الجزء الاول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة المحقق
الحمد لله الذى أنزل القرآن، وكرّم بنى آدم بعلم البيان، والصلاة والسلام على خير بنى عدنان، أفضل الخلق بالحقيقة لا المجاز، وأعلمهم بأسرار الكتابة وحقيقة الإعجاز.
وبعد؛ فإن كتاب الطراز، ليحيى بن حمزة العلوى اليمنى «١» المتوفى سنة ٧٠٥ هـ يعد من الكتب البلاغية التى حاول أصحابها الخروج على طريقة السكاكى، تلك الطريقة المنطقية العقلية الجافة، بما تشتمل عليه من المبالغة فى التقسيم والتقعيد والتعقيد كذلك، كما يغلب عليها الإيجاز والاختصار الشديد المخل بحق البلاغة، مع ندرة الشواهد والتحليلات البلاغية.
وقد حاول يحيى العلوى تقليد ابن الأثير فى طريقته الأدبية التحليلية فى تناول علوم البلاغة، هربا من جفاف التناول المنطقى عند السكاكى ومن لفّ لفّه.
ونستطيع أن نقول: إن العلوى قد نجح فى سلوك الطريقة الأدبية إلى حد كبير؛ وذلك واضح في كثرة شواهده، بل اختلاف تلك الشواهد فى كثير من الأحيان عن الشواهد المكرورة عند السكاكى وأتباعه، وإن كان فى بعض الأحيان وخاصة فى فنون البديع لا يكاد يعدو تلك الشواهد التى درج السكاكى وأتباعه على الاستشهاد بها. وتتميز طريقته كذلك بكثرة التحليلات الأدبية، وقد أولى القرآن عناية خاصة، ولا عجب فى ذلك فقد نذر نفسه لبيان أسرار إعجازه كما هو واضح من عنوان كتابه، «الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز» .
ولكننا لن نبالغ فى الثناء على العلوى لنرتقى به إلى رتبة عبد القاهر الذى نوّه العلوى بذكره فى مقدمته، ولكنه قرر أنه لم يطلع على كتابيه (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة)،
1 / 3
وأنه لم ير منهما إلا شذرات فى تعليقات العلماء تنبى عما وراءها من روعة وإبداع.
بل إننا نقرر أنه لا يرقى كذلك إلى براعة ابن الأثير، ودقة نظراته وتحليلاته الرائعة.
ولكن لا يعدم القارىء لهذا الكتاب أن يجد محاولات جادة للعلوى فى الخروج على ربقة السكاكى ومدرسته، ويتضح ذلك من محاولاته المتكررة لمناقشة السّكاكى والرد عليه فى مواضع عديدة.
ومع ذلك فقد قرأ العلوى مفتاح العلوم للسكاكى وتأثر به كذلك، وهو وإن حاول الخروج على طريقة المدرسة السكاكية بطريقته الأدبية فى التناول والتحليل؛ فإنه لم يستطع التخلص كذلك من طريقة تلك المدرسة فى كثرة التقسيمات والتفريعات فهو يقلد فى ذلك السكاكى والرازى حيث يبنى كتابه على مقدمات ومقاصد ومكملات ... إلخ.
غير أننا نقول إنه يبقى لذلك الكتاب أسلوبه الأدبى، وتحليله الرائع، وكثرة شواهده، وتنوعها واختلافها عن المكرر المردود فى كتب البلاغة على كثرتها.
هذا، ولم نأل جهدا فى ضبط متن هذا الكتاب، وتخريج ما تيسر لنا من شواهده ونصوصه، وإخراجه إخراجا جيدا أنيقا يليق بقيمته العلمية.
والله نسأل أن ينفع به فى معرفة أسرار بلاغة كتابه، وعلوم إعجازه، وأن يجزل المثوبة لنا ولكل من ساعد فى إخراجه؛ إنه سبحانه نعم المولى، ونعم النصير.
كتبه عبد الحميد بن أحمد الهنداوى غفر الله له ولوالديه وللمسلمين الجيزة فى ١٥/٦/١٤٢١ هـ ١٥/٨/٢٠٠٠ م
1 / 4
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذى أنطق لسان الإنسان، فأفصح بعجيب البلاغة وسحر البيان. وأوضح منار البرهان. فأشرقت أنواره عن حقائق العرفان. وفتق أغشية الأفئدة بما ألهمها من أسرار العلوم وشرفها بمنطق اللسان. فهى تهتز بما أفيض عليها من عوارف الإحسان.
وتميس وتختال لما خولها من فواضل الجود والكرم والامتنان صنوان وغير صنوان. خلق الإنسان من الطين اللازب الصلصال. وأجرى لسانه بالفصاحة وسقاه من نميرها العذب السلسال. فسبحان القيوم المختص بصفات الكبرياء ونعوت الجلال. المنفرد بالألوهية، والباقى وجهه من غير فناء ولا زوال.
والصلاة على من تبوأ من الفصاحة ذروتها، واقتعد من البلاغة مكان صهوتها. حتى ظهرت من جبهته أسرار طلعتها. وتبلجت من بهجته أنوار زهرتها. ووضح نهارها.
وطلعت شموسها وأقمارها. وصفت مشارعها للورّاد، وراقت مشاربها لمن قصد وأراد.
ودل على مصداق هذه المقالة قوله «أنا أفصح من نطق بالضاد» فعند ذاك أفصح أبيّها وأنقاد. وسهل مراسها على الفرسان والنقاد، المصطفى من أطيب العناصر، والحائز لقصب السبق من المعالى وأشرف المفاخر، محمد الأمين على الأنباء الغيبية، ومستودع الأسرار الحكمية والحكمية، وعلى آله الطيبين أطواد العلم الراسخة، ومثاقيل الحكم الراجحة، صلاة تقيم، ولا تريم، إنه منعم كريم.
أما بعد فإن العلوم الأدبية، وإن عظم فى الشرف شأنها، وعلا على أوج الشمس قدرها ومكانها، خلا أن علم البيان هو أمير جنودها، وواسطة عقودها، فلكها المحيط الدائر، وقمرها السامر الزاهر، وهو أبو عذرتها، وإنسان مقلتها، وشعلة مصباحها، وياقوتة وشاحها. ولولاه لم تر لسانا يحوك الوشى من حلل الكلام. وينفث السحر مفتر الأكمام. وكيف لا وهو المطلع على أسرار الإعجاز، والمستولى على حقائق علم المجاز.
فهو من العلوم بمنزلة الإنسان من السواد، والميهمن عليها عند السبر والحك والانتقاد ولما
1 / 5
فيه من الغموض ودقة الرموز، واحتوائه على الأسرار والكنوز، استولت عليه يد النسيان والذهول، وآلت نجومه وشموسه إلى الانكساف والأفول، ولم يختص بإحرازه من العلماء إلّا واحد بعد واحد، وطالما قيل «إذا عظم المطلوب قل المساعد»، وما ذاك إلا لقصور الهمم عن بلوغ غاياته، وعجزها عن إدراكه والوصول إلى نهاياته.
ثم إن المقصود بهذا الإملاء هو الإشارة إلى معاقد هذا العلم ومناظمه. والتنبيه على مقاصده وتراجمه. وقد كثر فيه خوض علماء الأدب. وأتى فيه كل بمبلغ جده وجهده.
ومنتهى علمه ومقدار وجده. حرصا منهم على بيانه. وشغفا منهم بضبطه وإتقانه. وأتوا فيه بالغث والسمين. والنازل والثمين. وهم فيما أتوا به من ذلك فريقان. فمنهم من بسط كلامه فيه نهاية البسط، وخلط فيه ما ليس منه فكان آفته الإملال. ومنهم من أوجز فيه غاية الإيجاز، وحذف منه بعض مقاصده فكان آفته الإخلال. لم أطالع من الدواوين المؤلفة فيه مع قلتها ونزورها إلا أكتبة أربعة، أولها: كتاب المثل السائر للشيخ أبى الفتح نصر بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير. وثانيها: كتاب التبيان للشيخ عبد الكريم وثالثها: كتاب النهاية لابن الخطيب الرازى. ورابعها: كتاب المصباح لابن سراج المالكى.
وأول من أسس من هذا العلم قواعده. وأوضح براهينه وأظهر فوائده. ورتب أفانينه.
الشيخ العالم النحرير علم المحققين عبد القاهر الجرجانى. فلقد فك قيد الغرائب بالتقييد.
وهد من سور المشكلات بالتسوير المشيد. وفتح أزهاره من أكمامها. وفتق أزراره بعد استغلاقها واستبهامها. فجزاه الله عن الإسلام أفضل الجزاء. وجعل نصيبه من ثوابه أوفر النصيب والإجزاء. وله من المصنفات فيه كتابان، أحدهما لقبه «بدلائل الإعجاز» والآخر لقبه «بأسرار البلاغة» . ولم أقف على شىء منهما مع شغفى بحبهما، وشدة إعجابى بهما، إلا ما نقله العلماء فى تعليقهم منهما. ولست بناقص لأحد فضلا. ولا عائب له قولا.
فأكون كما قال بعضهم.
بنقصك أهل الفضل بان لنا ... أنك منقوص ومفضول
1 / 6
ولا أدّعى لنفسى إحراز الفضل والاستبداد بالخصل فأكون كما قال بعضهم:
ويسىء بالإحسان ظنّا لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون
ولا أسلّم نفسى عن خطإ وزلل. ولا أعصم قولى عن وهم وخطل «فالفاضل من تعدّ سقطاته. وتحصى غلطاته» إلا بتوفيق الله وعصمته. والسالم من ذلك كتاب الله المجيد الذى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)
[فصلت: ٤٢] .
ثم إن الباعث على تأليف هذا الكتاب هو أن جماعة من الإخوان شرعوا علىّ فى قراءة كتاب «الكشاف» تفسير الشيخ العالم المحقق أستاذ المفسرين محمود «بن عمر الزمخشرى» فإنه أسّسه على قواعد هذا العلم، فاتضح عند ذلك وجه الإعجاز من التنزيل. وعرف من أجله وجه التفرقة بين المستقيم والمعوجّ من التأويل. وتحققوا أنه لا سبيل إلى الاطلاع على حقائق إعجاز القرآن إلا بإدراكه. والوقوف على أسراره وأغواره. ومن أجل هذا الوجه كان متميزا عن سائر التفاسير، لأنى لم أعلم تفسيرا مؤسسا على علمى المعانى والبيان سواه. فسألنى بعضهم أن أملى فيه كتابا يشتمل على التهذيب والتحقيق، فالتهذيب يرجع إلى اللفظ، والتحقيق يرجع إلى المعانى. إذ كان لا مندوحة لأحدهما عن الثانى.
وأرجو أن يكون كتابى هذا متميزا عن سائر الكتب المصنفة فى هذا العلم بأمرين أحدهما اختصاصه بالترتيب العجيب، والتلفيق الأنيق، الذى يطلع الناظر من أول وهلة على مقاصد العلم، ويفيده الاحتواء على أسراره. وثانيهما اشتماله على التسهيل والتيسير، والإيضاح والتقريب. لأن مباحث هذا العلم فى غاية الدقة، وأسراره فى نهاية الغموض.
فهو أحوج العلوم إلى الإيضاح والبيان، وأولاها بالفحص والإتقان فلما صغته على هذا المصاغ الفائق، وسبكته على هذا القالب الرائق، سميته بكتاب الطّراز. المتضمّن لأسرار البلاغة، وعلوم حقائق الإعجاز؛ ليكون اسمه موافقا لمسمّاه ولفظه مطابقا لمعناه.
ولما كان كل علم لا ينفكّ عن مبادىء ومقدمات تكون فاتحة لأمره.، ومقاصد تكون خلاصة لسرّه، وتكملات تكون نهاية لحاله، لا جرم اخترت فى ترتيب هذا الكتاب أن يكون مرتبا على فنون ثلاثة، ولعلّها تكون وافية بالمطلوب محصّلة للبغية بعون الله.
فالفن الأول منها مرسوم المقدمات السابقة نذكر فيها تفسير علم البيان، ونشير فيها إلى
1 / 7
بيان ماهيته وموضوعه ومنزلته من العلوم الأدبية، والطريق إلى الوصول إليه وبيان ثمرته وما يتعلق بذلك، من بيان ماهية البلاغة والفصاحة والتفرقة بينهما. ونشير إلى معانى الحقيقة والمجاز وبيان أقسامهما، إلى غير ذلك مما يكون تمهيدا وقاعدة لما نريده من المقاصد.
الفن الثانى منها مرسوم المقاصد اللائقة. نذكر منه ونشير فيه إلى ما يتعلق بالمباحث المتعلقة بالمعانى وعلومها. ونردفه بالمباحث المتعلقة بعلوم البيان وأقسامها. ونشرح فيه ما يتعلق به من المباحث بعلم البديع ونذكر فيه خصائصه وأقسامه وأحكامه اللائقة به بمعونة الله تعالى ولطفه.
الفن الثالث نذكر فيه ما يكون جاريا مجرى التتمة والتكملة لهذه العلوم الثلاثة، نذكر فيه فصاحة القرآن العظيم وأنه قد وصل الغاية التى لا غاية فوقها، وأن شيئا من الكلام وإن عظم دخوله فى البلاغة والفصاحة، فإنه لا يدانيه ولا يماثله. ونذكر كونه معجزا للخلق لا يأتى أحد بمثله. ونذكر وجه إعجازه، ونذكر أقاويل العلماء فى ذلك، ونظهر الوجه المختار فيه، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة، والنّكت الغزيرة، التى نلحقها على جهة الرّدف والتكملة لما سبقها من المقاصد.
فالفن الثالث للثانى على جهة الإكمال والتتميم. والفن الأول للثانى على جهة التمهيد والتوطئة والسرّ واللباب. والمقصد لذوى الألباب. ما يكون مودعا فى الفن الثانى وهو فن المقاصد. وأنا أسأل الله تعالى بجوده الذى هو غاية مطلب الطّلّاب. وكرمه الواسع الذى لا يحول دونه ستر ولا حجاب أن يجعله من العلوم النافعة فى إصلاح الدّين. ورجحنا فى ميزانى عند خفة الموازين. إنه خير مأمول، وأكرم مسئول.
1 / 8
الفن الأول من علوم الكتاب فى ذكر المقدمات
وهى خمس
المقدمة الأولى فى تفسير علم البيان وبيان ماهيته
اعلم أن كثيرا من الجهابذة والنظّار من علماء البيان، وأهل التحقيق فيه، ما عوّلوا على بيان تعريفه بالحدود الحاصرة، والتعريفات اللائقة، ولا أشاروا إلى تصوير حقيقة يعرف بها من بين سائر العلوم الأدبية، والعلوم الدينية، كعلم الفقه، وعلم النحو، وعلم الأصول، وغيرها من سائر العلوم، فإنهم اعتنوا فيها نهاية الاعتناء. وأتوا فيها بماهيّات تضبطها وتفصلها من سائر العلوم. وعلى الجملة فإن ذلك غفلة لأمرين أما أولا فلأن الخوض فى تقاسيمه وخواصّه، وبيان أحكامه، فرع على تصوّر ماهيته؛ لأن من المحال معرفة حكم الشىء قبل فهم حقيقته. وأما ثانيا فلأن الخوض فى أسراره ودقائقه إنما هو خوض فى المركبات، والخوض فى معرفة ماهيته إنما هو خوض فى المفردات. ولا شكّ أنّ معرفة المفرد سابقة على معرفة المركب. ولأجل ما ذكرناه لم يكن بدّ من بيان معقوله، ومعرفة ماهيته. فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر معناه وبيان موضوعه ومنزلته من العلوم الأدبية، وثمرته وكيفية الوصول إليه. فهذه مطالب خمسة.
المطلب الأول فى بيان ماهيته
فإنما يتخصص بالإضافة، فيقال فيه علم المعانى، ويقال علم البيان، ويقال له علم المعانى والبيان جميعا، فكلّ هذه الإضافات جارية على ألسنة علمائه فى الاستعمال فى أثناء المحاورة. وعلى الجملة فله مجريان.
المجرى الأول منهما: لغوى، فإذا قيل: علم المعانى، فالمعانى جمع معنى كمضارب ومقاتل. والمعنى مفعل واشتقاقه من قولهم عناه أمر كذا إذا أهمه وقيل لما نفهم من الكلام معنى لأنه يعنى القلب ويؤلمه. وهو اسم والمصدر منه عناية، يقال عناه الأمر عناية. وإذا قيل: علم البيان فالبيان اسم للفصاحة. وفى الحديث «إنّ من البيان لسحرا» . والمصدر منه
1 / 9
تبيان بالكسر فى التاء وهو جار على غير قياسه. والقياس فيه فتحها كالتّهذار والتّلعاب والتّرداد. ولم يجىء كسره إلّا فى بنائين: تبيان وتلقاء.
قال الله تعالى: تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ
[النحل: ٨٩] وقال تعالى: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ
[القصص: ٢٢] فهذا تقرير ما يفيد أنه فى وضع اللغة.
المجرى الثانى فى مصطلح النظّار من أرباب هذه الصناعة ولهم فيه تصرّفان،
التصرف الأول
فيما يفيده كلّ واحد منهما على انفراده من غير انضمامه وتركيبه إلى الآخر فنقول:
المفهوم من قولنا علم المعانى أنها المقاصد المفهومة من جهة الألفاظ المركبة لا من جهة إعرابها. وحاصل ما قلناه يرجع إلى البلاغة، لأن المعانى إنما تكون واردة فى الكلم المركبة دون المفردة.
فإذا قلنا: علم المعانى فالمقصود علم البلاغة على أساليبها وتقاسيمها. والمفهوم من قولنا علم البيان هو الفصاحة، وهى غير مقصورة على الكلم المفردة دون المركبة.
فعلم المعانى وعلم البيان يرجعان فى الحقيقة إلى علم البلاغة والفصاحة. هذا إذا أردنا تعريف كل واحد منهما على انفراده بماهيّة نخصّه على ما قرّرناه. وسيأتى لهذا مزيد تقرير فى مقدّمة على حدتها نذكر فيها ماهية البلاغة والفصاحة، والتفرقة بينهما. فآل الأمر إلى أن علم المعانى هو العلم بأحوال الألفاظ العربية المطابقة لمقتضى الحال من الأمور الإنشائية والأمور الطلبية وغيرهما.
وأنّ علم البيان حاصله إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى وضوح الدلالة عليه كالاستعارة والكناية والتشبيه وغيرها.
التصرف الثانى
إذا أردنا أن نجمعهما فى ماهيّة واحدة وفيه صعوبة لأنهما حقيقتان مختلفتان كما أسلفنا تقريره، فإذا كان الأمر فيهما كما قلناه الاختلاف فى الماهية فالأولى إفراد كلّ واحد منهما بماهية تخصّه كما أوضحناه من قبل؛ لأن الحقائق إذا كانت مختلفة فى ماهيّاتها فإنه يستحيل اندراجها تحت حدّ واحد وماهيّة واحدة؛ لأن فصل إحداهما مفقود فى الأخرى، فلأجل هذا تعذّر إدراجهما فى حدّ واحد، لكنا نشير إلى ما يمكن فى ذلك. وحقّ الفاصل أن يأتى بالممكن فنقول: ما يجمعهما فى ماهية واحدة نذكر منه تعريفات ثلاثة.
1 / 10
التعريف الأول:
أن يقال هو العلم بجواهر الكلم المفردة والمركبة ودلائل الألفاظ المركبة لا من جهة وضعها وإعرابها. فقولنا: العلم بجواهر الكلم المفردة والمركبة يشير إلى علم البيان، لأنه هو المراد به كما أشرنا إليه من قبل. وقولنا ودلائل الألفاظ المركبة، نرمز به إلى علم المعانى، لأن المقصود منه هو البلاغة، وهى غير حاصلة إلا من جهة التركيب لا غير، لأن المعانى لا يحصل لها الاتصاف بالبلاغة ولا ترتقى إلى مرتبتها إلا بالإفادة وهى متوقفة على التركيب لا محالة. وقولنا لا من جهة وضعها وإعرابها، فهذا قيد لا بدّ من مراعاته، ليخرج به عن علم اللغة وعلم الإعراب لأن حاصل ما يدل عليه علم اللغة، هو إحراز معانى الألفاظ المفردة، ودلالة علم الإعراب إنما يكون من جهة الإسناد والتركيب. ودلالة الألفاظ على علم البيان الذى هو الفصاحة وعلى علم المعانى الذى هو البلاغة هو أمر وراء ذلك مع كونه متوقفا عليهما وهما أمران يخالفانه فى مقصود الدلالة كما سنوضحه من بعد بمعونة الله تعالى.
التعريف الثانى
أن يقال فيه هو: العلم بما يعرض للكلم المفردة والمركبة من الفصاحة ويعرض للكلم المركبة من البلاغة على الخصوص. فقولنا ما يعرض للكلم المفردة والمركبة من الفصاحة، نشير به إلى علم البيان، وقولنا وما يعرض للكلم المركبة من البلاغة، نرمز به إلى علم المعانى لأنهما هما المرادان بما ذكرناه. وقولنا على الخصوص نحترز به عما تدلّ عليه الألفاظ المفردة والمركبة لا من جهة هاتين الدلالتين فإنه ليس مقصودا من علم البيان كما أسلفنا تقريره فى الحد الأول.
التعريف الثالث
أن يقال فيه هو العلم الذى يمكن معه الوقوف على معرفة أحوال الإعجاز، لأن الإجماع منعقد من جهة أهل التحقيق على أنه لا سبيل إلى الاطّلاع على معرفة حقائق الإعجاز وتقرير قواعده من الفصاحة والبلاغة إلا بإدراك هذا العلم وإحكام أساسه، فظهر بما قررناه فهم ماهيّته، وأن كل واحد من هذه التعريفات مرشد إلى تعريف حقيقته ومميّز له عن غيره من سائر العلوم.
خيال وتنبيه
فإن قال قائل: إن ما ذكرتموه من هذه التعريفات مختلفة فى أنفسها لأن كل واحد منها يفيد فائدة مخالفة لما يفيده الآخر، فلهذا حكمنا بكونها مختلفة. ومهما كانت التعريفات مختلفة كانت الحقائق فى ذواتها مختلفة، فكيف جعلتموها دالّة على حقيقة واحدة؟
1 / 11
وجوابه هو: أنها مع اختلافها وتباين أحوالها لا يمتنع كونها دالّة على حقيقة واحدة، وهذا غير ممتنع، فإن الأشياء المتغايرة قد تكون دالّة على معنى واحد كالألفاظ المترادفة، ويؤيد ما ذكرناه هو أن التعريفات التصوّرية طريق إلى فهم الحقائق التصورية. كما كانت البراهين التصديقية طريقا إلى معرفة المدلولات، فإذا جاز اجتماع البراهين على مدلول واحد جاز اجتماع التعريفات على ماهية واحدة فاختلاف كل واحد من النوعين لا يمنع من اتحاد المقصود.
المطلب الثانى فى بيان موضوع علم البيان
اعلم أن لكل علم من العلوم موضوعا يكون له كالأساس فى البناء. وبه تظهر حقيقته. ومنه يتقدّر قوام صورته. وعلى هذا يكون موضوع علم الطبّ بدن الإنسان.
ولهذا فإن الطبيب يسأل عنه ليدرى بحاله فى صحته وفساده. وموضوع علم الفقه هو أفعال المكلفين، فالفقيه يسأل عن حالها فيما يعرض لها من الحسن والقبح والوجوب والندب والكراهة والإباحة. وموضوع أصول الفقه هو النظر فى أدلة الخطاب من الكتاب والسنة. وما يكون مقرّرا عليها من الإجماعات والأقيسة والأفعال والتقريرات. فالأصولىّ يقصر نظره على ما ذكرناه. وموضوع علم الكلام هو النظر فى أفعال الله تعالى وما يصدر عن قدرته من المكونات كلها والمصنوعات فيحصل له العلم بذاته فنظره مقصور على ذلك.
وموضوع علم العربية هو الألفاظ الموضوعة من جهة تركيبها فهو يسأل عن حالها.
وهكذا فإن موضوع اللغة هو معرفة الألفاظ المفردة فاللغوىّ يسأل عن ذلك. فكلّ علم له موضوع يخالف موضوع الآخر. ومن ثم كانت حقيقة كل واحد منها مباينة لحقيقة الآخر لأنها باختلاف موضوعاتها اختلفت حقائقها وتمايزت فى أنفسها.
وكما يجرى هذا فى العلوم فإنه جار فى الحرف والصناعات لأنها من جملة العلوم، ولهذا فإنّ النجارة موضوعها الخشب. فإن النجار ينظر فى حالها فى تحصيل حقيقة النّشر.
والحدّاد موضوع صنعته الحديد فينظر فى حاله إذا أراد تركيب السّيف والشّفرة. وموضوع النساجة القطن. والكتان. فالنّساج ينظر فى حالهما من أجل تحصيل قوام الثوب وصورته وهذه القضية عامّة فى كل علم وحرفة. فإنه لا يمكن تحصيل شىء من أحواله إلا بعد إحراز موضوعه الذى هو أصل فيه.
1 / 12
وعلى هذا يكون موضوع علم البيان هو علم الفصاحة والبلاغة. ولهذا فإن الماهر فيه يسأل عن أحوالهما وحقائقهما اللفظية والمعنوية، فيحصل له من النظر فى الألفاظ المفردة إدراك الفصاحة، ويحصل له من النظر فى المعانى المركبة أحوال البلاغة كما قررناه.
وهم وتنبيه
فإن قال قائل فإذا كان موضوع اللغة هو الكلم المفردة، وهذا بعينه هو موضوع الفصاحة. فإذا كان موضوع علم الإعراب هو الكلم المركبة فهذا بعينه هو موضوع البلاغة، فمن أين تقع التفرقة بين موضوع علم اللغة وعلم الإعراب، وبين موضوع علم البيان، وعلم المعانى مع اتحاد الموضوع منهما فى الإفراد والتركيب؟
وجوابه هو أن علم اللغة، وعلم الفصاحة. وإن كان متعلّقهما الألفاظ المفردة، لكنهما يفترقان فى الدلالة، فإنّ نظر اللغوىّ مقصور على معرفة ما يدلّ على اللفظ بالوضع.
وصاحب علم البيان ينظر فى الألفاظ المفردة من جهة جزالتها، وسلامتها عن التعقيد، وبراءتها عن البشاعة، مع ما يتعلق بها من الأنواع المجازية، فإنها مؤدية المقصود بالطرق المختلفة، فافترقا كما ترى، وهكذا فإن النحوىّ، وصاحب علم المعانى، وإن اشتركا فى تعلقهما بالألفاظ المركبة، لكن نظر أحدهما مخالفا لنظر الآخر، فالنحوىّ ينظر فى التركيب من أجل تحصيل الإعراب لتحصل كمال الفائدة، وصاحب علم المعانى، ينظر فى دلالته الخاصة وهو ما يحصل عند التركيب من بلاغة المعانى. وبلوغها فى أقصى المراتب، فقد حصل مما ذكرناه التمييز مع الاشتراك فيما ذكرناه، وفى ذلك افتراقهما، وكشف الغطاء عما ذكرناه بمثال نورده وهو قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ
[البقرة: ١٧٩] . فنظر اللغوىّ إنما هو من جهة كون القصاص والحياة موضوعين لمعانيهما المفردة، وغير ذلك من سائر الكلمات المفردة، ونظر صاحب البيان من جهة سلامة هذه الألفاظ المفردة عن التعقيد، وسلاستها، وسهولتها على اللسان. وهذه هو المقصود بالفصاحة. فقد افترقت الدلالتان مع اشتراكهما فى التعلق بالألفاظ المفردة وهكذا.
ونظر النحوىّ من جهة رفع المبتدأ، وتقديم خبره عليه وتنكير المبتدأ، وتوسيط الظرف إلى غير ذلك من الأحوال الإعرابية.
ونظر صاحب المعانى من جهة بلاغتها، وتأدية المعنى المقصود منها، على أوفى ما يكون
1 / 13
وأعلاه. وهذا هو المراد من البلاغة. فقد افترقا مع إشراكهما فى تعليقهما بالتركيب. ومن ههنا امتاز قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ
[البقرة: ١٧٩] عما يؤثر عن العرب من قولهم «القتل أنفى للقتل» .
ومن أحاط علما بالفصاحة، وتغلغل فكره فى إحراز أسرارها، عرف أن بين ما ورد فى التنزيل، وبين ما أثر عن العرب فيما أوردناه من المثال فى الفصاحة والبلاغة، بونا لا تدرك غايته، وبعدا لا يحصر تفاوته، ولهذا فإنه من كان من المفسّرين نظره فى تفسير كلام الله مقصورا على معرفة المعانى الإعرابية، وبيان مدلولات الألفاظ الوضعية لا غير، من غير بيان ما تضمنه من أنواع الفصاحة والبلاغة، وتقرير مواقعهما الخاصة. فإنه يعدّ مقصّرا في تفسيره لكونه قد أخلّ بمعظم علومه، وأهملها وأعرض عن أجلّ مقاصده وتركها. وهو معرفة الإعجاز، لأنه موقوف على ما ذكرناه من معرفة الفصاحة والبلاغة جميعا.
ومن اعتمد فى تفسير كلام الله على ملاحظة جانب الفصاحة والبلاغة، ونزّل المعانى القرآنية عليها، سلم عن أكثر التأويلات النادرة، وبعد عن حمله على المعانى الركيكة التى وقع فيها كثير من المفسرين كما هو مذكور فى كتبهم.
المطلب الثالث في بيان منزلته من العلوم وموقعه منها
اعلم أن الكلام فى منزلة الشىء من غيره إنما يكون فيما يظهر فيه التقارب فى الجنسية.
فأما مع تباعد الحقائق وتباينها فلا يقال ذلك. ولهذا يقال أين منزلة الإنسان من الحيوان، ولا يقال أين منزلته من الأحجار. فنحن إنما نذكر منزلة علم البيان من العلوم الأدبية دون غيرها من سائر العلوم. فإذا تقرر هذا فنقول العلوم الأدبية على أربعة أنواع:
فالنوع الأول منها: علم اللغة العربية وهو علم بمعانى الألفاظ المجردة. فإن حاصله استفادة المعانى المفردة من الأوضاع اللغوية. فالعلم بأن الإنسان والفرس والجدار وغيرها من الألفاظ موضوعة لهذه الحقائق المفردة، إما بالتوقيف، وإما بالمواضعة، أو يكون بعضها بالتوقيف، وبعضها بالمواضعة، أو الوقف فى ذلك. وتجويز هذه الاحتمالات من غير قطع فى واحد منها إلى غير ذلك من الخلاف فيها ليس من همنّا ذكره لخروجه عن مقصدنا.
النوع الثانى: علم الإعراب. وهو علم بالمعانى الإعرابية الحاصلة عند العقد،
1 / 14
والتركيب، كقولنا قام زيد، فإن الإعراب لا يحصل إلا لمجموعهما. فالتركيب أقلّه من جزئين. والعقد إسناد أحدهما إلى الآخر. فلو حصل أحدهما وتعذر الآخر، لفات المعنى، ولبطل الإعراب. فصار علم الإعراب متميزا عن علم اللغة العربية بما ذكرناه، معطيا فائدة غير ما يعطيه علم اللغة لأجل الإفراد والتركيب.
النوع الثالث: علم التصريف. وهو علم يتعلق بتصحيح أبنية الألفاظ المفردة، وإحكام قوالبها على الأقيسة المطردة فى لسان العرب بالقلب، كما فى قال ورمى، والحذف كما فى قولنا: قل، وبع، والإبدال، كما فى قولنا: ميعاد، وصراط، وغير ذلك. وهو علم جليل القدر، ولا يختص به إلّا الأذكياء من علماء الأدب، كما أثر عن أبى عثمان المازنىّ وأبى الفتح ابن جنى، وغيرهما. وقد يقع فيه معظم الزّلل لمن لم يحرز أصوله ولا يحكمها، كما وقع من نافع المقرىء فى همزه شبه معايش وهو خطأ.
قال أبو عثمان المازنى: إن نافعا لم يدر ما العربية. ومعذرته فى ذلك، هو أنه شبه ياء معيشة بياء سفينة. فمن ثمّ همزها لمشاكلتها لها فى صورتها. وليس عذره فى ذلك أنه اعتقد أن معيشة فعلية كما قاله ابن الأثير معتذرا له. لأن هذا يكون ضم جهل إلى جهل. ولما لم يختص نافع برسوخ قدم فى علم الإعراب وقع فى حرفه فى قراءته ضعف كإسكان ياء «محياى» وجمعه بين الساكنين، ونحو إثباته لهاء السكت فى حال الوصل، وقراءة «أتحاجّونى» بنون واحدة.
النوع الرابع من علوم الأدب: علم البلاغة والفصاحة وهما يأخذان من العلوم الأدبية صفوها، ويقعان منها مكان الواسطة من عقدها، فإذا تمهدت هذه القاعدة فنقول: العلم المعبّر عنه بعلم البيان هو علم الفصاحة. وعلم المعانى هو المعبّر عنه بعلم البلاغة. وهو أجلّ العلوم الأدبية قدرا ومكانا وأعلاها منزلة وأكبرها شأنا لأنه علم يستولى على استخراج أسرار البلاغة من معادنها. وهذه توجد محاسن النّكت المودعة فى أصدافها ومكامنها. وهو الغاية التى ينتهى إليها فكر النّظّار، والضّالة التى يطلبها غاصة البحار.
وعليه التعويل فى الاطّلاع على حقائق الإعجاز فى القرآن، وإليه الإسناد عند المسابقة فى الخصل والرهان. ومنه تستثار المعانى الدقيقة على مرّ الدّهور وتخرّم الأزمان فظهر بما ذكرناه أن موقع علم البيان من العلوم الأدبية موقع الإنسان من سواد الأحداق. ومن ثمّ لم يستقل بدركه وإحراز أسراره إلا كل سباق.
1 / 15
المطلب الرابع فى بيان الطرق إليه
اعلم أن إحرازه إنما يكون بإحراز ما يحتاج إليه من العلوم الأدبية. ولما كان المقصود به هو الاطلاع على حقائق علوم الإعجاز، والإحاطة بعلم الفصاحة والبلاغة فما كان أصلا فى معرفة هذه الأشياء فهو مفتقر إليه. وما لا يحتاج إليه فى هذه الأشياء فهو غير مفتقر إليه. فصارت العلوم بالإضافة إلى ما تفتقر إليها وتستغنى على ثلاث مراتب.
المرتبة الأولى: لا يفتقر إليها بكل حال
وهذا نحو العلوم العقلية، كالعلم بالمباحث الكلامية والطبّ. والفلسفة وأحكام الحساب، وغير ذلك من علوم العقل. فما هذا حاله من العلوم فلا يستمدّ منها ولا تكون طريقا إليه.
المرتبة الثانية: ما يكون مفتقرا إليها،
ولا يمكن الوصول إليه إلا بها وبإحرازها وهى آلة فيه. وذلك أنواع ثلاثة:
النوع الأول منها: معرفة اللغة
مما تداولته الألسنة وكثر استعماله وصار مألوفا. لأن موضوعه هو البلاغة والفصاحة وهما من عوارض الألفاظ والمعانى. فمن لم يعرف شيئا من اللغة لا يمكنه أن يخوض فى عارض من عوارضها فيحصل له من الألفاظ المفردة معرفة معانيها الموضوعة لها، ويعرف نسبة الكلم المفردة إلى معانيها ومسمياتها ففيه غرض عظيم يحصل عليه وجملتها أربعة. أولها: المترادفة. ونعنى به الألفاظ المختلفة الصيغ المتواردة على معنى واحد.
وهذا نحو الخمر، والمدام، والعقار، ونحو الليث، والأسد، وثانيها: المتباينة. ونريد بها الألفاظ المختلفة على المعانى المختلفة. وهذا نحو الإنسان، والفرس، والأسد. وثالثها:
المتواطئة. وهى الألفاظ المطلقة على معان متغايرة يجمعها أمر معنوىّ تكون مشتركة فيه. وهذا نحو قولنا رجل، فإنه يطلق على زيد، وعمرو، وبكر، بجامع الرجولية والإنسانية وهكذا قولنا فرس، وحيوان. ورابعها: المشتركة. وهى الألفاظ المتفقة الدالّة على معان مختلفة غير متفقة فى أمر معنوىّ. وهذا نحو قولنا: عين، فإنها تطلق على العين الباصرة، وعين الشمس، وعين الركية، وعين الميزان فهذه المعانى كلها مختلفة فى أنفسها ولا تتفق إلّا فى مجرّد اللفظ لا غير. ومن الناس من زاد على هذه الألفاظ قسما خامسا وسماه المشكك والمشتبه، وجعله مترددا بين المشتركة، والمتواطئة، وهذا نحو إطلاق لفظ النور، على ضوء الشمس، والقمر، والنار ونور العقل، ونحو لفظ الحىّ فإنه يطلق على الحيوان، والنبات. والأقرب إلحاقه
1 / 16
بالمتواطىء لأنه يطلق على هذه الحقائق المتغايرة باعتبار أمر جامع يجمعها، فيطلق النور على هذه الأشياء باعتبار أمر معنوىّ، ويطلق الحىّ على النبات، والحيوان باعتبار أمر معنوىّ، وهو النموّ. ولا حاجة إلى جعله قسما على حياله لا ندراجه تحت ما ذكرناه. وإليه يشير كلام الشيخ أبى حامد الغزالى.
النوع الثانى: علم العربية
، وهو من جملة موضوعات هذا العلم العظيمة التى لا سبيل إليه إلا بإحرازها، وهو منه بمنزلة أبى جاد للخط العربىّ. وبه يحصل قوام أمره وإحكام أصوله. نعم ليس مختصا بهذا العلم وحده، بل ينبغى معرفته لكلّ من ينطق باللسان العربىّ فإنه لا غنى له عن معرفته، ليأمن من زلل اللحن وسقطه، ويستفيد بمعرفته الاطّلاع على المعانى المفيدة والجمل المركبة من الفاعل مع فعله، والمبتدأ مع خبره إلى غير ذلك من أفانين الكلام وأنواعه. وكل ذلك لا يحصل إلا بالوقوف على حقائق الإعراب ولوازمه. فلهذا لم يكن بدّ من تحصيلها وإتقانها.
النوع الثالث: علم التصريف
فإنه علم جليل القدر غزير الفوائد. وهو يختص بتصحيح أبنية الألفاظ المفردة ومعرفة صحيحها ومعتلّها وزائدها وأصيلها ومبدلها من أصيلها إلى غير ذلك من أنواع التصريف على قوانين جارية على أقيسة كلام العرب وأساليبها. ومن لم يحرزه فإنه لا يأمن الوقوع فى محذور الكلام ومكروهه، فإنه لا فرق فى اللحن بين تغيير الكلمة عن إعرابها الجارى لها، وبين تغيير بناء الكلمة وتصريفها على خلاف ما يقتضيه قياسها. فلا فرق فى ألسنة النحاة بين من خالف فى تغيير الإعراب فى نصب الفاعل ورفع المفعول وبين من ترك الواو والياء من غير إعلال مع وجود سبب الإعلال فيهما، ومن أخلّ به وقع فى مكروه التصريف، كما أن كل من أخلّ بإتقان الإعراب وقع فى معرّة اللحن ومكروهه. فهذه العلوم الثلاثة لابدّ من إحرازها لمن أراد الاطّلاع على علوم البيان ويجرى مجرى الآلة له فى الوصول إليها.
خيال وتنبيه
فإن قال قائل: كيف توجبون على كل من أراد إحراز علوم البيان علم اللغة. ونحن نجد فى الأوضاع اللغوية ما لا يفهم المراد من ظاهر لفظه كما فى الألفاظ المشتركة فإن حقيقة وضعها ينافى البيان لما فيها من الإبهام إلا بقرينة من وراء لفظها وتوجبون العلم
1 / 17
بالوجوه الإعرابية لمن خاض فى علوم البيان والواحد منا إذا قال: قام زيدا بالنصب وقال ضربت زيد بالرفع فهم الغرض، وإن كان لاحنا، ونجد كثيرا من الأحاديث الملحونة مفهومة المعانى وإن كانت جارية على خلاف قانون العربية وهكذا الحال فى التصريف فإن الواحد منا إذا قال لغيره قوم بإثبات الواو، أو قال هذه عصوك من غير إعلان فإن المقصود مستقيم لا خلل فيه، فإذن لا وجه لإيجاب الإحاطة بهذه العلوم لمن أراد الخوض فى علم البيان.
والجواب أنا قد أوضحنا أنه لابدّ من إحراز هذه العلوم لمن أراد الاطّلاع على علوم البلاغة والفصاحة بما لا مدفع له إلّا بالمكابرة. فلا مطمع فى إعادته.
قوله: إن فى الأوضاع اللغوية ما يستبهم فيه المقصود، كالألفاظ المشتركة، قلنا: إن هذه اللغة التى عظّم الله أمرها، ورفع قدرها مشتملة على اللطائف البديعة، والمجازات الرشيقة، وإن الاشتراك يرد من أجل الاختصار، لاشتمال الكلمة الواحدة على معان كثيرة، ويرد من أجل التجنيس، والازدواج فى إعجاز الكلم العربية، ويرد لمقاصد عظيمة ليس من همنا ذكرها، وفيه معان بديعة ومقاصد للفصحاء بالغة يدركها من رسخت قدمه فى هذه الصناعة.
قوله: الواحد منا يكون لا حنا ولا يخلّ بشىء من مقاصده فى خطابه قلنا: هذا فاسد فإن المقاصد وإن كانت مفهومة بالقرائن فى بيان الفاعل والمفعول، لكنا نريد مع فهم المعانى بالقرائن الحالية أنه لابدّ من جريها على القوانين الإعرابية، وعلى ما هو معهود من ألسنة الفصحاء ومجارى كلماتهم التى ورد بها القرآن، وجاءت به السنة الشريفة من مطابقة الأوضاع اللغوية والقوانين الإعرابية. وربما لا يطّرد ذلك، أعنى الاتكال على القرائن، بل لابدّ من التفرقة بين الفاعل والمفعول بالإعراب، وإلّا كان اللبس واقعا كما فى قوله ضرب زيد عمرو فإنه لولا الإعراب لما عرف الفاعل من المفعول وهكذا إذا قلنا ما أحسن زيد فإنه لا يمكن التفرقة بين النفى والتعجب، والاستفهام إلّا بالإعراب؛ لأنّ الصيغة فيها واحدة، ولهذا فإنه يحكى أن رجلا دخل على أمير المؤمنين كرم الله وجهه. فقال له: قتل الناس عثمان من غير إعراب فقال له أمير المؤمنين كرم الله وجهه، بيّن الفاعل من المفعول، «رضّ الله فاك» ودخل رجل على زياد ابن أبيه بالبصرة. فقال له: مات أبانا وخلّف بنون. فقال زياد مات أبانا وخلف بنون. مه. فاستنكر اللحن وأباه لما قطع بكونه لحنا.
1 / 18
قوله إنا نقطع بفائدة الكلام من غير حاجة إلى التصريف قلنا هذا فاسد فإنه وإن أفاد كما ذكره من المثال، فإن الغرض مطلق الأوضاع اللغوية وجريها على القوانين المطردة معا. فتحصّل من مجموع ما ذكرناه أنه لابدّ من إحراز هذه العلوم لمن أراد الوقوف على محاسن البلاغة والاطّلاع على أسرار الفصاحة.
فالزّلل فى الجهل باللغة مؤدّ إلى تحريف الألفاظ، وفساد معانيها، والزّلل فى الإعراب يؤذن بفساد المعانى والتباسها. وفساد التصريف يبطل قوالب الألفاظ وجريها على مجاريها القياسية. ويدلّ على مصداق ما قلنا من أن اللحن يبطل المعانى ويفسدها ما فى الحكاية عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه، لمّا قال له أبو الأسود ما قال، مما يشعر باللحن وفساد اللغة.
فأمره بأن يصنع نحوا، وأمره بتقرير قواعده وبيان أصوله التى يرجع إليها.
وإذا كان زوال الإعراب يبطل المعانى مع كونه عارضا من عوارض الألفاظ، فتغيّر الأوضاع اللغوية والمجارى التصريفيّة، يكون أدخل فى التغيير لا محالة لأن هذا تغيّر فى ذوات الألفاظ، وذاك تغيّر فى عوارضها من أنواع الإعراب.
المرتبة الثالثة: مما يكون متوسطا بين المرتبتين السابقتين
فلا يستغنى عنه ولا يفتقر إليه غاية الافتقار، بل هو جار مجرى التتمة والتكملة فى التحسين والكمال. ولا ينخرم المقصود إن هو لم يحصل. وهذا نحو العلم بالأمثال العربية وما يؤثر عن العرب من الحكم والآداب فى المحافل والاستظهار بمطالعة الدواوين والرياضة بحفظ الأشعار فإن ذلك يفيد حنكة، وتجربة، ويكون عونا على إدراك البلاغة والفصاحة، ويفيد الاطّلاع على أسرار الإعجاز
والشعراء طبقات ثلاث
الطبقة الأولى: المتقدمون من الشعراء فى الجاهلية
كامرىء القيس وزهير والنابغة. وسئل بعض الأذكياء عن وصفهم فيما أتوا به من الشعر، فقال امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا شرب.
الطبقة الثانية: المتوسطون
كالفرزدق، وجرير، والأخطل. وسئل جرير عن نفسه وعن الفرزدق والأخطل، فقال: أما الفرزدق ففى يده نبعة من الشعر وهو قابض عليها وأما الأخطل فأشدّنا اجتراء، وأرمانا للفرائص، وأما أنا فمدينة الشعر.
الطبقة الثالثة: المتأخرون
أبو تمام، والبحترى والمتنبى أبو الطيب.
1 / 19
وسئل الشريف الرضى عن هؤلاء الثلاثة فقال، أما أبو تمام فخطيب منبر، وأما البحترى فواصف جؤذر، وأما أبو الطيب المتنبى فقائد عسكر. فالارتياض بكلام كل واحد من هؤلاء يوجب رسوخ القدم فيما ذكرناه من البلاغة والفصاحة.
دقيقة
اعلم أنا وإن أوجبنا على من أراد الخوض فى علوم البيان وإحرازها أن يحصل على ما ذكرناه من هذه العلوم الأدبية، فلسنا نريد أن يكون محيطا بأسرارها مستوليّا على جميع دقائقها، فذلك متعذر، بل ربما يستغرق الإنسان عمره فى واحد منها فلا يعتبر أن يكون فى اللغة بالغّا مبلغ الفراء، وأبى عبيد، ولا يكون فى العربية بمنزلة الخليل، وسيبويه، ولا فى علم التصريف على رتبة المازنى، وابن جنى، ولكن يحرز لنفسه قدرا من الفضل فيها يمكنه به الخوض فى علومها، ويعرف مصطلحاتهم فيطلب حاجته من كتبهم وأوضاعهم، فمتى حصل على هذه الحالة أمكنه السلوك لطرائقهم، وأن يرد مواردهم ويستعين بالله.
المطلب الخامس فى بيان ثمرته
واعلم أنه يراد لمقصدين.
المقصد الأول منها: مقصد دينىّ
، وهو الاطّلاع على معرفة إعجاز كتاب الله، ومعرفة معجزة رسول الله ﷺ، إذ لا يمكن الوقوف على ذلك إلّا بإحراز علم البيان، والاطّلاع على غوره، فإن هذا العلم لمن أشرف العلوم فى المنقبة، وأعلاها فى المرتبة، وأنورها سراجا وأوضحها منهاجا، وأجمعها للفوائد، وأحواها للمحامد ومع ما اشتمل عليه من الفضائل نخص هذا الموضع بذكر فضيلتين تدلان على غيرهما من سائر فضائله.
الفضيلة الأولى
: أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله، مع ما أعطاه الله من العلوم الدينية، وخصه بالحكم والآداب الدنيوية، فلم يفتخر بشىء من ذلك، فلم يقل، أنا أفقه الناس، ولا أنا أعلم الخلق بالحساب، والطب، بل افتخر بما أعطاه الله من علم
1 / 20
الفصاحة والبلاغة، فقال ﵇: «أنا أفصح من نطق بالضاد»، وقال ﵇:
«أوتيت خمسا لم يعطهن قبلى أحد، كان كل نبىّ يبعث إلى قومه، وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لى الغنائم، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرّعب بين يدى مسيرة شهر، وأوتيت جوامع الكلم» .
الفضيلة الثانية
: أنه لولا علوّ شأنه، وارتفاع قدره، لما كان خير كتب الله المنزل على أفضل أنبيائه، إعجازه متعلقا به فإن القرآن إنما كان إعجازه من أجل ما اشتمل عليه من الفصاحة والبلاغة، ولم يكن إعجازه ما اشتمل عليه من أنباء الغيب، ولا من الحكم والمواعظ وغيرها من الأوجه كما سنقرر المختار فى إعجازه فى الفن الثالث بمعونة الله تعالى فهذا مقصد عظيم يراد لأجله هذا العلم.
المقصد الثانى: مقصد عام
لا يتعلق به غرض دينىّ وهو الاطلاع على أسرار البلاغة والفصاحة فى غير القرآن، فى منثور كلام العرب ومنظومه، فإن كل من لا حظّ له فى هذا العلم لا يمكنه معرفة الفصيح من الكلام، والأفصح، ولا يدرك التفرقة بين البليغ والأبلغ، والمنثور من كلام العرب أشرف من المنظوم، لأمرين، أما أولا: فلأن الإعجاز إنما ورد فى القرآن بنظمه وبلاغته، ولم يرد بطريقة نظم الشعر أسلوبه. وأما ثانيا: فلأن الله تعالى شرّفه عن قول الشعر ونظمه، وأعطاه البلاغة فى المنثور من الكلام وما ذاك إلّا بفضل المنثور على المنظوم فهذا ما أردنا ذكره من هذه المقدمة.
1 / 21
المقدمة الثانية فى تقسيم الألفاظ بالإضافة إلى ما تدل عليه من المعانى
اعلم أن البحث عن دلالة الألفاظ على ما تدل عليه، واسع الخطو، ولكنّا نشير إلى ما يليق بما نحن فيه. وجملة ما نذكره من ذلك تقسيمان لا غير. وهما وافيان بالبغية بمعونة الله تعالى.
التقسيم الأولى
اللفظ إما أن تعتبر دلالته بالنسبة إلى تمام مسماه، أو بالنسبة إلى ما هو داخل فى مسماه، أو بالنسبة إلى ما هو خارج عن مسماه. فهذه ضروب ثلاثة نفصلها إن شاء الله تعالى
الضرب الأول: ما تكون دلالته بالنسبة إلى تمام مسماه. وهذه هى [دلالة المطابقة]
وهذا نحو دلالة نحو الإنسان والفرس، والأسد على هذه الحقائق المخصوصة، فإنها مرشدة بالوضع عند إطلاقها على معانيها المعقولة. وتختص دلالة المطابقة بأحكام كثيرة. ولنشر منها إلى ثلاثة أحكام.
الحكم الأول
منها: ليس يلزم فى كل معنى من المعانى أن يكون له لفظ يدلّ عليه، بل لا يبعد أن يكون ذلك مستحيلا، لأن المعانى التى يمكن أن يعقل كلّ واحد منها غير متناهية. فلو لزم أن يكون لكل معنى لفظ يدل عليه، لكان ذلك إما أن يكون على جهة الانفراد، أو على جهة الاشتراك ومحال أن يكون على جهة الانفراد، لأنه يفضى إلى وجود ألفاظ غير متناهية. وهو باطل. ومحال أن يكون على جهة الاشتراك لأنه لابد من أن تكون تلك الألفاظ المشتركة دالة على معانيها بالمواضعة. فإذا كانت المعانى بلا نهاية استحال أن توضع لها ألفاظ تدل عليها إلّا بعد الإحاطة بها وتعقلها. وتعقّل أمور غير متناهية على جهة التفصيل محال فى حقنا. فحصل من مجموع ما ذكرناه أن المعانى وإن كانت فى أنفسها غير متناهية، لكن لا يلزم أن تكون لها ألفاظ تدل عليها. وإذا تقرر ما قلناه فنقول، المعانى على قسمين. منها ما تكثر الحاجة إلى التعبير عنها، فما هذا حاله لا يجوز خلوّ اللغة عن وضع لفظ بإزائه يكون دالا عليه، لأن الحاجة داعية إلى ذلك، فلا بدّ من حصوله.
فأما المعانى التى لا تدعو الحاجة إلى التعبير عنها، فإنه يجوز خلوّ اللغة عنها فلا يلزم وضع ألفاظ تدل عليها.
1 / 22