فأجاب المسلم وقال: «أيها النصراني! ألا تعلم أن الروم وأهل الشام كثيرا ما حنثوا في عهودهم لنا، ونحن إنما نتبع أبا بكر الصديق خليفة النبي، وأول خليفة للمسلمين من بعده، إذ قال لذلك القائد الذائع الصيت حينما بعث به كي يستخلص سوريا من أيدي الكفار:
3
اذهب ورجالك يا يزيد بن سفيان، وحاربوا كما تحارب الرجال في ساحة الوغى، ولكن حذار أن تقتلوا الشيوخ والمرضى والنساء والأطفال، ولا تخربوا البلاد، ولا تدمروا أشجار الفاكهة والقمح فهي من نعم الله، وإذا عاهدتم فلتفوا بالعهود - حتى وإن كانت في مضرتكم - وإذا صادفتم رجالا قديسين يعملون بأيديهم ويعبدون الله في الصحراء، فلا تمسوهم بأذى ولا تهدموا مساكنهم؛ أما إذا ألفيتموهم برءوس حليقة، فاعلموا أنهم من أتباع الشيطان واضربوهم بسيوفكم، واقتلوهم ولا تأخذكم بهم رأفة حتى يؤمنوا أو يدفعوا الجزية. هكذا أمرنا الخليفة رفيق النبي، فأطعنا، فعدلنا، ولم نضرب إلا جنود الشيطان، أما أولئك الرجال الأخيار أتباع عيسى بن مريم، الذين لا يثيرون أمة على أمة وإنما يعبدون الله مخلصين له الدين، فقد كنا لهم ظلا وحمى. ولما كان صاحبك الذي تقصد رجلا من هؤلاء، فإني لا أحمل له إلا المحبة والخير والتقدير وإن يكن نور النبي لم يبلغه.»
فقال الحاج المحارب: «لقد سمعت أن الراهب الذي أقصد ليس قسا، ولكنه إن كان أحد أولئك الرجال المقدسين المباركين، فتالله لأصدن عنه برمحي هذا كل معتد أثيم من الكفرة أبناء المسلمين ...»
فاعترض العربي كلامه وقال: «أخي! خير لي ولك ألا تتحداني ولا أتحداك، فإن كلينا يستطيع أن يجد من بني قومه من يكفيه للضرب بسيفه وسنانه. إن تيودوريك - الذي حدثتني عنه - في حمى الترك والعرب، وله بين الحين والآخر أطوار عجيبة، ولكنه على الجملة - كتابع من أتباع المسيح - يسلك سلوك الرجل الطيب، ويستحق الحماية ممن بعث الله ...»
وهنا قاطعة المسيحي متعجبا وقال : «قسما بمريم لو أنك لفظت في نفس واحد اسم ذلك الحادي المكي مع ...»
4
وحينئذ تمشت في حنايا الأمير رعدة من الغضب كتيار الكهرباء، لم تلبث لحظة حتى انقشعت، وأجاب في هدوء يخالجه الوقار والحكمة «لا تذكر بسوء من لا تعرف، إنما نحن نقدس نبيكم، ولكنا ننكر العقائد التي ينسجها قساوستكم حول الدين الذي أتاكم به. سأدلك بنفسي إلى الكهف الذي ينزل به الناسك، واعلم أنه لولا معونتي لشق عليك أن تبلغه؛ وإذا ما ضربنا في طريقنا فلنخل للشيوخ والرهبان الجدل في الدين، ولنتحدث في أمور تليق بأبطال أحداث. لنتحدث بمواقع القتال وفتنة الحسان، ولنتحدث بظباة السيف وبريق السلاح.»
الفصل الثالث
استراح المحاربان قليلا، وتناولا طعاما خفيفا انتعشا بعده، ثم هبا من مكانيهما وأخذ كل منهما يمد يد المساعدة إلى أخيه - وهما يجهزان جواديهما بعدتيهما ويحكمان الجهاز، بعد أن تخلص الجوادان الأمينان من هذا العبء مدة من الزمن - وكان كلا الرجلين خبيرا بهذا العمل الذي كان في ذلك العهد واجبا لا مندوحة عنه ولا غناء؛ وكان الجوادان - وهما رفيقان ملازمان لصاحبيهما في القتال والترحال - يوليانهما ثقتهما ومحبتهما على قدر ما بين الحيوان والإنسان العاقل من فرق في إظهار مثل هذا الشعور. أما العربي فقد شب على هذه المودة وذلك الإلف، ففي خيام القبائل الشرقية المحاربة كان حصان الجندي يلي في أهميته زوجه وأهله؛ أما الفارس الأوروبي، فإن الظروف والحاجة قد رفعت جواده إلى مكانة لا تقل عن مكانة زميله في الحرب؛ ولذا فلم يشق على الجوادين كثيرا أن يبتعدا عن الطعام، ويحرما الحرية، بل لقد اقتربا من صاحبيهما وأخذا يصهلان جذلا، بينما كان الرجلان يعدان عدتيهما لاستئناف الرحيل ومواصلة العمل، وكلاهما يعد نفسه، أو يعاون زميله في رفق، وهو يتطلع إلى عدة رفيقه في السفر ويلحظ طريقته في تهيئة معدات الركوب.
Bog aan la aqoon