Tocqueville: Hordhac Kooban
توكفيل: مقدمة قصيرة جدا
Noocyada
بدأ توكفيل العمل في كتابه في يناير من عام 1852، وأخذ يقرأ السجلات التاريخية ويدون ملاحظات عنها، وفي يونيو من عام 1853، وجد أن هناك حاجة للرجوع إلى السجلات الخاصة بالنظام القديم، وقضى عاما كاملا في مدينة تور منكبا على السجلات الخاصة بكبار المسئولين في إدارتها. وقد أخفت العبارات الجذابة والبارعة والمنمقة الواردة في الكتاب وراءها عملية قراءة كتب وكتيبات وبحث في أرشيفات يعلوها التراب. كشف روبرت جانيت في كتابه الرائع «كشف النقاب عن توكفيل» عن الأدلة التي اعتمد عليها الكتاب، وأشار إلى «الأسلوب المتكتم» لمؤلفه. لقد كان غرض توكفيل من ملاحظاته واقتباساته المتعددة هو على نحو أساسي التوضيح، كما أنه لم يكن يذكر في الغالب المصادر التي اقتبسها منها. في نفس الوقت، كثيرا ما ذكر قراءه بالجهد الذي قام به، ويمكن أن نقول إنه كان يفتخر به، كما لو أنه كان يتحداهم أن يقوموا بالبحث عن حقيقة الأمور بأنفسهم دون توجيه من أحد.
بدأ توكفيل بوصف عمله بأنه «دراسة»، لكن ما نوع تلك الدراسة؟ إنها تاريخية على نحو مباشر أكثر من كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، الذي انطلق من «حقيقة إلهية»، متمثلة في الاتجاه المتعاظم نحو مزيد من الديمقراطية، ثم من افتراض يقضي بأن صورة الديمقراطية موجودة في أمريكا. وفي نهاية هذا الكتاب، أشار لشبح الاستبداد الهادئ، لكنه عرضه من منظور الشعب، مفسرا سبب ترحيب الشعب بالسلطة الخانقة للحكومة الكبيرة، ووصف الحلول التي طبقها الأمريكيون لمواجهة هذا الاستبداد. ثم أعلن أنه يقبل الديمقراطية على نحو مسئول، بالرغم من الأخطاء الموجودة بها، مدعيا أنه لا بديل لها في أي عصر ديمقراطي، وأنها إلى جانب ذلك أكثر عدالة من النظام الأرستقراطي. تناول كتاب «النظام القديم والثورة» نفس هذا الاستبداد الذي سماه هنا «استبداد الديمقراطية»، لكن من منظور الملك والنبلاء؛ فقد أنتجا ديمقراطية لم يكن أي منهما يسعى إليها، وجلبت عليهما ثورة صاحبها عنف شديد لم يكن أحد يتوقعها. يتحسر هذا الكتاب بشدة على ضياع النظام الأرستقراطي الذي نتج عنه «أمة » مكونة من حشد غير متماسك من المواطنين الخائفين أو الغاضبين. وهو يفصل الطمع الاستراتيجي للملوك ولامبالاة النبلاء، بينما يثني فقط على جوانب المجتمع الفرنسي التي تجاهل هذان الطرفان الاقتراب منها بتدخلهما الفاسد وغطرستهما.
كان كلا العملين سياسيين على اعتبار أنهما كانا يقدمان النصح لفرنسا ولكل الأمم الأخرى، لكن توكفيل في كتابه «النظام القديم والثورة» عبر عن سخطه بوضوح ولم يبد سوى القليل من الحياد الهادئ الذي كان يميز كتابه «الديمقراطية في أمريكا». لم يكن مستاء من الثورة بقدر ما كان مستاء من النظام الملكي القديم الذي حلت محله، ولم يكن غاضبا من هذا النظام بقدر ما كان غاضبا مما نتج عنه وعن الثورة من استبداد على يد نابليون. وحتى تتضح تلك النقطة، يجب أن نلاحظ أن السبب في استبداد حكم نابليون كان الضحالة البرجوازية لإمبراطورية ابن عمه لويس نابليون.
لقد تم تصنيف كتاب «النظام القديم والثورة» على نحو صحيح باعتباره أحد كتب «التاريخ السياسي»؛ لأنه جمع بين الحكم السياسي والتاريخ، مع تجنب استخدام أسلوب الجدل وعدم التزام الموضوعية العلمية. غير أن الاختلافات بين هذا الكتاب وكتاب توكفيل السابق تتعلق بالشكل لا بالمضمون؛ فهذا الكتاب يجب النظر إليه باعتباره عرضا لنفس القلق الأصيل بشأن توافر المتطلبات الخاصة بالحرية السياسية التي يمكن ملاحظتها في الكتاب الآخر ولكن فيما يتعلق بفرنسا؛ ففي حين أن كتاب «الديمقراطية في أمريكا» انطلق من اتجاه إلهي نحو الديمقراطية، ربما يكون أو لا يكون مؤيدا للحرية، لكن في تصدير الكتاب الثاني أعرب توكفيل أنه انطلق في تأليفه من شغفه بالدفاع عن الحرية ودعم الرغبات الأسمى المفعمة بالنشاط التي تطلقها الحرية أثناء الدفاع عنها. في باقي الكتاب، كان شغفه بالحرية مبررا باكتشافه أن فقدان الحرية في فرنسا نتج على نحو حتمي عن فقدان الحرية السياسية في ظل النظام الملكي؛ حيث إن السياسة والحرية لا يمكن الفصل بينهما. هناك نقطتان متعلقتان بعلم السياسة لم يتم التعرض إليهما بشكل واف في كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، وقد تم تناولهما في كتاب «النظام القديم والثورة»؛ وهما: الجذور الأرستقراطية للحرية السياسية، والخطر على تلك الحرية الناشئ من الإدارة العقلانية. لكن من الأفضل بدء تناول الكتاب باستعراض طرحه التاريخي الأساسي.
استمرارية الثورة
ظن الثوار الفرنسيون أنهم انفصلوا تماما عن الماضي وأنه ذهب بغير رجعة، وسعوا لتقسيم تاريخ بلدهم إلى قسمين مختلفين تماما، الأول قبل عام 1789 والثاني بعده، واعتقدوا أنهم نجحوا في ذلك. وحتى معارضو الثورة اعتقدوا ذلك أيضا؛ فقد أعلن إدموند بيرك، السياسي والفيلسوف البريطاني الشهير، الذي اختاره توكفيل ليكون غريمه ونقيضه طوال كتاب «النظام القديم والثورة»، أن الثورة الفرنسية كانت «أول ثورة مكتملة الأركان» في التاريخ؛ فقد كانت ثورة في المشاعر والسلوك والآراء الأخلاقية التي وصلت «حتى لبنية العقل البشري». عارض توكفيل نقطة الاتفاق هذه من قبل الجانبين، ورأى أن الثورة كانت ناتجة عن المجتمع الذي قامت بتدميره، وأن السبب فيها كان النظام الملكي القديم في فرنسا الذي انخرط في مهمة تدمير نفسه عن عمد، ولكن دون أن يعي ما كان يفعل تماما. لم تبدأ الثورة فقط في عام 1789 مع سقوط سجن الباستيل؛ فقد بدأت في عام 1439 (أو 1444) من اليوم الذي استطاع فيه الملك شارل السابع فرض ضريبة جديدة دون موافقة النبلاء.
غير أن توكفيل لم ينكر حدوث تغيير كبير؛ فقد أنكر فقط أنه حدث بسبب الإرادة البشرية، سواء من جانب الثوار أم ضد رغبة معارضيهم؛ فقد كان المؤرخون الديمقراطيون الذين هاجمهم توكفيل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا» لإنكارهم دور الإرادة البشرية في التاريخ، على حق في توقعهم قدوم الديمقراطية. يشير عنوان كتاب توكفيل «النظام القديم والثورة» إلى حجم هذا التغيير، غير أنه لم يصف تلك الثورة ب «الفرنسية» (كان توكفيل قلقا بشأن عنوان كتابه، ويبدو أنه قبل نشره مباشرة قد حذف صفة الثورة أو وافق على حذفها). وافق توكفيل على أن الثورة كانت مكتملة الأركان، كما قال بيرك، وأنها كانت بمنزلة نموذج لكل الأمم الأخرى وللإنسانية جمعاء، التي حذت حذوها الثورة الأمريكية. إنها لن تتكرر أو تمحى من جانب ثورات مستقبلية، وفي واقع الأمر كان مقدرا لها أن تكمل كل الثورات السابقة التي لم تكن مكتملة، وكانت من ثم بحاجة إلى ثورات أخرى لاستعادة الماضي. ما أصر عليه هو أن هذا التغيير الكبير كان قد بدأ قبل ذلك بقرون عديدة، فهو لم يكن حديثا؛ كان يجب ألا ينظر إليه باعتباره أمرا مفاجئا. أشار توكفيل في كتابه إلى الإجراءات التي أدت إلى إحداث هذا التغيير، والتي في ذات الوقت لم يلحظ معناها الكلي وهي تحدث. بعد عام 1789، اتضح معناها من خلال افتخار الثوار بما فعلوه وهجوم أعدائهم عليهم.
شكل 5-1: إدموند بيرك، السياسي والفيلسوف البريطاني. في كتاب «النظام القديم والثورة»، كان توكفيل يقارن دائما بين تحليل بيرك للثورة الفرنسية وتحليله لها.
بوجه عام، اعتقد مراقبو الثورة الفرنسية الذين استطاعوا الاستفاقة من صدمتهم، أنه كان من المفترض أن تدمر الدين، وأن تؤدي إلى الفوضى واللاسلطوية، أو على الأقل تضعف السلطة السياسية. وجه بيرك، الذي كان من أهم من تبنوا وجهة النظر هذه، سهام غضبه إلى إلحاد مدبريها، الذين قال عنهم إنهم كانوا يبدلون وجه البشرية بقضائهم على الاعتقاد بأنه توجد سلطة فوق البشر؛ مما يضعف السلطة الحاكمة بإنكار الرضا الإلهي عنها. بالنسبة إلى توكفيل، هذا خطأ في تقدير الأمور؛ فقد اعتبر خلطا بين ما هو عارض وما هو جوهري. ربما كانت الكنيسة أهم جزء في النظام القديم؛ فقد كانت تقاوم الإصلاح، وكان يجب الهجوم عليها، فيما يتعلق بتنظيمها واعتقادها، حتى يمكن إنتاج نظام جديد يحل محل النظام القديم. لقد كان هذا النظام الجديد - وليس تدمير الكنيسة - هو الشيء الأساسي الذي سيكون أقوى من النظام القديم وليس أضعف منه. لم تكن لدى فرنسا النية لتمزيق نفسها، وفي واقع الأمر أنشأت لاحقا جيشا أقوى من أي جيش كان لديها من قبل، وابتدعت دينا ثوريا جديدا يقوم على مفهوم «الكائن الأعلى» الذي تمنت أن يكون أكثر سلطوية من المسيحية؛ فقد كانت الثورة الفرنسية، بحسب قول توكفيل لاحقا في كتابه، تشبه حركة الإصلاح البروتستانتية أكثر من أي حدث آخر سابق عليها، وتوقعت أن تحصل من ذلك الدين الجديد على الدعم الذي حصل عليه النظام القديم من المسيحية وبحماس أكبر أيضا. وكما هو الحال أيضا في كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، أراد توكفيل التأكيد على أنه لا يوجد عداء حتمي بين الدين والحرية، ولا حتى بين الدين المبتدع والحرية الزائفة للثورة الفرنسية.
لم يذكر توكفيل على نحو مباشر السبب وراء كون الثورة الفرنسية أول ثورة تقوم بهذا الهجوم على الدين وتبتدع دينا جديدا وتتبعه. يبدو أن الأفكار التي اعتمدت عليها أصبحت أكثر قبولا لعدد أكبر من الناس، بحيث بدت النظرية في مرحلة معينة قابلة للتطبيق؛ فالثورة الفرنسية، باعتبارها ثورة كاملة تتجاوز كل الثورات السابقة، لم تكن معتمدة على فكرة أكثر صحة من أي فكرة كانت موجودة من قبل، وإنما بدت تلك الفكرة فجأة صالحة للتطبيق بخلاف النظام القديم. كان النظام القديم يعتمد على النظام الإقطاعي الذي بعد تطور معين سيصفه توكفيل بأنه لم يعد نظاما مستقرا ومتماسكا قادرا على البقاء. عند هذه المرحلة، وكما قد يقول الأمريكيون اليوم، لم يعد هذا النظام عمليا على ما يبدو. وفي كتاب توكفيل الذي يعد دراسة تاريخية سياسية، رفض محاولة المفكرين الثوريين اعتبار أن النظرية سبقت التطبيق؛ فلم يحاول الحكم على الأفكار المتعارضة التي تدعم وتهاجم النظام الإقطاعي، لكنه بدلا من ذلك درس ما إذا كان هذا النظام مثل كيانا كاملا يمكن أن يكون موضوع فكرة معينة أو نظرية معقولة. مرة أخرى، وكما في كتابه الأول عندما درس ممارسات الأمريكيين لاكتشاف صورة الديمقراطية، درس في هذا الكتاب ممارسات النظام القديم ليحدد إن كانت متماسكة ومترابطة أم لا.
Bog aan la aqoon