Tocqueville: Hordhac Kooban
توكفيل: مقدمة قصيرة جدا
Noocyada
في البداية، بدأ النظام الإقطاعي بمجموعة من القبائل الهمجية التي كانت تعيش منعزلة بعضها عن بعض، ومن هذا ظهر تشريع جيرماني، كان تشريعا أصيلا غير مستند إلى القانون الروماني، وقد شكل «جسدا مكونا من أجزاء» مترابطة جدا مثل القوانين الحديثة، منتجا قوانين حكيمة لمجتمع نصف همجي. لم يذكر توكفيل كيف نشأ النظام الإقطاعي ذو التسلسل الهرمي المعقد القائم على الامتيازات والواجبات؛ فقد قال فقط إن كلا من الجانب التشريعي والتسلسل الهرمي لم يختلف عما كان موجودا تقريبا في كل أنحاء أوروبا، ولم يكن لهما سبب يمكن تحديده، كما لو كانا يمثلان تطورا طبيعيا وتلقائيا. كان هذا النظام هو ما يمثل النظام القديم الحقيقي، وليس النظام الحاكم في فرنسا في القرن الثامن عشر، وهو ما أسقطته الثورة الحقيقية في واقع الأمر؛ فالثورة الحقيقية كانت هي مركزية الإدارة للنظام الملكي الفرنسي، الكيان الأساسي للنظام القديم والثورة الفرنسية.
ما المقصود بمركزية الإدارة؟ إذا ألقينا نظرة على الخطوة الأولى التي قام بها الملك شارل السابع، والتي ذكرناها من قبل، فسندرك أن الملك قد اكتسب سلطة فرض الضرائب دون موافقة النبلاء، في مقابل إعفائهم من تلك الضرائب. باع النبلاء - بحسب قول توكفيل - سلطتهم السياسية واشتراها الملك بسبب طمعه، لكن بالإضافة إلى ذلك، كانت لدى الملك «الغريزة التي تجعل كل نظام حكم يرغب في إدارة كل شئونه بمفرده، وهي غريزة لا تختلف أبدا على الرغم من اختلاف من يمتلكونها.» تجاوز هذا الدافع عامل الطمع والجشع؛ لأنه يغري أي نظام حكم على سحب السلطة من أي جهة ليست تابعة له. وبمرور الوقت، استمر النبلاء في فقدان سلطاتهم المتعلقة بأن تتم استشارتهم وأن يديروا شئون المناطق التابعة لهم، لصالح الملك الذي تعلم أن يحكم من خلال المحافظين، وهم المسئولون الإداريون الذين كانوا مندوبين للملك في مختلف المناطق، والذين كان يتم توجيههم من الإدارة المركزية بواسطة وزرائه.
أصبح المحافظون هم المسئولين الأساسيين في النظام القديم، وكان يتم اختيارهم بناء على جدارتهم، وتطورت لديهم مهارة «ابتكار عدد كبير من الوسائل للسيطرة.» لقد كان هؤلاء ينتمون للطبقة الوسطى؛ لأن النبلاء كانوا يكرهون وضع أنفسهم في وضع خاضع وتابع كهذا، مفضلين التنافس بعضهم مع بعض في البلاط على كسب تأييد الملك. كان المحافظون يحتفظون بسجلات دقيقة بكل ما كانوا يفعلونه وما كانوا يحاولون فعله، وقد درسها توكفيل بعناية في إدارات المحفوظات في باريس. لقد مثل هؤلاء المحافظون «الطبقة الأرستقراطية للمجتمع الجديد »، ولقد سماهم توكفيل «المسئولين المدنيين». وكما هو الحال بالنسبة إلى البيروقراطيين المعاصرين (وقد كتب تعليقا في ملاحظاته يشجب استخدام «رطانة المصطلحات الحديثة» هذه)، كان لديهم ميل لعمل الإحصائيات وإدارة الحسابات. ولإظهار الجانب الإنساني لديهم، تحول اهتمامهم من متابعة أرقامهم، إلى الشكوى من سوء أخلاق الفلاحين الكسالى الذين كانوا عادة لا يستمعون لنصحهم أو يقبلون توجيهاتهم. في القرن الثامن عشر، أبدوا بعضا من «التعاطف الزائف» الخاص بروسو وديدرو، في محاولة للتخفيف من حدة المعالجة الجافة للحسابات، وهي محاولات تشبه الوسائل العلاجية في علم نفس الإدارة اليوم. حكى توكفيل قصة مراقب عام مسئول عن برنامج حكومي خيري يقدم إعانات للأبرشيات، وكان يجب على سكان تلك الأبرشيات أن يدفعوا تبرعات مقابلة لجزء من تلك الإعانات. عندما يكون المبلغ المجمع كافيا، كان المراقب يكتب في الهامش: «جيد ومرض»؛ وعندما يكون كبيرا على نحو غير معتاد، كان يكتب: «جيد، ومرض للغاية.»
يتضح من القصة السابقة أن مركزية الإدارة في النظام القديم لم تكن قاسية أو استبدادية، وكلما توسعت أكثر وزاد تأثيرها عمقا، أصبحت أكثر تجاوبا وإحاطة واعتدالا، وأصبحت بحسب قول توكفيل «تظلم أقل وتقود أكثر.» هذا هو الاستبداد الهادئ الذي حذر منه توكفيل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا»؛ إنه استبداد غير خطير ونافع، وتتصف سلطته بالوصائية لا بالخبث، وهي تتظاهر بأنها تعلم الفلاحين «فن الثراء»، وتوزع بعض الكتيبات الخاصة بفن الزراعة. لقد وجد توكفيل في هذا أصل ما سماه لاحقا في فرنسا «الإدارة الوصائية»، مشيرا إلى أنها تشبه رعاية الوصي أو توجيه المعلم. عندما يقرأ الأمريكيون كتاب توكفيل اليوم، فسيرد على خاطرهم وزارة الزراعة الأمريكية. كانت (وقد لا تزال) المشكلة تتمثل في أن الحكومة تعد بتحسن في الأوضاع أكثر مما يمكن أن تقدمه، فيصبح الناس متشككين فيما تقوله، وتبدو العقلانية المفترضة للطرق الجديدة التي تستخدمها مثيرة للسخرية، ويبقى كل الفرنسيين تحت الوصاية، محرومين من مزايا الحكم الذاتي. في هذا الوضع، عادة ما تكون الحكومة مترددة وخائفة من اتخاذ القرار؛ ولذلك كان النظام القديم يعتمد على قوانين حازمة مع تفعيل ضعيف لها يزداد ترهلا بسبب الامتيازات والإعفاءات.
كانت باريس مركز الدولة الإداري ورمز المركزية نظرا لهيمنتها على باقي فرنسا، وقد زاد حجم تلك المدينة بمرور السنين بالرغم من محاولات الملوك الحد من ذلك. ومع اختفاء النشاط السياسي والحريات المحلية في الأقاليم، أصبحت باريس المركز الوحيد للسلطة وكذلك للحكم على الذوق، وقد أصبحت مركزا متزايدا للصناعة أيضا؛ حيث إن الرقابة هناك كانت أقل منها في الأقاليم. وعندما قامت الثورة، حدثت في باريس، المدينة العاصمة التي كانت تقرر كل شيء لفرنسا؛ إلى حد أن هيمنة تلك المدينة كانت ضمن الأسباب الرئيسية للانهيار المفاجئ والعنيف للنظام الملكي القديم.
كانت تلك هي السمات الأساسية لمركزية الإدارة. والناتج النهائي - الذي أصبح بمرور الوقت هدف الحكومة، وذلك بحسب اعتقاد توكفيل - كان في واقع الأمر الابتعاد عن السياسة والاستعاضة عنها بالإدارة. بدا أسلوب إدارة النظام الملكي الفرنسي - الذي بدأ باعتباره ناتجا عن طمع الملوك والنبلاء، ثم تطور بفعل غريزة موجودة لدى كل نظم الحكم، وأخيرا باعتباره تغييرا كبيرا - ثورة في التاريخ السياسي، حتى إن لم يكن مخططا له. حل هذا النوع الجديد من نظم الحكم محل العناية الإلهية؛ حيث إنه أسس علاقة مع كل شخص باعتباره فردا لم يعد عضوا في طبقة، كما كان الحال في النظام الإقطاعي. يشبه هذا نظام الحكم الذي ظهر في العصر الحديث الذي يطبق نظام الرعاية الاجتماعية الذي يقدم إعانات على نحو مباشر للأفراد، متجاوزا كل الجماعات الوسيطة. هذا يعني أن الفرد يعتمد فقط على الحكومة في تلبية احتياجاته، كما لو أنها هي الرب، وليس أسرته أو وضعه في التسلسل الهرمي الإقطاعي؛ فلا توجد «سلطات فرعية» بين الحكومة والفرد يمكن أن تقف أمام السلطة المركزية للدفاع عن الحقوق والامتيازات الخاصة بالفرد باعتباره عضوا في جماعة، مثل النبيل أو التابع الذي يتبع أحد النبلاء. فلا توجد «جمعيات» مثل تلك التي صادفها توكفيل في أمريكا، تقوم بوظيفة النبلاء في أي نظام أرستقراطي، عن طريق مراقبة عمل السلطة التي تشبه على نحو غريب تلك الخاصة بالنظام الإقطاعي في العصور الوسطى، والتي بمقتضاها تم تقييد سلطات الملوك ومنع استبدادهم.
مع تطور النظام الملكي، تراجع النبلاء الفرنسيون، وكانوا جشعين مثل الملوك، ولكنهم كانوا أقل تبصرا. في البداية، استغنى النبلاء عن حقهم في الموافقة على فرض ضريبة ما في مقابل إعفائهم من تلك الضريبة بمجرد فرضها؛ لاحقا، تم فرض بعض الضرائب على الجميع، لكن مع بعض التساهل في الدفع بالنسبة إلى النبلاء. أدى هذا إلى وضع لم يكن الأغنياء يدفعون فيه أي ضرائب، وفقدوا إحساسهم بالمسئولية عمن توقفوا عن مساعدتهم، وقد فقدوا قدرا كبيرا من ثروتهم أيضا لأن الملك بدأ في بيع المناصب في البلاط لهم؛ فقد فضلوا على نحو أحمق امتيازات الانتماء للبلاط الملكي على امتيازات وواجبات حكم من يتبعون الأقاليم التي تحت سيطرتهم. ومع احتياجهم إلى مزيد من المال، أخذوا بعد ذلك يبيعون أرضهم للفلاحين التابعين لهم، الذين أصبحوا ملاكا للأراضي؛ ومن ثم أصبحوا خاضعين للضرائب التي كان النبلاء معفين من دفعها. وحيث إن النظام الملكي جعل نفسه مسئولا عن كل شيء، فقد كان دائما يعاني عجزا ماليا، وأخذ يجرب الوسائل المالية، الواحدة تلو الأخرى. لم يكن هدفه إضعاف النبلاء عن قصد بفرض ضرائب عليهم، وقال توكفيل إن السياسة المتبعة لم تكن خاصة بملك معين ولكن بمؤسسة الحكم؛ لكن كان من غير المنطقي أن يتم إضعاف النبلاء لدرجة أن تصبح امتيازاتهم لا مبرر لها؛ لأن الثورة عندما قامت، لم يستطع النبلاء الدفاع عن أنفسهم فحسب، وإنما أيضا عن النظام الملكي. إن سياسة النظام الملكي لم تكن بحق استراتيجية جيدة الإعداد، لكن الطموح والجشع خرجا عن السيطرة وأصبحا معتادين في مركزية عنيدة جعلت الحكومة تبدو أكثر عقلانية، ولكنها جعلتها في واقع الأمر أقل عقلانية. لم يدرك النظام الملكي أن سياسته المعادية للطبقة الأرستقراطية ستحول النبلاء إلى طبقة لها امتيازات وليس إلى طبقة أرستقراطية عاملة؛ وهو تمييز كان توكفيل مصرا عليه؛ فذلك النظام لم يدرك أن سياسته كانت في واقع الأمر ديمقراطية، وقد تؤدي فعليا إلى نظام ديمقراطي.
وعلى الرغم من أن تناول توكفيل كان مركزا على طبقة النبلاء، فقد دعم وصفه للنظام القديم بتعليقات عن الطبقة الوسطى التي كانت تحاكي طبقة النبلاء، وعن الفلاحين الذين كانوا يكرهون النبلاء، وعن رجال الدين الذين لم يكونوا على وفاق مع النبلاء. وأقر توكفيل أن النبلاء الفرنسيين، بالرغم من كل فسادهم، كانوا يحافظون على كبريائهم، وبسبب «الفضائل الرجولية» التي كانوا يتمتعون بها لم يكونوا خاضعين ولا ميالين للشغف الشديد للرفاهية المادية، الذي كان سائدا في عصره. لقد استطاع النبلاء، بالرغم من ولائهم القديم للملك، أن يصفوا أرواحهم بأنها حرة؛ وهي حقيقة قال إنها غير مفهومة تماما للعقل الحديث؛ فقد كان لديهم نوع معين من العظمة، لكن لم تكن لديهم حرية سياسية. لم يكن الملوك الذين يتبعونهم قساة، ولكنهم كانوا يفعلون ما في وسعهم من أجل مصلحة فرنسا، وكانت تجاوزاتهم تحدث دون قصد منهم، وبعدائهم للحرية السياسية حرموا أنفسهم من الوسيلة التي يعرفون من خلالها ما كانوا يفعلونه.
أراد توكفيل من خلال هذا التحول في تناوله للموضوع أن يترك نموذج النبلاء، حتى بعد انتقادهم، باعتباره شيئا إيجابيا لعصره، بإمكانه إلهام أو إلقاء اللوم على الناخبين الذين وضعوا لويس نابليون في السلطة، لكنه هاجم بيرك لافتراضه أن النبلاء الفرنسيين ما زالوا قابلين للاستمرار، إذا تم إصلاحهم، في وقت الثورة. يمكن القول إن بيرك في دفاعه عن النبلاء كان لديه نفس دافع توكفيل للثناء عليهم، ولكن بدرجة أكبر؛ افترض بيرك أن النبلاء الإنجليز ما زالوا قابلين للاستمرار في عصره، ولم يرد الطعن في قابلية النبلاء للاستمرار في حد ذاتها؛ فقد ألف كتابه «تأملات حول الثورة في فرنسا» لوأد أي تعاطف مع الثورة الفرنسية في بريطانيا، ولإحباط رغبة الراديكاليين البريطانيين في نقلها عبر القنال الإنجليزي إلى بريطانيا. إن بيرك بالتأكيد لم يكن يريد الموافقة على وجهة نظر توكفيل القائلة بأن عالم الديمقراطية الجديد لا يمكن مقاومته، ولم يفعل ذلك، غير أنه أيضا كان يرى ، في عبارة شهيرة له، أن «عصر الفروسية قد انتهى»، وهو العصر الذي كان النبلاء فيه يهبون للدفاع عن ماري أنطوانيت. ربما أفضل خيار له، في كتابه عن التاريخ السياسي المقابل لكتاب توكفيل، أن يبالغ في الحديث عن مدى استقامة النبلاء وقابليتهم للاستمرار، تماما كما كان على توكفيل المبالغة في الحديث عن فسادهم، وأنهم في طريقهم للزوال، وإنكار أنه كان بالإمكان إصلاحهم. إن وجود إعجاب محدود بالنبلاء دون وجود حنين لوجودهم على الساحة السياسية يمكن أن يلخص وجهة نظر توكفيل.
ختم توكفيل تناوله للنظام القديم بأن قرر أنه لم يكن كيانا كليا، وأنه لم يكن يمثل «أمة». كان النظام الإقطاعي في أوج ازدهاره بمنزلة أمة لأنه كان يمثل كيانا كليا؛ فقد كانت له وحدة عبر أجزائه، لكن النظام القديم كانت له وحدة من نوع مختلف، دون أجزاء متنوعة ولكنه كان مكونا من أفراد متشابهين. مرة أخرى، ربما لم يكن هذا هو قصد النظام الملكي وإنما كان النتيجة؛ فسياسته جعلت فرنسا تتحول إلى «جسد متجمد»، «حشد منظم» من «المتشابهين»، كل مجموعة منهم منفصلة ومنعزلة عن المجموعات الأخرى. أطلق على هذا الوضع «الفردية»، وهو المفهوم الذي استخدمه بهذا المعنى في كتابه عن الديمقراطية، وأضاف قائلا إن النظام القديم كان «شكلا من أشكال الفردية الجماعية، التي جهزت الأنفس للفردية الحقيقية التي نعرفها.»
Bog aan la aqoon