وفي ظل السرادق كان العبد النوبي يجلس مستغرقا في عمله، مشتغلا بالواجب الذي فرضه عليه سيده، موليا ظهره شطر المليك، وكان قد فرغ من إعداد الزرد والدرع وتنظيفهما، وشرع يشتغل بدرقة عريضة كبيرة الحجم مكسوة بصفائح الصلب، كثيرا ما يستخدمها رتشارد، حينما يخرج لاستطلاع الأماكن الحصينة أو لضربها فعلا، حماية له وذريعة تقيه قذائف الأسلحة أكثر مما يقيه الدرع الضيق الثلاثي الذي كان يستخدمه وهو على ظهر الجواد. ولم تتسم هذه الدرقة، لا بأسد إنجلترا، رمز سلطانها، ولا بأي رسم آخر فتجتذب أنظار الذائدين عن الجدر التي كانت الدرقة تنطلق صوبها؛ فكانت إذن عناية خادم السلاح مقصورة على إجلاء وجهها حتى يضيء ضياء البلور اللامع، وقد نجح الخادم في هذا العمل غاية النجاح. وإلى ما وراء النوبي كان يرقد الكلب الكبير، وتكاد لا تراه العين من الخارج، وتستطيع أن تقول عن هذا الكلب إنه صنو النوبي في رقه واستعباده، وكان كأنه يحس بالخوف من الانتقال إلى حيازة الملك، فاستلقى ملاصقا لجوار الرجل الأبكم، ورأسه وأذناه إلى الأرض، وذيله وأطرافه متجمعة قريبا بعضها من بعض تحته وحواليه.
وبينما كان الملك وخادمه الجديد مشتغلين بما هما فيه، انضم إلى هذا المنظر الذي وصفنا رجل آخر، واختلط بجماعة العامة من الإنجليز، وكان نحو العشرين منهم يقومون بالحراسة أمام سرادق الملك صامتين - خلافا لما عهد فيهم - نظرا لهيئة التأمل والتفكير العميق والانهماك الشديد الذي استرسل فيه مليكهم استرسالا لم يألفوه فيه من قبل، ولكنهم - رغم هذا - لم يكونوا في حراستهم أشد يقظة منهم في أي وقت آخر، فكان بعضهم يلعب بالحصى الصغير مقامرا، وبعضهم يتهامسون عن يوم القتال القريب، وكثيرون منهم قد استلقوا وأغرقوا في النعاس، وأطرافهم الجسمية منطوية في برودهم الخضر.
تسلل وسط هؤلاء الحراس الغافلين رجل تركي هرم، صغير الجسم، زري الهيئة، حقير اللباس، يشبه بزيه وليا أو شيخا من شيوخ الصحراء المتحمسين للدين، الذين كانوا أحيانا يقتحمون معسكر الصليبيين، رغم ما كانوا يلاقون دائما من سخرية، بل ومن قسوة وشدة في غالب الأحيان. وحقا لقد كان الترف والانغماس في الملاذ الذي يسرف فيه زعماء المسيحيين يأتي إلى خيامهم بحشد خليط من المطربين والعاهرات والتجار واليهود والأقباط والترك ومختلف الرجال من أمم الشرق، وجميعهم من سقط المتاع، حتى باتت العمامة والقفطان شيئا مألوفا في معسكر الصليبيين، رغم ما كان يسود بينهم من أن الحملة إنما ترمي إلى إقصائهما من الأرض المقدسة. ولما دنا هذا الرجل الصغير الحجم، الزري الهيئة، الذي وصفنا، وبات على مقربة من الحراس، حتى وقفوا في سبيله، طرح عمامته الداكنة الخضراء عن رأسه، وظهر للرائي أنه حليق الذقن والحاجبين كأنه مهرج محترف، وأن سيماء ملامحه الملتوية العجيبة، وعينيه الصغيرتين السوداوين اللتين كانتا تتألقان كالكهرمان الأسود، تنم عن خيال شارد مخبول.
وكان الجند يعرفون أساليب هؤلاء المعتوهين المتجولين، فصاحوا بالرجل: «ارقص لنا أيها الشيخ، ارقص وإلا ضربناك بحبال نبالنا حتى يدور جسمك كما يدور الخذروف يحركه الصبي بسوطه.» وهكذا علا صياح الحراس الطائشين، فرحين جذلين لأنهم وجدوا بينهم رجلا يغيظونه، كما يفرح الطفل حينما يمسك بالفراشة، أو التلميذ إذا كشف عن عش طائر.
وكأن الشيخ قد سره أن يصدع بما أمر فقفز من الأرض واستدار بجسمه المائد أمامهم بخفة ما بعدها خفة، إذا قرنت بها جسده النحيل الهزيل، ومظهره الضئيل، ألفيته شبيها بورقة ذاوية من أوراق الشجر، تترنح على هوى ريح الشتاء العاصف، وله ذؤابة من الشعر تمتد من رأسه الأصلع الحليق إلى أعلى، كأن عفريتا من الجن يعلقه بها. ويظهر أن فنا سماويا كان يلزمه للقيام بهذا الرقص الهمجي الدائر، الذي توشك معه ألا ترى أطراف قدمي الراقص وهي تمس الأرض. وبينا كان الرجل يرقص هذا الرقص العجيب، كنت تراه يتمايل يمنة ويسرة، وينتقل من مكان إلى آخر، متقربا شيئا فشيئا من مدخل السرادق الملكي، بحيث لا يكاد الرائي يدرك منه ذلك، حتى إنه لما خر على الأرض أخيرا منهوك القوى، بعدما قفز قفزتين أو ثلاثا أعلى من كل وثبة وثبها من قبل، لم يكن بينه وبين شخص الملك ما ينيف على ثلاثين ذراعا.
فقال أحد العامة: «أعطه ماء. إنهم جميعا يتشوقون إلى الشراب بعد الرقص والطرب .»
فأجابه نبال آخر بصيغة التأكد والازدراء بهذا الشراب الحقير وقال: «آه! أتقول ماء يا «لنج ألن» وكيف تحب أنت شرابا كهذا بعد رقص مغربي كذلك الذي رأيته.»
وقال ثالث: «لن نعطي الوغد قطرة ماء، ولسوف نعلم هذا المنافق الهرم الخفيف القدم أن يكون مسيحيا صالحا ويحتسي نبيذ قبرص.»
وقال رابع: «أي والله، ولئن كان شموسا فلتأت بكأس «دك هنتر» التي يسقي بها فرسه.»
وسرعان ما أحاط ب «الدرويش» - وهو منهوك طريح الأرض - حشد من الرجال، ورفع واحد منهم طويل القامة جسم الرجل الهزيل عن الأرض، بينما قدم له الآخر قدحا كبيرا من النبيذ، ولكن الرجل الهرم، وقد عيي عن الكلام، هز رأسه وأبعد بيده الشراب الذي حرمه عليه النبي، ولكن القوم الذين أرادوا به العذاب ما كانوا بهذا يرجعون.
Bog aan la aqoon