Tocqueville: Hordhac Kooban
توكفيل: مقدمة قصيرة جدا
Noocyada
الرفاهية المادية
يقوم الرأي العام على الرغبة في «الرفاهية المادية»، بحسب تعبير توكفيل. في المرة الأولى التي استخدم فيها توكفيل هذا المفهوم، كان يتحدث عن تأثيره على الآراء السياسية؛ هذا التأثير الذي يتجلى على نحو خاص لدى الأجانب الذين يأتون إلى أمريكا وتزدهر حياتهم. هناك صديق فرنسي لتوكفيل قابله في رحلته لأمريكا كان داعيا معروفا لمفهوم التوزيع العادل للثروة في فرنسا، لكنه تعلم من خلال نجاحه في أمريكا - مع تغير آرائه بسبب زيادة ثروته، ومع تخليه عن الدعوة للعدالة في توزيع الثروة - أن يتحدث عن حق الملكية تماما كما يفعل الاقتصاديون أو الماديون، ومن هنا، بدأ توكفيل الربط - الذي قد يبدو توسعا - بين المذهب الفلسفي للمادية والرغبة العامة في الرفاهية المادية. إن كلا من المذهب والرغبة له سلطة غير رسمية في أمريكا؛ مما يؤدي إلى أداء عادي لا بريق له، غير مفسد للأخلاق في مراحل عديدة من الحياة الديمقراطية. خصص توكفيل سبعة فصول متتالية في الجزء الثاني من كتابه لتناول تلك الرغبة، لكنه أدان المذهب بعنف قبل ذلك في مقدمته للجزء الأول، ووصف من يحاولون «تحويل الإنسان إلى مادة»، بأنهم سفهاء ومغتصبون للسلطة ولا قيمة لهم.
سيبدو من مثال الصديق الفرنسي الذي لم يحدد توكفيل اسمه أن الرغبة في الرفاهية المادية في أمريكا تسببت في ظهور المذهب بشكله السائد هناك؛ بحيث يتحدد الرأي الاقتصادي من خلال الطبقة أو المصلحة الاقتصادية، كما في الماركسية. لكن توكفيل لم يتبع هذا المسار؛ فقد أكد على أن الرغبة في الرفاهية المادية (التي أطلق عليها أيضا في الجزء الثاني «المتع المادية») نابعة من الديمقراطية؛ فهي لها سبب سياسي لا اقتصادي، وهي ليست ناتجة عن الرأسمالية أو روح الرأسمالية كما اعتقد ماكس فيبر، فما هي إذن تلك الرغبة؟ تحدث توكفيل عن طابع تلك الرغبة وربطها بمقابلها الواضح؛ ألا وهو الروح؛ حيث للرفاهية المادية جانب غير مادي في الديمقراطية الأمريكية؛ فالروح الديمقراطية لها طبيعتها المضطربة المستمدة من الرغبة في هذا الشيء على الخصوص.
إن الأمريكيين في واقع الأمر لديهم رغبة في الحصول على الأشياء المادية النابعة من وضعهم الاستثنائي غير الموجود في كل الأمم الديمقراطية، وقد استغل توكفيل هذه الفرصة لينفي أن أمريكا ستكون هي المثال الذي يجب أن تحذو تلك الأمم حذوه في هذا الشأن؛ فأمريكا متطرفة جدا في تلك الرغبة، لدرجة أن المرء يجب أن يذهب إلى هناك حتى يتعرف على مدى تأثير تلك الرغبة، وهو الأمر الثاني - بعد البراعة في إنشاء الجمعيات - الذي قال عنه توكفيل إن على المرء أن يشهده بنفسه حتى يقدر أهميته. وفي تناوله للأجناس الثلاثة، قال إن البيض في الشمال يعتبرون الرفاهية المادية الهدف الأساسي لوجودهم، وهذا يدل على أن تلك الرغبة ليست واحدة في كل أمريكا، غير أنه بالرغم من تلك الصفات، أكد على أن المساواة، من خلال «قوة خفية» ما، تجعل الشغف بالمتع المادية (وليس فقط الرغبة فيها) و«التفضيل الحصري للحاضر » الذي يصاحب تلك الرغبة؛ يسيطران على قلب الإنسان.
ما هي تلك القوة الخفية؟ في الفصل الذي تناول فيه توكفيل الرغبة في الرفاهية المادية في الجزء الثاني، قارن ثانية بين الديمقراطية والأرستقراطية؛ فالرجل الأرستقراطي يحتقر الرفاهية المادية، ويمكن أن يستغني عن الأساسيات، في حين أن الرجل الديمقراطي لا يمكن أن يعيش دون تلك الرفاهية. في عصرنا الحالي، يعتبر نظام السباكة الحديث ضرورة في كل الدول الديمقراطية؛ فالرفاهية المادية توجد في المنتصف بين الفقراء والأغنياء؛ فالفقراء يريدونها والأغنياء لا يبالغون في التفاخر بها؛ فهي تنتشر مع نمو الطبقة الوسطى. إنها تحتاج لمجهود في الوصول إليها، ودائما ما يحيط بها القلق. فهي رغبة عنيدة وحصرية وعامة، لكن لها أهدافا بسيطة تتشبث بها الروح. وعلى الرغم من أنها تشجع الشعوب الديمقراطية على الإفراط، فإنها مقيدة، وقال توكفيل إن لومه للمساواة لا ينبع من أنها تجعل الناس يسعون من أجل الحصول على متع محظورة، وإنما في أنها تجعلهم ينشغلون بالكامل في البحث عن متع غير محظورة؛ فبحسب قوله: «هم يقعون فريسة للدعة لا للإغواء.» فالرغبة في الرفاهية المادية صادقة ومقبولة، فقط لأنها تفتقد الطموح الكبير: «من الصعب الخروج عن المسار العام، سواء من خلال الرذائل أم الفضائل.»
إن وجود رغبة مقبولة لحيازة متع هذا العالم هو الشغف السائد في أمريكا، لكنه ليس الشغف الوحيد. عرض توكفيل فجأة نقاشا حول الروح في هذا السياق، موضحا الشغف الآخر المضاد للشغف السائد ومبينا قوته الخفية. بالنظر إلى الصورة التي رسمها توكفيل للواعظين المتجولين، الذين وجدوا جماهيرهم في البرية في الغرب ونقلوا إليهم «روحانيات سامية» غير موجودة في أوروبا، نجد أنه كشف عن إحدى حقائق الطبيعة الإنسانية؛ فالإنسان، بحسب قوله، لديه رغبة في اللانهاية وحب للخلود. إن هاتين الغريزتين الساميتين ليستا من ابتكار عقله، لكنهما من الأسس الثابتة في طبيعته، بحيث يمكن إعاقتهما أو تشويههما لكن لا يمكن أن يختفيا؛ فالروح لا ترضى بالمتع التي تأتي من الحواس؛ فهي لها احتياجات خاصة بها يجب أن يتم إشباعها، ولا يمكن شغلها عن ذلك لفترة طويلة قبل أن تشعر بالملل والاضطراب والقلق. إن الأمريكيين يشعرون بالاضطراب والحيرة على نحو يذكرنا بفلسفة باسكال، أحد الكتاب المفضلين لدى توكفيل.
ما الذي يعنيه هذا بالنسبة إلى الرؤية الأمريكية الخاصة بالمصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد؟ عند الحديث عن حب الخلود في الطبيعة الإنسانية، ألمح توكفيل إلى أن الفرد لا يمكن أن يرى أن كل شيء مصدره الذات؛ فالطبيعة هي مصدر هذا الحب، والطبيعة وليس الإنسان هي التي صنعت تلك الذات. علاوة على ذلك، يبدو أن حب الخلود بمنزلة امتداد للشغف السائد؛ لأن الرغبة في التملك تصبح حبا للخلود عندما تكسر «الأغلال المقيدة التي يرغب الجسد في فرضها» بسبب عدم الرضا عن الجانب المادي. وهكذا، تتحرك المصالح المادية من خلال القوة الكبرى لما يرغب في أن يطلق عليه «المصالح غير المادية للإنسان»، التي هي امتداد مهم لجزء «المفهومة على نحو جيد» من المصلحة الشخصية. والمصلحة الشخصية بهذا المعنى الواسع ترتبط بالذات من خلال «روابط مادية»؛ أي السياق الإنساني، لكن حقيقتها غير المادية تكون متجاوزة للذات. بل إن الأمريكيين أنفسهم يدركون على نحو ضمني أن شغفهم بالأشياء المادية لا يمكن أن يؤدي بهم إلى الشعور بالرضا، على الرغم من أن تجربة السمو فوق المادية يمكن أن تكون مقتصرة على القليل من الأشخاص. والروح لها احتياجات لا يفهمها الأمريكيون؛ ولذا عندما تنفصل الروح عن المصالح المادية، لن تستطيع أن توقفها أي حدود، وستتجاوز الفطرة السليمة إلى اللانهاية.
تحول المساواة البشر إلى سلع مادية؛ لأنها تطيح بأي سلطة أرستقراطية تهيمن عليهم أو تجبرهم على تحويل انتباههم للمستقبل، أو التضحية بمصالحهم المادية من أجل هدف طويل الأجل. يركز الديمقراطيون على الأجل القصير؛ فهم يوجهون انتباههم للحاضر. وما الشيء الموجود في الحاضر الواضح للجميع دون حاجة إلى تعليم أو تضحية؟ إنه السلع المادية. تكمن المشكلة في أن السلع المادية التي يمتلكها الفرد تزيد التطلع لديه من أجل المزيد؛ مما يؤدي إلى عدم الرضا بدلا من الرضا. في أي ديمقراطية، يكون لدى الفرد الحرية في تغيير مكانه ووظيفته ومنزله، وحيث إن الأمريكيين يوجهون انتباههم باتجاه الأشياء الجيدة في هذا العالم، ويسعون دائما من أجل المزيد، فيجب أن يكونوا دائما في حركة دءوبة؛ فلا قانون ولا عرف يجعلهم يقفون في مكانهم؛ لذا فإن الأمريكيين يشعرون بالحزن والكأبة، ولا يمكنهم الحصول على ما يريدونه؛ فالحياة قصيرة جدا، وهناك عدد كبير جدا من الاختيارات.
على الرغم من أن الأمريكيين يجمعون بين رغبتهم في الرفاهية المادية وحب الحرية والاهتمام بالشأن العام، لا يوجد ارتباط لازم بين هذه الأشياء؛ فمن غير الملائم عادة أن تمارس حقوقك السياسية بحيث يمكن أن تؤدي مصلحتك الشخصية إلى تجاهل اهتمامك الأساسي في هذه الحياة، وهو أن تبقى سيد نفسك في ظل سيادة الشعب. إن السعي من أجل الرخاء مشروع، لكنه عندما يؤدي بالإنسان إلى عدم «استخدام أكثر ملكاته سموا»، فهو برغبته في تحسين كل شيء من حوله يحط من شأن نفسه؛ فبحسب تعبير توكفيل، «اللؤلؤة هناك وليست في مكان آخر.»
صاحب عرض توكفيل لهذا الموضوع نقاش للمادية؛ فالمادية، بحسب قوله، «داء خطير للعقل الإنساني في كل الأمم»، لكن على نحو خاص في أي أمة ديمقراطية؛ لأنها تجتمع مع «أكثر الرذائل المألوفة للقلب». إن المادية في حد ذاتها ليست ديمقراطية، وبالطبع هناك ماديون في العصور الأرستقراطية. هاجم توكفيل كل الماديين؛ لأنه وجد أن المادية ضارة، وأن الماديين أنفسهم مثيرون للاشمئزاز في فخرهم. يعلم المذهب الناس ألا يهتموا بالسياسة أو الأخلاق، حتى على الرغم من أن المادية الحديثة تصاحب الديمقراطية. ربما نحاول أن نستخلص من المادية درسا مستفادا مقبولا ظاهريا نخبر الناس من خلاله أنه لا يوجد ما يميز المادة التي خلق منها الإنسان عن أي مادة أخرى؛ ومن ثم يجب ألا يغتر الإنسان كثيرا بنفسه. لكن بدلا من ذلك، يفتخر الماديون على نحو مبالغ فيه بالإعلان أن البشر ما هم إلا همج، يتصرفون «بفخر مبالغ فيه كما لو كانوا تأكدوا أنهم آلهة.»
Bog aan la aqoon