن جعفر قال: حدثني أبي قال: أهدى أبو جعفر بن سطام إلى إبراهيم بن عيسى الزمن حمارا فلم يحمده، فكتب إلى أبي جعفر يذم الحمار ويعرض بأبي الصقر بن بلبل، وكان يعاديه:
قل "لأبي جعفر" في عيركم ... خمس خلال من "أبي الصقر"
مبلد يغمز من حقوه ... مع رقة الحافر والظهر
فامنن لهذا العير يا سيدي ... بقوته للشهر والدهر
فوقع: ليطلق له العلف في كل شهر. قال: فتأخر في بعض الشهور، وكان في شهر رمضان، فكتب إلى أبي جعفر:
يا "أبا جعفر" بعيشك هل أب ... صرت عيرا يصوم شهر الصيام
جاءني الصك للحمار ولكن ... لم أحصل سوى استماع الكلام
فعلى حسب ذاك سوف أجازي ... ك وآتيك شاكرا في المنام
فأمر أن يسلف لعشر سنين.
واستهدى الحمدوي البصري من أحمد بن حرب طيلسانا لم يرضه، فعمل فيه شعرا كثيرا مشهورا عند الناس، نحن نذكر شيئا منه:
يا بن حرب كسوتني طيلسانا ... مل من صحبة الزمان وصدا
قد حسبنا نسج العناكب فيه ... قيس من نسج طيلسانك سدا
إن تنحنحت فيه ينخر عشرا ... أو تنفست نحوه انقد قدا
طال ترداده إلى الرفو حتى ... لو بعثناه وحده لتهدى
ومن مشهور قوله فيه أيضا، وقد روى بعض هذه القطعة لعبد الصمد بن المعذل في خبر ليس ها هنا موضعه، وهي:
طيلسان لو كان لفظا إذا ما ... شك خلق في أنه بهتان
فهو كالطور إذ تجلى له الل ... هـ فهدت قواه والأركان
يا بن حرب فكيف يبقى على البذ ... لة ثوب يذوب وهو يصان
يا بن حرب لقد رفوناه حتى بقى الرفو وانقضى الطيلسان
وفيه قوله أيضا:
يا بن حرب إني أرى في زوايا ... بيتنا مثل ما كسوت جماعة
طيلسان رفوته ورفوت الر ... فو منه وقد رقعت رقاعة
فأطاع البلى فصار خليعا ... ليس يعطى الرفاء في الرفو طاعة
فإذا سائل رآني فيه ... ظن أني فتى من أهل الصناعة
واستهدى الحمدوي أيضا من سعيد بن أحمد البصري شاة فكانت غير مرضية، فأكثر في ذمها؛ فمن ذلك قوله:
بشاة سعيد وهي روح بلا جسم ... تمثلت الأمثال في شدة السقم
يقول لي الإخوان لما طبختها: ... أتطبخ شطرنجا عظاما بلا لحم
فقلت: كلوا منها فقالوا تجمزا: ... أتطعمنا ناووس قوم من العجم
فقلت لهم: كانت لديهم أسيرة ... ترى القت في أيدي العدو وفي الحلم
وكم قد تغنت إذ تطاول جوعها، ولم تر عند القوم شيئا من الطعم
ألا أيها الغضبان بالله ما جرمي ... إليك فقد بليت لحمى على عظمى
شاة سعيد في أمرها عبر ... لما أتتنا قد مسها الضرر
وهي تغنى لسوء حالتها ... حسبي ما قد لقيت يا عمر
مرت بقطف خضر يشررها ... قوم فظنت بأنها خضر
فأقبلت نحوها لتأكلها ... حتى إذا ما تبين الخبر
وأبدلتها الظنون من طمع ... يأسا تغنت والدمع ينحدر
كانوا بعيدا فكنت آملهم ... حتى إذا ما تقاربوا هجروا
واستهدى ابن طباطبا من بعض الأمراء دابة، وكتب إليه بشعر يقول فيه:
سأغدوا منه محمولا ... على أدهم هملاج
بلون آبنوسي ... ووجه كسنا العاج
وثيق خلقه لم يؤ ... ت من طي وإدماج
قصير الظهر محبوك ... عظيم الردف رجراج
كمنشور الميادين ... به سرعة إدراج
ويسبى السمع منه عن ... د إلجام وإسراج
صهيل في لجام عل ... كه إيقاع صناج
له منه على إيقا ... هـ ألحان أهزاج
عليه أبدا من صب ... غه سربالديباج
أزح عني به اله ... م ولا تولع بإحراجي
فلم أثتضك المرك ... ب إلا بعد إحواج
فوعده ومطله أياما فكتب إليه:
يا سيدي أيها الأمير أما ... تقضى لنا بحاجة رجوناها
دابة الأرض تخرج من قب ... ل خروج التي طلبناها
بشرت نفسي بما سمحت به ... وعدا فحقق لدى بشراها
1 / 17
عندي لك الشكر والثناء وإن ... أغريت نفسي بطول شكواها
واستهدى دعبل بن علي دراعة من بعض الرؤساء، فلم يهدها إليه، وقال: "هذه الدراعة كانت لأبي، وما أسعف بها أحد، فقال دعبل:
ما يتقضى عجبي ... ما عشت من مطلب
سألته دراعة ... لباسها يجمل بي
فقال لي: أكره أن ... تلبس من بعد أبي
وقد رأى البرد ومن ... يلبسه بعد "النبي"
حدثنا جحظة قال: كتب البسامي إلى ابن عمه محمد بن جعفر البسامي يستهديه برذونا كان عنده، فكتب يعتذر ولم يهده إليه، ثم بلغه أنه قال: "أنا أصون هذا البرذون عن ولدي، فكيف أهبه لغيري؟ " فقال البسامي:
بخلت عني بحارن حطم ... لست تراني ما عشت أطلبه
فلا تقل صنته، فما خلق الل ... هـ مصونا وأنت تركبه
ثم استهداه بعد ذلك حمارا فلم يسعفه، فكتب إليه:
بعثت لأستهديك عيرا فلم تجد ... ولم أدر أن العير صار لنا صهرا
فوجه به كي نشترك في ركوبه ... فتركبه بطنا وأركبه ظهرا
واستهدى البحتري من إسماعيل بن شهاب كاتب ابن أبي داؤاد برذونا كان عنده، فوعده إياه ومطله مدة، وكان للبحتري برذون أدهم فنفق في تلك الأيام، فكتب إليه:
وعدت برذونا ورددتني ... إليك حتى مات برذوني
وكان مصقول النواحي إذا ... رأيته مستغرب اللون
لؤلؤة تضحك أرجاؤها ... تحسن في البذلة والصون
منيتني الأشهب من بعد ما ... فجعتني بالأدهم الجون
إن يكذب الميعاد تظلم وإن ... يصدق فبرذون ببرذون
الباب الثامن
في ذكر من لم يقبل الهدية ترفعا وردها تنزها
حدثنا علي بن العباس الكاتب قال: كان أبو العباس السفاح يعرف عمارة بن حمزة مولاه بالكبر وعلو الهمة والقدر، وشدة التنزه؛ فجرى بينه وبين أم سلمة بنت يعقوب بن سلمة المخزومية زوجته يوما كلام، فاخرته فيه بأهلها، فقال لها أبو العباس: أنا أحضرك الساعة على غير أهبة مولى من موالى ليس في أهلك مثله.
ثم أمر بإحضار عمارة بن حمزة على الحال التي يكون عليها فأتاه الرسول في الحضور؛ فاجتهد في تغيير زيه، فلم يدعه. وجاء به إلى أبي العباس وأم سلمة خلف الستر، وإذا عمارة في ثياب ممسكة، قد لط لحيته بالغالية حتى قامت واستتر شعره فقال: ما كنت أحب أن يراني أمير المؤمنين على هذه الحال. فرمى إليه بمدهن كان بين يديه فيه غالية، فقال: يا أمير المؤمنين، أترى لها في لحيتي موضعا؟. فوجهت إيه أم سلمة عقدا قيمته جليلة، فدفعه إليه الخادم فتركه بين يديه؛ وشكر أبا العابس، ونهض؛ فقالت أم سلمة لأبي العباس: إنما أنسيه. فقال للخادم: ألحقه به، وقل له هذا هدية أم سلمة إليك لم خلفته؟ فاتبعه الخادم وقال: هذا لك فلم تركته؟ فقال: ما هو لي فاردده. فلما عرفه أن أم سلمة أهدته إليه قال: إن كنت صادقا فقد وهبته لك.
فانصرف الخام بالعقد، وعرف أبا العباس ما جرى، فقالت أم سلمة: اردد علي عقدي؛ فامتنع الخادم من رده عليها، وقال: قد وهبه لي الذي وهبته له؛ فلم تزل به إلى أن ابتاعته منه بعشرة آلاف دينار.
قال محمد بن عبدوس: حدثني جعفر بن أحمد عن أشعث رجل كان يخلف العمال بالحضرة قال: كنت أكتب وأخلف أحمد بن محمد ابن مدبر، وهو يتولى مصر وأجناد الشام، فأنفذ إلي في عيد من الأعياد سفاتج بمائتي ألف دينار، وأنفذ معها ثلاثين سفطا من دق مصر وطائفها.
وكتب إلي أن أصير بجميع ذلك إلى عبيد الله بن يحيى هدية له، فوصل إلي كتابه في عشية يوم التروية. فقصدت بابه ولقيت "سعدا" حاجبه، وسألته إيصالي إليه، فاعتل علي بضيق الوقت، فعرفته أن معي شيئا مهما: فاستأذن لي، ودخلت فوجدته خالي الوجه، فقال لي حين رآني: خير؛ قالت: خير - أعز الله الوزير - ودفعت إليه الكتاب، وأخرجت الإضبارة بالسفاتج وعملا بأسماء أهلها، ومبلغ المال، وعملا بالأسفاط.
قال: فوقف على الجميع، ثم قال لي: والله، إن علي من الدين ما أحتاج معه إلى عشرة أمثال ما ذكرت، ولكني لا أحب الحمل على أبي الحسن بتغنم هذا المال منه.
1 / 18
وكتب إلى صاحب بيت المال في قبض مال السفاتج والاحتساب به حملا لأحمد بن محمد بن مدبر، ودعا بالأسفاط، فجعل يقلبها صنفا صنفا، ويستحسنها، ويرد شدها عليها، حتى مر به سفط سفاتج ومناديل صغار،؛ فتناول منها منديلا صغيرا، فجعله بين يديه، ودعا بغلام، فدفع الأسفاط إليه، وأمره أن يمضي بها، ويسلمها إلى خازن المتوكل؛ ويأمره بعرضها عليه وتعريفه أن عامل مصر حملها هدية للخليفة.
وروى محمد بن جرير الطبري في كتاب "التاريخ" عن الفضل ابن إسحاق الهاشمي أن إبراهيم بن جبريل خرج مع الفضل بن يحيى البرمكي إلى خراسان، وهو كاره للخروج، فأحفظ الفضل ذلك عليه.
قال إبراهيم: فدعاني يوما بعد أن أغفلني حينا، فدخلت إليه، فلما وقفت بين يديه، سلمت فما رد السلام، فقلت في نفسي هذا أول الشر، وكان مضجعا فاستوى جالسًا، ثم قال لي: ليفرخ روعك يا إبراهيم، فإن قدرتي عليك منعتني منك، ثم عقد لي على سجستان. فلما حملت خراجها وهبه لي وزادني خمسمائة ألف درهم.
وقال: ثم أنفذني إلى كابل فافتتحتها، وغنمت منها ما لا يوصف فما أخذ مني درهمًا (واحدًا) منه، ثم استعملني على شرطته. قال إبراهيم: فأحصيت مما صار إلي في الشرطة وغيرها مما كان إلي من الأعمال سبعة آلاف درهم. قال: فاجتمع له عندي من مال الخراج أربعة آلاف درهم.
فلما قدمت بغداد، وبنيت داري، استزرته: وسألته أن يشرفني بدخول منزلي والتحرم بطعامي، وليرى أثر نعمته علي، فأجابني إلى ذلك فأعددت له الهدايا والطرف، وآنية الذهب والفضة، وجعلت الأربعة الآلاف ألف في ناحية من الدار فلما جاءني وجلس قدمت إليه ما أعددته له من الهدايا فأبى أن يقبل منها شيئا وقال لي: "لم آتك لأسلبك" فقلت: إنما هي نعمتك أيها الأمير، قال: ولك عندنا مزيد. فلم يأخذ من جميع تلك الهدايا إلا سوطا سجزيا. وقال: هذا من آلة الفرسان؛ فقلت له، وأومأت إلى المال: هذا مال الخراج فقال: هو لك! فأعدت عليه القول، فقال: أما لك بيت يسعه! وسوغه لي وانصرف.
الباب التاسع
في ذكر شيء من أشعار من قصرت يده عن الهدية فاقتصر على الدعاء واعتمد على الشكر والثناء
حدثنا علي بن حيان الأهوازي قال: قال لي الحسن بن دعبل: وافى النوروز في بعض السنين وما عندي شيء أرتضيه هدية لمحمد بن واصل التميمي، فكتبت إليه:
الجود يغرق في المنهل من ديمك ... والمجد مفتخر بالغر من شيمك
أما ترى غرة النوروز مشرقة ... كأنها بعض ما تسديه من كرمك
يوم جديد وعز أنت لابسه ... فافخر بمجدك إن الملك في ذممك
تذل في عزك الأيام صاغرة ... وتغرق الراسيات الشم في همك
الدهر طوعك، والدنيا بأجمعها ... في راحتيك، وأهل الأرض في نعمك
هذي هدية عبد أنت ملبسه ... ثوب الغنى فاقبل الميسور من خدمك
فلما قرأ الأبيات استخفه الطرب، وحركته الأريحية، فوقع تحت كل بيت منها ألف درهم، ودابة وخلعة، وأحضرني جميع ذلك، فأقمت يومي عنده، وانصرفت بما ذكرت.
وحدثنا الإيذجي القاضي: أنه كتب إلى بعض الرؤساء في يوم مهرجان هذين البيتين:
وافق المهرجان والعيد مني ... رقة الحال وهو داء الكرام
فاقتصرنا على الدعاء وفيه ... عون صدق على قضاء الذمام
فوقع على الرقعة: "هذا القول يستحسن من المساكين، وجوابه أن تقول: صنع الله لك". فلم تمض عليه إلا أيام يسيرة حتى اجتاحته جائحة من السلطان أتت على ماله، وألجأته إلى سؤال الناس.
وحدثنا ابن أبي خالد قال: قال أبو علي البصير كتبت إلى الفتح ابن خاقان في يوم مهرجان:
إني جعلت هديتي ... في المهرجان إليك شكري
لما تعذر واجب ... فسح التعذر فيه عذري
فإذا أجزت على اسم من ... وافت هديته ببر
فأدر على اسمي دارة ... واكتب عليه طليح فقر
فضحك وقال: وقعوا على اسمه مائتي دينار وخلعة.
قال أبو هفان: كتبت إلى بعض إخواني في يوم النوروز:
دخلت السوق أبتاع ... وأستطرف ما أهدي
فما استطرفت للإهدا ... ء إلا طرف الحمد
إذا نحن مدحناك ... قضينا حرمة المجد
ونشر المدح في مثل ... ك أذكى من ثنا الند
وكتب بعض الشعراء، وكان ممتحنا إلى رجل جليل في يوم نوروز:
1 / 19
جعلت فداك للنوروز حق ... وأنت علي أعظم منه حقا
ولو أهديت فيه جميع ملكي ... لكان جليله لك مستدقا
فأهديت الثناء بنظم شعر ... وكنت لذاك مني مستحقا
لأن هدية الألطاف تفنى ... وإن هدية الأشعار تبقى
وحدثنا جحظة قال: دخلت على أبي الصقر بن بلبل، وهو وزير في يوم نوروز، فقال: أين هدية النوروز يا جحظة؟ فقلت: "في صدري أيد الله الوزير" قال: "أحب الهدايا هاتها"، فأنشدته: ب"أبي الصقر" علينا=نعم الله جليله
ملك في عينه الدن ... يا لراجيه قليله
فأمر لي بمائتي دينار، وخلع علي، وحملني.
الباب العاشر
في ذكر شيء من هدايا ملوك الأطراف للسلطان ومكاتبتهم إياه
حدثنا أبو العباس أحمد بن أبي خالد عن أبيه، عن جده أحمد بن أبي خالد وزير المأمون قال: كتب ملك الهند إلى المأمون مع هدية أهداها إليه: من رهمى ملك الهند، وعظيم أركان الشرق، وصاحب بيت الذهب وألوان الياقوت وفرش الدر.
والذي قصره مبني من العود الذي يختم عليه، فيقبل الصورة قبول الشمع، والذي توجد رائحة قصره من عشرة فراسخ.
والذي يسجد له إمام البد الذي وزنه ألف ألف مثقال من ذهب، وعليه مائة ألف حجر من الياقوت الأحمر والدر الأبيض.
والذي ركب في السعادة في ألف موكب وألف راية مكللة بالدر، تحت كل راية فارس معلمين بالحرير والذهب.
والذي في مربطه ألف فيل خزائمها أعنة الذهب.
والذي يأكل في صحاف الذهب على موائد الدر، والذي في خزائنه ألف تاج وألف حلة جوهر لألف ملك من آبائه، والذي يستحى من الله أن يراه خائنا في رعيته إذا اختصه بالأمانة عليهم والرئاسة فيهم.
إلى عبد الله ذي الشرف والرئاسة على أهل مملكته.
أما بعد فإن الذي تقدم به ذكرنا، أيها الأخ، من الملك والشرف والثروة، فما خطر ما ترتحل به الأوقات وتتخرمه الساعات ذهابا وزوالا والخطر الذي يجب على المستودعين من الله فضيلة العقل والاعتداد به، والمكاثرة له. ولكنا جرينا على ما جرت به سنة الملوك قلبنا، ولم نجهل أن الله له الشرف الذي يفوت الألسن ذكره، فإن الابتداء بتمجيده من أفضل الاعتداد، ولكنا أجللناه عن الافتتاح بذكره إلا في مواقف المناجاة له عابدين.
وأخبارك ترد علينا بفضيلة لك في العلم لم نجدها لغيرك، ونحن شركاؤك في المحبة والرغبة، وإن في أفئدتنا من ذلك ما لم نزل به لله بالفضل ذاكرين. وقد افتتحنا استهداءك بان وجهنا إليك كتابا ترجمته: "صفو الأذهان"؛ والتصفح له يسعد على صواب التسمية، وبعثنا إليك لطفا بقدر ما وقع منا موقع الاستحسان له، وإن كان دون قدرك.
ونحن نسألك، أيها الأخ، أن تنعم في ذلك بالقبول، وتوسع عذرا في التقصير.
وكانت الهدية جام ياقوت أحمر فتحته شبر في غلط الإصبع مملوءا دار، وزن كل درة مثقال والعدد مائة؛ وفراشا من جلد حية تكون بوادي الديبراج، تبتلع القيل؛ ووشى جلدها دارات سود كالدراهم في أوساطها نقط بيض، لا يتخوف من جلس عليها السل، وإن كان به سل وجلس عليها سبعة أيام برئ؛ ومصليات ثلاثا بوسائدها من جلد طائر يقال له السمندل موشى إذا طرحت في النار لم تحترق فراوزها در؛ ومائة ألف مثقال عود هندي، يختم عليه فيقبل الصورة؛ وثلاثة آلاف منا من كافور محبب، كل حبة أكبر من اللوزة؛ وجارية طولها سبة أذ١رع تسحب شعرها لها أربعة ضفائر طل كل شفر من أشفارها إصبع، يبلغ إذا أطرقت نصف خدها، ناهد؛ لها ثماني عكن في نهاية الحسن والجمال ونقاء البياض.
وكان الكتاب مكتوبًا في لحاء شجرة تنبت بالهند يقال لها الكاذي لونه إلى الصفرة، والخط لازورد مفتح بذهب.
فأجابه المأمون: من عبد الله "عبد الله" الإمام المأمون أمير المؤمنين الذي وهب الله له ولاية الشرف بابن عمه النبي المرسل ﷺ وعلى ذكره التصديق بالكتاب المنزل.
إلى ملك الهند وعظيم من تحت يده من أركان الشرق، سلام عليك فإني أحمد إليه الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله وعلى أهل بينه.
1 / 20