وحينئذ أسر البارون إلى الحاجب بشيء ما، ولربما كان يريد أن يعرف إن كان المركيز صادقا فيما يقول، ثم أجاب: «سيدي، لو صبرتما رحبنا بمثولكما معنا؛ ولكنكما إن عارضتما بالفعل أو بالتهديد هذا الطبيب في أداء واجبه فلتعلما أني لن أرعى لعلو مكانتكما حرمة، وسوف أفرض عليكما الابتعاد عن فسطاط رتشارد، ولتعلما كذلك أني قوي الإيمان بما لدواء هذا الرجل من فضائل، حتى لو أن رتشارد ذاته أعرض عن تناوله، فبحق سيدة «لانركست» ما أظن إلا أني سوف أجد في قلبي ما يدفعني إلى أن أكرهه على أن يتعاطى أسباب شفائه، أراد أو لم يرد. هيا بنا يا حكيم.»
ولفظ كلمته الأخيرة باللغة الفرنجية، وصدع الطبيب بما أمر في الحين، وحينئذ نظر رئيس فرسان المعبد متجهما عابسا، إلى هذا الجندي المسن، الذي لا يعرف من آداب اللياقة شيئا، ولكنه ما إن تبادل النظر مع المركيز حتى انفرج جبينه المقطب على قدر ما وسع، وتبع كلاهما دي فو والعربي إلى الفسطاط الداخلي حيث كان رتشارد مستلقيا على سريره يترقبهم، وقد ارتسم عليه ذلك الجزع الذي يرقب به المريض خطوات الطبيب؛ أما السير كنث الذي لم يكن مثوله مرادا أو ممنوعا، فقد شعر بأن من حقه في تلك الظروف التي وقف فيها أن يتبع هؤلاء الرجال ذوي المكانة الرفيعة، ولكنه أحس بحطته نفوذا ومرتبة فانتأى بعيدا إبان ما جرى إذ ذاك.
وما إن دخلوا غرفة رتشارد حتى صاح الملك متعجبا: «هيا، هيا، أكرم بهؤلاء الزملاء الذين أتوا كي يشهدوا رتشارد وهو يقفز في الظلام. أي حلفائي النبلاء، إني أحييكم كممثلين لمجمعنا المنعقد، وعما قريب إما ترون رتشارد بينكم بسالف هيئته، أو تحملون إلى القبر جثمانه ورفاته. أي دي فو، لك من أميرك الشكر حيا أو ميتا. ولكن هناك شخصا آخر؛ لقد أضاعت هذه الحمى مني البصر. ماذا؟ يا أيها الاسكتلندي الجسور: من ذا الذي يرقى إلى السماء بغير درج؟ مرحبا بك؛ هيا يا سيدي الحكيم، إلى العمل، إلى العمل.»
وكان الطبيب قد استعلم من قبل عن مختلف الأعراض التي تبدو على الملك في مرضه، فشرع الآن يجس نبضه، ولبث كذلك طويلا، شديد التنبه والتيقظ، بينما وقف الجميع حواليه صامتين يترقبون بأنفاس مقطوعة، وبعد ذلك ملأ الحكيم كأسا بماء معدني، وغمس فيه الكيس الأحمر الصغير الذي أخرجه من صدره كما فعل من قبل، ولما بدا له أنه تشبع بالدواء تشبعا كافيا هم أن يناوله الملك، لولا أن اعترضه هذا، وقال: «البث قليلا؛ لقد جسست نبضي، فدعني أضع إصبعي فوق إصبعك، فإني كذلك - كما يليق بالفارس النبيل - أعرف شيئا عن فنك.»
فأسلم العربي يده بغير تردد، واختفت - بل وانطمرت - أصابعه الطويلة الرقيقة السوداء برهة من الزمن في قبضة يد الملك رتشارد الكبيرة.
ثم قال الملك: «إن دمه ينبض في هدوء كدم الطفل، أما أولئك الذين يسممون الأمراء فلا تتدفق دماؤهم هكذا. أي دي فو! لتصرف هذا الحكيم مكرما آمنا سواء مت أم حييت. واذكرنا بالخير يا صديقي عند صلاح الدين النبيل؛ لو مت فسأموت ولا يخامرني شك في نيته، ولو حييت فلأشكرنه كما يحب المقاتل أن يشكر.»
ثم نهض من فراشه وتناول الكأس في يده، والتفت إلى المركيز وإلى رئيس فرسان المعبد وقال: «أصغيا إلى ما أقول، ولتدعا إخواني الملوك يذكرونني وهم يحتسون نبيذ قبرص ويقولون: «هذا من أجل الشرف الخالد، الذي سوف يناله أول صليبي يضرب برمحه أو بسيفه أبواب بيت المقدس، ومن أجل العار والشنار الأبدي الذي سوف يلحق بكل من ولى ظهره السلاح بعد أن امتدت إليه يده!»
ثم احتسى الكأس حتى ثمالتها وردها إلى العربي وغاص ثانية - كأنه مجهد منهوك - فوق الحشايا التي أعدت لراحته؛ ثم ألمع الطبيب بعد ذلك بإشارات صامتة، إلا أنها قوية التعبير، بأن يغادروا الفسطاط جميعا، ما خلاه هو ودي فو، الذي لن ينسحب لإشارة أو أمر، فخلت الغرفة بعد ذلك كما أشار الطبيب.
الفصل العاشر
والآن سوف أفتح كتابا خفيا،
Bog aan la aqoon