217

ولما ذكر النداء «كنث الاسكتلندي» فأعلن بذلك اسم البطل وصفته - وما كانت العامة تعرفهما حتى ذاك - انبعث عن أتباع الملك رتشارد هتاف عال مرح، وما كادوا يطيقون سماع جواب المتهم رغم الأوامر المتكررة بالتزام الصمت. أما المتهم فقد أعلن بطبيعة الحال براءته وتقدم للقتال، ثم دنا أتباع المتبارزين وقدم كل فريق لسيده درعه ورمحه، معينا إياه على تعليق الدرع برقبته بحيث تبقى كلتا يديه طليقتين، إحداهما لتمسك بالزمام، والأخرى لتضرب بالرمح.

وكان يظهر على درع الاسكتلندي «النمر» شعاره القديم، مزيد عليه طوق وسلسلة محطمة إشارة إلى أسره في الأيام الأخيرة. أما درع المركيز فكان يحمل صورة جبل صخري ناتئ إيماء إلى لقبه [منت = جبل، سرا = ناتئ]، وهز كل منهما برمحه فوق رأسه كأنه يريد أن يتثبت من وزن السلاح الضخم وصلابته، ثم أقره في غمده ثانية، وتراجع الكفيلان والمنادون والأتباع بعدئذ إلى الحواجز، وجلس المتضاربان متقابلين وجها لوجه برماح منكسة وخوذات مسترخية، وجسداهما مستتران كل التستر، حتى لقد كانا إلى تمثالين من الحديد المسبوك أقرب منهما إلى مخلوقين من اللحم والدم، وساد بين الحشد صمت الانتظار، وغلظت أنفاس الرجال، وباتت أرواحهم وكأنها في عيونهم جاثمة، ولم يعل صوت غير نفخ الجوادين الكريمين بالمنخرين ونبشهما بالحوافر، وقد أحس الجوادان بما أوشك أن يقع، فكانا على قلق لأن يندفعا إلى العراك، ووقفا كذلك نحوا من ثلاث دقائق إلى أن صدرت عن صلاح الدين إشارة ما، فشق الهواء مئين الآلات بجلبتها النحاسية، وحفز كل بطل حصانه بالمهماز وأرخى الزمام، وعدا الجوادان عدوا سريعا، والتقى الفارسان وسط الميدان يهزان الأرض كالرعد القاصف، وما كان في الظفر ريبة! كلا، ولم يكن ثمة لحظة من شك، فلقد كان يبدو على كنراد حقا أنه مقاتل مدرب، إذ إنه ضرب خصمه ضربة الفارس وسط درعه، وهو يحمل رمحه مستقيما مسددا، حتى لقد سقط الرمح محطما من رأسه الصلب إلى طرف القفاز، وكر حصان السير كنث متراجعا ذراعين أو ثلاثا، وسقط على عجزيه، ولكن راكبه خف إلى إنهاضه بيده وعنانه. أما كنراد فنزل ولم ينهض، لأن السير كنث طعنه برمحه فاخترق الدرع ثم زردا مموها من صلب «ميلان» ثم سترة من حلق الحديد تحت الزرد، وجرحه في صدره جرحا بليغا، ثم رفعه عن ظهر جواده تاركا قناة الرمح في الجرح راسخة. وحينئذ احتشد حول الجريح الكفيلان والمنادون وصلاح الدين نفسه بعد أن نزل عن عرشه. أما السير كنث فقد جرد سيفه، قبل أن يدرك أن خصمه قد بات عاجزا كل العجز، وأمره حينئذ أن يقر بإثمه، فرفع الرجل الجريح خوذته على عجل، وحدق ببصره في السماء وأجاب: «ماذا تريد مني أكثر من ذلك؟ لقد حكم الله بالعدل. أنا آثم، ولكن بالمعسكر من هم شر مني خيانة. ائتوني بالقس إشفاقا على روحي!»

وعادت إليه الحياة وهو ينبس بهذه الكلمات.

فقال الملك رتشارد لصلاح الدين: «بالتميمة؛ بذلك العلاج الناجع يا أخي المليك!»

فأجاب السلطان قائلا: «إنما أخلق بالخائن أن يجذب من عقبه ويبعد عن الميدان إلى المقصلة، لا أن ينتفع بمزاياها.» ثم قال بعدما حدق ببصره في الرجل الجريح: «وإن في نظرته لمثل هذا القضاء، لأن جرمه قد يشفى، ولكن عزرائيل قد ختم على جبين اللئيم.»

فقال رتشارد: «ورغم هذا، فإني أتوسل إليك أن تقوم له بما تستطيع، حتى يتسع له الوقت للاعتراف على الأقل؛ لا تقتل فيه الروح والجسد! إن نصف ساعة من الزمن قد تعادل حياة أكبر البطارقة سنا عشرة آلاف مرة.»

فقال صلاح الدين: «سأطيع إرادة أخي المليك. أيها العبيد، احملوا هذا الرجل الجريح إلى سرادقنا.»

وكان صاحب المعبد حتى آنئذ واقفا مكتئبا ينظر في صمت فقال: «لا تفعلوا ذلك، إني ودوق النمسا الملكي لا نقبل أن يأخذ العرب هذا الأمير المسيحي التعس، ويختبروا فيه تمائمهم؛ نحن المتكفلين به نطلب إيداعه تحت رعايتنا.»

فقال رتشارد: «أي أنكما تأبيان هذه الوسيلة بعينها التي تقدم لشفائه؟»

فقال الرئيس الأعظم وقد استجمع نفسه: «كلا، ليس الأمر كذلك. إذا كان السلطان يستخدم أدوية شرعية فإنه يستطيع أن يعنى بالمريض في خيمتي.»

Bog aan la aqoon