Tocqueville: Hordhac Kooban
توكفيل: مقدمة قصيرة جدا
Noocyada
من هؤلاء الأشخاص؟ وصف توكفيل نوعين من المفكرين كان يرى أنهما يضران بالديمقراطية؛ وهما أنصار الواحدية (مذهب وحدة الوجود) والمؤرخون الديمقراطيون. لكنه في بداية نقاشه، خص شخصا واحدا بتناول منفرد - وهو الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الذي ظهر في القرن السابع عشر - قال إن الأمريكيين يعطون اهتماما أقل للفلسفة مقارنة بأي مكان آخر في العالم المتحضر، غير أنهم جميعا يستخدمون منهجا واحدا في التعامل مع المسائل الفكرية يقوم على الجهد والحكم الشخصيين، وهو نفس المنهج الذي دعا إليه ديكارت؛ فأفكاره «هي الأقل دراسة ولكن الأكثر اتباعا» في أمريكا. كما أن الحالة الاجتماعية الديمقراطية للأمريكيين تبعدهم عن الفلسفة وتجعلهم يميلون لتبني أفكار ديكارت؛ ففي تلك الحالة، لا يلتزم الناس بالعرف ولا يتقبلون رأي طبقة معينة؛ فحيث إنهم لا يرون أن هناك من هم أعلى مكانة منهم، فإنهم لا يثقون إلا بأنفسهم.
يعرض كتاب توكفيل وجهة نظر غريبة بشأن ديكارت - الذي لا يعد عادة فيلسوفا سياسيا، وهو بالتأكيد ليس من دعاة الديمقراطية - حيث يعلن توكفيل من خلالها أن ديكارت هو من وضع، دون أن يقصد، «المنهج» (وهو مصطلح خاص بديكارت) الديمقراطي. وهو يعرض هنا وجهة نظر غريبة أخرى عن الأمريكيين، وهي أنهم متأثرون بشدة بفيلسوف فرنسي لم يقرأ أي منهم شيئا من أعماله، أو أنهم يتفقون مع أفكاره على نحو غير واع. إن ديكارت، الذي يعد أشهر جهوده هو تحدي السلطة، أصبح هو نفسه سلطة ومرجعية في أمريكا في كل شيء ما عدا اسمه؛ فهجومه على السلطة أصبح مرجعية تبرر سيادة الفرد. من الصعب تحديد ما إذا كان توكفيل قد جعل ديكارت أو المفكرين الأمريكيين الجهلاء به يبدون أكثر سخافة أم لا؛ ففلسفة ديكارت القائمة على «أفكار واضحة ومميزة» تستخلص منها السيادة الخرقاء لكل الأمريكيين غير المهتمين أصلا بالفلسفة، الذين يعرفون على نحو أساسي ما يعرفه دون الحاجة إلى قراءة أعماله. غير أن الأمريكيين يخلعون - بشكل عبثي - سلطة على أشخاص معينين، في الوقت الذي كان يجب أن يتعاملوا معهم فيه بارتياب، إذا كانوا يتبعون بحق منهج ديكارت. وفي ظل الابتذال والتناقض، ما هو إذن نوع الحركة الفكرية التي يتحدث عنها؟
لتفسير العقل الديمقراطي، تأمل توكفيل طبيعة الوضع الإنساني؛ فكل الحركات الفكرية في مقابل الحركات الفطرية أو التلقائية تحتاج لاستخدام الفرد عقله، واستخدام الفرد عقله يعني الشك في صحة ما يقال له. لكن إذا كان التفكير يتضمن إنتاج فعل، فيجب أن يكبت الفرد شكوكه؛ فلا يوجد فرد لديه الوقت للتفكير في كل شيء بنفسه أو القدرة على ذلك، ولا يمكن لمجتمع أن يستمر دون وجود أفعال وأفكار مشتركة، وحتى الفيلسوف يجب أن يضع افتراضات؛ لأنه لا يستطيع التفكير في كل الجوانب المتعلقة بكل أمر.
قام توكفيل بعد ذلك بتحول سهل من الحاجة إلى سلطة، إلى الحاجة إلى إيمان؛ حيث إن كلا من المجتمع والفرد يجب أن يقبلا وجود «أساس أولي» قائم على الإيمان، الذي هو في حقيقة الأمر نوع من العبودية، لكنها «عبودية محمودة» وضرورية. بالغ كل من ديكارت والحالة الاجتماعية الديمقراطية التي تردد صدى فلسفته في تقدير سلطة العقل البشري؛ فلا يمكن للعقل أن يحل محل السلطة ويؤسس لاستقلالية الفرد؛ فبحسب رأيه، كل ما يمكن للعقل الإنساني أن يفعله هو تغيير السلطة الأرستقراطية إلى السلطة الديمقراطية، وهو يستطيع أن يفعل ذلك؛ فالإنسان ليس بطبيعته «حرا على نحو كامل»، بداية من الوضع الذي لم تكن توجد فيه أي سلطة، كما افترض كل من هوبز ولوك؛ فالديمقراطية لا تنشأ من الحالة الطبيعية التي لا يوجد في ظلها أي سلطة، وإنما تنشأ على يد ديمقراطيين ينكرون سلطة أي شخص أو طبقة عليهم؛ وبقيامهم بهذا، يشعر كل منهم بالفخر بالمساواة بينه وبين الآخرين. غير أن كلا منهم في الوقت نفسه يغلبه شعور بالضعف والضآلة مقارنة ب «الكيان العظيم» المتمثل في مجموع الآخرين؛ لذا فإن السلطة الديمقراطية لها تأثيران متناقضان على العقل: جلب أفكار جديدة إليه متعلقة بإنكار الأعراف والتقاليد، وفي الوقت نفسه حثه على التخلي عن التفكير في مواجهة الرأي العام.
استنادا إلى الحاجة إلى الإيمان، أشار توكفيل إلى أن العقل الديمقراطي يحب التعميم، وهذه نقطة ضعف في اعتقاده؛ فالرب، الذي يعرف كل الأمور المتشابهة والمختلفة، ليس بحاجة إلى أفكار عامة، لكن الإنسان يحتاج إلى الاستفادة من جمع الأشياء المتشابهة معا في فئة واحدة. والأمريكيون يبدون اهتماما بالأفكار العامة أكبر من اهتمام «أسلافهم الإنجليز»، الذين يمثلون الماضي الأرستقراطي الإنجليزي لأمريكا، وذلك في مقابل من كانوا يمثلون نقطة انطلاقها نحو الديمقراطية، وهم البيوريتانيون الذين كانوا يعارضون النظام الأرستقراطي الإنجليزي. إن الأرستقراطيين لديهم كره غريزي للتعميمات؛ حيث إنهم يفضلون التفكير في شخص واحد أو مجموعة قليلة من الأشخاص في المرة الواحدة، لكن الديمقراطيين لديهم شغف مندفع وكسول لعمل تلك التعميمات؛ لأنهم ينطلقون من الحقيقة الواضحة بأن الجميع من حولهم يتماثلون معهم تماثلا شبه تام؛ أي إنهم جميعا «متشابهون» معهم. ومن خلال المساواة الديمقراطية، تأتي عادة التفكير اعتمادا على التعميم المتسرع والخوف من التعمق في التفكير، ونقطة الضعف هذه التي تتسبب فيها الديمقراطية شجعت توكفيل على تقديم تناول جديد للدين؛ ففي الجزء الأول من كتابه، تعرض لفائدة الدين بالنسبة إلى الديمقراطية، وأوضح كيف أنه «يعلم الأمريكيين فن الحرية.» أما في الجزء الثاني، فقد تحول لتناول حقيقة الدين.
يساعد الدين الأمريكيين على التفكير من خلال إنقاذهم من الشك؛ ففي حين تفرض فلسفة ديكارت متطلب الشك، خاصة في الدين، فإن الدين من وجهة نظر توكفيل ينقذ أي شعب ديمقراطي من حالة التخاذل والعجز التي تنتج عن الشك؛ فالبشر بحاجة إلى «أفكار راسخة جدا لأنفسهم عن الرب وعن أرواحهم وواجباتهم العامة تجاه خالقهم ومن يشبهونهم»؛ لأنهم دون تلك الأفكار سيصبحون تحت رحمة الصدفة، ويكونون معرضين للفوضى والعجز. يفرض الدين «قيودا محمودة على العقل»، وإذا لم ينقذ الإنسان في الحياة الأخرى، فهو مهم لسعادته وعظمته في هذه الحياة؛ فهو يقدم إجابات على الأسئلة الكبرى التي من دونها سيتخاذل الإنسان ويتوقف عن التفكير كلية؛ نظرا لأنه تعوزه القدرة على التفكير بمفرده.
قد يرد ديكارت، أو أي فيلسوف آخر، بأن الشك يؤدي إلى وعي وحرية أكبر من الإيمان. وعند قراءة أعمال أفلاطون، سيجد المرء نظرة أقل إطراء ل «القيود المحمودة» كما يراها توكفيل في صورة الكهف الذي يقول سقراط إن معظم الناس مسجونون فيه. لكن توكفيل عارض هذا وأشار إلى أن الشك بالنسبة إلى معظم الناس يؤدي بهم إلى الاستسلام للصدفة؛ لأن الشك يتساءل عما إذا كان الشيء يحدث بانتظام أو على نحو متوقع؛ فإذا اعتقد الفرد أن الصدفة تحكم الأحداث الإنسانية، فإنه سيدع الأشياء تحدث دون أن يحاول التدخل في الأمر، ولن يحاول القيام بفعل حر ومتعقل. يؤكد لنا الدين أن الصدفة لا تحكم أحداثنا، ويشير إلى أن المساعي الإنسانية يمكن أن تنجح، وأن الأفعال الإنسانية لها معنى.
يمكن أن يعترض أحد قائلا إن الدين في جانبه الفكري ما زال يتم الحكم عليه استنادا إلى فائدته؛ لكن الآن، يمكن أن يجيب أحد بأنه يحكم عليه استنادا إلى فائدة العقل في توجيه الفعل؛ فالدين مفيد للديمقراطية لأنه يحرك فينا غرائز تعمل على نحو معاكس لحب المتع المادية، ولأنه بفعله هذا يعلمنا واجباتنا تجاه الآخرين، وفي كلا الأمرين، يعد الدين ضروريا للحرية. قال توكفيل إنه يعتقد أنه «إذا لم يكن لدى الإنسان إيمان، فإنه يجب أن يكون عبدا، وإذا كان حرا، فيجب أن يكون لديه إيمان.» عندما يفكر أحد في مدى العداء الذي توليه النظرية الليبرالية الكلاسيكية للإيمان، فإن ما يقوله توكفيل هنا يمثل في واقع الأمر «ليبرالية من نوع جديد.» فقد قدم توكفيل الدين على أنه الوجه العام للفلسفة، وهو صديق لها أكثر من كونه عدوا لها؛ مما يحمي الفلسفة من إحداث ضرر غير مقصود، وهو ما ستحدثه إذا تركت وشأنها.
الواحدية فلسفة دينية أو «نظام فلسفي»، يضم - كما في مذهب سبينوزا - الرب والكون، الخالق والخلق، في كل واحد؛ وهذا يعني أن الرب كان عليه أن يخلق كما فعل، وأن الرب هو أثر لخلقه مثلما كان السبب فيه؛ وهذا يعني أيضا أن الإنسان لا يمكن أن يوجهه عقله، ولا يمكن أن يكون السبب الأول كما هو الحال بالنسبة إلى البيوريتانيين، وأنه لم يعد حرا أكثر من عناصر الطبيعة الأخرى. إن هذا المذهب ليس فقط تعبيرا عن العقل الديمقراطي، بل هو فكرة عامة تلغي كل الفروق في الطبيعة ولا تعطي أي مكانة متميزة في الطبيعة للبشر. كما أنه يعد هجوما على العقل الديمقراطي أو أي مفهوم للعقل؛ لأنه ينكر قدرة البشر على أن تكون لهم أفضلية على باقي عناصر الطبيعة عن طريق التفكير والتأثير فيها، كما أنه يعد الذروة المنطقية للموضوعية العلمية؛ حيث لا يعطي أي أفضلية للبشر وأيضا، وعلى نحو غريب، للمساواة الديمقراطية؛ فالكون بأكمله ديمقراطي.
غير أن توكفيل بعد أن أورد مباشرة نقاشه الموجز والمهم في ذات الوقت لمذهب الواحدية، تناول فكرة التقدم التي أطلق عليها «القابلية اللامحدودة لبلوغ الكمال». السؤال الآن: ما علاقة هذا بمذهب الواحدية؟ التقدم هو الاعتقاد الإيجابي الأساسي للعقل الديمقراطي، على الرغم مما يحيط به من شك وميله للحتمية العمياء؛ فالتقدم سيبدو كتحسن معقول للوضع القائم بحيث يصبح أفضل حالا، وسيبدو أنه المثال الأساسي على «حركة فكرية» مثل تلك التي يتحدث عنها. والآن، يبدو أن التقدم قدرة إنسانية تميز الإنسان عن غيره من الحيوانات وباقي الخلق؛ فالخلق إذن ليس «كلا واحدا» كما يدعي مذهب الواحدية، وإنما كل معقد يتضمن كيانا قادرا على التغيير والتجديد - وهذا هو التقدم - بخلاف باقي الكون. إن فكرة التقدم لا تتلاءم مع مذهب الواحدية، غير أنهما تعبير عن العقل الديمقراطي. يرغب مذهب الواحدية في التعميم بالرغم من كل الفروق والاختلافات، لكن تصر فكرة التقدم على وجود استثناء واحد؛ وهو الإنسان الديمقراطي، حتى تبدي احتراما للعقل الديمقراطي الذي صاغ التعميم الذي يقوم عليه مذهب الواحدية. يقول الديمقراطيون إن جميع الأشياء في واقع الأمر متكافئة على نحو أساسي، باستثناء الديمقراطيين الذين يؤكدون على تلك النقطة.
Bog aan la aqoon