تقدمة المعرب
مقدمة المؤلف
ملحق بالمقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
تقدمة المعرب
مقدمة المؤلف
ملحق بالمقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الطلسم
الطلسم
تأليف
والتر سكوت
ترجمة
محمود محمود
تقدمة المعرب
كان من أثر الثورة الفرنسية أن تحرر الفكر الأوروبي، وانطلق من قيوده، وظهرت الحركة الرومانتيكية في الأدب الغربي، وأخذ أتباع هذا المذهب الجديد ينادون بحرية اللفظ وإطلاق الخيال من أسر التقليد.
ومن زعماء هذه الحركة في الأدب الإنجليزي «السير والتر سكوت
Sir Walter Scott » صاحب هذه الرواية التي نحن بصدد نقلها إلى قراء العربية. بدأ حياته الأدبية بكتابة الأغاني الشعبية، التي سرعان ما ترددت على كل لسان، وذاعت بين الناس جميعا؛ وكان يسوق في هذه الأغاني طرفا من القصص التاريخي القديم، مشيدا بذكر الأبطال الأقدمين، وما وقع في سالف الأيام؛ ولكنه لم يلتزم الصدق والدقة في رواية التاريخ، بل كثيرا ما كان يطلق لخياله العنان، فيخلق شخوصا من العدم، ويذكر أحداثا لم تقع؛ وكانت أحب فترات التاريخ إلى نفسه العصور الوسطى. كان يستهويه منها روح الفروسية، وميولها العسكرية وحروبها التي لم تنقطع.
وظل «سكوت» في أعين الجمهور زعيم الشعراء، حتى ظهر اللورد بيرن، وبزه، واجتذب منه كثيرا من المعجبين بأناشيده الشعبية، فانصرف سكوت من الشعر إلى النثر، وهجر الأغاني إلى الرواية؛ وكان في قصصه الروائي - كما كان في شعره - يعمد إلى إحياء التاريخ الأوسط، ويرى فيه مجالا واسعا لإرسال الخيال وابتداع القصص. ومن بين القصص التاريخية العديدة التي كتب، قصة «الطلسم» التي نقدمها اليوم إلى القراء الناطقين بالضاد، وقد وقع اختيارنا عليها دون غيرها؛ لأن موضوعها يتصل بالقارئ الشرقي، ويتناول موقفا من المواقف المشهورة في الحروب الصليبية بين رتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا وصلاح الدين الأيوبي. والقصة تبسط لنا كثيرا من مميزات العصور الوسطى، وتبين كيف كان أبناء الغرب من المسيحيين ينظرون إلى أهل الشرق من المسلمين، كما تبين الروح العسكري السائد في تلك العصور، والاستماتة في الدفاع عن الدين، والاعتقاد في الخرافة والسحر، وطرفا من حياة الرهبان المسيحيين وقسوتهم على أنفسهم في أسلوب توبتهم إلى الله وتكفيرهم عن ذنوبهم.
وترى في الرواية كذلك لونين متباينين من الحب؛ لونا شهوانيا مجردا يعزوه «سكوت» إلى أهل الشرق عامة، وآخر أفلاطونيا عذريا، ويعزوه إلى الغربيين في ذلك الزمان، وهو حب لا يمس العاشق فيه معشوقته، ويكاد يسجد لها من دون الله.
ولعل أدق ما ترويه لنا الرواية تحليل مفصل لشخص رتشارد وصلاح الدين. يعرض لنا «سكوت» «رتشارد» رجلا قوي البنية، غليظ الطبع، شديد النفوذ على أتباع الصليب جميعا، سريع الغضب، سليم الطوية، صريح العبارة، لا يعرف إلى المداراة أو التواء المقصد سبيلا. أما صلاح الدين فيمثل المكر والدهاء، والصبر وطول الأناة؛ يعرضه لنا المؤلف في مستهل القصة متخفيا في شخص مقاتل من المقاتلين المسلمين، مقداما شجاعا، لا يتهيب ولا يخاف، ثم يخلع عنه زي المحارب، ويأتي لنا به ثانية متنكرا في لباس الطبيب أو «الحكيم»، كما يحب «سكوت» أن يسميه عامدا، لأنه يريد أن يومئ إلى أن العرب كانت تخلط بين «حكمة» الطب و«حكمة» الفلسفة ورواية الحكم والأمثال؛ وفي مختتم القصة ينزع صلاح الدين كل معالم التنكر ويبرز لنا في شخصه الحر الكريم، جوادا، سياسيا محنكا، وحكما عدلا بين الصليبيين.
وكما أن «سكوت» يعتذر لنا في مقدمة الرواية عن مسخه لحقائق التاريخ وتغييره وتبديله فيها، ويقول إن في ذلك الفارق بين القصص التاريخي وعلم التاريخ؛ فنحن نعتذر إلى القارئ المسلم عما قد يجد في القصة مما يسيئه ونلتمس ل «سكوت» المعذرة في ذلك، لأنه يكتب عن حرب دينية بين الصليب والهلال وعن عصر كان التعصب الديني فيه على أشده، فمن الطبيعي أن يسخر المسيحي من دين المسلم وأن يهزأ المسلم بعقيدة المسيحي.
والآن أنتقل بالقارئ إلى ما كتب «سكوت»، آملا أن يجد في القصة لذة ومتعة؛ وأن يتسامح في شرود المؤلف وهفوات المعرب.
المعرب
نوفمبر سنة 1937م
مقدمة المؤلف
لم ترق قصة «المخطوبة» كثيرا لصديق أو صديقين، وظنا أنها لا تتلاءم كل الملاءمة وما أخرجنا أخيرا من قصص تحت عنوان «الصليبيين»، وأكدا لي أن هذا العنوان: «قصص الصليبيين»
1
دون الإشارة المباشرة إلى أخلاق قبائل الشرق، وإلى الخصومات الخيالية في ذلك العهد، يكون بمثابة اللوحة تعلن عن مأساة «هاملت» ولا تذكر شخصية أمير الدنمارك.
2
ولكني، من ناحية أخرى، أدركت المشقة في رسم صورة حية لجزء من العالم أجهله كل الجهل، وليس لدي عنه إلا ذكريات باكرة لقصص ألف ليلة وليلة؛ ولست أعاني من قصور الجهل فحسب، ذلك الجهل الذي أحاطت بي غيومه كثيفة فيما يتعلق بأخلاق الشرق، كما تحيط الغيوم بالمصري، ولكن هناك كثيرا من معاصري على بينة من الموضوع كأنهم من أهل أرض «جوشن» المكرمة؛ فلقد تغلغل حب الأسفار بين جميع الطبقات، ودفع بأبناء بريطانيا إلى أنحاء العالم طرا، وتطلعت عيون البريطانيين في العهد الأخير إلى بلاد اليونان، التي تجذب النظر بما فيها من آثار الفنون، وبجهادها في سبيل الحرية في وجه حاكم مسلم طاغية، بل وباسمها ذاته، حيث لكل عين أسطورتها القديمة، كما تطلعت إلى فلسطين التي تحببها إلى الخيال ذكريات أكثر من هذه قداسة، والتي وصفها الرحالة في العصر الحديث. ولذا فإني لو حاولت هذا العمل الشاق: وهو أن أبدل بأساليب من بنات خيالي أزياء الشرق الحقيقية، فإن كل رحالة ألاقي ممن ضربوا في الأسفار إلى وراء ما كان يعرف قديما ب «الرحلة العظمى»، يحق له بشهادة العين أن يأخذ علي ما زعمت لنفسي، وكل عضو من أعضاء «نادي الرحالة» يزعم أنه وطأ بقدميه أرض «آدم» له أن يقف مني موقف الناقد الشرعي ويراجعني فيما أقول. ولما كان مؤلف «أناستاسيوس»، وكاتب «الحاج بابا»، قد وصفا عادات الأمم الشرقية ورذائلها وصفا صادقا صحيحا، تمازجه فكاهة «لي ساج» ومقدرة «فيلدنج» على إثارة الضحك، فقد عن لي أن رجلا كمثلي، الموضوع غريب عنه كل الغرابة، لن يصدر، وهو راغم، إلا عما يباينهما مباينة غير مستساغة. أضف إلى هذا أن شاعر البلاط في قصته الفاتنة «ثلبا» قد بين لنا كيف أن رجلا عليما موهوبا مثله يستطيع أن يبلغ في بحثه بطريقة الاستقراء وحدها شأوا بعيدا في معرفة العقائد القديمة وتاريخ الشرق وعاداته، وبلاد الشرق هي المجال الذي ينبغي لنا أن نبحث فيه عن مهد الإنسان. وسار «مور» على الدرب عينه موفقا في كتابه «للا روخ» كما سار «بيرون» وضم تجاريب مشاهداته إلى واسع اطلاعه؛ وكتب بعضا من قصائده الخلابة الفاتنة. وقصارى الكلم أن موضوعات الشرق قد عالجها من قبل علاجا ناجحا أناس أقر لهم بالبراعة في هذا الفن، فبت أستحي من المحاولة في هذه السبيل.
كانت هذه العقبات شديدة علي، ولما أمسيت أفكر في الأمر جادا لم تفتر ولم تهن؛ ولكني قهرتها في نهاية الأمر؛ وما أملت أن أباري من ذكرت من المعاصرين، ولكني رأيت، من ناحية أخرى، أن أخلص من الأمر الذي شغل خاطري زمنا، دون أن أدخل مع أحد في ميدان المنافسة.
واستقر بي الرأي أخيرا على تلك الفترة التي تتصل بالحروب الصليبية اتصالا وثيقا، والتي التقى فيها صلاح الدين برتشارد الأول، ذلك الملك المقاتل، ذلك الرجل الساذج الكريم، ذلك المثال الصادق للفروسية بكل ما فيها من إسراف الفضائل، وما فيها من رذائل لا تقل عنها إسرافا ؛ وقد أظهر الملك المسيحي الإنجليزي كل قسوة وعنف، وهما من صفات السلطان الشرقي، بينما أبان صلاح الدين عن الحكمة والسياسة البعيدة، وهما من مميزات الملك الأوروبي؛ وتباريا أيهما يفضل الآخر في صفات الفروسية والشجاعة والكرم. هذا التباين الفريد بين الرجلين أمد المؤلف، كما يظن، بالمادة التي ينسج منها قصة خيالية لها لذة فائقة. وكان من الشخصيات الثانوية التي أدخلت على الرواية، فتاة زعموا أنها من ذوات قربى رتشارد قلب الأسد، فكان في ذلك مسخ لحقائق التاريخ استاء له المستر «ملز» مؤلف «تاريخ الفروسية والحروب الصليبية»، وما نحسب إلا أنه لا يدري أن القصص الخيالي له، بطبيعة الحال، أن يبتدع مثل هذا الابتداع، وإنها حقا لضرورة من ضرورات الفن.
وضمت قصتي كذلك الأمير «داود الاسكتلندي» الذي التحق بالجيش فعلا، والذي لعب دور البطولة في بعض المغامرات الخيالية وهو في طريق العودة إلى وطنه، وقد جعلت منه شخصية من شخصيات الرواية.
وحقا لقد أنزلت من قبل قلب الأسد إلى ميدان القصص، ولكني عرضت فيما مضى لصفاته الخاصة أكثر مما عرضت هنا في «الطلسم». كان في القصص السالفة فارسا متنكرا، أما هنا فهو بصفته الصريحة، صفة الملك الغازي؛ ولذا فما تسرب إلي الشك في أن اسما كاسم الملك رتشارد الأول، عزيزا على الإنجليز، ربما عمل على إدخال السرور إلى نفوسهم أكثر من مرة.
وعالجت كل ما كان يعتقد القدماء، من صدق ومن خرافة، بشأن هذا المقاتل العظيم الذي كان أكبر فخر لأوروبا وفرسانها، والذي ألف العرب - حسب ما يقول مؤرخ من بلادهم - أن يسبوا خيولهم إذا ذعرت، باسمه المخوف، فكانوا يقولون: «هل تحسبين أن الملك رتشارد في طريقك فتحيدين عنها آبدة؟!» وأعجب سجل لتاريخ رتشارد الملك قصة خيالية قديمة ترجمت عن أصل نورماندي، وقد كانت أول أمرها أقرب ما تكون إلى رواية عمل من أعمال الفروسية، ولكنها حشيت فيما بعد بأعجب الأساطير وأشدها فزعا، وربما لم تتوارد على الأيام قصة خيالية منظومة يختلط فيها التاريخ الحق العجيب بحادثات أكثر من هذه مبالغة وأشد عبثا؛ ولقد سقنا في ملحق بهذه المقدمة عبارة القصة التي يظهر فيها رتشارد بمظهر الغول يأكل بالفعل لحم البشر.
ومن الأحداث الهامة بالقصة ذلك الحدث الذي استمددنا منه العنوان، ولربما كان الفرس من بين جميع الأمم التي عاشت أكثرها شهرة بعقيدتهم التي لا تتزعزع في التمائم والرقى وما إليها من التعاويذ، التي كانت تؤلف، كما قيل، تحت تأثير كواكب خاصة، وكانت لها قدرة طبية فائقة، كما كانت الوسيلة التي تسيطر على جدود الرجال؛ وكثيرا ما ترددت في غرب اسكتلندا أقصوصة من هذا الضرب، تتعلق بمحارب صليبي من المحاربين المبرزين، وما يزال الطلسم الذي يشار إليه موجودا، بل وما يزال له احترام وتقديس.
وكان السير «سيمن لكهارت» صاحب «لي» و«كلارتلاند»، شخصية لها وزنها أيام حكم «روبرت بروس» وابنه «داود»، وكان أحد زعماء تلك العصابة الاسكتلندية من الفرسان التي صحبت «جيمس» أو اللورد «دوجلاس» الطيب، في حملته على الأرض المقدسة مؤيدا من الملك «روبرت بروس»، وكان «دوجلاس» يتعجل الفتك بالعرب، فاشتبك في حرب مع أهل إسبانيا ولاقى حتفه هناك، أما «لكهارت» فقد استأنف مسيره إلى الأرض المقدسة مع من نجا من الفرسان الاسكتلنديين مما أصاب قائدهم، واشترك مدة من الزمن في الحروب المشتعلة ضد العرب.
وتواتر الخبر على أنه اشتبك في المغامرة التالية: أسر يوما في الحرب أميرا ذا ثروة طائلة ونفوذ كبير، فأتت إلى معسكر المسيحيين أم الأسير العجوز كي تخلص ابنها من أسره، وحدد «لكهارت»، كما قيل، قدرا ما لفداء السجين، فأخرجت السيدة كيسا كبيرا مطرزا وشرعت تعد نقد الفدية، كأم لا تقيم للذهب إلى حرية ابنها وزنا. وإذ هي كذلك، سقط من الكيس حجر موثوق بقطعة من النقد، يقال إنه من العالم السفلي، فأظهرت الأم العربية عجلة شديدة في التقاطه، مما جعل الفارس الاسكتلندي يعتقد في نفاسته وعلو قيمته، إذا قيس بالذهب أو بالفضة، فقال: «إني لن أرضى بإطلاق سراح ابنك إلا إن ضممت إلى فديته هذا الحرز.» فقبلت السيدة، بل وشرحت للسير «سيمن لكهارت» فضائل التميمة وطريقة استخدامها، وقالت إنها إذا غمست في ماء استحال الماء دواء يوقف نزيف الدم، ويخفف الحمى، وأصبحت له خصائص أخرى كثيرة كتميمة طبية.
وبعدما اختبر السير «سيمن لكهارت» العجائب الكثيرة التي تفعلها هذه التميمة، أتى بها إلى بلده، وتركها لورثته، فميزوها، هم وأبناء «كليدزديل» عامة، وما يزالون يميزونها باسم «لي بني» نسبة إلى وطنه «لي».
وربما كان أعجب فصل في تاريخها أنها نجت خاصة من النقمة، حينما أرادت الكنيسة في اسكتلندا أن تصب سخطها على كثير غيرها من أسباب العلاج، التي كانت لها صفة الإعجاز وفعل السحر، وأنكرت الكنيسة على الناس الالتجاء إليها جميعا «ما خلا التميمة المعروفة باسم «لي بني»؛ فقد أراد الله أن يخصها ببعض فضائل الشفاء التي لا تزعم تحريمها الكنيسة»، وهي، كما قيل، ما تزال موجودة، ويلوذ بسلطانها الناس أحيانا؛ وأخيرا انحصر فعلها خاصة في علاج من يعضه كلب مسعور. ولما كان المرض في مثل هذه الأحوال كثيرا ما ينشأ عن الوهم، فليس ثمت ما يدعو إلى الشك في أن الماء بعد أن يصب على «لي بني»، تصير له قوة العلاج الناجع.
هذا ما تواترت به الأخبار عن التميمة (أو الطلسم)، وقد استباح المؤلف لنفسه الحرية في تحويره، وهو يستخدمه في أغراضه الخاصة.
واستبحنا لأنفسنا كذلك كثيرا من الحرية في حقائق التاريخ فيما يخص حياة «كنراد منتسرا» ومماته؛ أما أن «كنراد» كان عدوا لرتشارد فهو ما يتفق عليه التاريخ وقصص الخيال. وتستطيع أن تقدر العقيدة التي سادت بين الناس بشأن ما كان بينهما من صلة، من الاقتراح الذي تقوم به العرب، وذلك أن يولى «مركيز منتسرا» على أنحاء معينة من سوريا تنازلوا عنها للمسيحيين، ولكن رتشارد، كما جاء في القصة الخيالية التي تحمل اسمه «لم يستطع بعد هذا أن يكتم غضبه، فقال إن المركيز خائن اغتصب من فرسان «الاسبتارية» ستين ألف دينار، وهي عطية من أبيه هنري، وقال إنه مرتد، نجم عن غدره ضياع «عكا»، وختم حديثه بيمين غليظة أقسمها ليمزقنه إربا إربا بالخيول الآبدة، لو أنه اجترأ يوما على تدنيس معسكر المسيحيين بمثوله هناك. وحاول «فيليب» أن يتوسط لجانب «المركيز» فرمى بقفازه وقدم نفسه رهينة لإخلاصه للمسيحيين، ولكن هذا العرض لم ينل قبولا، واضطر «فيليب» إلى أن يخلي السبيل لرتشارد وسورته» (من «تاريخ الفروسية»).
و«كنراد منتسرا» شخصية هامة في هذه الحروب، وقد ألحق به الموت في آخر الأمر، واحد من أتباع «الشيخ»، رجل الجبل العجوز، ولكن رتشارد لم يخل من ريبة الناس في الإيعاز إليه بالقتل.
ويمكننا على الجملة أن نقول إن أكثر الحوادث المساقة في القصة التالية هي من خلق الخيال، وأن الحقيقة، حيثما توجد؛ لا أثر لها إلا في أشخاص الرواية.
أول يوليو سنة 1832م
ملحق بالمقدمة
أصيب رتشارد بالحمى وهو يحارب في الأرض المقدسة، وعجز خير أطباء المعسكر عن وصف الدواء الناجع لعلته، بل لقد كان دعاء الجيش له أنجع علاجا فنقه من مرضه، وكانت أولى علائم شفائه رغبة شديدة في أكل الخنزير، ولكن لحم الخنزير لم يكن من الميسور أن يتوفر في بلد أهله يمقتونه. «ولو استمات رجاله لم يجدوا في هذا البلد لحم الخنزير، ولو وجدوه لشروه بالذهب والفضة والمال، ولحملوه إلى رتشارد الملك، فيأكل منه ما تيسر. وكان يقيم مع رتشارد فارس عجوز، لما نما إليه هذا الخبر، وعرف أن رغبة الملك لم تجب، قال للحاجب سرا؛ لقد اشتد المرض بمولانا الملك، وأنا أعلم أنه يتوق إلى لحم الخنزير، ولكنك لن تجده هنا فتشريه، وليس من بين الرجال من تبلغ به الشجاعة أن يخبره بهذا، ولئن فعل، لكان في قوله حتفه، والآن ينبغي لكم أن تفعلوا كما أقول لكم، ولكن بربكم لا تخبروه بشيء منه: خذوا عربيا شابا سمينا، وتعجلوا بقتله، وافتحوا جوفه، واسلخوا جلده، واسلقوه بأسره سريعا بالدقيق والتوابل، وبالزعفران الزاهي، فإذا ما اشتم الملك نكهته فستزول عنه الحمى ويثوب إلى رشده، وإذا ما استساغ الطعام وأكل أكلة طيبة وتعشى بالحساء ثم استغرق في النوم وابتل بالعرق، فإنه بعون الله، وبمشورتي، سوف ينتعش عما قريب ويشفى. وإليك صدق ما تم في موجز من اللفظ: قتل الكافر الزنيم، ثم سلق وجيء به إلى المليك، وقال له رجاله؛ مولانا، لقد أتيناك بلحم الخنزير، فكل واطعم من حلو الحساء، وبفضل الله وبركته ليكونن لك فيه الشفاء. وقبل أن يشرع رتشارد الملك، شرح اللحم فارس، وأخذ يلتهمه التهاما، وأكل الملك اللحم، وقرض العظام، ثم أدمن في الشراب ساعة، وبعدما تناول ما أشبعه، خلفه قومه، وأخذوا يتضاحكون، ثم استلقى ساكنا، وجذب إليه ذراعه، ولفه حاجبه وأدفأه، ثم رقد ونام، وتصبب منه العرق، ودبت فيه الصحة والعافية، ثم ارتدى ملبسه، وهب من مرقده، وأخذ يمشي هنا وهناك فيما جاوره.»
1
ا.ه.
ودحر رتشارد بنفسه جماعة من الأعراب أتوا مهاجمين. وتروي لنا الأسطر التالية ما انتهت إليه المعركة: «استراح الملك قليلا، ثم شرع أحد الفرسان ينزع عنه أسلحته، كي يريحه ويلهيه، ثم جيء له بنقيع النبيذ، وأمر طاهيه قائلا: هات لي رأس ذلك الخنزير عينه الذي أكلت منه! فإني ضعيف واهن مجنون، وإني الآن لفي خوف من آثامي. قدم لي ذلك الرأس مع طعام العشاء! فقال الطاهي: «ليس عندي هذا الرأس.» فقال الملك، رحماك اللهم! إني أرى رأس ذلك الخنزير، فهاته وإلا فتالله لتفقدن رأسك!» ولم ير الطاهي من مطلب المليك مهربا فأعد الرأس، وقدمه إليه، فخر على ركبتيه وصاح: «هيا، هيا! هذا هو الرأس! رحماك رباه!»
2
ولا مراء في أن الطاهي كان له بعض المعذرة في خوفه من سيده؛ يصعق ذعرا لو عرف حقيقة الأكلة المروعة التي يدين لها بشفائه، ولكن سرعان ما تقشعت مخاوفه. «ولما رأى الملك الوجه الأسود، ولحيته السوداء، وأسنانه البيض، وكيف تجهم وانفرجت شفتاه صاح: «أي شيطان هذا؟» وشرع يضحك كعادته ثم قال: «ماذا! هل لحم الأعراب لذيذ هكذا؟ والله ما عرفت من قبل هذا! أقسم بقضاء الله وقدره إنا لن نموت قط جوعا، ما دمنا كلما هجمنا استطعنا أن نقتل العرب، ونأخذ لحمهم؛ ونطهيه ونشويه، ونجففه ونقرض لحمه حتى العظام! والآن وقد جربته مرة فلآكلن وقومي منه مزيدا ، ونسد رمق الجوع قبل أن يقتلنا.»
3
وتقدم المحاصرون يسلمون ويشرطون تأمين أهل البلاد، وقدموا للظافرين ثروة الجمهور بأسرها، والآلات الحربية والأسلحة، وفدية قيمتها مائة ألف بيزنط. وبعد التسليم وقع الحادث الغريب الذي نرويه فيما يلي، وسوف نسوقه إليك في أسلوب «جورج أليس» الفكه المحبوب، وهو جامع هذه القصص الخرافية وناشرها. «أخلصت الحامية في تنفيذ شروط الاتفاق جميعا، إلا أنها عجزت عن رد الصليب، إذ إنه لم يكن بحيازتها، فأغلظ لها المسيحيون في المعاملة، ونمت إلى صلاح الدين الأنباء كل يوم عما يكابد مقاتلوه. ولما كان الكثير منهم رجالا ذوي مكانة عالية، فقد بعث ملكهم، نزولا عند رجاء أصدقائهم، بالرسل إلى الملك رتشارد، ومعهم جليل الهدايا التي قدمها فداء للأسرى. وكان السفراء رجالا ذوي هيبة ووقار، سنا ومرتبة وفصاحة، فبلغوا رسالتهم بكل آيات الخضوع، ولم يتهموا عدالة الظافر في معاملته الخشنة لبني جلدتهم، وإنما اكتفوا بالتوسل إليه كي يحدد لهذه الشدة أجلا، ووضعوا لدى قدميه الكنوز التي كانت أمانة في أعناقهم، وقدموا أنفسهم وزعيمهم رهائن لأي مبلغ آخر يريده الملك ثمنا لرحمته.» «فقال الملك رتشارد بعذب اللفظ: كيف لي أن آخذ الذهب؟ رحماك اللهم! قسموا بينكم كل ما حملتم، فلقد أتيت معي في السفن والمراكب بذهب وفضة أكثر مما يملك زعيمكم وثلاثة من أمثاله. ما بي إلى كنوزه حاجة! لكن آمركم حبا لي أن تقيموا معي زمنا، ثم أخبركم بعد هذا بنبأ، وأجيبكم برأي سديد، وأقول لكم بأية رسالة تعودون إلى مولاكم.»
4 «فقبل الوفد الدعوة شاكرا، وأصدر رتشارد في ذات الوقت أمرا سريا إلى قائده بأن يتوجه إلى السجن، وينتقي عددا محدودا من خير الأسرى، وبعدما يسجل أسماءهم بعناية في سجل من الورق، يأمر بحز رقابهم فورا، ثم تسلم رءوسهم إلى الطاهي، ويؤمر بأن يزيل شعورهم. وبعدما يغلي رءوسهم في دست، يوزعها على صحاف عديدة، ويقدم لكل ضيف صحفة، ويربط على جبين كل رأس قطعة من الورق تبين اسم صاحبه وقبيلته.» «وهات
5
لي قبلهم جميعا رأسا حارا، كأني دفعت له ثمنا عاليا، ولآكلن منه التهاما، كأنه فرخ طري، ثم أرى ماذا يفعل الآخرون.» «ونفذ هذا الأمر المروع في حينه، وفي منتصف النهار دعي الضيوف ليغتسلوا على أنغام الموسيقى يعزف بها الخدم، ثم اتخذ الملك له مقعدا، وتبعه كبار ضباط بلاطه، عند المائدة العليا، واصطفت بقية الحشد لدى مائدة طويلة دونه؛ وعلى كساء الموائد وضعت مقادير من الملح على الأبعاد المألوفة، ولم يكن هناك خبز ولا نبيذ ولا ماء، فدهش السفراء لهذا النقص، ولكنهم ما برحوا من الخوف خليين، ولبثوا يرتقبون في صمت تقديم الغداء، وقد أعلنت مقدمه أصوات المزامير والأبواق والدفوف. ولشد ما كان رعبهم وفزعهم حينما رأوا وليمة غير معهودة يقدمها شيخ الحجاب وضباطه، وغلبهم التشوف، فثارت مشاعرهم بالتقزز والاشمئزاز، كما لبثت مخاوفهم مكبوتة فترة من الزمن، ووجهوا نحو الملك أبصارهم، وما تغيرت ملامحه قيد شعرة وهو يبتلع اللقمات متلهفا، كلما شرح الفارس قطعة وقدمها إليه.» «فتغامز
6
الرجال وقالوا إن هذا إلا أخو الشيطان، يقتل رجالنا ويأكلهم كما نرى!» «ثم وجهوا بعد هذا انتباههم مكرهين إلى الرءوس التي قدمت إليهم، وقد تصاعد منها الدخان؛ وأرادوا أن يتعرفوا من ملامح الوجوه المنتفخة المشوهة علائم الشبه بصديق لهم أو قريب حميم، فعرفوا من العبارات التي كانت تصحب الأطباق ما أكد لهم أن هذا الشبه لم يكن وهما ولا خيالا، فعرتهم الكآبة وجلسوا في صمت وجمود يترقبون قضاءهم، كما قضي على بني وطنهم من قبل، بينما كان مضيفهم الضاري، والغضب ملء عينيه، والظرف على شفتيه، يسيء إليهم بالإلحاح في دعوتهم إلى اللهو والمرح؛ وبعد لأي أزيل هذا السماط الأول، وجيء مكانه بلحم الغزال والكراكي، وغيرها مما لذ وطاب، مصحوبا بأطيب الخمور، واعتذر لهم الملك عما فات، وعزاه إلى جهله بذوقهم، وأكد لهم احترامه الديني لأشخاصهم كسفراء، واستعداده لأن يمدهم بمرشد يهديهم في عودتهم وهم آمنون، وكانت هذه المنحة هي كل ما رغبوا إذ ذاك في طلبه.» «ثم قال
7
الملك رتشارد إلى رجل عجوز، امض نحو بلدك إلى سلطانك وخفف من أحزانه، وقل له إنك جئتنا متأخرا، وإنك أخطأت تقدير الزمن فأبطأت، وإنا، قبل أن تأتينا، كنا قد طهينا اللحم، وأعده الرجال ليقدموه لي ولصحابي في منتصف النهار. قل له أن ليس وراء مسعاه من جدوى، حتى وإن حبس عنا طعامنا من خبز وخمر وسمك ولحم وحوت سليمان وثعابين البحر، فإن أحدا منا لن يموت جوعا ما دمنا نستطيع أن نسير إلى الحروب ونقتل الأعراب تقتيلا، فنطهو لحومهم، ونشوي رءوسهم. إني بعربي واحد أستطيع أن أطعم تسعة أو عشرة من خيار رجالي المسيحيين وأشبعهم. إن الملك رتشارد يشهد أن ليس هناك لحم من حجل أو قطقاط أو مالك الحزين أو الإوز العراقي، أو الأبقار والثيرة، أو الأغنام والخنازير، أكثر تغذية للرجل الإنجليزي من رأس العربي، فإنه سمين طري، ورجالي هزيلون نحيلون. ما دام فوق سوريا هذه عربي واحد حي فإنا لن نفكر في اللحوم، فعليه لننقضن سريعا، وكل يوم نأكل منه بقدر ما نستطيع، ولن نعود إلى إنجلترا حتى نأكلهم جميعا واحدا بعد الآخر» (من كتاب «أليس»، «أمثلة من القصص الخيالية الإنجليزية القديمة المنظومة»، الجزء الثاني، صفحة 236).
وربما تشوق القارئ إلى معرفة الظروف التي أدت إلى أن يختلط هذا الخيال الجامح - الذي يعزو أكل اللحوم البشرية إلى ملك إنجلترا - بتاريخ الملك. ويظهر أن المستر «جيمس»، الذي نحن مدينون له بالكثير مما هو عجيب غريب، قد وصل إلى أصل هذه الإشاعة العجيبة.
يقول هذا المؤلف «... وكان مع جيش الصليب كذلك جمهور من الرجال لا عمل لهم إلا الإفلاس، يسيرون حفاة ولا يحملون سلاحا، بل ويسبقون دواب الحمل في المسير، ويعيشون على الجذور والأعشاب، ويظهرون بمظهر تشمئز له النفوس وتشفق منه.» «واعتزم رجل نورماندي كان - كما روى - شريف النسب، ولكنه أضاع جواده فتابع المسير كجندي من المشاة، أن يضع نفسه على رأس هذه الشرذمة من المتشردين الذين رضوا به ملكا عليهم عن طواعية، وبات هؤلاء الرجال يعرفون بين الأعراب باسم «الظافرين» (ويترجمها جويبرت إلى
Trudentes )، وكانوا ينظرون إليهم برعب شديد، لأنهم كانوا جميعا يميلون إلى الاعتقاد بأنهم يعيشون على جثث أعدائهم، وهو نبأ كان يتحقق الحين بعد الآخر، وكان ملك «الظافرين» يعنى بتشجيعه، وهذا الملك المبجل كثيرا ما تعود أن يصف أتباعه واحدا بعد الآخر في خط واحد ضيق، ثم يأمر بالبحث فيما يحملون بحثا دقيقا، خشية أن يكون بحيازتهم ولو قليل من المال، فلا يجدر بهم أن يكونوا من رعيته، وإذا ألفى مع أحدهم دانقا واحدا أبعده في الحال عن مخالطة أبناء قبيله، وأمره بازدراء أن يشتري السلاح ويشترك في القتال.» «وهذه الكتيبة لم تكن بأية حال من عراقيل الجيش، بل لقد كانت خدماتها لا تعد؛ فهم يحملون الأثقال، ويأتون بالكلأ والمئونة والخراج، ويسيرون الآلات وقت الحصار، وفوق كل هذا، كانوا ينشرون الرعب بين الأتراك، وكان هؤلاء يخشون الموت من رماح الفرسان أقل مما يخشون هذا الفناء الشامل تحت أسنان «الظافرين».»
8
ومن اليسير أن نتصور أن منشدا جاهلا يجد أذواق هذه الطائفة وضراوتها مسجلة في روايات تاريخ الحروب المقدسة فينسب أعمالها ونزواتها إلى ملك إنجلترا الذي كانت شراسته من الموضوعات التي تجوز فيها المبالغة كما تجوز في شجاعته وإقدامه.
الفصل الأول
وأووا هم كذلك إلى القفر، ولكنهم كانوا مسلحين.
1
الفردوس المردود
لم تكن الشمس المحرقة في سوريا قد بلغت كبد السماء، حينما كان فارس من فرسان الصليب الأحمر - وقد ترك بلاده النائية في الشمال، والتحق بجماعة الصليبيين في فلسطين - يسير الهوينى في الصحراء الرملية التي تقع على ضفاف البحر الميت (أو بحيرة «أسفلت» كما يطلق عليه أحيانا) حيث تتدفق أمواج الأردن في ذلك البحر الداخلي الذي ليس لمائه مخرج.
وفي الصباح الباكر كان هذا الحاج المجاهد يكافح الجروف والمنحدرات، ثم لما تبين الضحى انطلق من هذه الأودية الصخرية الخطرة، ودخل في ذلك السهل الفسيح، حيث المدائن اللعينة التي أنزل الله عليها من عنده نقمة مروعة شديدة في سالف الأيام.
وتذكر مسافرنا تلك الطامة الكبرى التي نزلت بوادي «سدوم» اليانع الخصيب، الذي كانت تتخلله الأنهار كأنه جنة الخلد، فأحالته يبابا بلقعا كئيبا، وصيرته أرضا جرداء مجدبة لا زهر فيها ولا شجر، وكأن الله قد أصابها بالإمحال أبد الآبدين. تذكر ذلك فنسي ما أصابه من إجهاد وعطش وما كان يحوطه من مخاطر الطريق.
ولما رأى المياه المظلمة يعج عجاجها، وهي في لونها وطبيعتها تختلف عن مياه البحيرات جميعا، رسم علامة الصليب على نفسه، وانتابته رعدة حينما تذكر أن تحت تلك الأمواج التي تتكسر في هدوء، تندثر مدن الوادي التي كانت تتيه يوما بعزها، فأنزل عليها ربك الصواعق من السماء، ونفث فيها من باطن الأرض نارا حامية فدكها دكا، ولم تبق منها إلا أطلال طمرها هذا البحر الذي ليس في جوفه سمك ولا على سطحه سفين، ولا يجود - كما يجود غيره من البحار - بقطرة ماء على المحيطات، كأن مياهه الكئيبة لن تستقر إلا في قاعة الموحش. وكل ما جاوره من يابس «كبريت وملح، أرض لا زرع فيها ولا ثمر ولا يكسوها عشب»
2
كما كانت في عهد موسى. وتستطيع أن تسمي ذلك اليابس «ميتا» كذلك، كما تسمي البحر، فهو لا ينبت زرعا ولا شبه زرع، والهواء ذاته يخلو من كل ذات جناح، كأن الطيور قد نفرت من رائحة القار والكبريت، التي كانت تبعثها الشمس المحرقة من مياه البحيرة، فتنتشر في سحاب متكاثف كثيرا ما ينعقد على شكل الميازيب، كما كانت كسف من المادة الكبريتية الغرينية، التي تعرف بالنفط، تطفو مسترخية فوق الأمواج الهادئة الموحشة، وتمد تلك السحب المتدفعة بأبخرة جديدة، فتشهد شهادة قوية على صدق قصة موسى.
على هذا المكان المهجور أشرقت الشمس تتوهج توهجا لا يكاد يحتمل، وكأن كل كائن حي قد توارى عن أشعتها، اللهم إلا ذلك الشبح الذي كان يسير وحده يشق الرمال السوافي بخطى وئيدة، ويبدو كأنه المخلوق الفريد الذي يتنفس على سطح هذا الوادي الفسيح؛ وكان لباس هذا الفارس الراكب ومعدات جواده لا تليق البتة بالمسافر في مثل تلك البلاد. كان يرتدي سترة من حلق الحديد، طويلة أكمامها، وقفازا براقا، وصدرة من الحديد الصلب؛ ولم يكتف بهذا التسليح، بل كان يعلق كذلك على رقبته درعا ثلاثيا، ويحمل على رأسه خوذة من قضبان الصلب. يغطيها بقلنسوة وبنيقة من الحديد، يلف بها حلقه وكتفيه، وتشغل ما بين لباس رأسه وسترته؛ وكان يستر أطرافه السفلى، كما كان يستر جذعه، بحلق من الحديد سهل الالتواء. وهكذا كان يقي ساقيه وفخذيه، بينما كان يلبس على قدميه حذاء من المعدن اللامع، ينسجم مع شكله مع القفاز، وعلى أحد جانبيه سيف طويل عريض. مستقيم ذو حدين، له مقبض على هيئة الصليب، يتسق وخنجر غليظ على جنبه الآخر؛ وكان هذا الفارس يحمل كذلك رمحا طويلا، رأسه من الصلب، يرتكز على سرجه، ويستقر أحد طرفيه على ركابه، وهذا الرمح هو سلاحه السديد، يهزه إلى الخلف وهو ممتط صهوة الجواد، فيعرض العلم الصغير المعلق بطرفه، ويرفرف العلم مع النسيم العليل، أو يتدلى في السكون المميت. وفوق هذا الزي العسكري المعقد، كان صاحبنا يرتدي عباءة من القماش المزركش، نحل وبرها وبدت عليها آثار القدم، ولكنها كانت مع ذلك عظيمة النفع، إذ كانت تحمي سلاحه من أشعة الشمس، ولولا ذلك لشق عليه حمل السلاح من حرارة الشمس. وفي هذه العباءة كان الفارس يعلق هنا وهناك أسلحة تشوه ظاهرها، ومنها سلاح «النمر الرابض» وعليه هذا الشعار «إنني نائم فلا توقظني»، وعلى الدرع آثار من هذه العبارة عينها، ولكنها كادت تمحى من كثرة الطعان؛ أما خوذته الأسطوانية الثقيلة فكان سطحها مستويا، لا يجمله زخرف أو ريش، وكأن الصليبيين من أهل الشمال - باحتفاظهم بهذا السلاح القوي يدفعون به عن أنفسهم - كانوا يتحدون طبيعة المناخ والإقليم الذي جاءوا ينشبون فيه القتال.
ولم تكن عدة الجواد أقل صلابة أو قوة من زي راكبه، فلقد كان يحمل سرجا ثقيلا عليه طلاء من الصلب، يلتقي في مقدمته بدرع من الحديد، وفي مؤخرته سلاح يتقي به ويستر به خاصرته؛ ويتعلق بالسرج شيء كالفأس أو المطرقة أو العصا، والزمام موثوق بما يشبه السلاسل، ومقدمة العنان من الصلب المطلي، وبه خروق يطل منها الجواد بعينيه وأنفه، وفي وسطه شوكة قصيرة حادة، تبرز من جبهة الجواد كقرن الثور الوحشي المعروف في قصص الخيال.
ولكن هذا الفارس وجواده المقدام كانا قد تعودا حمل هذا السلاح الثقيل، حتى أضحت هذه العادة لهما طبيعة ثانية. نعم إن عددا عديدا من المحاربين من أهل الغرب، الذين خفوا إلى فلسطين، قد هلكوا قبل أن يعتادوا هذا الجو الملتهب، ولكن هناك قوما آخرين، بات هذا الجو خفيفا عليهم، مألوفا لديهم، ومن بين هذا العدد المجدود كان هذا الخيال، الذي كان حينئذ يقطع حدود البحر الميت فريدا؛ فإن الطبيعة التي صبت أعضاءه في قالب من القوة غير مألوف، وأعدته لأن يرتدي تلك السترة المصنوعة من حلق الحديد دون عناء - وكأن عيونها قد حيكت من نسيج العنكبوت - قد جادت عليه كذلك ببنية قوية كأطرافه، تتحدى كل تقلبات المناخ، وتقف دون الكلال وشظف العيش على مختلف الضروب؛ وكان له طبع يتصف بعض الشيء ببعض صفاته هيكله الجثماني، فكما أن لجسمه قوة عظيمة وقدرة على الاحتمال ممزوجة بالقدرة على الإجهاد العنيف، فإن في طبعه - تحت ستار الهدوء والاستقرار - الشيء الكثير من الحرارة والحماسة لحب المجد، وهما من أبرز صفات أبناء النورمان المعروفين، التي جعلتهم ملوكا في كل زاوية من زوايا أوروبا شهروا فيها سيوفهم الباترة.
ولكن الجد لم يجد بمثل هذا الجزاء الوافر
3
على كل أبناء هذا الجنس، ولم يكن حظ فارسنا هذا الفريد إبان السنتين اللتين قضاهما غازيا في فلسطين غير ذكر في هذه الدنيا، ومزايا روحية نشأ على الاعتقاد فيها؛ وكان حظه الضئيل من المال في ذلك الوقت قد تبدد، ولكنه - رغم ذلك - لم يعمد إلى الوسائل التي كان يلجأ إليها غيره من أتباع الصليبيين، الذين كانوا يعوضون ما نقص من أموالهم على حساب أهل فلسطين، فلم يبتز العطايا من الأهالي البائسين كي يطمئنهم على أملاكهم حينما كانوا يشتبكون مع العرب في الحروب، ولم يحاول أن يقتنص الفرصة ويجمع الثروة بفرض الجزية على الأسرى. وكانت تتبعه حاشية ضئيلة من مواطنيه، أخذت تتناقص شيئا فشيئا كلما قلت الموارد الضرورية للعيش، ولم يبق له إلا خادم واحد، كان إذ ذاك طريح الفراش، لا يستطيع أن يقوم بخدمة سيده، الذي كان يسير - كما رأينا - وحيدا فريدا. ولكن فارسنا الصليبي لم يأبه لذلك كثيرا، فلقد تعود أن يرى في مهنده الكريم خير حارس، وفي عقيدته في الله خير رفيق.
ولكن للطبيعة ضروراتها، فهي تتطلب الراحة والغذاء لكل جسم - حتى وإن كان من الحديد - ولكل طبع، حتى وإن صيغ من الصبر كما صيغ هذا الفارس، «فارس النمر الرابض»؛ ففي الظهيرة، والبحر الميت لما يزل بعيدا عن يمينه، استبشر الفارس بمرأى نخلتين أو ثلاث نمت على حافة بئر أراد أن يتخذه محطا له في منتصف ذلك النهار؛ وكذلك جواده الكريم، بعد أن كان يسير قدما بصبر وطيد كصبر صاحبه، رفع الآن رأسه، ومد أنفه، وسارع في خببه، كأنه اشتم على بعد ماء الحياة، حيث الدعة والانتعاش، ولكن الله قدر للجواد وراكبه أن يصيبهما بالعناء، ويحوطهما بالمخاطر، قبل أن يبلغا ذلك المكان الرغيب.
وذلك أن فارس النمر الرابض، الذي لم يفتأ يحدق، ويعير التفاته إلى جماعة النخل النائية، بدا له كأن شبحا يتحرك خلالها؛ ثم انفصل ذلك الشبح النائي عن تلك الأشجار التي كانت تخفي مسيره بعض الخفاء، وتقدم نحو الفارس مسارعا، وتبدى عن خيال على ظهر الجواد. ولما اقترب دلت عمامته وحربته الطويلة وقفطانه الأخضر الذي يرفرف مع الريح، على أنه فارس عربي؛ ويقول المثل الشرقي: «لا يلاقي الرجل صديقا في الصحراء.» ولم يأبه الصليبي البتة إن كان ذلك الكافر - وقد أقبل على حصان عداء، كأنه ولد على جناح نسر - عدوا أو صديقا، بل لعله، وهو بطل من الأبطال، الذين أقسموا يمين الولاء للصليب، ود لو أنه كان عدوا، فاستل رمحه من سرجه وأمسكه بيمينه ولبث به، وسنانه مرفوع إلى نصفه؛ وجمع العنان بيساره، واستحث همة الجواد بمهمازه، واستعد للقاء هذا الغريب بنفس مطمئنة، لا يملكها إلا رجل حداه الظفر في كثير من المعارك.
وأقبل العربي يعدو، كما يعدو الفرسان من بني جنسه، مالكا زمام جواده بأطرافه وبكل جسمه، غير معتمد على العنان الذي أرسله مرتخيا في يسراه بحيث يتسنى له أن يحرك درعه المستدير الرقيق المصنوع من جلد وحيد القرن المحلى بخيوط من الفضة، الذي كان يحمله على ذراعه ويلوح به كأنه يريد أن يصد به، على خفته، ما قد يصوبه نحوه ذلك الفارس الغربي من طعنات مروعة. أما نصله الطويل فلم يكن مسددا ولا مستقرا كنصل عدوه، وإنما كان يقبض عليه من سوطه بيمينه، ويهز به فوق رأسه على قيد ذراع. وهرول هذا الفارس العربي نحو عدوه، ولما دنا منه، كان يرتقب من فارس النمر أن يهم بجواده للنضال، ولكن الفارس المسيحي، وهو جد عليم بعادات جنود الشرق، لم يرض أن ينهك جواده الكريم بعناء لا طائل تحته، فوقف بغتة، وهو على يقين أن في سلاحه وفي عدة جوادة القوي ما يكفل له الغلبة - دون أن يسارع في عدوه - على العدو إن تقدم فعلا للنضال. وأحس الفارس العربي باحتمال هذه العاقبة، وأدركها كما أدركها زميله، فاقترب من المسيحي حتى لم يكن بينهما إلا قاب قوسين أو أدنى، واستدار بجواده يسارا بحذق لا يفوقه حذق، ودار حول عدوه دورتين، فالتفت الفارس الغربي وهو في مكانه، وجابه عدوه فخيب رجاءه، إذ كان يحاول أن يطعنه من الخلف، وحينئذ ود العربي لو أنه دار بجواده ورجع القهقرى إلى بعد مائة ذراع. ثم حاول الهجوم مرة أخرى وأقبل كالبازي على مالك الحزين، واضطر للمرة الثانية أن يتقهقر دون سجال؛ ثم اقترب ثالثة مهاجما كما هاجم في المرتين السابقتين، فأمسك الفارس المسيحي توا بمطرقته المعلقة بسرجه، وأراد أن ينتهي من هذه المراوغة التي قد ينهكه العدو فيها بحركاته، فصوب المطرقة بيد من حديد، وهدف لا يحيد، إلى رأس العدو الذي لم يخله إلا أميرا أو أرفع من أمير، وأدرك العربي هذه الضربة المروعة التي قصد بها فرفع درعه الرقيق وحال بين المطرقة وبين رأسه، ولكن الضربة كانت شديدة الوقع فهوت بالدرع على عمامته، وقد خففت العمامة من حدة الضربة، ولكن الرجل سقط عن جواده مغلوبا . وقبل أن ينتفع المسيحي من هذا الخذلان، خف عدوه وهب من مصرعه وجذب جواده - وقد خف إلى جواره - وامتطى صهوته دون أن يمس الركاب، واسترد كل ميزة حاول فارس النمر أن يسلبه إياها، ولكن الفارس كان بدوره قد تملك من مطرقته ثانية، فحاول الرجل الشرقي - وقد تذكر قوة عدوه وحذقه في إصابة هدفه - أن يأخذ لنفسه حذرها ويظل بمنأى عن منال المطرقة التي أحس بوقعها منذ حين، وأبان عن رغبته في المقاتلة عن بعد برمي السهام، فدك نصله الطويل في الرمال بعيدا عن ساحة الوغى، وشد بقوة قوسا قصيرة كانت إلى ظهره، ثم ركض بجواده ودار به دورتين أو ثلاثا أوسع مدى من دوراته السالفة، وفي خلالها أطلق النشاب ستا على المسيحي بمهارة لا تخطئ، ولولا زي متين يقي به المسيحي نفسه ما كان له أن ينجو من جراح ستة من طعن السهام، ثم أطلق العربي سهما سابعا فصادف من لباس العدو مكانا كان أقل من غيره صلابة، فسقط المسيحي سقطة شديدة من فوق الجواد. ولشد ما كانت دهشة العربي حينما نزل يتفرس حال صريعه فألفى نفسه على حين غرة في قبضة ذلك الأوروبي، الذي ما لجأ إلى تلك الحيلة إلا لكي يأتي بعدوه تحت مناله؛ ولكن العربي، وهو في هذه القبضة المميتة، استطاع أن ينجو بخفته وسرعة خاطره، فخلص نطاق سيفه من قبضة فارس النمر وأفلت من تلك اليد القاضية، وامتطى جواده الذي كان يرقب حركاته بذكاء كذكاء الإنسان، ثم انصرف؛ ولكنه فقد في هذه المعركة الأخيرة سيفه وجعبة سهامه، وكلاهما معلق بنطاقه الذي اضطر أن يخلفه وراءه، وفقد كذلك عمامته أثناء النضال، فرغبت هذه الخسارة هذا الرجل المسلم في المهادنة، فقارب المسيحي ومد إليه يمناه مسالما لا متهددا.
وباللغة الفرنجية التي كانت تستخدم عادة للتفاهم مع الصليبيين قال العربي: «إن بين أمتينا هدنة عن القتال، فلماذا ينشب بيني وبينك النضال، هلا عقدنا بيننا صلحا؟»
فأجاب فارس النمر الرابض وقال: «لقد رضيت، ولكن كيف تكفل لي رعايتك للهدنة حقها ؟»
فأجاب الأمير وقال: «نحن أتباع النبي لا نحنث في العهود؛ إنما ينبغي لي أنا، أيها النصراني الشجاع، أن أطلب إليك الضمان، غير أني أعترف أن الخيانة والشجاعة قلما يجتمعان.»
فأحس الصليبي حينئذ بأن ثقة المسلم فيه قد أخجلته من الشكوك التي ساورته.
وأمسك بمقبض سيفه وقال: «وحق هذا الصليب لأكونن لك رفيقا مخلصا أيها العربي ما كتب علينا أن نبقى متلازمين.»
فأجاب عدوه قائلا: «أقسم بمحمد رسول الله وبرب محمد أن ليس لك في قلبي خيانة، فهلم بنا إلى تلك العين، فوقت الراحة قد وجب، وما كاد الماء يمس شفتي حتى اضطررت أن أنازلك حينما اقتربت.»
فأجاب فارس النمر الرابض توا بالرضا والقبول، وسار العدوان جنبا إلى جنب، قاصدين مكان النخيل، لا يبدو عليهما غضب، ولا تلمس فيهما أثرا من شك.
الفصل الثاني
كثيرا ما تتخلل الأزمان العصيبة فترات يسود فيها الأمن وتصفو فيها النفوس. ولقد كانت الحال كذلك بنوع خاص في عهود الأقطاع القديمة حينما كان السائد بين الناس أن الحرب يجب أن تكون للبشرية شغلها الشاغل وعملها المجيد، فكان لفترات الصلح أو الهدنة لذة دونها أي لذة، يستمتع بها على قلتها المحاربون في تلك العصور؛ بل إن الظروف عينها إذ ذاك، التي كانت تجعل هذه الفترات عرضا زائلا، كانت تحببها إلى النفوس؛ وكان البطل يرى أن من بذل الوقت في غير طائل أن يكن في قلبه ضغينة لعدوه - وقد التقى به في القتال يوما، وقد يلتقي به في معركة حامية الوطيس في صبيحة اليوم التالي - وكان الرجال يعرفون أن في عهدهم، وفي ظروفهم، مجالا تنفجر فيه عواطفهم الملتهبة، فكانوا يستمتعون بكل ما أوتوا من قوة، بصحبة بعضهم بعضا في الفترات القصيرة التي كانت تتيح لهم أن يتحادثوا آمنين، على قدر ما تسمح لهم تلك الأوقات العصيبة، اللهم إلا إذا احتدم النزاع بين الرجل وعدوه، أو أثارت نفسيهما ذكرى إحن خاصة لا تتعلق بغيرهما.
وكان يفل من حدة الفروق الدينية، بل والعصبية الشديدة، التي كانت تستفز أتباع الصليب وأتباع الهلال على السواء، شعور سام، هو من طبيعة أمثال هؤلاء المحاربين، شعور كانت تلهبه وتقويه روح الفروسية حينذاك؛ وهذا الدافع القوي أخذ يمتد أثره شيئا فشيئا من المسيحيين إلى أعدائهم الألداء من العرب من أهل إسبانيا أو فلسطين، ولم يعد عرب فلسطين، كما كانوا من قبل، أولئك المتوحشين المتهوسين الذين هبوا من وسط صحراء العرب بالقرآن في اليمين، والسيف في اليسار، يعرضون الإسلام أو القتال، أو الجزية والرق، على كل من تحدثه نفسه أن يقف في وجه دين محمد نبي مكة؛
1
وقد عرضوا ذلك على أهل الشام وأهل اليونان، وهم قوم غير محاربين؛ ولكنهم حينما التحموا بمسيحيي الغرب - الذين كانت قلوبهم تشتعل حماسة للدين، لا تقل عن حماسة العرب أنفسهم، والذين يتصفون بالإقدام والشجاعة التي لا تقهر، والذين إذا طعنوا أصابوا - أخذوا عنهم شيئا من أخلاقهم، وحذوا حذوهم خاصة في تقاليد الفروسية الكريمة التي كانت متأصلة في النفوس تأصلا استهوى عقول أولئك القوم الغزاة الشامخين؛ وهذا فضلا عن أن العرب كان لهم سجالهم، وكانت لهم ألعابهم في عرض الفروسية، بل وكان منهم «الفوارس» أو ما يشبههم في علو المرتبة، وكانوا إلى ذلك يراعون حدود دينهم مراعاة يخجل من دقتها أناس كأهل الغرب، لا يخلون بالهدنة إذا عقدوها بينهم وبين أمة غير أمتهم، أو بين بعضهم وبعض؛ وهكذا كانت الحرب - على أنها ربما كانت في ذاتها أعظم الشرور - تهيئ الفرصة لإظهار روح الإخلاص، وكرم الخلق والرأفة، بل وتبادل الود بين القلوب، مما لا يتوفر في فترات الهدوء، حينما تكمن في الصدور زمنا إحن الرجال الذين لاقوا المهانة، أو اشتبكوا في نزاع لم ينحسم في حينه وبلغ بهم نكد الطالع أن وقعوا فريسة لتلك الإحن.
أحس المسيحي والعربي بهذه العواطف الرقيقة التي تخفف من وطأة الحروب، وانطلقا بعدما سعى كل منهما جهده كي يقضي على أخيه، وسارا راكبين بخطى وئيدة نحو العين التي ينبت حولها النخيل، والتي كان يقصدها فارس النمر الرابض حينما باغته في مسيره ذلك العدو، الذي جاءه مسارعا والشرر يتطاير من عينيه، واسترسل كلاهما زمنا، كل في تأملاته، يتنفس الصعداء بعد نضال كاد أن يقضي على أحدهما أو كليهما؛ وكأن جواديهما لم يكونا أقل منهما استمتاعا بذلك الهدوء الذي ساد بينهما. أما جواد العربي فلم تبد عليه علامات الإعياء كما بدت على جواد الفارس الأوروبي، رغم أنه أجهد بالحركة إجهادا أوسع مدى وأشد عنفا، وتصبب العرق من أضلع جواد الفارس الغربي، بينما كان جواد العربي الكريم قد جف عرقه أثناء مسيره في تلك الفترة الهادئة، ولم يبق منه إلا أثر ضئيل كان يبدو على عنانه وعدته؛ وكانت الأرض التي وطئها الجوادان لينة، فازداد جواد المسيحي شقاء على شقاء؛ إذ إنه كان يئن تحت عبء عدته الثقيلة وعبء راكبه؛ فاضطر الفارس أن يقفز من فوقه ويقوده في تلك الأرض المتربة التي يغطيها الغرين، والتي أحرقتها الشمس فصيرتها أشد لينا من أدق الرمال؛ وهكذا استرد الجواد نشاطه على حساب صاحبه، لأن الفارس، لكثرة ما عليه من لبس الحديد، كان يتعثر في حذائه الصلب في كل خطوة، وهو يمشي فوق تلك الأرض الرقيقة التي لا تحتمل المقاومة.
ومذ انعقدت الهدنة بين العربي والمسيحي لم ينبس أحدهما ببنت شفة حتى قال العربي لصاحبه: «نعم ما فعلت، فإن جوادك القوي يستحق منك العناية، ولكن ماذا أنت فاعل به في الصحراء وهو يسيخ بأقدامه في كل خطوة، كأنه يريد أن يغرسها في باطن الأرض كجذور النخيل؟»
فأجاب الفارس المسيحي، وهو غير مطمئن إلى نغمة السخرية التي تحدث بها العربي عن جواده المحبوب، وقال: «حقا ما قلت أيها العربي، ولقد أصبت بمقدار ما لديك من علم وملاحظة، ولكن اعلم أن جوادي هذا قد حملني قبل اليوم في بلادي فوق بحيرة لا تقل سعة عن تلك التي خلفناها وراءنا، ومع ذلك، فلم تبتل منه شعرة واحدة فوق حوافره.»
فنظر إليه العربي مبديا شيئا من الدهشة على قدر ما يسمح به تأدبه، وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة خفيفة لم تكد تهز شاربه الكثيف العريض الذي كان يغطي شفته العليا؛ ولكنه سرعان ما استرد نظرة الجد التي لم تفارقه، ثم قال: «حقا ما قيل، إذا أصخت إلى الفرنجي لم تسمع إلا هراء.»
فأجاب الصليبي: «ليس هذا من حسن الذوق في شيء أيها المنافق، أفترتاب في كلمة ينطق بها فارس نال مرتبة الشرف؟ تالله لولا أنك تصدر عن جهل لا عن سوء طوية، لكانت هذه الآونة آخر ما بيننا من مهادنة، ولما يمض عليها إلا أمد قصير؛ أفتظن أنني أكذبك إذ أقول لك إنني أحد خمسمائة فارس مدججين بالسلاح؛ قطعت بجوادي الفراسخ فوق ماء كالبلور صلابة، ولكنه أقل من البلور هشاشة عشر مرات؟»
فأجاب المسلم قائلا: «ماذا تقول؟ إن ذلك البحر الداخلي الذي تشير إليه له خصيصة عجيبة، وذلك أن الله قد صب عليه جام غضبه، فهو لا يحتمل جسما يغيض في موجه، إنما يقذفه بعيدا ويرمي به على شطآنه؛ ومع ذلك فإن هذا البحر الميت عينه، بل والمحيطات السبعة التي تحوط الأرض، لا تحتمل وقع أقدام الخيل على سطحها أكثر مما احتمل البحر الأحمر مسير فرعون وجنوده.»
فأجاب الفارس المسيحي: «هذا هو الحق فيما تعلم أيها العربي؛ ولكن صدقني، إنني لا أحدثك حديث خرافة؛ في مناخكم هذا تتحول الأرض بفعل الحرارة إلى شيء كالماء غير مستقر؛ أما في بلادنا فالبرودة كثيرا ما تحول الماء إلى جسم كالصخر في صلابته؛ ولكن دعنا من هذا، فإن ذكر البحار في الشتاء، بهدوئها وصفائها ونقاء زرقتها، ليزايد من مفازع هذه الصحراء الحارة، حيث يخيل لي أن الهواء الذي نستنشقه إن هو إلا بخار يتصاعد من أتون، ماؤه يغلي كالحميم.»
فالتفت العربي حينئذ إلى صاحبه متنبها، وكأنه يريد أن يستوضحه ما يعني من قوله هذا، الذي ما إخال إلا أنه قد نزل من نفسه منزل السر الغامض أو الخداع؛ ولكنه اطمأن أخيرا إلى كلام رفيقه وعرف كيف يتلقاه فقال: «إنك من قوم يحبون الضحك، تتحدثون بالمستحيل وبما لم يقع في الحسبان، مازحين مع بعضكم بعضا أو مع غيركم؛ أنت أحد فرسان فرنسا الذين يتبارون في الخيال وأعمال الجن لاهين لاعبين، ولقد أخطأت يا صديقي إذ عارضتك في حديثك، فإن الزهو بالباطل أقرب إلى طبيعة نفسك من رواية الحق.»
فأجاب الفارس وقال: «إني من بلاد غير هذه البلاد، ومن قوم غير هؤلاء الذين يزهون - كما تقول - بما لا يستطيعون، أو بما لا يتقنون إذا استطاعوا، ولكنني، أيها العربي الجسور، فيما قلت لك، كنت أحذو حذوهم في المزاح، وأظنني ما كنت في عينيك إلا رجلا دعيا وأنا أحدثك بحديث لا تستطيع أن تدركه، حتى حينما كنت أنطق عن صدق وسذاجة، ولذا فلندعها تذهب.»
وفي تلك الآونة بلغ صاحبانا مكان النخيل، وبدت العين فوارة يتألق ماؤها الغزير تحت ظليهما.
ويذكر القارئ أننا تحدثنا عن برهة سادت فيها الهدنة وسط القتال؛ وكذلك كان هذا الموضع الذي بلغاه مكانا جميلا وسط صحراء مجدبة، عزيزا على النفس كالهدنة، ولم يكن المكان ليستوقف النظر لو أنه كان في غير ذلك الموضع، ولكنه كان هنا محلا فريدا في فضاء لا يبلغ مداه البصر، يمد المسافر بالظل الظليل والماء النمير، وهما من نعم الله، لا يقدرهما المرء حق قدرهما إن توفرا، ولكنهما هنا قد أحالا العين وما جاورها جنة صغيرة من جنان الخلد. وقبل أن تبدأ أيام فلسطين المظلمة في التاريخ، امتدت يد محسنة كريمة إلى تلك العين فأقامت حولها سياجا، وفوقها سقيفة، كي لا تبتلعها الأرض، أو يغطيها التراب، الذي يثور في سحب متدافعة تنطلق في مسيرها، كلما هبت نسمة من ريح، فتغطي سطح الصحراء؛ أما السقيفة فكانت إذ ذاك محطمة؛ وقد تهشم جانب منها، ولكنها كانت مع ذلك تظلل العين وتحمي مياهها من وهج الشمس، حتى إن الماء ليبدو هادئا مطمئنا يسر العين والخاطر؛ لا يمسه شعاع من شمس، بينما كان كل ما حوله متألقا وهاجا. وانسل صاحبانا من تحت السقيفة فقابلا أول ما قابلا إناء من المرمر شائه الوجه، ولكنه يجذب النظر، لأنه يدل بهيئته تلك على أن المكان كان في قديم الزمان محطا، وأن يد الإنسان قد لعبت هناك ، وأن المرء كان - ولو إلى حد - يرعى لنفسه حقها من الراحة والإيواء؛ وكان المسافر العربي يلهث من الإعياء والعطش، فلما رأى تلك الأمارات، تذكر أن هناك غيره من الناس ممن تعرضوا لمثل ما تعرض له من مشاق فأووا حيث أوى، ولا شك في أنهم خلصوا بأنفسهم آمنين إلى حيث الخصب والنماء؛ وكان يتسرب من الإناء تيار خفيف من الماء، يكاد يحتجب عن الرائي، ويغذي تلك الأشجار القليلة التي كانت تحوط العين، وإذا ما غاص ذلك التيار تحت الثرى واختفى عن البصر، دل على وجوده بساط من سندس أخضر يسر الناظرين.
في هذا المكان اليانع حط المحاربان رحالهما، ثم أخذ كل منهما - على نهجه الخاص - يخلص جواده من عبء السرج والعنان وطرف الزمام، ويهيئ له السبيل إلى الشراب من الإناء، قبل أن يرتوي من العين التي كانت تتفجر تحت القباء، ثم خليا سبيل جواديهما، وكأنهما على يقين أنهما لن يبعدا عن هذا الماء الصافي وذلك العشب الأخضر لحاجتهما إليهما، ولما عهدا فيهما من طباع مستأنسة.
ثم جلس العربي والمسيحي فوق العشب، وأخرج كل منهما زاده الضئيل الذي كان يحمله ليتبلغ به، ولكنهما قبل أن يشرعا في تناول هذا الطعام الزهيد، تبادلا النظر بطلعة أثارها في نفسيهما ذلك الشجار الذي نشب بينهما منذ حين، وملأ قلبيهما شكا وريبة؛ وكان كل منهما يود لو يستطيع أن يسبر غور غريمه المروع، ويقدر خلقه ولو إلى حد، وقد اضطر كل منهما أن يقر بأنه لو سقط مغلوبا في ذلك النضال لكان ذلك بيد كريمة شريفة.
وكان الفارسان على طرفي نقيض في شخصيهما وملامحهما، وكلاهما يصلح مثالا دقيقا لأمته. كان الفرنجي رجلا قويا كالقوط الأقدمين في هيئته، شعره أحمر اللون أدكنه، بدا لما رفع خوذته عن رأسه مجعدا كثيفا غزيرا، وقد لفحت وجهه حرارة الشمس فصيرته أشد سمرة من بعض رقبته التي لم تتعرض للفحة الشمس، وما تنم عنه عيناه الزرقاوان المنفرجتان ولون شعره وشاربه الذي كان يظلل شفته العليا، ولم تكن له لحية على مثال النورمان، أنفه إغريقي جميل الصورة، وثغره واسع الانفراج يكشف عن أسنان ناصعة البياض، متينة جميلة الترتيب، له رأس صغير يرتكز فوق رقبته في أنفة وعظمة، لا يزيد عن الثلاثين في عمره، ولكنك إذا حسبت للعناء والجد حسابهما، علمت أنه قد ينقص عن ذلك ثلاث سنوات أو أربع، طويل القامة، قوي البنية كأنه من هواة الرياضة البدنية، يشبه أن يكون رجلا قد تقدمت به السن فلم يعد له سلطان على قوته، بعد أن كانت تلك القوة ممزوجة بالخفة والنشاط؛ خلع القفاز الحديدي فإذا يدان طويلتان بيضاوان في تناسق جميل، وإذا عظام معصميه قوية كبيرة، وذراعاه مفتولتا العضلات جميلتا التكوين، يتميز في كلامه وحركاته بعنف حربي واستهتار وصراحة في التعبير، في صوته رنة الآمر لا ذلة الخاضع، وكأنه تعود أن يعبر عن عواطفه بصوت مرتفع وبأس شديد كلما اقتضت الضرورة أن يفصح عنها.
أما الأمير العربي فكان على نقيض هذا الصليبي الغربي؛ قامته فوق متوسط الرجال، ولكنه كان أقصر من الفارس الأوروبي بما لا يقل عن ثلاث بوصات؛ إذ كان الأخير يقرب أن يكون عملاقا؛ أطرافه دقيقة، ويداه وذراعاه طويلة رقيقة، تتسق حجما وجسمه، وتتناسب وطلعته، ولكنها لا تدل لأول وهلة على القوة والليونة اللتين أظهرهما الأمير قبل ذلك بقليل؛ ولكنك إن أمعنت في النظر، رأيت ما بدا من أطرافه خفيفا لا يكسوه لحم، وكأنه لم يبق منه إلا عظام وعضل مفتول وعروق؛ رجل كأن الله قد أعده بهيئته هذه للعناء والإجهاد، ليس البتة بالفارس البدين تتعادل قوته وحجمه مع وزنه وقد أنهكه الإعياء؛ وكان هذا العربي بطبيعة الحال يشبه في طلعته إجمالا قبائل الشرق التي هو من أبنائها، وما كان أبعده عن تلك المبالغات التي كان يرددها المغنون في ذلك العهد في وصف فرسان العرب؛ وعن تلك الصورة الخيالية التي ما زال الفن الشقيق
2
يعرضها على اللوحات على أنها تمثل رأس العربي. كان دقيق الملامح، جميل التكوين، رقيقا، تعلوه سمرة شديدة من أثر شمس الشرق المحرقة، له لحية مرسلة سوداء متموجة الشعر، عني بتشذيب أطرافها، وأنف مستو مستقيم، وعينان حادتان، سوداوان براقتان؛ وأسنانه تنافس في جمالها وبياضها عاج الصحراء؛ وقصارى الوصف، كان العربي وهو يتمطى بجسمه فوق العشب، إذا قيس بمنازله القوي البنية، كمهنده البراق ذي الشكل الهلالي والحد الضيق الرقيق، اللامع الدمشقي الباتر، إذا قورن بالسيف الطويل القوطي الثقيل، الذي خلعه صاحبه وألقاه فوق الأديم. وكان الأمير في زهرة العمر، ولولا ضيق جبهته، ورقة ملامحه وحدتها - أو لعلها كانت كذلك من حيث تقدير الأوروبيين للجمال - لعد آية في الجمال.
كان المحارب الشرقي في معاملته جادا متعاليا شديد المراعاة للتقاليد، يدل بسلوكه من بعض النواحي على ما فطر عليه أولئك القوم - الذين عرفوا بحدة المزاج وحرارته - من حرص يستمسكون به كي يقوا أنفسهم ما جبلوا عليه من حدة الطبع، كما يدل على إحساسه بكرامة كانت تضطر صاحبها إلى أن يرتبط في مسلكه ببعض القيود.
هذا الشعور السامي بعلو النفس كان يحس به كذلك زميله الأوروبي، ولكنه كان يختلف عنه في مسلكه، فبينما كان هذا الإحساس يملي على الفارس المسيحي الجرأة والإقدام، بل وعدم الاكتراث، وكأنه لفرط إحساسه بعلو مكانته لا يأبه برأي غير رأيه، كان يرسم للعربي نوعا من المجاملة يجعله شديد المراعاة لآداب المعاشرة. نعم لقد كان كل منهما يجامل الآخر، ولكن مجاملة المسيحي كانت تصدر عن روح التفكه الظريف بما يجب عليه نحو غيره، بينما كان المسلم في مجاملته يصدر عن إحساس قوي بما كان غيره يرتقب منه.
وتبلغ الرجلان بطعام خفيف؛ ولكن طعام العربي كان جد زهيد، فحفنة من تمر، ولقمة من خبز الشعير الخشن كانت تكفي لأن تسد رمق جوعه، إذ إنه نشأ على تقشف الصحراء، وذلك رغم أن بساطة العيش العربي كثيرا ما غلب عليها، مذ فتح سوريا، البذخ الوافر الذي ليس له حد؛ ثم اختتم وجبته بقطرات قليلة من ماء العين الجميلة التي أوى وصاحبه إليها. أما طعام المسيحي فكان شهيا رغم خشونته، وكان أهم ما يتألف منه لحم الخنزير المقدد، الذي يحرمه المسلمون على أنفسهم، ثم أخرج قنينة من الجلد وصب منها شرابا خيرا من الماء الصافي، وهكذا أخذ يتناول طعامه بنفس مقبلة، ويستقي وعليه أمارات الرضا، ولا كذلك العربي الذي كان يرى أن ليس من اللياقة أن يتظاهر المرء وهو يقضي حاجة من حاجات الجسم الدنيئة؛ ولا ريب أن كلا منهما كان في دخيلة نفسه يهزأ من زميله كيف يتبع دينا باطلا؛ وزاد من هذا الشعور ذلك الفارق الكبير بين مسلكيهما وطعاميهما؛ لكن اثنيهما قد أحسا كل بثقل ذراع صاحبه، فكان من أثر ذلك النضال العنيف الذي نشب بينهما أن يتبادلا التقدير وأخفيا كل اعتبار دونه، ولكن العربي مع ذلك لم يسعه إلا أن يشير بكلمة إلى ما لم يرقه من خلق المسيحي ومسلكه، وبعد أن تطلع مدة - دون أن ينبس ببنت شفة - إلى شهية الفارس القوية التي مدت من وجبته طويلا بعد أن فرغ هو من طعامه، وجه إليه الخطاب وقال: «أيها النصراني الجسور! هل يليق بالمرء يقاتل كالرجال أن يكون حين تناول الطعام كالكلاب أو الذئاب؟ والله إني لأظن أنه حتى اليهودي الكافر ليقشعر بدنه إذا رآك وأنت تأكل بشهية كأنك تتناول من ثمر أشجار الجنة.»
فالتفت المسيحي متعجبا من تلك التهمة التي ألقيت عليه دون أن يترقبها، ثم قال: «أيها العربي الجسور! اعلم أني إنما أستمتع بالحرية المسيحية، وأن لي أن آتي ما لم يستطعه اليهود الذين يرزحون تحت نير ملة موسى البالية. ولتعلم أيها العربي أننا نخضع لشريعة سامية؛ حياك الله يا مريم! إنا لله شاكرون!» واختتم حديثه بعبارة لاتينية قصيرة، ثم احتسى جرعة كبيرة من القنينة الجلدية كأنه يتحدى ما يساور زميله من وسواس.
فقال العربي: «أفهذا أيضا في اعتبارك جزء من حريتك؟ إنك إذ تطعم كالوحوش الضواري، وإذ تحتسي هذا الشراب السام، الذي تأباه البهائم، إنما تهبط بنفسك إلى حضيض الحيوان.»
فأجاب المسيحي دون تردد: «اعلم أيها العربي الغافل أنك إنما تلعن ما أسبغ الله علينا من نعم. إن عصير العنب حلال لمن كان حكيما في تناوله ، فهو ينعش القلب بعد عناء العمل، ويرطب فؤاد المرء في مرضه، ويخفف عنه وطأة الحزن. من يستمتع بالخمر يحمد ربه على الكأس كما يحمده على قوت يومه، ومن يدمن في الشراب فليس في إدمانه بأقل منك غفلة في تحريمك الخمر.»
وأدرك العربي هذه السخرية فتطاير الشرر من عينيه، وامتدت يده إلى مقبض خنجره، ولكنه لم يكن إلا خاطرا طارئا، لم يلبث أن هدأ ثائره لما ذكر قوة منازله حينما بطش به، واستوثق منه في قبضته، ولم يبق له من أمل في الحياة، تلك القبضة التي لم يزل أثرها ينبض في أطرافه وعروقه، فاكتفى العربي - إذ استعاد ذلك إلى ذاكرته - بأن يواصل النزاع شفاها؛ فإن ذلك آمن له في ذلك الحين.
فقال: «والله أيها النصراني إن كلماتك هذه لتبعث الغضب، لولا أنك بجهالتك تستثير الرحمة؛ أفلا ترى - وكيف ترى وأنت أشد عمى من أولئك الذين يقفون بأبواب المساجد يسألون الصدقات - أن هذه الحرية التي تفخر بها لم تمتد إلى بيتك وإلى أنفس ما في سعادة الإنسان، فإن شريعتكم - إذا اتبعتموها - فرضت على الرجل منكم أن لا ينكح غير زوجة واحدة، يرتبط بها في صحتها وفي مرضها، ولودا كانت أو عاقرا، وسواء فاضت على مأكله ومبيته بالدعة والسرور أو بالمنازعة والشحناء؛ تالله إن هذا أيها النصراني إلا الرق عينه. انظر إلى دين المسلمين؛ لقد جاء النبي للمؤمنين في الأرض بملة أبينا إبراهيم القديمة وملة سليمان أحكم بني الإنسان فأحل لنا في الدنيا تعدد النساء الجميلات كيفما شئنا، ووعدنا في الآخرة بالحور العين.»
فأجاب المسيحي وقال: «والذي أقدس في السماء فوق كل شيء، وبالتي أعبد في الأرض أكثر من كل شيء، إن أنت إلا كافر عميت بصيرته وضل هداه؛ انظر إلى جوهرة هذا الخاتم الذي تلبس في إصبعك؛ ألا تظن أن قيمتها تفوق كل تقدير؟»
فأجاب العربي: «أجل، وليس في البصرة أو بغداد ما يشبهها، ولكن ما شأن هذه الجوهرة وما نحن فيه؟»
فأجاب الفرنجي: «شأنها كبير، وستشهد بذلك أنت نفسك الآن. خذ فأسي هذه وهشم هذا الحجر الكريم إلى عشرين شظية، ثم خبرني إن كنت تظن أن لكل شظية وحدها ما كان للجوهرة بأسرها من قيمة، أو أن الشظايا كلها مجتمعة لها عشر ما كان لها من ثمن؟»
فقال العربي: «هذا سؤال صبياني. إن جزيئات هذا الحجر لن تعادل عشر معشار الجوهر سليما».
فأجاب الفارس المسيحي: «كذلك، أيها العربي، الحب الذي يحمله الفارس الحق لامرأة واحدة جميلة مخلصة، هو كهذه اللؤلؤة سليمة، أما الحب الذي توزعه بين أزواجك اللائي تستعبدهن، وإمائك اللائي تنظر إليهن كأنصاف أزواج، فما هو إلا بمثابة تلك الشظايا المتفرقة من هذا الجوهر الحر.»
فقال الأمير: «ورب الكعبة المقدسة إنك لمجنون، لا تفرق بين الذهب والحديد، أمعن في النظر تجد أن هذه الجوهرة الكبرى وسط تلك اللآلئ الزرية هي التي تكسب الخاتم جلاله وتعطيه قيمته، ولولاها لما كان له نصف جماله؛ هذا الجوهر الأوسط هو الرجل في عزمه وكماله، لا يستمد قيمته إلا من نفسه، وأما هذه الحلقة من الجواهر الدنيا فهي النساء تستمد بريقها من بريقه، يرسله عليهن كما يشاء ويهوى؛ انزع الحجر الأوسط من الخاتم يبق له قدره ويهبط ما دونه من اللآلئ في قيمته؛ وإنما هكذا يجب أن تفهم التشبيه الذي أتيت به. ولقد قال المنصور الشاعر ما معناه: «إنما جمال المرأة ورقتها من فضل الرجل، فلولا ضياء الشمس ما تألق في البحار ماء.»
فأجاب الصليبي قائلا: «أيها العربي، إنك إنما تتكلم كرجل لم يقع بصره يوما على امرأة جديرة بحب أبناء الحروب، صدقني أنك لو شهدت بنات أوروبا - اللائي لهن علينا بعد الله حق الإخلاص والولاء - لما بقي في قلبك ذرة من حب لهاتيك الشهويات المسكينات اللائي يتألف منهن «حريمك». إن جمال نسائنا يدبب حرابنا ويحد سيوفنا؛ كلمتهن لنا شريعة؛ وكما أن المصباح لا ينير إذا انطفأ لهيبه، فكذلك الفارس إذا برز في القتال ولم تكن له فتاة يوليها حبه.»
قال الأمير: «لقد نما إلي هذا الخبل الذي يعتور فرسان الغرب، وكنت دائما أعده عرضا من أعراض ذلك الجنون الذي يدفعكم إلى هذه البلاد كي تستولوا على قبر أجوف، ولكني - مع ذلك - مع فرط ما سمعت من الفرنجة الذين التقيت بهم من الثناء يكيلونه كيلا على نسائهم، أود لو رأيت بعيني رأسي أولئك الساحرات الفاتنات اللائي يجعلن من هؤلاء المحاربين أدوات لما يردن، كي تطمئن نفسي ويرضى فؤادي.»
فأجاب الفارس: «أيها العربي الجسور، والله لولا أني أقصد الحج إلى القبر المقدس لكان فخرا لي أن أقودك آمنا إلى مخيم رتشارد ملك إنجلترا، الذي يعرف أكثر من كل من عداه كيف يعامل بالحسنى عدوا كريما؛ وإنك قد تراني مسكينا لا تكلؤني عين برعاية، ولكني مع ذلك قمين بأن أكفل لك، ولأمثالك، كل أمن وتقدير وإجلال. هنالك ترى كثيرا من آيات الجمال الفرنسي والإنجليزي مجتمعات في حلقة صغيرة، يشع منها نور يفوق في بريقه ولمعانه المناجم المترعة بمثل تلك اللآلئ التي تملك عشرة آلاف مرة.»
فقال العربي: «وركن الكعبة، لو أنك بقيت على عهدك لألبين دعوتك طائعا، كما وهبتنيها طائعا، وصدقني، أيها النصراني الجسور، لقد كان خيرا لك أن تيمم جوادك شطر مخيم قومك، فإن مسيرك إلى بيت المقدس بغير جواز إن هو إلا تعريض بحياتك لا مبرر له.»
فأخرج الفارس ورقة ثم قال: «ها هو ذا جوازي عليه توقيع من صلاح الدين بيده وخاتمه.»
فعرف العربي خاتم سلطان مصر وسوريا وخط يده، ذلك الحاكم الذي طبق صيته الآفاق، فانحنى برأسه نحو الأرض، ثم لثم الورقة بكل تبجيل، ومس بها جبينه، ثم ردها إلى المسيحي قائلا: «أيها الفرنجي، لقد اندفعت في تصرفك وأسأت إلى دمي ودمك، إذ لم تطلعني على هذه الورقة حينما التقينا.»
فقال الفارس: «لقد آتيتني رافعا سنانك، ولو أن ثلة من جنود الأعراب هاجمتني لكان من شرف النفس أن أظهر جواز السلطان، أما وأنت رجل واحد فقد أبت كرامتي ذلك.»
فأجاب العربي بكبرياء وعظمة وقال: «ولكن رجلا واحدا قد استطاع أن يعترض سبيلك.»
فأجاب المسيحي: «صدقت أيها المسلم الجريء، ولكن كم من الناس كمثلك ؟ إن البزاة لا تطير في الأسراب، وإذا أقبلت سربا لن تنقض جماعة على واحد مفرد.»
ولا ريب أن العربي قد سر من هذا الثناء، بعد أن كان قد انجرح في عزته حينما كان الأوروبي يفخر بنفسه ويحقر من شأن صاحبه تلميحا، ثم قال: «هذا صواب وعدل، وما كان لي أن أسيء إليك؛ إنني كنت مجدودا حقا إذ لم أصبك بضربتي وشخصك في حمى ملك الملوك، ولو أنني جندلتك لحقت علي النقمة جزاء هذا الجرم، ولأصابني حد السيف.»
فقال الفارس: «يسرني أن أسمع أن الأمر قد انتهى بما ينفعني، فلقد بلغني أن الطريق موبوءة بالكثير من قطاعها الذين لا يترددون في السلب إذا تهيأت لهم فرصته.»
قال العربي: «لقد صدقتك فيما خبرتك به، أيها المسيحي الجسور، ولكني أقسم لك بالنبي الكريم أنك لو سقطت في أيدي هؤلاء الأشرار لأخذت على نفسي الانتقام لك بخمسة آلاف جواد، ولقتلتهم جميعا وأرسلت نساءهم أسيرات إلى مكان ناء، ولن تسمع لتلك القبيلة بعد ذلك اسما يذكر في حدود خمسمائة فرسخ حول دمشق، ولنشرت الموت في جذور بلادهم فلن ترى فيها كائنا حيا من بعد.»
فأجاب الفارس قائلا: «أيها الأمير النبيل، ليت هذه المشقة التي تأخذها على نفسك كانت في سبيل الانتقام لشخص آخر أعلى مني مكانة، إنما أنا أمري بيد الله، إن أراد بي خيرا فخير، وإن أراد بي شرا فشر، وإنني لمدين لك حقا لهدايتك إياي الطريق إلى مكان أستريح فيه هذا المساء.»
فقال العربي: «ستجد راحتك في خباء أبي تحت قبائه الأسود.»
فأجاب المسيحي: «إنما ينبغي لي أن أقضي هذا المساء مصليا مستغفرا مع رجل قديس اسمه تيودوريك «بعين جدة» يسكن هذا القفر ويقضي العمر في عبادة الله.»
فقال العربي: «لا أقل من أن أبلغك هذا المكان آمنا.»
فأجاب المسيحي: «نعم الحارس، ولكن ألا تدري أنه قد يكون في ذلك خطر على ذلك الأب الطيب في مستقبل سلامته، فكم من مرة امتدت فيها أيدي قومك القساة إلى أتباع السيد المسيح، وتلطخت بدمائهم، ولذا فنحن لا نقصد هذه البلاد إلا مسلحين بالسيوف والحراب كي نفتح الطريق إلى القبر المقدس، ونحمي القديسين الأخيار والرهبان الذين يقطنون هذه الأرض، أرض الأمل والمعجزات.»
فأجاب المسلم وقال: «أيها النصراني! ألا تعلم أن الروم وأهل الشام كثيرا ما حنثوا في عهودهم لنا، ونحن إنما نتبع أبا بكر الصديق خليفة النبي، وأول خليفة للمسلمين من بعده، إذ قال لذلك القائد الذائع الصيت حينما بعث به كي يستخلص سوريا من أيدي الكفار:
3
اذهب ورجالك يا يزيد بن سفيان، وحاربوا كما تحارب الرجال في ساحة الوغى، ولكن حذار أن تقتلوا الشيوخ والمرضى والنساء والأطفال، ولا تخربوا البلاد، ولا تدمروا أشجار الفاكهة والقمح فهي من نعم الله، وإذا عاهدتم فلتفوا بالعهود - حتى وإن كانت في مضرتكم - وإذا صادفتم رجالا قديسين يعملون بأيديهم ويعبدون الله في الصحراء، فلا تمسوهم بأذى ولا تهدموا مساكنهم؛ أما إذا ألفيتموهم برءوس حليقة، فاعلموا أنهم من أتباع الشيطان واضربوهم بسيوفكم، واقتلوهم ولا تأخذكم بهم رأفة حتى يؤمنوا أو يدفعوا الجزية. هكذا أمرنا الخليفة رفيق النبي، فأطعنا، فعدلنا، ولم نضرب إلا جنود الشيطان، أما أولئك الرجال الأخيار أتباع عيسى بن مريم، الذين لا يثيرون أمة على أمة وإنما يعبدون الله مخلصين له الدين، فقد كنا لهم ظلا وحمى. ولما كان صاحبك الذي تقصد رجلا من هؤلاء، فإني لا أحمل له إلا المحبة والخير والتقدير وإن يكن نور النبي لم يبلغه.»
فقال الحاج المحارب: «لقد سمعت أن الراهب الذي أقصد ليس قسا، ولكنه إن كان أحد أولئك الرجال المقدسين المباركين، فتالله لأصدن عنه برمحي هذا كل معتد أثيم من الكفرة أبناء المسلمين ...»
فاعترض العربي كلامه وقال: «أخي! خير لي ولك ألا تتحداني ولا أتحداك، فإن كلينا يستطيع أن يجد من بني قومه من يكفيه للضرب بسيفه وسنانه. إن تيودوريك - الذي حدثتني عنه - في حمى الترك والعرب، وله بين الحين والآخر أطوار عجيبة، ولكنه على الجملة - كتابع من أتباع المسيح - يسلك سلوك الرجل الطيب، ويستحق الحماية ممن بعث الله ...»
وهنا قاطعة المسيحي متعجبا وقال : «قسما بمريم لو أنك لفظت في نفس واحد اسم ذلك الحادي المكي مع ...»
4
وحينئذ تمشت في حنايا الأمير رعدة من الغضب كتيار الكهرباء، لم تلبث لحظة حتى انقشعت، وأجاب في هدوء يخالجه الوقار والحكمة «لا تذكر بسوء من لا تعرف، إنما نحن نقدس نبيكم، ولكنا ننكر العقائد التي ينسجها قساوستكم حول الدين الذي أتاكم به. سأدلك بنفسي إلى الكهف الذي ينزل به الناسك، واعلم أنه لولا معونتي لشق عليك أن تبلغه؛ وإذا ما ضربنا في طريقنا فلنخل للشيوخ والرهبان الجدل في الدين، ولنتحدث في أمور تليق بأبطال أحداث. لنتحدث بمواقع القتال وفتنة الحسان، ولنتحدث بظباة السيف وبريق السلاح.»
الفصل الثالث
استراح المحاربان قليلا، وتناولا طعاما خفيفا انتعشا بعده، ثم هبا من مكانيهما وأخذ كل منهما يمد يد المساعدة إلى أخيه - وهما يجهزان جواديهما بعدتيهما ويحكمان الجهاز، بعد أن تخلص الجوادان الأمينان من هذا العبء مدة من الزمن - وكان كلا الرجلين خبيرا بهذا العمل الذي كان في ذلك العهد واجبا لا مندوحة عنه ولا غناء؛ وكان الجوادان - وهما رفيقان ملازمان لصاحبيهما في القتال والترحال - يوليانهما ثقتهما ومحبتهما على قدر ما بين الحيوان والإنسان العاقل من فرق في إظهار مثل هذا الشعور. أما العربي فقد شب على هذه المودة وذلك الإلف، ففي خيام القبائل الشرقية المحاربة كان حصان الجندي يلي في أهميته زوجه وأهله؛ أما الفارس الأوروبي، فإن الظروف والحاجة قد رفعت جواده إلى مكانة لا تقل عن مكانة زميله في الحرب؛ ولذا فلم يشق على الجوادين كثيرا أن يبتعدا عن الطعام، ويحرما الحرية، بل لقد اقتربا من صاحبيهما وأخذا يصهلان جذلا، بينما كان الرجلان يعدان عدتيهما لاستئناف الرحيل ومواصلة العمل، وكلاهما يعد نفسه، أو يعاون زميله في رفق، وهو يتطلع إلى عدة رفيقه في السفر ويلحظ طريقته في تهيئة معدات الركوب.
وقبل أن يمتطيا جواديهما لمواصلة الرحيل، بلل الفارس المسيحي شفتيه، وأغرق يديه في ماء العين، ثم قال للرجل الوثني
1
زميله في السفر: «وددت لو عرفت اسم هذه العين ذات الماء النمير، حتى أحفظ لها جميل الذكر، فوالله ما ارتويت حياتي بماء أشد عذوبة من مائها الذي أطفأت به نار العطش الذي أحسست به اليوم.»
فأجاب العربي: «اسمها درة الصحراء.»
فقال المسيحي: «نعم الاسم. إن بالوادي الذي أتيت منه ألف عين، ولكنني لن أحمل بعد هذا لأيها مثل هذه الذكرى العزيزة التي أحملها لهذه العين النائية، التي تمد النفس بكنوزها السائلة، فتسر القلب وتسد لبانة من لباناته التي ليس له عنها غنى.»
فقال العربي: «حقا ما قلت، ولعنة الله على ذلك البحر الميت، الذي لا يستقي منه - ولا من النهر الذي لا يفتأ يصب فيه ولا يملأ جوفه - إنسان أو حيوان حتى يخرج من هذه الصحراء الجافة.»
ركب صاحبانا واستأنفا المسير يقطعان أرضا رملية خلاء، وقد تبدد وهج الظهيرة، وأخذ يهب نسيم عليل، يهون عليهما مشقة الصحراء، ولكنه يحمل على جناحيه ترابا دقيقا لم يكن يأبه له العربي، بينما كان رفيقه المثقل بالسلاح يضجر منه، فخلع خوذته وعلقها بجانب سرجه، واستبدل بها تقية ركوب خفيفة، تشبه في شكلها الهاون، ثم سارا معا برهة من الزمن صامتين لا يتحدثان، والعربي يقوم بوظيفة المرشد أو القائد في السفر، مستعينا بمشاهدة دقيق العلائم ومواضع الصخور النائية التي كانا يسيران رويدا نحو حافتها، وظل كذلك فترة قصيرة، وكأنه لا يفكر إلا في هذا العمل، كربان السفينة وهو يعبر قناة عسيرة؛ ولكنه - ولما يقطعا نصف فرسخ - استوثق من طريقه، وأظهر الرغبة في فتح باب الحديث بصراحة غير معهودة بين بني قومه.
فقال: «لقد سألتني اسم عين ساكنة لها هيئة الكائن الحي ولكنها ليست بالكائن الحي، فهل لي أن أسأل عن اسم الزميل الذي صادفته اليوم ورافقته في الضراء والسراء، وما إخال إلا أن هذا الاسم ذائع الصيت حتى هنا في صحراوات فلسطين.»
فقال المسيحي: «كلا، إن هذا الاسم لم يحق له الذيوع بعد، ولكن اعلم أن جنود الصليب يسمونني «كنث صاحب النمر الرابض»، ولي في بلادي ألقاب أخرى لا تستسيغ مسمعها أذن شرقية؛ أيها العربي المقدام ! من أي قبائل العرب أنت وما اسمك؟»
فأجاب المسلم وقال: «يسرني أن اسمك هين على شفتي أن تنطقا به يا سير كنث؛ أما أنا فلست بعربي، وإنما أنا أنتمي إلى جماعة لا تقل عن العرب إقداما ولا حبا في القتال؛ اعلم يا فارس النمر أنني شيركوه، أسد الجبل، وأن ليس بكردستان التي أنتسب إليها أسرة أشرف من أسرة سلجوق.»
فأجاب المسيحي: «لقد نما إلي أن سلطانكم العظيم يمت إلى هذه الأسرة بصلة الرحم، فهل هذا صحيح؟»
قال المسلم: «حمدا لرسول الله الذي شرف جبالنا بأن بعث من بطنها رجلا، الظفر معقود بمنطقته، ما أنا إلا كالدودة الحقيرة أمام ملك مصر والشام، ومع ذلك، فإن لاسمي في بلادي بعض المكانة. أيها الرجل الغريب، خبرني مع كم من الرجال أتيت إلى هذه الحرب؟»
قال السير كنث: «أقسم لك إنني - بكل ما قدم إلي أهلي وصحبي من معونة - لم أستطع أن أجمع عشرة من الرجال المدربين على حمل الحراب، ونحوا من خمسين رجلا آخرين - ومنهم النبالون والخدم - إلا بعد جهد جهيد؛ ومن هؤلاء من لم يرقه أن ينضم إلى لوائي التعس، ومنهم من سقط في القتال، وكثير أهلكهم المرض، ومن بينهم رجل من حملة السلاح أثق فيه، وهو الآن عليل طريح الفراش، ومن أجله أتيت حاجا إلى هنا.»
فقال شيركوه: «أيها المسيحي، إن في جعبتي خمسة سهام، كلها مريشة بأجنحة النسور، لو بعثت منها بواحدة إلى خيامي جاءني ألف مقاتل على ظهور الخيل، ولو بعثت بالأخرى هبت طائفة أخرى تعدل الأولى عدا، فلو أني أرسلتها جميعا لأصبح تحت إمرتي خمسة آلاف رجل، وإذا أرسلت قوسي دب في جوف الصحراء عشرة آلاف راكب؛ وأنت على رأس خمسين من أتباعك أتيت تغزو بلادا، أنا من أقل أبنائها شأنا!»
فرد عليه الفارس الغربي وقال: «وحق الصليب، أيها العربي، لتعلمن - قبل أن تفخر بنفسك - أنا نستطيع بقفاز واحد من الحديد أن نقضي على حفنة من هذه الحشرات التي ذكرت.»
فقال العربي: «ولكن هذه اليد الحديدية ينبغي لها أن تمتلك هذه الحشرات في قبضتها قبل القضاء عليها!» وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة كادت أن تودي بالحلف الذي عقداه بينهما حديثا، لولا أنه حول مجرى الحديث وأردف قائلا: «وهل للشجاعة عند الأمراء المسيحيين مكانة عالية، فتتعهد - كما وعدتني - وأنت لا سلاح لديك ولا رجال، بحمايتي وسلامتي في مخيم زملائك؟»
فأجاب المسيحي: «أما وقد سألتني هذا، فاعلم أيها العربي، أن اسم الفارس ودم الرجل الكريم يخولان له أن يرفع نفسه إلى منزلة كبار الملوك في كل أمر، عدا ما يتمتعون به من سلطان ونفوذ؛ ولو جرح رتشارد ملك إنجلترا نفسه عزة فارس مسكين كمثلي، ما كان له - وفقا لقانون الفروسية - أن ينكر عليه حقه في النزال.»
فقال الأمير: «والله إني لأحب أن أشهد مثل هذا المنظر العجيب، حيث يستطيع الرجل الفقير بنطاق من الجلد، ومهمازين، أن يرتفع إلى مستوى أقوى الأقوياء.»
فأجاب المسيحي: «أضف إلى ذلك دما حرا، وقلبا لا يرتاع، يصدق قولك عن كرامة الفروسية.»
ثم سأله العربي: «وهل تخالطون نساء سادتكم وقادتكم بهذه الجرأة عينها؟»
فأجاب فارس النمر: «إن أشد فرسان العالم المسيحي فقرا في كل عمل نبيل يقوم به، ولكنه يقف يده وسيفه وذكر أعماله وإخلاص قلبه الذي لا يحيد لأجمل من حلين جبينهن بتاج من أميرات.»
فقال العربي: «ألم تقل لي منذ حين إن الحب هو أعز ما يملك القلب؟ فما أشك في أنك قد وهبت قلبك لامرأة كريمة نبيلة.»
فأجاب المسيحي وقد علت وجنتيه حمرة الخجل: «أيها الغريب، اعلم أننا لا نندفع في الكلام فنتحدث عن موضع حبنا الذي وهبناه أنفس ما نملك، ويكفيك أن تعرف أن حبي - كما قلت - قد خصصت به امرأة نبيلة كريمة، بل وغاية في النبل والكرم؛ وإن كنت لم تسمع بالحب وتكسير النصال في سبيله فخاطر بنفسك - على حد قولك - واذهب إلى معسكر الصليبيين، وهناك تسمع بأذنيك ما يرضيك، وتجد ليديك - إن أردت - مرانا.»
وهنا هب المقاتل الشرقي عن ركابه وهز برمحه إلى أعلى، ثم أجاب قائلا: «إنني أخشى ألا أجد من أبناء الصليب من يبادلني النزال بالجريد.»
فأجاب الفارس: «إنني لا أعدك بذلك، رغم أن بالمعسكر بعضا من الإسبان ذوي المهارة الفائقة في هذا الفن الشرقي، فن الضرب بالحراب.»
فانفجر العربي قائلا: «هيه يا كلاب ويا أبناء الكلاب! ما لهؤلاء الإسبان يأتون إلى هنا لمنازلة المؤمنين المخلصين، وهم في بلادهم السادة وأصحاب الرأي؟ إنني لن أنزل معهم في لهو الفرسان.»
فقال فارس النمر: «حذار أن يسمعك فرسان «ليدن» أو «أستورياس» وأنت تتحدث عنهم كذلك!» ثم ابتسم إذ تذكر ما كان بينه وبين العربي من قتال صبيحة ذلك اليوم، وأردف قائلا: «لو أنك قبلت أن تستبدل القصب بالفئوس لألفيت من المقاتلين أبناء الغرب من يكفيك لسد هذه اللجاجة في نفسك.»
فقال العربي وهو يتماثل للضحك: «ولحية أبي، يا سيدي كنث، إن هذا الضرب من اللعب لأشد عنفا من أن يكون للهو المجرد. إنني لن أفر منهم في ميدان القتال، ولكن عقلي (وهنا وضع يده على جبينه) لا يسمح لي أن أقصدهم للهو حتى حين.»
فرد عليه المقاتل الغربي وقال: «وددت لو أنك رأيت فأس الملك رتشارد، تلك الفأس التي لو قيست بها فأسي المعلقة بسرجي لم تزد هذه الأخيرة عن وزن الريشة.»
فقال العربي: «إننا سمعنا الشيء الكثير عن هذا الملك الذي يحكم في جزيرة؛ خبرني هل أنت من رعيته؟»
فأجاب الفارس وقال: «أنا من أتباعه في هذه الحملة، ويا لها من خدمة شريفة؛ ولكنني لست من رعايا الملك مولدا وإن كنت من أهل الجزيرة التي يسود فيها.»
فقال الجندي الشرقي: «ماذا تعني؟ أفيتسود عليكم ملكان في جزيرة واحدة فقيرة؟»
فأجاب السير كنث: وهو اسكتلندي المولد: «هو كذلك كما تقول، وكثيرا ما يقتتل أهل الشمال مع أهل الجنوب في تلك الجزيرة، ولكن الأمة تستطيع - كما ترى - أن تبعث إلى أقاصي البلاد بكتيبة من الرجال المسلحين تهز هذه اليد الدنسة، يد سيدكم، التي تستولي على مدائن صهيون.» «ولحية صلاح الدين، أيها النصراني، إن هذه إلا غفلة صبيانية منكم، ليس فيها لمحة من سداد الرأي، وإنني ليضحكني من سلطانكم العظيم سذاجته، وإني لأعجب كيف عن له أن يطلب الظفر في هذه الصحراوات وتلك الصخور، وينازع في امتلاكها قوما، إن أرادوا جمعوا من الرجال عشرة أمثال رجاله، ويخلف جزءا من جزيرته الضيقة - التي ولد فيها ملكا - إلى بلاد الصولة فيها لغيره؛ ولكني أعتقد جزما، يا سير كنث، أنك وغيرك من الرجال الطيبين من أهل بلدك قد خضعتم لنفوذ الملك رتشارد قبل أن ترحلوا عن وطنكم وتقوموا بهذه الحملة، وقد تركتم بلادكم مقسمة بعضها في وجه بعض.»
فأجابه كنث في حدة ولهجة سريعة وقال: «كلا وضياء السماء المنير! لو أن ملك إنجلترا لم يقم بهذه الحرب الصليبية إلا بعد أن يتملك على اسكتلندا لما عبأت - ولا عبأ كل اسكتلندي مخلص - بالهلال يتألق أبدا على أسوار صهيون.»
واسترسل الفارس في حديثه إلى هذا الحد، ثم استجمع ذاكرته وتمتم قائلا: «أستغفر الله، أستغفر الله! ما لي - وأنا جندي من جنود الصليب - وما لذكرى الحرب بين الأمم المسيحية؟»
2
هذا الشعور الفياض الذي أحس به المسيحي، ثم كتمه بوحي الواجب، لم يغب عن الرجل المسلم، فهو، وإن لم يدرك كل ما دمدم به صاحبه، إلا أنه شاهد ما دل دلالة قاطعة على أن المسيحيين - كالمسلمين - لهم من المشاعر الخاصة ما قد يوخز ضمائرهم، ولهم في أوطانهم من المنازعات ما لا سبيل إلى حسمه؛ ولكن العرب أمة مهذبة إلى أقصى حد يسمح به دينهم الذي يعتنقون، وهم قادرون خاصة على التحلي بفضيلة المجاملة والتأدب، وهكذا كان صاحبنا العربي، فأبى على نفسه أن يتطلع إلى النزاع الذي قام بين السير كنث وبين مشاعره، إذ كان كنث يجمع في شخصه شخصين متناقضين: أحدهما الاسكتلندي والآخر الصليبي.
ثم ضرب صاحبانا في المسير، وأخذت المناظر حولهما تتغير وتتبدل، وقد عرجا إذ ذاك شرقا، وسارا حتى بلغا سلسلة من التلال الجرداء، شديدة الانحدار، تمتد في سهل قاحل، وهي تباين بارتفاعها سطح البلاد، ولكنها لا تختلف عنها في إمحالها. وبدت أمام المسافرين صخور ناتئة حادة ، وبعد فترة وجيزة، أشرفا على منحدرات سحيقة ومرتفعات يرتاع لعلوها البصر، وليس من اليسير أن تجتاز ممراتها الضيقة، فكانت عقبة في سبيلهما، تختلف عن غيرها من العقبات التي كانا يغالبانها منذ حين؛ وبينما هما يسيران، بدت لهما على جانبي الطريق كهوف مظلمة، وشقوق بين الصخور منفرجة مروعة. وهي تلك الغيران التي كثيرا ما يشار إليها في الكتاب المقدس؛ وهنا قال الأمير للفارس الاسكتلندي: إن تلك الكهوف كثيرا ما تأوي إليها الوحوش الضارية، أو يلجأ إليها رجال أشد من الوحوش شراسة، تدفعهم إلى اليأس حروب لا تنقطع، وجور يلحق بهم من جنود الصليب والهلال، فينقلبون لصوصا ينهبون كل من يلاقون، ولا يفلت منهم أحد؛ رفيعا كان أو وضيعا، مؤمنا أو كافرا، رجالا أو نساء، أو شيبا أو شبابا.
وأخذ الفارس الاسكتلندي يستمع، غير آبه، لما يروى له عن أعمال النهب التي يرتكبها الوحش الضاري والإنسان الشرير، إذ أحس في نفسه بالشجاعة وقوة البنية يطمئن إليهما، ولكن لشد ما كان هلعه حينما مر بخاطره أنه كان إذ ذاك يسير في القفر الموحش الذي أمسك فيه المسيح أربعين يوما عن الطعام والشراب، وأن تحت بصره ذلك المكان الذي تسنى فيه للشيطان أن يهاجم المسيح ويسرف في إغرائه وإغوائه، فانصرف بذهنه شيئا فشيئا عن ذلك الحديث الساذج، حديث الدنيا الذي كان يتحدث به إليه المقاتل العربي، وهو يسير إلى جانبه؛ وأحس السير كنث أنه في تلك المجاهل الجافة الجرداء، التي تهيم فيها الأرواح الخبيثة بعد أن تخرج من الأبدان التي كانت تحل فيها، أحوج إلى مرافقة قس عاري القدمين منه إلى ذلك المسلم المرح المنافق، مهما كان حبيبا إلى النفس بروحه الخفيفة، وشجاعته النادرة، التي قد تجعل منه زميلا تستحب زمالته في أي مكان غير هذا المكان.
استولت على المسيحي هذه المشاعر فارتبك في نفسه، وزاده ارتباكا أنه كلما أمعن وصاحبه في المسير، زاد العربي من مرحه وسروره؛ وكلما توغلا في حنايا الجبال المظلمة، استخف في حديثه؛ ولما لم يفز من المسيحي بجواب على سؤال، أخذ يتغنى ويرفع الصوت في الغناء؛ وكان للسير كنث من الإلمام باللغات الشرقية ما يكفي لأن يؤكد له أن العربي كان يتغنى بأناشيد الحب المليئة بكل معنى من معاني الثناء على الجمال، التي يغرم شعراء الشرق بالإغراق فيها، والتي كانت - من أجل ذلك - لا تليق البتة بالفكر يحلق في سماء الجد والإخلاص لله، وهو ذلك الإحساس الذي ينبغي للمرء أن يحس به وهو في القفر الذي امتحن الشيطان فيه المسيح؛ ولكن العربي لم يرع للمكان حرمته، فأخذ يتغنى كذلك بمآثر الخمر ويشبهه بالياقوت كشعراء الفرس؛ وهكذا استرسل العربي في نشوة السرور إلى حد لم يعد يطيقه السير كنث، وقد استولى عليه إحساس غير هذا الإحساس؛ ولولا أنه قطع على نفسه من قبل عهدا أن يبقي على المودة التي تبادلاها لما تردد في أن يطلب إلى العربي أن يضرب على وتر آخر؛ وهكذا أحس الصليبي كأن إلى جانبه شيطانا خبيثا مستهترا في اللهو، يحاول أن يوقع روحه في حباله، ويحرمه من غفران الله، بما كان يتمشدق به من ملذات الحياة الدنيا، يلوث بها طهارة قلبه، في وقت تناشده فيه عقيدته المسيحية، وميثاقه كحاج، أن يذكر الله مستغفرا جادا؛ فاشتدت حيرته وتردد ماذا يصنع، وأخيرا شق سكون نفسه، وفي لهجة الناقم الحادة اعترض العربي وهو يتغنى بالأنشودة الشهيرة التي يؤثر فيها الشاعر الخال على صدر معشوقته على كنوز بخارى وسمرقند.
فقال الصليبي محتدا: «أيها العربي! مهما أظلمت عيناك، ومهما ضللتك مهامه شريعة خرقاء، أفلا تدرك أن من بين بلاد الله بلادا أكثر تقديسا، وأن من بين الأماكن أماكن، الشيطان فيها أشد سلطانا على النفوس الأمارة بالسوء؟ إنني لن أخبرك بالسبب المروع الذي من أجله اتخذ الشيطان هذا المكان، وهذه الصخور، وهذه الكهوف ذات القباب المظلمة، التي توهم الرائي أنها تؤدي إلى أغوار سحيقة، مرتعا خاصا له ولجنوده؛ وحسبك أن رجالا قديسين حكماء، يعلمون حق العلم خصائص هذا المكان الدنس، قد حذروني منه منذ زمن بعيد؛ فهل لك أيها العربي أن تقلع عن غيك، وعن هذا الهزل الذي ليس هذا بحينه، وأن تنصرف بفكرك إلى ما هو أليق بهذا المكان، وإن تكن خير دعواتك ما هي - واحسرتاه! - إلا إثم وكفران.»
وأصغى العربي لهذا الحديث بشيء من الدهشة، ثم رد بروح من الدعابة والفكاهة لم يخفها إلا بمقدار ما تقتضيه المجاملة وقال: «إنك يا سير كنث رجل طيب، ولكنك لم ترع لرفيقك حق الزمالة، وإلا، فأنتم معشر الغرب لا تكترثون بآداب اللياقة. إنني لم أر أنك قد أسأت إلي حينما أخذت تلتهم لحم الخنزير وتشرب الخمر على مرأى مني، بل لقد سمحت نفسي لك أن تستمتع بطعام قلت إنه من حرية المسيحية، ولم أعد أن أشفقت عليك في نفسي من متعتك الذميمة، فلماذا إذن تضجر مني وتشكو، وأنا إنما أسري عنا - بكل ما وسعت من شعر جذل - هذه الطريق الموحشة؟ ولقد قال الشاعر ما معناه: «إنما الغناء كقطر الندى يساقط من السماء على صدر الصحراء فيجعل طريق المسافر بردا وسلاما.»
فأجاب المسيحي: «اسمع يا صاح! أنا لا أكره اللهو أو الغناء، بل إنا لنوليهما من قلوبنا مكانة عليا، قد يكون أولى بها ما هو خير منهما؛ ولكن الدعاء لله والأناشيد الدينية أليق بك من أغاني الحب وكئوس الخمر، وأنت تخترق هذا الوادي، وادي ظل الموت، المليء بالأبالسة والشياطين، الذين أصابتهم دعوات القديسين فطردتهم من مساكن الإنسان يهيمون في بلاد عليها وعليهم لعنة الله.»
فأجاب العربي قائلا: «لا تتحدث عن الجن بمثل هذا أيها المسيحي، واعلم أنك توجه الخطاب إلى رجل هو وأمته يرجعون بأصلهم إلى جنس مخلد، تخشونه في مذهبكم، وتستنزلون عليه غضب الله.»
فأجاب المسيحي: أعلم أن أمتكم العمياء تنتسب إلى الشيطان الرجيم، الذي مد إليكم يد المساعدة، فمكنكم من الاحتفاظ بهذه الأرض المكرمة، أرض فلسطين، فوقفتم في وجه عدد عديد من جنود الله الأبطال. إنني لا أتحدث عنك خاصة أيها العربي، وإنما عن قومك عامة وعن دينك، وليس العجيب أنكم تنتمون إلى الشيطان، وإنما العجيب أنكم تفخرون بذلك.»
فأجاب العربي: «نحن أشجع الشجعان؛ بمن نفخر في كرم المحتد إن لم نفخر بأشد المخلوقات إقداما؟ نحن الجبابرة المتكبرون؛ إلى من ننتمي إن لم ننتم إلى إبليس، الذي آثر أن يخرج من الجنة مدحورا على أن يسجد لآدم طائعا؟ إن إبليس ذميم مكروه، ولكنه مهيب الجانب، وكإبليس نحن أبناؤه أهل كردستان.»
وكان العلم السائد في هذا العصر هو قصص السحر والاتصال بالأرواح، ولذا فقد استمع السر كنث إلى رفيقة حينما اعترف بأصله الشيطاني، ولم تساور نفسه خلجة من شك، أو أثر من عجب، ولكنه مع ذلك قد أحس بفرائصه ترتعد، حينما ألفى نفسه في هذا المكان المروع برفقة رجل أعلن صراحة عن أصله الذي ذكرنا؛ وكان السير كنث لا يعرف الخوف بطبعه، فرسم علامة الصليب على نفسه، وطلب إلى العربي في جرأة أن يحدثه شيئا عن أصله الذي يفتخر به، وسرعان ما لبى العربي مطلبه فقال: «اعلم أيها الغريب الشجاع أن «الضحاك»، أحد أبناء جمشيد، لما اعتلى عرش فارس، عقد مجمعا من الشياطين تحت قباب «اصطخر» الخفية، تلك القباب التي نحتتها الأرواح الأولى في عين الصخر، قبل أن يخلق الله آدم نفسه، وهناك كان للضحاك حيتان ضاريتان، أخذ يطعمهما ويقدم لهما القربان كل يوم من دم الإنسان؛ حتى صارا - كما يحدثنا الشعراء - جزءا من نفسه، وأراد أن يبقي عليهما، فأخذ يجمع لهما الضحايا البشرية كل يوم، حتى نفد صبر رعيته؛ فرفعوا في وجهه راية العصيان، وكان من بينهم أمثال الحداد المقدام، و«فريدون» الظافر، اللذين استطاعا آخر الأمر أن يخلعا هذا الظالم المستبد عن عرشه، ويحبساه طوال حياته في الكهوف المظلمة في جبال «راموند»، ولكن هذا الرجل المتعطش للدماء كان قد بعث وهو في أوج قوته - قبل أن تخلص البلاد من حيفه - بثلة من أتباعه اللصوص، كي يأتوه بالفرائس يقدمها ضحايا كما اعتاد كل يوم، فجاءوا إلى أبهاء قصر «اصطخر» بسبع أخوات، تحسبهن من فرط جمالهن من حور الجنان. هاتيك الفتيات السبع هن بنات رجل حكيم، لا يملك من الثروة غير حكمته وجمال بناته ولكنه - على حكمته - لم يستطع أن يتوقع الكرب الذي حل به، والبنات لم يملكن أن يدفعن الشر، ولم تعد كبراهن العشرين، ولم تكد تبلغ صغراهن الثالثة عشرة، وكن جميعا على صورة واحدة، لا تستطيع أن تفرق بين الواحدة والأخرى إلا باختلاف القد، إذ كن يتوالين في طولهن متتابعات، مثلهن في ذلك مثل المصعد الذي يؤدي إلى أبواب الجنة؛ وما كان أجملهن حين وقفن تحت القبة المظلمة، وقد خلعن ثيابهن، ولم يتسترن إلا بقمص من الحرير الأبيض، يهززن بجمالهن قلوب البشر؛ إذ ذاك جلجل الرعد، وزلزلت الأرض، وتشقق حائط البهو، ومن بين تلك الشقوق تسلل رجل في زي صائد، بيده قوس ونشاب، وفي إثره ستة من إخوته، وكانوا جميعا رجالا طوالا، سود الوجوه، محياهم جميل الطلعة، إلا أن في أعينهم بريقا كبريق الموت، لا كذلك الضياء الذي يتألق تحت جفون الأحياء؛ ثم أمسك زعيمهم بيد كبرى الأخوات السبع، وقال في صوت ناعم خافت فيه رنة الأسى: «زينب! أنا «كثرب» ملك العالم السفلي، ورئيس الجن الأعلى؛ أنا وإخوتي هؤلاء - وقد خلقنا الله من النار الأولى - قد أبينا، حينما أمرنا العزيز القادر، أن نسجد لكائن خلقه من طين وسماه الإنسان. وما أخالك قد سمعت عنا إلا أنا قساة لا نلين، نوقع الشر بالنفوس، وما هذا إلا باطل، إنما نحن بطبيعتنا كرام رحيمون، لا ننقم إلا إذا لحقتنا إهانة، ولا نقسو إلا إذا مسنا أذى، من وثق فينا أخلصنا له، وقد دعانا أبوك، «مثراب» الحكيم، فلبينا الدعاء، وأبوك بحكمته لا يعيد أصل الخير فحسب، وإنما يعيد منبت الشر كذلك؛ إنك وأخوتك على حافة الموت، ولكنكن إن أعطتنا كل واحدة منكن شعرة من فرعها الجميل، دليل على الولاء، حملناكن فراسخ من هنا إلى مكان آمن تتحدين منه الضحاك ووزراءه.» ولقد قال الشاعر إن الخوف من الموت العاجل كالخوف من عصا موسى نبي الله، التي ابتلعت كل عصا انقلبت أمام فرعون الملك إلى حية تسعى؛ وهكذا كان بنات الحكيم الفارسي، فلم يرعن لخطاب كثرب، كما ارتاع غيرهن، فأعطينه ما فرض عليهن، وفي أسرع من لمح البصر انتقل الأخوات إلى قصر مسحور فوق جبل «تجرت» بكردستان، ولم تقع عليهن من بعد عين إنسان؛ ثم انقضى زمن طويل، وذات يوم ظهر إلى جوار هذا القصر - قصر العفاريت - سبعة شباب، لهم صيت في الحرب والطراد، أشد حلوكة وأعلى ارتفاعا وأشد بأسا وأقوى عزيمة من كل من نزل بأودية كردستان من إنسان، فاتخذوا البنات السبع زوجات لهم، وأصبحوا آباء لقبائل الكرد السبع، التي طبق ذكر شجاعتها الآفاق.»
استمع الفارس المسيحي متعجبا إلى هذه القصة الوحشية، التي ما زال لها أثر بأرض كردستان، ثم أطرق هنيهة وقال: «أصبت فيما قلت أيها الفارس؛ قد يخشى المرء منبتكم وينبذه، ولكنه لا يستطيع أن يحقر من شأنه، ولن أعجب، بعد الذي سمعت، من تشبثكم بدين باطل، فلا ريب أن ذلك ما هو إلا ناحية من ميولكم الشيطانية، التي ورثتموها عن آبائكم، الذين وصفتهم كأنهم صيادون من الجحيم؛ ميولكم التي تحبب إليكم الباطل دون الحق، ولن أعجب بعد منك تنتشي وتطرب وتنفس عن مكنون نفسك برواية الشعر، مترنما به في آونة أنت تدنو فيها من أمكنة ترتادها الأرواح الخبيثة التي توعر مسالكها؛ تلك الأرواح التي تبعث فيك مرحا وجذلا يحس بهما المرء وهو يدنو من موطن أسلافه.»
هذه الحرية التي عبر بها المسيحي عن رأيه سر منها العربي، ولم تجرح كرامته، فقال «حقا ما قلت ولحية أبي، فإننا، على خلاف غيرنا من المسلمين، لا نريد أن نقضي بضربة لازب على تلك الأرواح الأولى القوية العالية التي نعتقد أنا منها نأشنا، وذلك رغم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قد أتانا بدين خير من دين آبائنا الذي تعلموه في أبهاء «تجرت» المفعمة بالأشباح؛ نحن نعتقد ونؤمن أن هؤلاء الجن لم يتردوا في شر لا محيص عنه، وإنما هم ما برحوا في طريق المحنة والاختبار، وقد يجزون في الآخرة خيرا، وقد يجزون شرا؛ ولكن دع هذا «لرجال الدين» والأئمة، وحسبنا أن تقديس هذه الأرواح لم يحرمه ما تعلمنا من القرآن كل التحريم، وأن كثيرا منا ما فتئ يتغنى بمثل هذا الشعر الذي يذكر بدين آبائنا الأولين.»
ثم أخذ ينشد - في لغة قديمة جدا في لفظها ومعناها - أبياتا من الشعر، يعتقد بعض الناس أنها ترجع في أصلها إلى عبدة «أهرمان أصل الشر».
أهرمان
أي أهرمان الأسود،
يا من يرى فيك العراق منبع الشر والسوء!
إذا ما سجدنا لك عند معبدك،
شهدنا الدنيا بعيون كليلة،
وعلمنا أن ليس تحت قبة السماء
دولة تنافس دولتك! •••
إذا كانت بقوة الرحمن الرحيم،
تتفجر العيون في أرض خلاء،
يرتوي منها رحالة متعبون،
فعنك تصدر الأمواج ترطم الصخور،
ومنك تهب رياح صرصر عاتية،
فتتكفن في جوف الماء جنود البحار. •••
وإذا أنبت الرحمن من الأرض بلسما،
تشتفي منه النفوس الخائرة،
فيا ما أقل من تشفيه البلاسم
من ألم لا يبرح ومن عذاب مقيم،
ومن نار الحمى ومن فتك الطاعون:
وتلك هي سهامك في جعبتك! •••
في قلوب البشر لك سلطان فوق كل سلطان،
وإذا ما ابتهلنا بالصلاة
إلى عرش غير عرشك،
ودعونا فأسرفنا في الدعاء،
فإن خفي المعنى في الصلاة
لك وحدك يا أهرمان. •••
خبرني إن يكن لك حس أو شكل أو شعور،
وهل صوتك الرعد وجلبابك العواصف،
كما يحدثنا في الشرق المجوس؛
وهل لك قلب ينبض بالبغضاء والشحناء،
وأجنحة ترفرف بها في طريقك، طريق الموت،
وأسنان تنفث منها في فريستك السم الزعاف؟ •••
وهل أنت من بدء الخليقة منقلب الطباع،
قوة لا تكل ولا تني،
تحول شرا كل خبر؟
عنصر الأذى في دمائك،
إذا أصابنا خير تصارعه،
وأنت أبدا تصرعه.
ومهما يكن فلا طائل تحت النضال؛
لك سلطان على كل ما ظهر،
ونفوذ على كل ما بطن؛
كل عاطفة قوية في قلب البشر،
من حب أو بغض أو طموح أو خوف أو جذل،
تدفع بها نحو الإثم والرذيلة. •••
كلما بدت بارقة من ضياء
تنير ما يتحدر من مآقي الدموع،
إذا أنت قريب المنال،
وسط هذه الغبطة في بيداء الحياة،
ترهف كل سكين على مائدة الطعام
وتجعل منها آلة للحرب والفناء.
مذ نفخ الله فينا الحياة،
ومد لنا على وجه الأرض الأجل،
وأنت تقضي في الرجال؛
وإذا صار للموت حين،
منك كان الألم؛
فهل انقضى في الأرض سلطانك يا روح الظلام؛
عجبا! من ذا الذي يتصدى للجواب؟
3
ولربما كانت هذه الأنشودة تعبيرا طبيعيا صادرا عن قلب فيلسوف لا يملأ النور كل أرجاء صدره، فيلسوف لا يرى في ألوهية أهرمان الكاذبة إلا سيادة الشر الخلقي والأذى الجثماني، ولكنها في أذني السير كنث كان لها أثر آخر، فقد كان لها في مسمعه - إذ كان يتغنى بها رجل يفخر بانتسابه إلى الجن - رنين كأنه رنين الدعاء إلى الشيطان عينه، وقد استمع كنث إلى هذا الكفران في قلب الصحراء عينها، التي وقف فيها الشيطان يطلب إلى الناس الولاء له، فصب الله عليه نقمته، فأخذ «كنث» يوازن بين نفسه ونفسه إن كان خيرا له أن يفصل في الحال عن رفقة العربي الكافر، كي يشعره بضجره، أو يتحداه للنزال دون توان، ويتركه في القفر طعاما للوحوش - إن كان حتما عليه ذلك وفاء لميثاقه كمحارب صليبي - وإذ هو كذلك، إذا بشبح لم يكن في الحسبان يجذب منه التفاته.
وكانت الشمس إذ ذاك آيلة للغروب، ولكن فارسنا استطاع رغم ذلك أن يرى أنه لم يعد وصاحبه وحدهما في الغاب، وإنما كان يرقبهما عن كثب جسم بالغ الطول، جد نحيل، يقفز على الصخور وفوق الأشجار، ويذكر الفارس - بخفته ومظهره الخشن الغليظ - بآلهة الحقول وأرباب الغاب، الذين شاهد لهم صورا في معابد روما القديمة؛ وكان هذا الرجل الاسكتلندي ساذج القلب، لم يشك لحظة في أن آلهة القدامى المارقين على الدين كانت أبالسة في حقيقتها، وهو الآن كذلك يعتقد دون تردد أن المقطوعة اللعينة، التي تغنى بها العربي، قد أخرجت روحا من أرواح الجحيم.
فقال لنفسه في صراحة: «وماذا يعنيني! ليهلك الشيطان وعبدة الشيطان.»
ولكنه - بطبيعة الحال - لم ير ضرورة لأن ينذر عدوين ويتحداهما باللهجة عينها التي يخاطب بها عدوا واحدا؛ وامتدت يده إلى عصاه ، وكاد العربي أن يلقى جزاء شعره الفارسي، وهو غافل، بتهشيم رأسه في الحين تهشيما لا مبرر له؛ ولكن الفارس الاسكتلندي تحاشى إثما لو اقترفه لكان ثلمة في شرفه الحربي، وذلك أن الشبح، الذي ظل الفارس مدة وعيناه لا تحيدان عنه، كان يعترض طريقهما بادئ الأمر، متخفيا خلف الصخور والأشجار، مستغلا طبيعة الأرض بحذق شديد، ومتغلبا على نشازها بخفة عجيبة؛ ولكنه - حينما سكت العربي عن الغناء - تبدى عن رجل طويل القامة، يرتدي جلد عنز، ثم قفز إلى وسط الطريق، وأمسك بزمام من أزمة العربي بكلتا يديه، وجابه الجواد النبيل، ورده إلى الوراء، فرأى الجواد أنه غير قادر على أن يصمد لمهاجمه - وقد أتاه على حين غرة وضغط على طرف عنانه المسنون الطويل، وسلسلته المتينة التي كانت على الطراز الشرقي - فتقهقر لساعته، ثم سقط إلى الخلف فوق صاحبه، ولكن صاحبه أسرع وقفز جانبا كي ينجو من خطر الوقوع.
حينئذ رفع المهاجم قبضته عن زمام الجواد ومكنها من حلق راكبه، وهوى بنفسه فوق العربي وهو يدفع عن نفسه، واستطاع أن يبقيه تحته طريح الأرض، وطوقه بذراعيه الطويلتين، فبات العربي في قبضته، وصاح غاضبا وهو يتكلف الضحك: «أي «هاماكو» يا لعين، اطلقني، ليس هذا من حقك. اغرب عني وإلا سللت خنجري.»
فأجاب الرجل المرتدي جلد العنز: «أي خنجر أيها الوغد الخائن، اقبض عليه إن استطعت.» وبأسرع من لمح البصر استل خنجر العربي من يده، وهزه فوق رأسه.
فصاح شيركوه مذعورا: «النجدة! النجدة! أيها النصراني، وإلا قتلني هاماكو.»
فأجاب ساكن الصحراء: «أقتلك! حقا إنك لتستحق الموت؛ كيف تتغنى بهذه الأناشيد اللعينة، وتترنم بمآثر إله الشر؟»
وكان الفارس المسيحي حتى ذلك الحين يتطلع في دهشة وذهول، ولشد ما كان عجبه، لأن هذه الملحمة في تطورها ونهايتها قد أتت على خلاف ما كان يتوقع من قبل؛ ولكنه لم يلبث طويلا حتى أحس بأن الكرامة تقضي عليه بأن ينضم إلى جانب زميله المهزوم، فالتفت إلى الرجل المرتدي جلد العنز، وقد ظفر، ووجه إليه الخطاب قائلا: «كن من شئت ، كن من أبناء الخير أو من أبناء السوء؛ ولكن اعلم أنني قد أخذت على نفسي في هذا الظرف أن أخلص في صحبتي لهذا العربي الذي أرديته تحتك، ولذا فإني أتوسل إليك أن تخلي عنه، وإلا قاتلتك دفاعا عنه.»
فأجاب هاماكو قائلا: «مرحبا بالقتال! مرحبا بالقتال يعترك فيه صليبي ويشتجر مع واحد من أبناء دينه الحنيف في سبيل وغد لم يتعنق دين المسيح! هل أتيت إلى هذا القفر تحارب للهلال ضد الصليب؟ أكرم بك جنديا من جنود الله تنصت إلى أولئك الذين يتغنون بمحامد الشيطان!»
وانتصب قائما وهو يفوه بهذا الحديث، فسمح للعربي كذلك أن يهب من مرقده، ورد إليه خنجره. ثم واصل الحديث موجها خطابه الآن إلى شيركوه وقال: «لقد رأيت كيف أدى بك ادعاؤك إلى شفا الخطر، ورأيت كيف - إن أراد الله بك سوءا - يكون اندحارك بأضعف الوسائل، على حذقك ومهارتك وخفتك التي تفخر بها، فحذار يا «ضريم» واعلم أنه لولا لمحة من بريق تألق بها نجمك يوم مولدك بشيرا لك بخير ونعمة قدرهما لك الله في علاه، لما افترقنا إلا بعد أن مزقت حلقك هذا، الذي كان يلفظ آيات الكفر منذ حين.»
فأجاب العربي، ولم تبد عليه أمارات البغض لهذا اللفظ الشديد وذاك التهجم العنيف الذي صوب إليه، وقال: «أي هاماكو أيها الرجل الطيب، حذار أن تزهو ثانية بفضائلك إلى هذا الحد، واعلم أنني كمسلم مؤمن بالله أجل المرء إذا أعاضه الله بروح التنبؤ عن نعمة العقل، ولكني لا أحب أن تمتد إلى زمام جوادي أو إلى شخصي يد غير يدي. خبرني إذن ماذا تريد، وثق أنك في مأمن من غضبي، واعلم أنك إن هددتني بالعنف دققت رأسك المشعث وفصلته عن كتفيك النحيلتين.» ثم اعتلى صهوة جواده واستطرد قائلا: «أما أنت يا صديقي كنث، فاعلم أنني أحب في رفيق الصحراء الإخلاص في العمل أكثر مما أحب التظرف في الكلام، وحسبي ما أسمعتني من طيب الحديث، وإنما كان خيرا لي أن تسارع إلى نجدتي في عراكي مع هاماكو، وقد أوشك أن يقضي على حياتي وهو في نشوة الجنون.»
قال الفارس: «حقا لقد خارت عزيمتي، بل قل لقد أبطأت في إسعافك بالنجدة، ولكن غرابة مهاجمك ومفاجأته بالقتال - وكأن أنشودتك الذميمة بتوحشها قد أنبتت بيننا شيطانا - أربكت عقلي، فانقضت دقيقتان أو ثلاث قبل أن أسل سلاحي.»
فأجاب العربي: «ما أنت يا صاح إلا رفيق متبلد الإحساس، شديد الحرص. لو أن هاماكو تغالى في جنونه ذرة واحدة، ولبثت ممتطيا جوادك، شاهرا سلاحك دون أن تحرك إصبعا لنجدتي، لخر زميلك إلى جوارك صريعا، ولحقك العار ما دمت حيا.»
فأجاب المسيحي: «وحق مهندي أيها العربي لأصارحك القول، لقد ظننت ذلك الجسم الغريب شيطانا من بني جنسك، ولم أدر أي سر عائلي بينكما تتبادلان فيه الحديث، وأنتما تتمرغان معا فوق الرمال.»
فقال العربي: «هذه السخرية منك يا أخي كنث رد غير مقبول؛ ولتعلم أن لو كان مهاجمي هو الشيطان عينه، لكان حتما عليك - مع ذلك - أن تنازله القتال في سبيل رفيقك، واعلم كذلك أنه إن كان بهاماكو مس من جن أو شيطان، فهو أقرب إلى منبتك منه إلى منبتي، فما هاماكو هذا في الحق إلا الناسك الذي أتيت إليه حاجا.»
فأجاب السير كنث، وقد نظر إلى الجسم الماثل أمامه ممشوق القد، وإن يكن منهوك القوي، وقال: «هذا! هذا! إنما أنت تهزأ أيها العربي، وما هذا بتيودوريك الوقور!»
فرد عليه شيركوه وقال: «سله إن كنت لا تصدقني!» ولم تكد تخرج الكلمات من فيه حتى شهد الناسك على نفسه وقال: «أنا تيودوريك، رجل عين جدة، أنا المشاء في الصحراء، أنا صاحب الصليب، وسوط الكبار والمنافقين وأتباع الشيطان. عني! عني! ليهلك الكفرة جميعا.» ثم استل - وهو يتكلم - من تحت جلبابه المشعث شيئا يشبه أن يكون مطرقة أو هراوة ذات مفاصل موثوقة بالحديد، وهزها فوق رأسه بمهارة فائقة.»
وقال العربي: «ها أنت ذا تشهد قديسك!» ثم ضحك لأول مرة من السير كنث، وقد نظر «كنث» بدهشة ما بعدها دهشة إلى حركات تيودوريك الوحشية، وأنصت إليه يتمتم تمتمة عجيبة، بعدما لوح بعصاه هنا وهناك، وكأنه لا يعبأ أعلى رأس العربي وقعت أم على رأس المسيحي، وأخيرا ضرب بها صخرا إلى جانبه، فتهشم الصخر فتاتا، وظهرت من الرجل قوته ومتانة سلاحه.
فقال السير كنث: «هذا رجل مجنون.»
ورد عليه المسلم، وتكلم وفقا للعقيدة الشرقية المعروفة، التي ترى أن المجنون رجل تحت تأثير الوحي المباشر وقال: «وليس هذا أسوأ القديسين. اعلم أيها المسيحي أنه إذا انطفأ من إحدى العينين نور اتقد في الأخرى الضياء، وإذا بترت إحدى اليدين قويت اليد الأخرى، وكذلك إذا اضطرب العقل أو فسد تفكيره في أمور البشر، اتجهت البصيرة نحو السماء وهي أشد نفاذا وأتم كمالا.»
وهنا غاص صوت العربي في صوت الراهب إذ أخذ هذا يهلل بصوت عال ويترنم بنغم خشن ويقول: «أنا تيودوريك، رجل عين جدة، أنا جذوة الصحراء، أنا سوط المنافقين، الأسد والنمر - رفيقاي - يدنوان من غارتي يحتميان، ولن تخشى مخالبهما بعد اليوم عنز؛ أنا المشعل والمصباح، رحماك اللهم!»
ولما فرغ من غنائه هرول قليلا، ثم قفز إلى الأمام ثلاث قفزات، لو أنه أداها في حفل رياضي لحاز عليها كثير الثناء، ولكنها لم تلق به كراهب، حتى إن الفارس الاسكتلندي تحير وارتبك.
وكأن العربي قد كان لحركاته هذه أدق فهما فقال: «ألا ترى أنه يريدنا على أن نتبعه إلى غاره فنحتمي هناك ليلتنا؛ أنت النمر، ويشهد بذلك هذا الرسم فوق درعك؛ وأنا الأسد، ويدل على هذا اسمي؛ وبالعنز يشير إلى ردائه - وهو من جلدها - ويعني نفسه؛ لنجعله أبدا تحت أبصارنا فهو سريع العدو كالهجين.»
وكان ذلك عليهما شاقا، إذ إن قائدهما الوقور كان حقا يقف الفينة بعد الفينة، ويلوح بيده يحثهما على المسير، ولكنه كان جد خبير بالأودية الملتوية وطرق الصحراء، وقد وهبه الله خفة غير مألوفة، ربما ساعده على الإبقاء عليها دائبة النشاط عقل غير متزن؛ ولكنه كان يسير بهما في خلوات وطرقات، أحس فيها العربي - على خفة سلاحه ودربة جواده - بالخطر الشديد، فما بالك بالأوروبي، وهو مدرع بالحديد، وجواده مثقل بالأحمال؛ لقد ألفى نفسه والخطر يحدق به فود لو استعاض بهذه المخاطر معركة حامية الوطيس؛ ولشد ما كان سروره حينما رأى - بعد هذا العدو الوحشي - ذلك الرجل المقدس، الذي هداهما الطريق، وقد وقف لدى كهف، وبيده مشعل يتألف من عصا خشبية منغمسة في القار، يشع منها ضياء يتذبذب في شدة، وتفوح منه رائحة الكبريت في قوة.
لم يرتد الفارس من هذا البخار الخانق، وإنما رمى بنفسه من فوق جواده وولج الكهف الذي كان ظاهره لا يدل على توفر الراحة فيه؛ وكان الغار مقسما قسمين: خارجيا به مذبح من الحجر وصليب من القصب، وكان الناسك يتخذ من هذا المكان كنيسة له؛ وإلى جانب هذا الكهف الخارجي وثق الفارس المسيحي جواده، وأعده للمبيت، محتذيا في ذلك حذو العربي الذي أفهمه أن هذا من تقاليد ذلك المكان، ولكن المسيحي لم يخل من وسواس الشك، دب فيه مما كان يحيطه من مظاهر كان لها في نفسه احترام ديني؛ وفي غضون ذلك كان الناسك يشتغل بتنسيق الغرفة الداخلية كي يستقبل ضيفيه، وسرعان ما لحقا به هناك؛ وكان في داخل الكهف الخارجي فرجة صغيرة تغلق بباب من الخشب الخشن، وتؤدي إلى غرفة فسيحة كان يتخذها الناسك للنوم؛ وكان سطح الأرض بالكهف خشنا رغم جهد ساكنه في تسويته، مفروشا برمل أبيض اعتاد أن ينثر الناسك الماء فوقه كل يوم، يأتي به من عين صغيرة تنفجر في الصخر في إحدى زوايا المكان، وتمد الإنسان في ذلك الجو الخانق بماء عذب المذاق، خريره لذيذ المسمع؛ وفي جانب من جوانب الغار وضعت بعض الحشايا المصنوعة من الأعلام الملتفة؛ وجدر الكهف - كأديمه - خشنة الملمس، رغم جهد باد في تسويتها، وقد علقت عليها الأعشاب والزهور، وأشعل الناسك مشعلين من الشمع نشرا جوا طيبا في المكان، الذي بات بشذاه وبرودته حبيبا إلى النفس.
وكانت في إحدى زوايا الغرفة أدوات من آلات العمل، وفي زوايا أخرى فجوة ينتصب فيها تمثال العذراء خشن غليظ؛ وبالغرفة كذلك مائدة ومقعدان، يدل ظاهرها على أنها من صنع الناسك، فهي تختلف في هيئتها عن الأثاث الشرقي. أما المائدة فكان ينتثر عليها القصب والبقل، وعليها لحم مجفف، أحكم تيودوريك وضعه بحيث يسيل لعاب زائريه؛ ولم يستطع السير كنث البتة أن يوفق بين مظاهر الجود هذه - على أن الناسك كان يقوم بها في صمت، ولا يعبر عنها إلا بالإشارة - وبين مسلكه المتوحش العنيف من قبل؛ وقد أضحى الراهب بعد ذلك متزن الحركات؛ ولئن كان هزيل الملامح من أثر العيش الشظيف، لا تبدو عليه أمارات النبل والجلال، فما ذلك إلا لإحساسه بضرورة التواضع الذي يمليه عليه الدين؛ وكان ينتقل في كهفه، وكأنه رجل ولد ليحكم بين الناس، ولكنه تخلى عن دولته كي يخلص لعبادة الله؛ ولكنه كان رغم ذلك رجلا كبير الحجم، له خصل من الشعر مرسلة طويلة، ولحية لم يمد إليها يده بالتشذيب، وعينان وحشيتان غائرتان يتطاير منهما الشرر، وهذه من صفات الجندية لا من صفات الرهبنة.
حتى إن العربي نفسه لم يسعه إلا أن ينظر إلى هذا الناسك - وهو مشتغل بعمله - بعين التبجيل، فأسر إلى السير كنث في صوت خافت، وقال: «ألا ترى أن هاماكو الآن هادئ البال، إنه لن يتحدث إلينا حتى نفرغ من الطعام، وهذا عهد أخذه على نفسه.»
وبعدئذ أشار تيودوريك في صمت إلى الرجل الاسكتلندي كي يستوي على مقعد من المقاعد المنخفضة، بينما جلس شيركوه - كما يجلس بنو قومه - على حشية من الحصير، وعندئذ رفع الراهب بكلتا يديه كأنه يبارك الطعام الذي قدمه إلى ضيفيه، وشرعا يأكلان في صمت عميق كصمت المضيف، وكان هذا الجد المخيم فوق المكان أمرا طبيعيا للرجل العربي، فلبث صامتا، وحذا المسيحي حذوه، ولكنه أخذ يفكر في هذا الموقف الشاذ الذي انتهى إليه، وفي التباين الشاسع بين تيودوريك، لما التقيا به أول الأمر، وهو كالوحش يلوح بالإشارة من شدة الغضب، عالي الصرخات، عنيف الحركات، وبينه الآن، وهو يقوم بواجب الجود والضيافة في ثبات وحزم، وقورا كريم الوفادة.
وفرغا من تناول الطعام، ولم يتبلغ الناسك بلقمة، وأخذ يزيل الفتات من المائدة، ثم وضع أمام العربي إبريقا من شراب سائغ، وخص الاسكتلندي بزجاجة من النبيذ.
وشق صمته بهذا الخطاب: «اشربا، ابني، فإن لنا أن نستمتع بنعم الله ما دمنا له ذاكرين.»
ولما أتم حديثه أوى إلى الكهف الخارجي كي يؤدي صلاته لله، وخلف ضيفيه معا في الغرفة الداخلية؛ وحينئذ أخذ السير كنث يحاول بمختلف الأسئلة أن يستخلص من الأمير شيركوه كل ما يعرف عن مضيفه، ولم يكن في استجوابه هذا مدفوعا بحب التطلع فحسب؛ إذ كان عسيرا على السير كنث أن يلائم بين الراهب في تهور خلقه حينما بدا لهما بادئ الأمر، وبينه وهو في تواضعه وسكونه من بعد، ومحال عليه أن يوفق بين ذلك وبين ما كان يعلم من قبل مما لهذا الراهب من المكانة العالية في قلوب الكثير من رجال الدين المستنيرين في العالم المسيحي، فلقد كان تيودوريك راهب عين جدة - كما عرفه السير كنث - يراسل البابوات ومجامع الدين، ويصف لهم في رسائله، في بلاغة وحماسة، ما كان يصيب به الكافرون المسيحيين اللاتين في الأرض المقدسة من ألوان من الشقاء لا تكاد تقل شدة عما كان يوقعه بطرس الناسك في مجمع «كليرمنت» حينما كان يبشر بالحرب الصليبية الأولى؛ فلما رأى الفارس المسيحي من تيودوريك - وهو ذلك الرجل الوقور، وذلك الشخص المبجل - من حركات الجنون ما لا يليق إلا «بفقير» مخبول، تردد قبل أن تصح عزيمته على أن يبلغه تلك الأمور الهامة التي حملها إياه جماعة من قواد الحرب الصليبية.
وكان من أولى الأغراض التي أتى من أجلها السير كنث حاجا، سالكا طريقا غير مطروقة، أن يبلغ الناسك ما حمل من رسائل، ولكن ما شاهده في ذلك المساء دفعه إلى الصمت والتبصر قبل أن يبوح بما عهد إليه؛ ولم يستخلص من الأمير كثيرا من الحقائق، ومجمل ما قال العربي إن الناسك - كما روى له - كان في يوم من الأيام جنديا شجاعا جسورا، حكيما في مشورته، ومجدودا في ساحات القتال؛ وأنه (أي العربي) آمن بذلك لما شاهد من القوة البارعة والحركة الخفيفة يبديهما الناسك في كثير من الأحيان، وقال : «إنه لم يظهر في بيت المقدس في شخص حاج، وإنما في شخص رجل وقف بقية العمر للإقامة بالأرض المقدسة، وبعد زمن وجيز استقر به المقام وسط تلك المجاهل المهجورة التي ألفياه بها، وأن اللاتين يبجلونه لشدة إخلاصه لربه، كما يحترمه الترك والعرب لما يبدو عليه من أعراض الجنون التي ينسبونها إلى الوحي، وهم الذين أطلقوا عليه اسم «هاماكو» وهي كلمة تركية تدل على هذه الصفات، وقد تحير شيركوه نفسه كيف يقدر مضيفه، فقد كان - كما قال - رجلا حكيما، يستطيع حينا أن يلقي دروسا في الفضيلة والحكمة ساعات متواصلة دون أن يزل ولو قليلا، وحينا آخر تراه متوحشا عنيفا؛ ولكنه لم يشاهده قط من قبل شديد الميل لفعل الشر كما بدا لهما في ذلك اليوم؛ وأشد ما كان يثير غضبه إهانة تلحق بدينه. ومما يروى عنه أن جماعة من العرب الرحل اعتدوا عليه في الصلاة، وشوهوا له ظاهر مذبحه، فهاجمهم وقضى عليهم بسوطه القصير الذي كان يحمله عوضا عن كل سلاح آخر. وقد أثار هذا الحادث ضجيجا قويا، وباتت القبائل الجوالة تخشى من الناسك وقع مطرقته الحديدية، كما تنظر إليه ك «هاماكو»، فأصبحوا يحترمون مسكنه ومعبده؛ وقد اتسع مدى صيته حتى إن صلاح الدين أصدر أمرا خاصا بحمايته والتخلي عنه، قد أتى بنفسه أكثر من مرة، مع غيره من كبار المسلمين، زائرين للغار، مدفوعين بحب التطلع من ناحية، ومرتقبين من ناحية أخرى، من رجل عليم كهاماكو المسيحي أن ينفذ ببصيرته في غياهب الغيب؛ ثم استطرد العربي قائلا: «وكان له مرصد عظيم الارتفاع، يرقب منه نجوم السماء وكواكبها، وهي التي بحركاتها وتأثيرها، تسير كل ما يقع للإنسان من أحداث، وتعيننا على التنبؤ، وذلك من عقائد المسيحيين والمسلمين على السواء.»
هذي خلاصة ما كان يعلم الأمير شيركوه عن الناسك، سمعها السير كنث فداخلته الريبة في طبيعة الجنون الذي تلبس به الراهب: هل هو من فرط حمى الحماسة تنتابه الحين بعد الآخر، أو هو وهم يتكلفه كي يفيد من حصانته. وعلى أي الحالين، يظهر أن المسلمين قد بالغوا في احترامه مبالغة شديدة رغم عداوته الصريحة لما يعتقدون، وظن السير كنث كذلك أن بين العربي والناسك تعارفا وقربى أكثر مما كان العربي بكلماته يريده على أن يعتقد، ولم يفته أن الناسك كان يدعو العربي باسم يختلف عما ادعى هذا لنفسه؛ هذه الظروف جميعا أوحت إلى السير كنث بالحرص، بل وبالشك، فعزم على أن يرقب مضيفه عن كثب وألا يتعجل بإبلاغه الرسالة الهامة التي وكلت إليه.
فقال: «حذار أيها العربي! إنني يخيل لي أن مضيفنا يسبح بخياله في الأسماء كما يسبح في غيرها من أمور، أليس اسمك شيركوه، وقد ناداك الآن باسم آخر؟»
فأجاب الكردي: «كان اسمي في خباء أبي «الضريم» وما زال الكثير يناديني بهذا الاسم؛ أما في ساحة الوغى وبين الجنود، فأنا أعرف ب «أسد الجبل»، وهو اسم أكسبنيه حسامي الباتر، ولكن صه الآن يا صاح، فإني أرى هاماكو مقبلا يدعونا إلى الراحة، وأنا أعرف عادته، وهي ألا يرقبه أحد وهو ساهر على ذكر الله.»
وآنئذ دخل الناسك ومثل أمامهما، ويداه على صدره، ثم قال بصوت وقور «الحمد لله الذي جعل الليل لباسا، وجعل النهار معاشا؛ وجعل لنا في هدأة النوم راحة للجسم المنهوك، وطمأنينة للنفس المضطربة.»
فرد عليه المحاربان معا وقالا: «اللهم آمين.» ثم نهضا من المائدة وتأهبا لأن يأويا إلى فراشهما، وقد أشار إليه مضيفهما بيده، ثم ترك الغرفة ثانية بعد أن حياهما معا.
و حينئذ جرد فارس النمر نفسه من سلاحه الثقيل، وقد أخذ زميله العربي يعاونه برفق في خلع درعه وحل أربطته، حتى لم يعد يستتر إلا برداء ضيق من جلد الغزال، كان الفرسان ورجال الحرب يلبسونه تحت السلاح. وإذا كان العربي قد أعجب بقوة نده - وهو مسلح بالحديد - فهو الآن أشد إعجابا بدقة التناسق البادية في جسمه المعروق المفتول العضل؛ وكأن الفارس بدوره قد أراد أن يرد الجميل بالجميل، فمد يد المعونة إلى العربي يعينه على خلع ما تدثر به من لباس حتى يستطيع أن ينام وهو طليق الجسم ، ولشد ما كانت دهشته إذ رأى أطرافا رقيقة وجسما نحيلا، لا يتفق وما أبدى صاحبه من بأس في النزال.
وقبل أن يأوي الفارسان إلى الفراش توجها إلى الله بالصلاة؛ أما المسلم فيمم شطر «القبلة» وهي المركز الذي يتوجه إليه أتباع محمد في الصلاة، وتمتم بالدعاء - بينما انسلخ المسيحي من المكان - وقد تدنس بجوار صاحبه الملحد
4
ونصب حساما ضخما، له يد على هيئة الصليب، جعل منه رمزا للخلاص، وسجد أمامه وأخذ يدعو الله بقلب خاشع، زاده خشوعا ذكرى الفيافي التي شق عبابها، والمخاطر التي نجا منها أثناء النهار؛ وسرعان ما غلب على صاحبينا النعاس، وقد رقد كل منهما على سرير من الحطب، منهوكا من تعب الرحيل وشدة الإعياء.
الفصل الرابع
لم يدر السير كنث الاسكتلندي كم لبث غارقا في سبات عميق، حينما أحس بضغط على صدره، فثاب إلى يقظته، وقد ظن ذلك الضغط أول الأمر أضغاث أحلام يصارع فيها خصما قويا، ثم تنبهت حواسه أخيرا، وكاد أن يسأل: «من هنا؟» حينما فتح عينيه فشهد شبح الناسك، وحشي المظهر، مفترس النظرات - كما وصفنا - ماثلا بجانبه، وقد ضغط بيمناه على صدره، وأمسك بيسراه مصباحا صغيرا من الفضة.
رفع الفارس عينيه مذهولا وهو مستلق على ظهره، فقال الناسك: «صه! إنني أريد أن أحدثك حديثا لا يسمعه هذا المسلم.»
وتكلم بالفرنسية ولم يلجأ إلى اللغة الفرنجية، وهي مزيج من لهجات الشرق والغرب كانت حتى ذلك الحين وسيلة التفاهم بينهما.
ثم استأنف الحديث وقال: «انهض وارتد عباءتك ولا تنبس ببنت شفة وخفف الوطأ واتبعني.»
فنهض السير كنث وامتشق حسامه.
ثم همس الناسك في أذنه وقال: «دع هذا، إنما نحن ذاهبون إلى حيث سلاح الروح يغنيك عن الشيء الكثير، وما هذه الأسلحة المادية إلا قصب وقشور هشة.»
فطرح الفارس حسامه إلى جوار سريره حيث كان من قبل، وتأهب لمرافقة مضيفه غريب الأطوار، ولم يتسلح بغير خنجره الذي لم يفارقه طوال مسيره في هذه البلاد المحفوفة بالأخطار.
وحينئذ تقدم الناسك إلى الأمام على مهل، والفارس يتبعه ، ومازالت تساوره الظنون، ويخشى أن يكون الشبح المظلم، الذي يتسلل أمامه كي يهديه الطريق، ما هو إلا من خلق الأحلام المزعجة، ثم مرا بالغرفة الخارجية، وكأنهما ظل يتحرك، فلم يزعجا الأمير المسلم - وقد ظل مستلقيا غارقا في سباته - وبلغا الصليب والمذبح في الغرفة الخارجية، وكان أمامهما مصباح ما فتئ يتحرق، وإلى جواره كتاب من كتب الدعوات الدينية، وعلى الأرض سوط أو ألهوب للتوبة مفتول من الحبال والأسلاك الدقيقة، خيوطه ملطخة بدم لم يجف، دليلا قاطعا على صرامة الناسك على نفسه في توبته؛ وهنا خر تيودوريك راكعا، وأشار إلى الفارس أن يتخذ لنفسه مكانا إلى جواره فوق الزناد المدبب، وكأنه إنما ألقي هناك كي يبلغ العسر أشده حينما يتأهب الراهب للتوجه إلى الله بالدعاء، ثم قرأ كثيرا من دعوات الكنيسة الكاثوليكية، وأخذ يترنم في صوت خافت، تمازجه نغمات الجد، بثلاثة من مزامير التوبة، وقد اختلط ترنيمه بالتأوه والدموع، وتهدج صوته بالبكاء المرير، وكان في ذلك شاهد على شدة تأثره بالشعر الديني الذي كان يرتله، وحينئذ دب في قلب الفارس الاسكتلندي إخلاص عميق من أثر هذه الحركات في تنسك الراهب، وأخذت ظنونه في مضيفه إذ ذاك تتحول وتتبدل، حتى أوشك أن يعتقد فيه القداسة من قسوته في التوبة، وإخلاصه في الصلاة؛ ولما هبا من صلاتهما وقف أمامه إجلالا له، كأنه طالب أمام أستاذ وقور، وقد أشار إلى ركن بعيد من أركان الكهف: «فتش في تلك الفجوة يا بني تجد حجابا. هاته هنا.»
فانصاع الفارس وألفى الحجاب المطلوب في فرجة ضيقة قدت في الحائط، واستترت بباب من أغصان الصفصاف المجدولة، ولما أتى به إلى الضياء ألفاه ممزقا وملطخا في بعض أنحائه بمادة سوداء، ثم تفرسه الناسك بعاطفة قوية مكبوتة، واضطر أن ينفس عن مشاعره بأنة من الأعماق قبل أن يتحدث إلى الفارس الاسكتلندي.
وأخيرا قال: «عما قريب تشهد أغنى ما ملكت الأرض من كنوز، يا ويلتي! إن عيني غير جديرتين بالنظر إليه! يا حسرتى! إنما أنا مرشد حقير وضيع، ليس لي إلا أن أهدي المسافر المنهوك إلى موئل الدعة والراحة، وأن أظل أبدا طريد الديار؛ عبثا أفر إلى حنايا الصخور، أو إلى قلب الصحراء المجدبة؛ لقد عثر بي خصمي وطاردني إلى حصني رغم تنكري له!»
وسكت هنيهة ثم التفت إلى الفارس الاسكتلندي وقال في صوت أشد ثباتا في نغمه: «هل أتيتني بتحية من رتشارد ملك إنجلترا؟»
فأجاب الفارس: «إنما أتيت من مجمع الأمراء المسيحيين، وأما ملك إنجلترا فلم أتشرف بأن آتمر لجلالته، فهو عن ذلك راغب.»
فأجابه الناسك وقال: «هات دليلك.»
فتردد السير كنث، واندفعت توا إلى رأسه الشكوك التي ساورته من قبل، وتذكر أمارات الجنون التي بدت على الراهب آنفا، ولكن كيف له أن يرتاب في رجل له هذه القداسة في مسلكه؟ وأخيرا قال: «جوازي هذه الكلمة: الملوك يتوسلون إلى المتسولة.»
ثم سكت ورد الناسك قائلا: «لقد أصبت، وإني لأعرفك حق المعرفة، ولكني قائم على أمر هام؛ والحارس في حراسته يتحدى الصديق كما يتحدى العدو.»
ثم سار قدما والمصباح في يده، وتقدم قصد الغرفة التي خلفاها، والعربي ما يزال راقدا في سريره، غارقا في نومه، فوقف الناسك إلى جواره ورمقه بنظرة ثم قال: «إنه ينام في الظلام ويجب ألا يستيقظ.»
وكان الأمير في رقدته يوحي إلى الرائي أنه حقا في سبات عميق، فقد استلقى متجها نحو الحائط بنصف وجهه، وإحدى ذراعيه ممتدة عبر جسمه، وقد حجب أكثر وجهه بكمه الواسع الطويل، ولكن جبينه العالي ما زال باديا، وسكنت عروقه التي كانت دائبة التدفق وهو في يقظته، وأضحى وجهه كالمرمر الأسود، وأهداب جفونه الطويلة الناعمة كالحرير تنطبق على أعين نافذة كعيون الصقر، ويده مبسوطة مسترخية، وأنفاسه عميقة هادئة تتوالى في انتظام؛ وكل ذلك دليل على سبات عميق، وما كان أعجب تلك الجماعة التي تتألف من هذا النائم وذينك الشبحين الطويلين، أحدهما الناسك مرتديا جلد العنز المشعث وبيده المصباح، والآخر الفارس في سترة ضيقة من الجلد، وعلى وجه الناسك أمارة قوية من اكتئاب التقشف، وأما الفارس فقد انطبعت طلعة المشوق على ملامحه المسترجلة انطباعا قويا.
وقال الناسك بنغم خافت كالذي كان من قبل: «إنه في نوم عميق.» ثم ردد هذه الكلمات، ولكنه لم يقصد بها هذه المرة إلى معناها اللفظي، وإنما كان يرمي إلى معنى مجازي، قال: «إنه ينام في الظلام، ولكن عما قريب يطالعه الفجر. أيها «الضريم»! ما أشبه أحلام يقظتك في عبثها وتوحشها بالرؤى التي ترقص مترنحة في خيالك وأنت نائم، ولكن عما قريب تدق الطبول وتتبدد الأحلام.»
وهكذا أتم الناسك حديثه وأشار إلى الفارس أن يتبعه، ثم سار نحو المذبح ومر وراءه وضغط على زنبرك، فانفرج - دون ضجيج - عن باب صغير من الحديد شق في قلب الكهف، ويكاد لا يلمحه البصر بغير الإمعان الدقيق، وقبل أن يجسر الراهب على فتح الباب على مصراعيه صب على مفاصله من المصباح قليلا من الزيت، ولما انفتح الباب الحديد أخيرا بأكمله، انكشف للرائي سلم صغير نحت في الصخر.
وهنا قال الناسك في صوت حزين: «خذ هذا القناع من يدي واحجب به عيني فليس لي أن أشهد الكنز الذي سوف تقع عليه عيناك عما قريب، وإلا كان إثما مني وعدوانا.»
ولم يجبه الفارس بكلمة وإنما أسرع إليه وكمم رأسه بالحجاب، ثم شرع الناسك يصعد السلم، وكأنه رجل تعود الطريق بحيث لا يحتاج إلى ضياء، ولكنه كان يمسك بالمصباح للاسكتلندي الذي تابع خطاه على الدرج متسلقا ذلك المصعد الضيق، وأخيرا بلغا بهوا صغيرا ليس له هيئة منظمة، ينتهي الدرج إلى أحد أركانه، ويرى في ركن آخر درج آخر يقابله ويستأنف صعوده، وفي زاوية ثالثة باب قوطي يتجمل جمالا ساذجا بما تتميز به عادة العمد والصخور المنحوتة ويحتمي بباب صغير اشتبكت فيه قضبان الحديد ودقت فيه المسامير، وقد قصد الناسك إلى هذا المكان الأخير، وكلما اقترب منه تعثر في خطاه.
ثم قال لرفيقه: «اخلع نعليك فإن الأرض التي تطؤها أرض مقدسة، واطرد من دخيلة قلبك كل فكر أو شهوة دنسة، فإنه كفر ما بعده كفر أن تضم إلى صدرك مثل هذه الرغبات في هذا المكان.»
فصدع الفارس بما أمر، وخلع نعليه، ووقف الناسك حينذاك وكأنه قد أرسل الروح في صلاة صامتة، ثم تحرك ثانية وأمر الفارس أن يقرع الباب الصغير ثلاثا، ففعل الرجل، وخيل للسير كنث أن الباب قد انفتح من تلقائه؛ إذ لم تقع عينه على أحد، وهب على حواسه تيار من ضياء نقي يخطف البصر، وشذى عبق قوي يأخذ بمجامع الحس، فرجع القهقرى خطوتين أو ثلاثا، ولم تمض دقيقة حتى أحس بالتغير المفاجئ من ظلام إلى ضياء يكاد من شدته يبهر البصر ويهد القوي.
ثم دخل الغرفة التي كان يخرج منها هذا الضياء البراق، ورأى أن النور كان يشع من مجموعة من المصابيح الفضية، تشتعل بزيت نقي، وتنشر أنفس العطور، معلقة بسلاسل من الفضة بسقف كنيسة صغيرة قوطية شقت - كأكثر أرجاء دار الناسك الفريدة - في الصخر المصمت الصلب. وبينما كانت الصخور في كل مكان آخر وقع عليه بصر السير كنث تدل على أن يد الإنسان لم تمتد إليها إلا بتسوية خشنة ساذجة، كانت هذه الكنيسة تشهد بأن الإنسان قد استخدم فيها أقدر المختصين بفن البناء بأزاميلهم وكل مبتكر من فنهم، فلقد كانت السقوف ذات الأضلع المتصالبة ترتكز على ستة أعمدة في كل جانب، نقشت بمهارة نادرة، والقباب المقعرة تتقاطع في جمال متسق، وكل شيء يدل على انسجام تام في الفن وملاءمة لروح العصر، ويقابل صف الأعمدة على كلا الجانبين فجوات ست بديعة الصنع، في كل منها تمثال لواحد من الرسل الاثني عشر.
وأقيم مذبح الكنيسة في طرفها الأعلى ناحية الشرق، وإلى ورائه ستار نفيس من الحرير الفارسي مزركش بالذهب الكثير، ويحجب مكانا خفيا لا شك في أنه يحتوي على تمثال أو أثر له قدسية غير مألوفة، وقد أقيم هذا المعبد الفريد تمجيدا له؛ وتوهم الفارس ذلك، فتقدم إلى الضريح وركع أمامه، وردد دعاءه بحرارة من القلب؛ وإذ هو كذلك، إذا بالستار يرتفع بغتة، أو لعله جذب إلى أحد الجانبين، فاضطرب الفارس في انتباهه، ولم ير كيف ارتفع الستار، أو من ذا الذي أزاحه، ولكنه رأى في الكن الذي انكشف خزانة من الفضة والأبنوس لها باب مزدوج، وكل شيء صنع على غرار كنيسة قوطية.
تطلع الفارس إلى الضريح بشوق قلق وإذا بالباب المزدوج ينفرج ويكشف عن كتلة من الخشب نقشت عليها هذه الكلمات «الصليب الحق». وفي تلك الآونة كانت بطانة من النساء ترتل نشيد «المجد لله»؛ وفي اللحظة التي انقطع فيها الغناء، أغلق الضريح وأرخي السجاف ثانية، وكان الفارس - وقد ركع لدى المذبح - يستطيع أن يواصل دعاءه دون اضطراب تمجيدا للأثر المقدس الذي تجلى لبصره منذ حين، وقد فعل ذلك تحت تأثير عظيم، يحس به كل من رأى بعيني رأسه شاهدا قويا على صدق دينه، واختتم صلاته، ثم هب وقد تشجع على أن يبحث حواليه عن الراهب الذي أتى به إلى هذا المكان المقدس المسحور، فوقعت عليه عينه وما فتئ رأسه مكمما بالقناع الذي كان قد لفه بنفسه حوله، واستلقى كالكلب الذليل لدى باب الكنيسة، ولكنه لم يجسر على وطئها؛ وقد كان في ذلك الوضع الذي اتخذه دلالة قوية على مقدار قداسته، وعلى توبته وندمه، فقد استلقى كرجل آده عبء فادح من إحساس باطني عميق، فخر طريح الأرض مغلوبا على أمره، وخيل للاسكتلندي أن الرجل ببنيته القوية وروحه المشتعل، لن ينكب على وجهه إلا إذا غلبه إحساس عميق بالتوبة والندم والخضوع.
فاقترب منه وكأنه يريد أن يتحدث إليه، ولكن الناسك أدرك مرماه، فتمتم في صوت مختنق من خلف الوثاق الذي كان يكمم رأسه، فرنت نبراته وكأنها صوت ينبعث من جثة هامدة في كفن وقال: «انتظر، فالمشهد لما ينته، ولتسعد بمرآه.» ثم نهض من فوق الأرض، وتقهقر من لدى المدخل حيث كان منكبا على وجهه، وأغلق باب الكنيسة، الذي كان يحكمه من الداخل مزلاج حلزوني كان له صرير رن صداه في أرجاء المكان، وهذا الباب لا يختلف في ظاهره عن الصخر ذاته الذي شق فيه الكهف، حتى إن كنث لم يكد يتبين أن هناك منفذا، وأصبح الآن وحيدا في الكنيسة المضاءة التي كان بداخلها الأثر الذي أدى له واجب الطاعة منذ حين، ولا سلاح له غير خنجره، ولا رفيق غير فكر ديني يخالجه، وشجاعة لا تعرف الخوف تتملكه.
ولم يدر السير كنث ماذا عسى أن يقع بعد ذلك من حدث، وإنما اعتزم أن يتابع مسير الحوادث، فضرب في أرجاء هذه الكنيسة المهجورة، حتى أوشكت الديكة أن تصيح عند منبثق الصباح؛ وفي ذلك الزمن الموات، حينما يعانق الليل النهار، رن في أذن السير كنث صوت لم يتبين مأتاه، صوت شيبه رنين جرس صغير من الفضة، يدق حين يهب مضيفه من مرقده كي يقيم الصلاة أو يقدم القربان - على حد تعبيره - ولقد جعلت ظروف الزمان والمكان ذلك الصوت جد جليل، فانكمش الفارس - رغم جرأته - إلى أقصى أركان المعبد في الطرف المقابل للمذبح كي يرقب بغير اضطراب ما قد ينجم عن ذلك النذير.
ولم يلبث طويلا حتى أزيح الستار الحريري ثانية، ومثل الأثر لعينيه من جديد، فخر على ركبتيه إجلالا واستمع إلى أصوات نسوية ترتل نشيدا أو ترسل دعاء الكنيسة الكاثوليكية مبكرة، وقد تآلفت في الأداء كما تآلفت في الصلاة الأولى. وسرعان ما أدرك الفارس أن الأصوات لم تعد تنبعث من مكان ثابت، وإنما كانت تدنو من الكنيسة وتعلو رويدا رويدا، وإذا بباب في الجانب الآخر من البهو ينفتح ثم يوصد فلا يظهر له أثر، كذلك الباب الذي دخل منه، فتجد بذلك أنغام المرتلات فسحة ترن فيها، ثم ترددها قباب السقف ذات الضلوع.
وحينئذ صوب الفارس بصره نحو الباب، وأنفاسه تكاد تتقطع من شدة الهلع، ولكنه ظل راكعا على هيئة المصلي، وهي الهيئة التي كان يتطلبها هذا المكان وذلك المشهد، ثم أخذ يترقب ماذا عسى أن ينتهي إليه ذلك الإعداد، وإذا بموكب يتراءى له، وقد أوشك أن يلج من الباب، يتقدمه ولدان أربعة، عليهم سيماء الجمال، عري الأذرع والرقاب والسوق، فبدا منهم ذلك اللون البرنزي - لون أهل الشرق - تقابله قمص قصيرة ناصعة البياض، كانوا يرتدونها وهم مقبلون على المعبد مثنى مثنى، وقد حمل الاثنان المتقدمان مبخرتين لوحا بهما يمنة ويسرة، فانتشر في الكنيسة عبق على العبق الذي كان من قبل يفعمها، ثم أقبل الاثنان الآخران ينثران الزهور.
وعلى أثر هؤلاء أقبلت النساء اللائي كن يرتلن متتابعات على خير نظام وأحسن ترتيب، وكن ستا، يرتدين على أكتافهن أردية سوداء، ويتحجبن فوق ملابسهن البيض بستر قاتمة، فدللن بأزيائهن على أنهن راهبات محترفات، يتبعن دير «جبل كرمل» ويشبهن الكثيرات غيرهن، اللائي يفصحن بأقنعتهن البيض على أنهن حديثات الترهب، أو زائرات للدير عارضات، لا يربطهن به عهد أو ميثاق؛ وقد أمسك السابقات منهن في أيديهن بالمسابح الكبيرة، ولحق بهن الصغريات، رشيقات القد، ومع كل واحدة منهن إكليل من الزهر الأبيض والأحمر؛ ثم سرن جميعا في حفل يطوفن بالمعبد، ولم يبد عليهن أنهن قد أعرن كنث أدنى التفات، رغم أنهن مررن إلى جواره حتى كادت ملابسهن أن تمسه، وإذ هن يتغنين، لم يشك الفارس في أنه إنما كان في دير من الأديرة التي كان الفتيات المسيحيات النبيلات في الزمن الماضي يقفن أنفسهن صراحة لخدمة الكنيسة فيها، وقد اضطر أكثرهن لأن ينقطعن مذ أعاد المسلمون فتح فلسطين، ولكن كثيرات منهن اشترين الإغضاء عنهن بالهدايا، أو لحقتهن رأفة الظافرين أو احتقارهن لشأنهن، فبقين دون أذى، وواصلن في الخفاء مراعاة الطقوس التي كانت لزاما عليهن بما أخذن على أنفسهن من عهود، وكان كنث يعلم ذلك، ولكن رهبة المكان والزمان، والدهشة التي استولت عليه من مباغتة أولئكن الراهبات، بظهورهن ومسيرهن إلى جواره وكأنهن أطياف الخيال؛كل ذلك كان له على خياله تأثير تعسر عليه معه أن يعتقد أن ذلك الموكب الجميل الذي وقعت عليه عينه كان يتألف من مخلوقات من هذه الدنيا، فما كان أشبههن برتل من كائنات من غير هذا الوجود أتت بالولاء لله المعبود من كل الوجود.
هذا أول ما خطر للفارس لما أن مر به موكب النسوة، وقد كدن أن يتقدمن بمقدار ما يبقيهن متحركات فحسب، حتى بدون وكأنهن ينزلقن ولا يمشين، وقد أظهرهن للعيان الضياء المقدس القاتم الذي كان ينبعث من المصابيح خلال سحب البخور التي كانت تنشر في الغرفة الظلام.
ولكنهن لما درن بالمعبد ثانية، ومررن بالمكان الذي كان يجثو فيه، نزعت إحدى الفتيات اللائي كن يرتدين القمص البيضاء - وهي تسير الهوينى إلى جواره - زهرة ورد من الإكليل الذي كان بيدها، وسقطت الزهرة من بين أصابعها على قدم السير كنث، ولعلها سقطت منها على غير عمد، فذعر الفارس كأن سهما قد أصابه فجأة، وذلك لأن الإنسان إذا أرهف حسه وكان عقله في ارتقاب، كان أتفه الأحداث - إذا وقع على غير انتظار - وقودا لنار الفكر التي يؤججها الخيال، ولكن الفارس أخمد عاطفته إذ أدرك أن أمرا كهذا لا يؤبه له ما أيسره أن يحدث، وأنه لولا أن المرتلات كن يسرن في حركة متكررة مملولة لما كان له أثر يذكر.
ورغم ذلك فقد تابع السير كنث بفكره وبصره واحدة دون سواها من بين أولئك الراهبات الصغيرات، وهن يحطن بموكبهن المعبد ثالثة، وتلك هي التي أسقطت زهرة الورد من يدها، ولكنها كانت في خطوها ووجهها وقوامها على شبه تام بغيرها من المغنيات حتى تعسر على السير كنث أن يلحظ أقل إشارة من مميزاتها الخاصة، ومع ذلك فقد أخذ قلبه يرفرف، كطير حبيس في قفص يريد أن ينطلق، وكأنه يؤكد له بإيحاء ميوله أن الفتاة التي تسير عن يمين الصف الثاني بين الراهبات أقرب إلى قلبه من كل من عداها من الحاضرات، بل ومن كل بنات الجنس اللطيف قاطبة. وتراعي قواعد الفروسية، بل وتحتم على الفارس، أن يوثق الروابط بين عاطفة الحب الشعرية، وشعور الإخلاص لله، الذي لا يقل خيالا وشعرا عن عاطفة الحب نفسها، وهما إحساسان يقوي أحدهما الآخر ولا يتعارضان، ولذا فقد كان السير كنث، ببارقة من الأمل يمازجها إحساس ديني وعاطفة حارة تهزه من قلبه إلى أطراف أنامله، يرتقب لمحة ثانية من تلك التي توهم بكل نفسه أنها جادت عليه بلمحة الرضا مرة من قبل؛ وأتم موكب الفتيات دورة ثالثة حول المعبد في زمن وجيز، ولكنه كان للسير كنث دهرا مخلدا؛ وأخيرا دنا منه ذلك الشبح الذي كان يرقبه بعين لا تني، ولم يكن ثمة فارق بين هذا الجسم المتلفع بالثياب وبين غيره - وقد كن جميعا يسرن مرتلات في صوت واحد مؤتلف النغم - حتى مرت بالصليبي الجاثي على ركبتيه مرة ثالثة واستلت من ثنايا ثوبها الحريري طرفا من يد دقيقة متناسقة، تدل ببراعة جمالها دلالة قوية على كمال التناسق في جسم صاحبتها؛ وبهذه اليد التي انسرقت، كما ينسرق شعاع القمر من سحب كأنها العهن المنفوش في ليلة صائفة، رمت ثانية زهرة ورد على قدمي فارس النمر.
وليس من شك في أن الإيماء لم يكن هذه المرة عارضا، أو جاء مصادفة واتفاقا؛ وما كان أشبه تلك اليد النسوية الجميلة، التي لم يبد غير نصفها، بيد مد إليها بالتقبيل شفتيه يوما، وهو يقسم بقلبه يمين الإخلاص والولاء لصاحبة اليد المعشوقة؛ وهل يحتاج السير كنث إلى دليل آخر؟ وذلك هو الخاتم الياقوتي منقطع النظير يتألق إلى إصبع ناصعة البياض كالجليد، إصبع لو أشارت بها صاحبتها أدنى إشارة لكان لهذه الإشارة في عين السير كنث قدر يفوق ما للياقوتة التي لا تقدر بثمن؛ هذا وقد استطاع الفارس، رغم أن الفتاة كانت مقنعة، أن يرى - إما مصادفة، أو منا منها - ذؤابة من فرعها الفاحم، كل شعرة من شعراتها أنفس لديه مائة مرة من سلسلة من الذهب الخالص. إذن لقد كانت فتاته التي هوي! ولكن أنى لها أن تطرق هذا المكان، هذه الصحراء المقفرة النائية، بين أولئك العذارى اللائي اتخذن المجاهل والكهوف لهن موئلا كي يستطعن أن يؤدين في الخفاء طقوسا مسيحية لا يجرؤن على أدائها علانية وجهرا؟ أحقا وصدقا يرى؟ إنه لا يستطيع التصديق، إنه لا ريب في حلم من الأحلام وغاشية خداعة من غواشي الخيال. وبينما كانت هذه الخواطر تساور السير كنث، إذا بالمسلك الذي زلف منه الفتيات حين دخلن المعبد يتلقاهن ثانية عائدات؛ وأخذ الغلمان الصغار والراهبات المكتئبات ينسلون من الباب المفتوح، ويختفون واحدا بعد الآخر، وأخيرا توارت كذلك تلك التي ألمعت إليه مرتين، وهي إذ تتوارى التفتت التفاتة خفيفة بادية صوب المكان الذي لبث فيه السير كنث راسخا، كالصنم، وقد رأى قناعها وهو يرفرف لآخر مرة. إذن لقد غابت عن عينيه، وحينئذ أحاط بروحه ظلام دامس لا يقل حلوكة عن ذلك الظلام الذي غشي آنئذ ظاهر حواسه، إذ لم تكد تعبر آخر المرتلات عتبة الباب حتى أوصد الباب بصوت مرتفع، وفي هذه اللحظة عينها سكت المغنيات عن الترتيل وأطفئت في الحين أضواء المعبد، ولبث السير كنث وحيدا في ذلك الظلام الشامل، ولكن العزلة والظلام وغموض الموقف المبهم الذي آل إليه، كل ذلك لم يكن للسير كنث شيئا مذكورا، فلم يشغل به الفكر ولم يعبأ به، ولم يكن ليأبه إلا لشيء واحد في هذا الوجود، وذلك هو المشهد الذي مرق منذ حين وانسل من جواره، وما منحته الفتاة من علامات الرضا، فأخذ يتحسس في الظلام فوق الأديم، لعله يعثر على الزهور التي سقطت من يدها، ثم يضم إحداها أو جميعها إلى شفتيه مرة وإلى صدره أخرى، ثم يلصق شفتيه بكل صخر بارد تحدثه نفسه أنها وطئته بقدميها، ثم يقوم بكل عمل شاذ يوحي به الحب المبرح ويبرره لكل من أسلم نفسه للعشق؛ وكان في هذا كله دليل على حرارة الحب، دليل معروف منذ الأزل؛ ولكن من العجيب في عهود الفروسية أن الفارس، وهو في فرط السرور، لا يتطرق إلى خياله أن يتعقب أو يتأثر بغادة تعلق بها قلبه هذا التعلق الشعرى، حتى أصبح ينظر إليها وكأنها إلهة تعطفت فبدت هنيهة لعابد من عبادها المخلصين، ثم آبت إلى ظلام معبدها المقدس، أو كأنها كوكب سيار، بالغ الأثر، أرسل شعاع الرضا في لحظة من لحظات الطالع السعيد، ثم تدثر ثانية في قناع من الضباب. وكانت إشارات هذه الغادة التي تعلق بها قلبه كأنها تصدر عن كائن علوي يتحرك ولا رقيب عليه ولا عتيد، إذا تبدى أفعم قلبه بالسرور، وإذا تغيب غلبه الاكتئاب والخور، فإن رأفت به بعثت فيه الحياة، وإن قست عليه تملكه اليأس والقنوط؛ كل شيء وفق ما تريد، ليس إلى الإلحاف أو المعارضة إليها من سبيل، وليس عليه إلا أن يتوجه إليها مخلصا، يخدمها بقلبه وبسيف الفروسية، وليس له في الحياة إلا مرمى واحد، هو أن يأتمر لها بما تأمر، ويذيع في العالم صيتها بكل ما يستطيع أن يقوم به من عمل جليل.
تلك كانت قواعد الفروسية، وأصول الحب - وهو أسمى مبادئها - ولكن ظروفا خاصة أخرى أحاطت بالسير كنث، فأكسبت تعلقه بهذه الفتاة خيالا وشعرا، ذلك أنه لم يستمع حتى لرنين صوتها، رغم أنه كثيرا ما تأمل جمالها بقلب طروب؛ وكانت تعيش بين جماعة، تخول له مرتبته في سلك الفروسية أن يدنو منها ولا يخالطها؛ وكان حتما على هذا الجندي الاسكتلندي المسكين - رغم علو كعبه في المهارة الحربية وخطط الفروسية - أن يعبد إلهته وهو منها على بعد يكاد يبلغ في مداه تلك الهوة التي تفصل بين الفارس والشمس التي يعبد؛ ولكن متى بلغ بالمرأة الخيلاء حدا تهمل معه مثل هذا الإخلاص الحار يصدر عن قلب عاشق مهما يكن وضيع المقام؟ فلقد كانت ترمقه وهو يتبارى في الطعان، وتستمع إلى محامده فيما يروى كل يوم عن معارك القتال؛ وبينما كان كل «كونت» أو «دوق» أو «لورد» يكافح كي يحظى بنظرة منها، كانت تميل بكل قلبها نحو فارس النمر المسكين، الذي لم يكد يكن له غير حسام يمتشقه ويؤيد به مكانته؛ وربما كان في حبها أول الأمر راغمة، بل ومدفوعة بشعور غير محسوس؛ وكانت إذا نظرت أو أصغت، رأت وسمعت ما يكفي لأن يدفع بها في ميلها هذا الذي تطرق إلى قلبها أول الأمر على حين غرة؛ وإذا رددت يوما أكثر السيدات احتشاما في بلاط إنجلترا العسكري ذكر فارس من الفرسان، وامتدحن فيه جماله، استثنين كنث الاسكتلندي؛ وكثيرا ما كان الأمراء والأشراف يبذلون جزيل العطايا على المنشدين كي يتغنوا بفضائلهم، فيتملك الشعراء روح العدل واستقلال الحكم، ويضربون الأوتار إشادة بذكر رجل لا يملك خيلا ولا حللا يخلعها عليهم جزاء لهم على مدحهم إياه.
باتت اللحظات التي كانت «أديث» بنت الأشراف تستمع فيها إلى الثناء يكال لحبيبها كيلا أحب إلى نفسها بما كان قبل، إذ كانت هذه اللحظات تسري عن قلبها الملق الذي كلت من مسمعه، وتمدها بموضوع جدير بالتأمل العميق، فلقد كان السير كنث - بإجماع الرواة - رجلا أحق بالإجلال من كل من علاه مرتبة أو كان أوفر منه حظا، فأضحت وكل انتباهها معقود بالسير كنث، لا تفكر إلا فيه، وإن تملكها الحرص؛ وكلما أمعنت في التأمل ازدادت وثوقا من ولائه لها، ويقينا أن لها فيه الفارس الذي كتب له أن يقاسمها الحياة، سراءها وضراءها (ومستقبل الأيام مظلم وخطير)، وأن يعقد هواه بهواها، ذلك الهوى الذي عزا إليه شعراء العصر سلطانا شاملا والذي يكاد بتقاليده وفضائله يرتفع إلى حد الإخلاص لله.
ودعني بعد هذا لا أستر على القراء حقيقة الأمر، فليعلموا أن «أديث» كانت فتاة قريبة الصلة بعرش إنجلترا، يحتم عليها كرم الأصل وعزة النفس أن تكتفي بالولاء والإخلاص يظهرهما لها دوما، في صمت، فارسها الذي اختارته لنفسها، ولكنها أدركت كنه ميولها - وهي ذات الميول النبيلة الشريفة - وعلمت أن من اللحظات ما تتحرك فيها مشاعر المرأة في نفسها، المرأة التي تحب وتحب، فتثور عواطفها في وجه قيود العظمة، وتقاليدها، التي كانت تتحوطها من كل جانب، وتنحي على حبيبها باللائمة لحيائه الذي يوسوس له ألا يحطم تلك القيود؛ وإذا جاز لنا أن نعبر بلفظ حديث قلنا إن «إتيكيت» مولدها ومكانتها تلك رسم حولها دائرة سحرية، للسير كنث أن يخفض الرأس أو يرفع البصر ما دام بعيدا عنها، فإن تخطاها فليس له إلا أن يمر، كما يمر الروح إذا استدعاه الساحر العظيم وحظر عليه أن يتخطى الحدود التي رسمها بعصاه، فبدا لها - وهي كارهة - أن تقدم هي، وتمد ولو طرف قدمها الدقيق، وتخرجه عن الحد المرسوم إن أرادت أن تصيب عشيقها الحيي الخجول بلمحة خفيفة من فضلها، وتهيئ له الفرصة كي يقبل رباط حذائها؛ ولقد كان لها في بنت ملك المجر أسوة، إذ تعطفت على شريف من صغار الأشراف وحثته على الإقدام، و«أديث » وإن يكن يجري فيها دم الملوك، إلا أنها ليست من بنات الملوك، وليس كذلك حبيب قلبها من أبناء السوقة، فلم يقم القدر في سبيلهما حاجزا قويا يعترض تبادل الحب بينهما، ولكن إحساسا بالأنفة المتواضعة التي كثيرا ما تكبل الحب بسلاسل من حديد، إحساسا نهاها - رغم علو مكانتها - عن أن تخطو هي الخطوات التي يقضي الاحتشام أن تكون دائما من اختصاص الجنس الآخر. وفوق هذا فإن السير كنث فارس رقيق نبيل، فائق التهذيب، أو قل إن خيالها قد أوحى إليها بذلك وبث فيها شعورا دقيقا بما له وما لها، فمن واجبها - مهما تملكت قلبها العاطفة - أن تتقبل منه صلواته، وهي كتمثال الآلهة التي يسلم المرء بأنها لا تحس ولا تجيب لعبادها ما يقدمون من ولاء، أو كالوثن، تخشى إن هي بكرت بالنزول عن قاعدتها أن ينحط شأنها في عيني عبدها المتفاني.
ولكن العابد المخلص إذا توسل إلى وثن حق، انكشفت له من الوثن أمارات الرضا في ملامح صورته المرمرية، التي لا تلين ولا تتحرك؛ فلا عجب إذن إذا لاحت إشارة في خفاياها معنى القبول من عين أديث البراقة اللامعة، أديث بارعة الجمال، التي كان لها في سحر سيماها جمال يفوق جمال الاتساق والوسامة في ملامحها، والبريق والضياء في بشرتها؛ ولذا بدرت منها - رغم غيرتها وحذرها - دلالات خفيفة؛ ولولا ذلك لما تسنى للسير كنث أن يعرف منها على الفور والحين، وبغير ارتياب، يدها الجميلة التي لم يكد يبدو منها إصبعان من تحت القناع، ولما قر في نفسه اليقين بأن الزهرتين اللتين سقطتا متواليتين في مكان واحد إنما كانتا إلماعا من حبيبة قلبه. ولن نحاول هنا أن نقص كل ما أدى إلى هذا التفاهم المتبادل بين أديث وحبيبها من ملاحظات متوالية، وإشارات خفية، ونظر وتلويح، ومؤاخاة غريزية في الحب، فإنما نحن في ذيل العمر، ولو تحدثنا عن رموز الحب الخفية، تحدانا في القدرة على ذلك شباب له عيون سريعة اللمح في هذه الشئون؛ وحسبنا أن نقول إن هذا الحب قام بين شخصين لم يتبادلا كلمة واحدة، وكانت أديث من ناحيتها تحبس الكلام لإحساسها القوي بالصعاب والأخطار التي لم يكن بد من أن تعترضها في توثيق عرى الروابط بين قلبيهما؛ والفارس من ناحيته تساوره ألوف الشكوك والمخاوف، ويخشى أن يكون مبالغا في تقديره للإشارات الخفيفة التي أومأت بها فتاته، والتي كانت تتخللها - بحكم الضرورة - فترات طويلة يغلب عليها الفتور، وتبدو في غضونها أديث قليلة الاكتراث، وكأنها لا تلحظ وجوده، إما لأنها كانت تخشى أن تثير بمسلكها تنبه الأخريات، وتجر بذلك على عشيقها الأخطار، أو لأنها كانت لا تحب أن تسقط في اعتباره لشدة لهفتها على أن تملك منه قلبه.
ربما كانت هذه القصة طويلة مملولة، ولكنها ضرورية للرواية، وتعيننا على إيضاح ما كان بين المحبين - إن كان هذا أمرا يستحق العناية - حينما بدت أديث على غير انتظام في المعبد، وكان لها على مشاعر الفارس هذا الأثر البليغ.
الفصل الخامس
إذا ما ضربنا في الوادي الخيام،
فعبثا يسحرنا من الغيد الحسان القوام.
وإن بدا لنا «اشتاروث» أو «ترماجون»،
قلنا لطيفيهما اغربا عن هذا المكان.
وارتون
لبث السكون العميق والظلام الدامس ساعة وبعض ساعة يخيمان على المعبد الذي خلفنا فيه فارس النمر جاثيا على ركبتيه، تارة يتوجه إلى الله بالحمد، وطورا يذكر فتاته بالشكر، اعترافا بالنعمة التي أسبغت عليه؛ أما سلامته، أما نصيبه - وقد كان أبدا قليل الاكتراث بهما - فلم يعد لهما الآن في اعتباره وزن ذرة من تراب، فهو في جوار السيدة أديث، وقد جادت عليه ببعض شارات العطف، وهو الآن في مكان مبارك بما فيه من آثار لها أجل تقديس، وهو كجندي مسيحي، ومحب مخلص، لا يخشى شيئا، ولا يفكر في شيء، إلا في واجبه نحو السماء وفي حق فتاته عليه.
وفي الفترة التي انقضت بعد ذلك، رنت في أرجاء المعبد ذي القبو رنينا قويا جلجلة صفير كصفير صائد البزاة، وهو ينادي الصقور، ولم يكن هذا الصوت مما يليق بجلال المكان، وقد ذكر السير كنث بوجوب تيقظه، فهب من سجدته، ومد يده إلى خنجره ، ثم سمع صرير لولب أو بكرة، وسطع إلى أعلى نور كأنه ينبعث من فجوة في الأرض، وظهر للعين كأن بابا أرضيا قد ارتفع إلى أعلى أو انخفض إلى أسفل، وفي أسرع من لمح البصر، امتدت من الفجوة ذراع هزيلة، بعضها عار وبعضها مدثر في كم من الحرير الأحمر الموشى بالذهب، ممسكة بمصباح رفعته إلى أقصى ما تستطيع أن تمتد إلى أعلى، ثم أخذ الشبح صاحب تلك الذراع يصعد خطوة خطوة، حتى بلغ مستوى أرض المعبد؛ وكان لهذا المخلوق الذي بدا الآن جسم ووجه كأنهما لقزم مروع الهيئة ذي رأس كبير، عليه غطاء مزين بثلاث ريشات من ريش الطاووس زينة رائعة جميلة، يرتدي ثوبا من الحرير النفيس الأحمر الموشى بالذهب، مما جعل كآبة منظره أشد وضوحا، وتجذب العين منه أساور من ذهب تطوق معصميه وعضديه، ويتشح بوشاح من الحرير الأبيض يعلق به خنجرا ذا مقبض ذهبي؛ ويحمل هذا الرجل ذو الهيئة العجيبة بيسراه شيئا يشبه أن يكون مكنسة، ولم يكد يطل من الفجوة التي ارتفع منها حتى وقف ساكنا، وكأنه أراد أن يظهر جليا فحرك المصباح الذي كان بيده حركة خفيفة أمام وجهه وصورته، حتى يسطع الضوء على ملامحه الهمجية الحوشية أولا، ثم على أطرافه المعروقة المشوهة ثانية؛ وكان لهذا القزم جسم غير متسق الأجزاء، ولكن خلقه لم يبلغ به الانحراف حدا يشك معه الرائي أنه فاقد القوة والنشاط؛ وبينما كان السير كنث يتأمل هذا المنظر الذميم، طرأت على ذاكرته تلك العقيدة السائدة التي كانت تؤمن بالجن أو عفاريت الأرض، التي كانت تقطن الكهوف، وكان الشبح الماثل أمامه يطابق الصورة التي كانت في ذهنه عن هيئة هذه العفاريت، فحدق فيه بتقزز لا يخالطه الخوف، وإنما يمازجه نوع من الرعب قد يبثه مثل هذا المخلوق الخارق للطبيعة في أشد القلوب ثباتا وحزما.
وصفر القزم ثانية، ثم استدعى زميلا من زملائه من باطن الأرض، فصعد هذا الشبح الثاني - كما صعد الشبح الأول - ولكنها كانت يد امرأة تلك التي امتدت هذه المرة رافعة مصباحا من البهو السفلي الذي صدرت عنه هذه المناظر، وكان شبحا نسويا ذلك الذي برز متئدا من جوف الأرض، شديد الشبه بالشبح الأول في هيئته وتناسق أعضائه، وكان لباسها كذلك من الحرير الأحمر الموشى بالذهب، مهلهلا مهدبا على صورة عجيبة، كأن صاحبته قد ازينت كي تعرض نفسها في حفل من الممثلين والمشعوذين؛ وكما فعل الشبح الأول من قبل، حركت المصباح بأناقة ودقة أمام وجهها وجسمها، الذي يباري جسم الرجل دمامة وقبحا، ولكن، رغم هذا المظهر الذميم، كان في ملامحهما كليهما مسحة تدل على تنبه نادر وذكاء غير مألوف؛ هذه المسحة تراها في بريق عيون غائرة تحت أهداب غزيرة حالكة السواد، يتألق فيها ضياء لامع كذلك الذي يشع من عيون الضفادع، وكأنه بعض العوض عن قبح بليغ باد في البزة والهيئة.
لبث السير كنث مشدوها مذهولا، بينما كان هذان الشبحان القميئان يطوفان بالمعبد متلاصقين كخادمين أجيرين قد كلفا نظافة المكان؛ لم يمد كل منهما غير يد واحدة للعمل، فلبثت الأرض ولما تنتفع من هذا الجهد الضئيل الذي ثابرا عليه في حركات غير مألوفة، وطريقة عجيبة، تليق بالمظهر الشاذ الغريب الذي تبديا فيه، ولما دنوا من الفارس، وهما يؤديان هذا العمل، أوقفا مكنستيهما عن الحركة، وتجاوزا قبالة السير كنث، ثم رفعا المشعلين اللذين كانا بيديهما ثانية في أناة وتؤدة، فتهيأت له الفرصة أن يتأمل ملامحهما جليا، ولكن هذه الملامح لم تزدد جمالا في نظره بعد أن باتت على مقربة منه، وأتيحت له الفرصة كذلك أن يلحظ السرعة القصوى والحدة التي كانت عيونهما المتألقة السود تعكس بهما ضوء المصباحين، وبعد ذلك صوبا شعاع المصباحين على الفارس، وبعد أن أنعما فيه النظر، التفت كل منهما إلى الآخر، وانفجرا يقهقهان بصوت يكاد يبلغ عنان السماء، فرنت الضحكات في أذني السير كنث، وكان صداها كريها، ففزع لمسمعها وسارع بالسؤال، مستحلفا بالله، من ذا عسى أن يكون ذانك الشخصان اللذان دنسا ذلك المكان المقدس بمثل هذا التهريج وتلك الصيحات المزعجة.
فأجاب القزم الذكر في صوت يلتئم وهيئة جسيمة ، وهو بصوت غراب الليل أشبه منه بأي صوت آخر يطرق الأذن في النهار، وقال: «أنا القزم نكتابانوس.»
وأجابت الأنثى في نغم أخشن وأشد توحشا من صوت رفيقها وقالت: «وأنا جنفرا امرأته وموضع حبه.»
وسأل الفارس ثانية، ولم يكد يعتقد أنهما من أبناء البشر وقال: «وما الذي أتى بكما إلى هذا المكان؟»
فأجاب القزم الذكر متكلفا الجد والوقار وقال: «أنا الإمام الثاني عشر، أنا محمد المهدي زعيم المؤمنين ورائدهم، لي ولأتباعي ألف من الخيل المطهمة على أهبة لدى المدينة المقدسة، وألف عند «مدينة الخلاص»، أنا ذلك الرجل الذي سوف يشهد على بني الإنسان، وهذه حوراء من حوري.»
1
فقاطعته امرأته وأجابت في صوت أخشن من صوته وقالت: «أنت كذاب أشر، لست من حورك، ولست أنت رجلا منافقا من سقط المتاع كما ذكرت. هلا أخبرك من أنت يا حمار «إسخار»؟ أنت الملك «أرثر» ملك بريطانيا الذي سرقته بنات الجن من فيافي «أفالون» وفررن به، وأنا السيدة جنفرا، التي طبق صيت جمالها الآفاق.»
فقال الرجل: «أجل يا سيدي الفاضل، حقا إننا من الأمراء، أحاطت بنا الهموم ورمت بنا هنا تحت جناح الملك «جاي» ملك بيت المقدس، وقد لبثنا كذلك حتى أخرجه من مكمنه جماعة من الكفار المدنسين، اللهم أنزل عليهم من السماء الصواعق وأهلكهم جميعا.»
فانبعث صوت من الجانب الذي دخل منه الفارس من قبل، وقال: «صه! صه! أيها الغافلون، اغربوا عن هذا المكان فقد دالت دولتكم.»
ولم يكد القزمان يستمعان إلى هذا الأمر، حتى همس كل منهما للآخر في وسوسة متقطعة، واطفآ مصباحيهما بغير توان، وخلفا الفارس في ظلام دامس ثم قفلا راجعين، ولما انقطع وقع أقدامهما خيم على المعبد صمت شامل هو أشد ما يكون التئاما وحلوكة ظلام.
ولما انجلى هذان المخلوقان الشقيان، أحس الفارس ببعض الترويح عن النفس، وهما بمظهرهما ومسلكهما ولسانهما لم يتركا له مجالا للشك في أنهما يمتان بصلة إلى تلك الطائفة الوضيعة من الكائنات، التي سيقت بتشويه الخلق وضعف الخلق إلى هذه المكانة الأليمة، وأصبحت من ذيول الأسر الرفيعة، التي يجعل أبناؤها من ظاهرها وضعتها بواعث للمرح والسرور؛ ولو كان الفارس الاسكتلندي في عصر غير عصره لكان من المحتمل أن يسر غاية السرور من جنون هذه الصورة الإنسانية الوضيعة، ولكنه لم يكن يعلوه - في أية ناحية من النواحي - على زمانه، في الفكر أو في الطبائع، ولذا فإن هذين المخلوقين الشقيين بمظهريهما وإشاراتهما ولغتهما قد قطعا عليه سلسلة من المشاعر العميقة الجليلة، كانت قائمة في نفسه؛ ولشد ما كان ابتهاجه عندما اختفيا عن مرآه.
وبعدما انجليا ببضع دقائق، انفتح الباب، الذي ولج منه من قبل في تؤدة وتوان، ولبث منفرجا، وقد ظهر من خلفه نور خافت يشع من مصباح لدى عتبته، وتجلى في هذا الضياء المتقطع، الذي يتراوح بين الظلمة والنور، شبح أسود مسترخ لدى المدخل بعيدا عن حدود المعبد، ولما دنا الفارس منه، عرف أن الناسك ما برح مستلقيا على الهيئة المتواضعة عينها التي اتخذها من أول الأمر، والتي لا ريب أنه لبث عليها ما بقي ضيفه في المعبد.
ولما سمع الناسك الفارس وهو يدنو منه قال: «لقد انتهى كل شيء، وآن لأشقى من أذنب فوق الأرض أن يئوب من هذا المكان مع رجل يحق له أن يعتقد الآن أنه أنبل وأسعد بني الإنسان جميعا. أمسك المصباح واهدني الطريق في هذا المهبط، فليس لي أن أكشف عن بصري حتى أبتعد عن هذا المكان المقدس.»
فصدع الفارس الاسكتلندي بالأمر في صمت وسكون، وقد أخرسه إحساس بالنشوة والتسامي مما رأى، فخمد في نفسه حتى روح التطلع إلى ما يتحوطه، ثم أخذ يشق طريقه بدقة بالغة خلال المسالك الخفية العديدة، وعلى الدرج الذي تسلقاه من قبل، حتى ألفى نفسه وصاحبه في الغرفة الخارجة من كهف الناسك.
و«يئوب المجرم الآثم إلى جبه، ويستأخر العقوبة من يوم نحس إلى يوم آخر، حتى ينفذ فيه قضاء ربه، ويجزيه الله العادل بما قدمت يداه.»
بهذه الكلمات تفوه الناسك، ثم طرح عن عينيه الحجاب الذي تقنع به، ونظر إليه وفي نفسه آهة حارة مكبوحة، ولم يكد يرد الحجاب إلى السرداب الذي كان قد طلب إلى الاسكتلندي أن يأتي له به منه، حتى سارع ووجه إلى زميله الخطاب في حزم وقال: «اذهب عني، اذهب عني، إلى الراحة والسكون؛ إن في وسعك أن تنام، ومن حقك أن تنام، أما أنا فليس ذلك في وسعي أو من حقي.»
فانسل الفارس إلى الغرفة الداخلية احتراما لهذه الكلمات التي نطق بها الناسك في اضطراب شديد، ولكنه أدار ببصره إلى الوراء وهو يخرج من الغار الخارجي، فألفى الناسك يجرد عن كتفيه العباءة المهلهلة في عجلة المخبول؛ وقبل أن يغلق الباب الضعيف الذي يفصل ما بين حجرتي الكهف، سمع ألهوبا يفرقع وتائبا يئن من كفارة أليمة فرضها على نفسه فرضا. وفكر الفارس في نفسه ماذا عسى يا ترى أن تكون هذه الخطيئة الدنسة، وما هذا الندم الشديد على ذنب لا تمحوه ولا تخفف عنه هذه الكفارة القاسية، فشعر برعدة باردة تدب في أطرافه ثم سبح لله خاشعا متورعا، وارتمى على سريره الخشن - بعد أن رمق بعينيه الرجل المسلم الذي لم يزل في سباته - وسرعان ما غط في نعاسه كالطفل، منهوكا من أثر المشاهد المختلفة التي تراءت له في يومه هذا وليله. ولما استيقظ في الصباح اجتمع بالناسك يشاوره في مهام الأمور، وأسفر الحديث عن عزمه على أن يبقى بالكهف يومين آخرين، كان خلالهما شديد المحافظة على إقامة الصلاة، كما يليق بالحاج، ولكنه لم يعد إلى المعبد الذي شاهد به تلك العجائب.
الفصل السادس
أما هذا المشهد فعدل، وفي البوق فانفخ،
فقد حق علينا أن نستفز الليث من مربضه.
من رواية تمثيلية قديمة
وهنا ننتقل بالقارئ من مكان إلى آخر كما أشرنا في عنوان هذا الفصل، ننتقل به من جبال الأردن المقفرة إلى خيام رتشارد ملك إنجلترا، التي كانت مضروبة إذ ذاك بين جون ميناء عكا وعسقلان، والتي كانت تضم تحت لوائها جيشا، أخذ قلب الأسد على نفسه من قبل أن يسير به ظافرا إلى بيت المقدس، وكان من المحتمل أن ينجح فيما شرع، لولا أن وقفت في سبيله الغيرة المتبادلة بين الأمراء المسيحيين الذين اشتركوا في هذا المشروع عينه، ولولا أن عرقل مسعاه ما كان يحس به هؤلاء الأمراء من ألم النفس من تعالى الملك الإنجليزي عليهم تعاليا لا يكبح له جماح، ومن تحقير رتشارد - في غير مواربة - من شأن إخوانه الملوك، الذين كانوا يعادلونه مرتبة، ولكنهم لا يبلغون شأوه في الشجاعة والإقدام والمواهب الحربية. وأمثال هذه المشاحنات وما إليها - وبخاصة ما كان منها بين رتشارد وفيليب ملك فرنسا - خلقت من الخصومات والعقبات ما كان حجر عثرة لكل خطوة عملية يتقدم بها رتشارد، الذي عرف بالبطولة وعدم التريث معا، بينما كانت صفوف المسيحيين تتخلخل يوما بعد يوم، ويهجرها المجاهدون زرافات ووحدانا، وفي طليعة كل فرقة قائد من قواد الإقطاع، هو زعيمها، وقد انسحبوا بعد نضال أطفأ فيهم كل بارقة من الأمل في النجاح.
وبات أثر المناخ - كما كان دائما - مهلكا للمقاتلين الآتين من الشمال، وزاد من وطأة الجو أن الصليبيين أطلقوا لشهواتهم العنان وانحلت أخلاقهم، وإن يكن هذا ينافي كل المنافاة المبادئ والأغراض التي شهروا من أجلها السلاح، فباتوا فرائس سائغة لحمارة القيظ المحرقة، وقطرات الندى الباردة، وما لها من أثر وبيل؛ وأضف إلى هذه البواعث التي كانت تفت في الأعضاد، وتؤدي إلى الخسران والدمار، سيف العدو الباتر، وذلك أن صلاح الدين، الذي ليس في سجل تاريخ الشرق اسم يعلو على اسمه، كان قد عرف - ويا لها من معرفة قاضية - أن أتباعه (بسلاحهم الخفيف) أضعف من أن يلاقوا الفرنجة المدججين بالحديد، وجها لوجه في ملحمة أو معركة، كما عرف كذلك كيف يخشى شخص خصمه رتشارد الجسور ويحسب له حسابه؛ ولكن إن كانت الفرنجة قد انقضت على جيوشه أكثر من مرة ذبحا وتقتيلا، فلقد انتصر لكثرة عديده في تلك المناوشات الخفيفة التي كان الكثير منها حتما لا محيص عنه.
ولما نقص جيش العدو المهاجم، زاد السلطان من مدى خططه في هذه الحرب الخفيفة، وجعلها أشد جرأة، فأحاطت بمعسكر الصليبيين - وكادت تحاصره - جموع من الفرسان أقبلت كأسراب الزنانير، يسير سحقها إذا وقعت في قبضة اليد، ولكن لها أجنحة تمكنها من الإفلات من أشد القوى بأسا، كما أن لها أشواكا تنفث منها السوء والأذى. ولم تنقطع الحروب بين طلائع المسيحيين ورعاة حروب الخيل. هلكت فيها أرواح كثيرة قيمة دون طائل أو جدوى؛ وكثيرا ما حيل بين الرسل ومواصلة المسير، وتقطعت سبل المواصلات، وكان على الصليبيين أن يشتروا أود الحياة ببذل الحياة، وإن أرادوا ماء من عين كعين بيت لحم، التي كان يتشوق إليها داود الملك أحد حكامها الأقدمين، أراقوا لذلك الدماء.
وكان يعادل هذه الشرور - إلى حد كبير - عزم كالحديد ونشاط لا يستقر من جانب الملك رتشارد، الذي كان دائما على صهوة جواده بصحبة جماعة من خيار فرسانه، على أهبة لأن يكر إلى أي مكان تحل به الأخطار، وغالبا ما يعود للمسيحيين بمعونة لم تقع لهم في الحسبان، بل ويهزم المنافقين، وهم من النصر قاب قوسين أو أدنى. ولكن حتى قلب الأسد، ذو الجسم الحديدي، لم يستطع أن يحتمل بغير أذى تقلبات المناخ الوبيلة، فضلا عن إجهاد جثماني وعقلي متواصل، فلقد أصابته إحدى تلك الحميات المنتشرة في آسيا، والتي تفتك بالجسم شيئا فشيئا؛ ورغم قوة شديدة وشجاعة أشد منها، بات أول الأمر ضعيفا لا يستطيع أن يعتلي ظهر الجواد، ثم انقطع عن حضور مجالس الشورى في شئون الحرب، التي كان يعقدها الصليبيون بين الحين والحين، ولم يكن من اليسير أن تعرف إن كان ما استقر عليه المجلس - وهو أن يعقدوا مع السلطان صلاح الدين هدنة مداها ثلاثون يوما - قد جعل هذا الفتور، الذي اعتور ملك الإنجليز، أشد فتكا أو أخف وقعا؛ فلئن كانت هذه الهدنة تثيره لأنها تعترض سير الخطة الواسعة المدى التي رسمها لنفسه، وتؤجلها إلى حين، فهو من ناحية أخرى يجد فيها بعض العزاء، لأنه عرف أنه إن لبث عاطلا لا يتحرك في سرير المرض، فلن يظفر غيره بإكليل النصر.
وأما ما لم يرض عنه قلب الأسد فهو هذا التبلد الشامل، الذي ضرب بجرانه في معسكر الصليبيين، حينما أقبل على دور خطير من أدوار المرض؛ وقد علم من البيان الذي استخلصه من أتباعه - وهم كارهون - أنه كلما اشتد به المرض، هبطت آمال الجيش المحارب، وأنهم لم يشتغلوا أيام الهدنة بتقوية صفوفهم، أو بإحياء ما خمد من روح البسالة والإقدام، أو بتغذية روح الظفر في النفوس، أو بالتأهب للزحف على المدينة المقدسة زحفا حازما لا ونية فيه - والمدينة المقدسة هي مقصد حملتهم - لم يشتغلوا بهذا أو بذاك، وإنما اشتغلوا بتأمين المعسكر، الذي باتت تشغله جماعة هزيلة من الأتباع، بحفر الخنادق وإقامة الحسائك وغيره من وسائل التحصين، كأنهم يتأهبون - إذا ما عاد القتال - لرد عدو قوي معتد، ولا يعدون العدة لأن يقفوا موقف الغزاة المغيرين المفاخرين.
هاج الملك الإنجليزي وماج من هذا البيان، وكان كالأسد الحبيس في القفص ينظر إلى الفريسة من وراء قضبان من الحديد. ولما كان بطبيعته مندفعا متهورا، فقد انعكس هياج طبعه على نفسه، وكان أتباعه يخشونه، وحتى أطباؤه الذين كانوا يباشرونه، كانوا يخافون أن يتخذوا لأنفسهم ذلك النفوذ الذي لا بد منه لكل طبيب على مريضه إن أراد به خيرا؛ ولم يستطع أن يقف بين الأفعوان وثائرته إلا رجل واحد من الأشراف المخلصين، وربما كان ذلك لمواءمة بين ميوله وميول رتشارد، مما قربه إلى الذات الملكية ووصل بين قلبيهما، فكان له - في سكون وثبات - سلطان على الملك المريض الغاضب، لم يجرؤ عليه غيره؛ هذا النفوذ لم يباشره غير توماس دي ملتن، لأنه كان يقدر حياة الملك وشرفه أكثر مما كان يقدر ما قد يفقد من جراء ذلك من رضاه، وما قد يجر على نفسه من أخطار، وهو يمرض عليلا كهذا، شديد المراس، جسيم الأخطار إذا غضب.
كان السير توماس لورد جلزلاند، في كمبرلاند، في عصر لم تكن فيه الأنساب والألقاب شديدة الالتصاق بأربابها كما هي اليوم، وكان النورمان يسمونه لورد دي فو ويلقبه بالإنجليزية السكسون - الذين كانوا يتعلقون بلغتهم الوطنية ويفخرون ببعض الدم السكسوني الذي يجري في عروق هذا المحارب الذائع الصيت - توماس ، وأحيانا يرفعون الكلفة ويسمونه «توم» رجل «الجلز» أو «الأودية الضيقة» التي اشتقت منها أملاكه الواسعة اسمها المعروف.
وقد تدرب هذا الزعيم في أكثر الحروب، ما نشب منها بين إنجلترا واسكتلندا أو بين الأحزاب الداخلية العديدة، التي كانت إذ ذاك تمزق البلاد تمزيقا؛ وفي هذه الحروب جميعا برز وتفوق، سواء في مسلكه الحربي أو نفوذه الشخصي، وكان من ناحية أخرى جنديا خشنا فظا، لا يأبه بهندامه، كتوما مكتئبا في معاشرته، وينكر - في ظاهر حديثه على الأقل - كل علم بالسياسة أو بدسائس البلاط؛ وكانت هناك من الرجال جماعة تزعم أنها تستطيع أن تنفذ إلى دخائل الطباع، وتؤكد أن لورد دي فو لم يكن في مكره وطموحه أقل منه في خشونة طبعه وجسارته، وتظن أنه - وهو يتشبه بخلق الملك في البسالة وعدم المبالاة - إنما يرمي إلى الفوز برضا الملك، وإلى إشباع آماله، وتحقيق مطامعه الواسعة؛ ولكن أحدا لم يجرؤ على معارضته في أغراضه أيا كانت، أو ينافسه في ذلك العمل الخطر، وهو مباشرة سرير المريض كل يوم، وعلة المريض معدية كما ذاع بينهم، والمريض هو قلب الأسد، يئن من جزع غاضب يتملك الجندي إذا حيل بينه وبين القتال، والملك إذا تجرد من كل سلطان؛ وعامة الجند في جيش الإنجليز على الأقل كانوا يعتقدون إجمالا أن دي فو يباشر الملك مباشرة الند للند، وليس بينهما إلا مودة حربية خالصة، نزيهة غير مغرضة، تنعقد بين اثنين يقتسمان المخاطر كل يوم.
وذات يوم في سوريا، وقد مالت الشمس نحو الغروب، استلقى رتشارد على فراش المرض، والفراش إلى نفسه بغيض، والمرض على جسمه شاق ثقيل، وعيناه الزرقاوان اللامعتان - اللتان لم ينقطع لهما من قبل ضياء لامع ولا بهجة متلألئة - فيهما حيوية زادت منها الحمى وقواها الجزع، وقد أطلتا من خلال تجاعيد شعره الأصفر الطويل وخصله المسترسلة، بنظرات زاهية متقطعة كخيوط النور ترسله الشمس ساعة الغروب فتشق السحب التي تزجيها العواصف المطيرة، والتي يوشي حواشيها بالذهب - رغم ذلك - ضياء الشمس اللامع؛ ويبدو على ملامحه المسترجلة سير المرض العضال ، وقد أهمل لحيته ولم يشذبها، فنمت وطغت على شفتيه وذقنه، وأخذ يترنح ذات اليمين وذات اليسار، تارة يجر على نفسه الغطاء، وطورا يطرحه جزعا وهلعا؛ ويدل سريره الذي يتأرجح، وحركاته التي تنم عن القلق، على ميل إلى النشاط والاندفاع بغير اكتراث، ميل ليس له مجال طبيعي إلا حيث الجهد العنيف.
وإلى جوار سريره وقف توماس دي فو، وهو في محياه وهيئته ومسلكه أشد ما يكون تباينا للملك المريض. هو كالعملاق في قوامه، ويكاد شعره يشبه في كثافته شعر شمشون بطل الإسرائيليين بعد ما جزه الفلسطينيون، لأن دي فو قد قص شعره حتى يستطيع أن يضمه تحت خوذته، وله عينان كبيرتان واسعتان لونهما كلون البندق؛ يشع منهما ضياء كضياء الخريف في الصباح، يضطرب الفينة بعد الفينة، لحظة أو بعض لحظة، كلما جذبت التفاته إلى رتشارد شارات عنيفة من القلق والهياج، وملامحه قوية غليظة كشخصه، فيها جمال وجاذبية، إلا أنها قد تشوهت من أثر الجراح، ويغطي شفته العليا - على الطراز النورماندي - شارب كثيف، اختلط من غزارته وطوله بشعر رأسه، وهو - كمثله - داكن يضرب إلى الحمرة، تخططه قليل من الشعرات البيض، ويلوح على بناء جسمه أنه من ذلك الطراز الذي يقاوم المشقة والمناخ بصدر رحيب، فلقد كان نحيل الخصر، عريض الصدر، طويل الذراع، عميق الأنفاس، قوي الأطراف، ولم يخلع سترته الجلدية، التي يظهر على كتفها صليب مرسوم، لأكثر من ثلاث ليال؛ ولم يستمتع بالراحة إلا في فترات متقطعة، هي كل ما يظفر به اختلاسا رجل يقوم على حراسة ملك طريح الفراش، وقل أن بدل هذا البارون من وقفته، اللهم إلا حينما كان يناول رتشارد دواء أو شرابا منعشا. ولم يجرؤ أحد غيره، ممن ليست لهم هذه المكانة من أتباع الملك الجزوع، على أن يحمل الملك على تناول الدواء، وكانت له طريقة شفيقة، لها أثرها رغم نبوها، يؤدي بها واجبه، وهي تباين عاداته وأخلاقه العسكرية الصريحة أشد المباينة.
كان هذان الرجلان في سرادق يلائم روح العصر، كما يلائم طبيعة رتشارد الشخصية، عليه من سيماء الحرب والقتال أكثر من أمارات البذخ والملك؛ فكنت ترى أسلحة للدفاع والهجوم، كثير منها غريب الشكل من الطراز الحديث، منتثرة في أرجاء المخيم، أو معلقة بالعمد التي يقوم عليها؛ وجلود الحيوانات التي قتلت في الطراد ملقاة على الأرض، أو منشورة على جدر السرادق، وفوق كدس من هذه الغنائم الحرشية كلاب ثلاثة كبيرة الحجم، ناصعة البياض كالثلج، على وجوهها آثار من خدوش بالمخالب والأنياب، تشهد على مساهمتها في جمع الصيد الذي رقدت على بقاياه، وقد امتدت بجسومها فاغرة أفواهها، ومصوبة عيونها، الحين بعد الآخر، نحو رتشارد، مبينة عن تعجبها وأسفها على هذا الخمود الذي لم تعهده، والذي لا بد لها أن تشارك فيه، وكانت هذه الكلاب من رفاق الجندي الصائد؛ وعلى مائدة صغيرة إلى جوار السرير درع من الحديد المرن، ثلاثية الشكل، عليها رسم ليوث ثلاثة ناهضة، كان يتخذها هذا الملك الفارس شارة له، وأمام الدرع قرص من الذهب شديد الشبه بتيجان الأمراء، إلا أن مقدمته كانت أعلى من مؤخرته، وهو ومخمل بنفسجي، وتاج مثلث مزركش، تكون جميعا شارة الملكية في إنجلترا، وإلى جوار القرص فأس غليظة أعدت للذود عن رمز الملكية، تكل الذراع من حملها، إلا إن كانت ذراع قلب الأسد.
وفي جزء خارجي من الرواق ضباط ثلاثة من حاشية الملك، يرتقبون في اكتئاب، يبدو عليهم الجزع على صحة مولاهم. ولم يكونوا على سلامتهم أقل جزعا لو أن مليكهم قضى نحبه؛ وانتشرت هذه المخاوف الكئيبة خارج السرادق بين الحراس الذين كانوا يضربون في الأرض بطرف مغضوض، وهم يتفكرون صامتين، أو يستندون إلى رماحهم ويقفون في أماكنهم لا يتحركون، كأنهم تماثيل مسلحة، لا جنود من الأحياء.
وبعد هذا الصمت الطويل المضطرب، الذي انقضى في هياج كهياج الحمى، حاولنا وصفه للقارئ، قال الملك: «إذن لم تأت لي من الخارج يا سير توماس بنبإ خير من هذا؛ لقد بات فرساننا جميعا نساء، وأصبحت نساؤنا مترهبات، وليس في المخيم شرارة من إقدام أو شهامة تنشر في أرجائه الضوء، والمخيم يضم خيار فرسان أوروبا، أليس كذلك؟!»
فأجابه دي فو بصبر تملكه قبل ذلك عشرين مرة وهو يكرر للملك شرح الموقف وقال: «إن الهدنة يا سيدي تحتم علينا نحن الرجال ألا نحرك ساكنا، وأما عن النسوة فلست مولاي - كما تعلم جلالتك - ممن ينغمسون فيهن، وقلما أبدل الحديد والجلد بالذهب والمخمل؛ ومع ذلك فقد نما إلي أن خيار الفاتنات من نسائنا قد التحقن بمعية جلالة الملكة والأميرة، وهما في طريقهما حاجتين إلى دير «عين جدة» كي يرسلا الدعوات ويطلبا إلى الله أن ينقذ جلالتك من هذه المحنة.»
ولم يرق لرتشارد هذا الجواب، فتملكه القلق ورد قائلا، «أفهكذا تخاطر بأنفسهن ربات الخدور والعذارى من بنات الملوك، ويردن أرضا تدنسها أوغاد، إخلاصها لبني الإنسان ضعيف كإيمانها بالله؟»
فأجاب دي فو: «كلا يا سيدي، لقد وعدهن صلاح الدين بالأمن والطمأنينة.»
فرد عليه رتشارد قائلا: «حقا، حقا! ولقد أسأت إلى هذا السلطان، وأنا مدين له بمحو هذه الإساءة. يا ليتني أستطيع أن أقدم له هذا الجميل وأنا طريح بين جيشين، جيش المسيحيين وجيش المسلمين، وكلاهما ينظر إلي.»
وبينما كان رتشارد يتكلم، دفع ذراعه اليمنى خارج الفراش، وكانت عارية إلى الكتف، ثم هب من مرقده متألما، وهز يده مقبوضة كأنها ممسكة سيفا أو فأسا تلوح به فوق عمامة السلطان المرصعة بالجوهر، فخف له دي فو، وبصفته ممرضا حمل سيده المليك بعنف يمازجه اللطف، ما كان الملك ليحتمله من غيره، على أن يعود إلى فراشه، ثم ستر له ذراعه المفتولة ورقبته وكتفيه بعناية كعناية الأم تحنو على وليدها الجزوع.
فقال الملك وهو يضحك ضحكا مرا ويلين للقوة التي لم يستطع لها ردا: «إنما أنت يا دي فو ممرض غشوم، ولكنك محب للملك، وإني لأظن أن تقية الممرض تليق بمحياك الخافض كما تليق بي تقية الطفل، وإنا لنصلح أن نكون رضيعا ومرضعته يروع بهما البنات.»
فأجاب دي فو: «كنا في زماننا نروع الرجال يا سيدي، وإني لآمل أن نعيش حتى نروعهم مرة ثانية. ما نوبة حمى حتى لا نستطيع أن نحتملها بصبر جميل كي نخلص منها في سهولة ويسر؟!»
فتعجب رتشارد وأجاب مندفعا: «نوبة حمى! قد ترى - وأنت غير مخطئ فيما ترى - أنها ليست إلا نوبة حمى حلت بي، ولكن أتظنها كذلك مع الأمراء المسيحيين قاطبة، مع فيليب ملك فرنسا، ومع ذلك النمساوي البليد، ومع رجل منتسرا، ومع الإسبتارية، ورجال المعبد؟ ماذا عسى أن تكون مع هؤلاء جميعا؟ استمع إلي أخبرك، إنما هي فالج بارد وفتور مميت، إنما هي مرض يمنعهم عن الكلام والحركة، هي قرحة تأكل كل ما في قلوبهم من نبل وفروسية وفضيلة، وتجعل منهم خونة لكل عهد نبيل يقسم الفوارس على حفظه، وتجعلهم لا يأبهون لذكراهم ولا يذكرون الله.»
فقال دي فو: «وحق السماء لتهونن على نفسك يا مولاي، وحذار أن يسمعك أحد خارج هذا السرادق حيث تجري على الألسنة أمثال هذه الأحأديث بين عامة الجند، تولد الشقاق والنزاع في صفوف المسيحيين. واعلم أن مرضك يحول دون مواصلتهم ما شرعوا فيه، وإذا أمكن أن يتحرك المنجنيق بغير لولب أو رافع، تحرك جيش المسيحيين بغير الملك رتشارد.»
فقال رتشارد: «أنت تداهنني يا دي فو.» ولكنه مع ذلك أحس بأثر الثناء وقوته، فمال برأسه إلى الوسادة وهو يحاول جهده أن يستقر، محاولة لم يبدها من قبل، ولكن توماس دي فو لم يكن من ندماء الملوك، وقد اندفعت إلى شفتيه عبارة الثناء التي فاه بها من تلقاء ذاتها، ولم يعرف كيف يواصل هذا الحديث المعسول، حتى يروي هذه الرغبة الدفينة التي أثارها، ويشبعها؛ فلزم الصمت حتى سأله الملك محتدا بعد أن استرسل في تأملاته الكئيبة وقال: «يا إلهي! هذا حديث شهي سائغ لرجل مريض، ولكن كيف أن عصبة من الملوك، وجمعا من الأشراف، وحشدا من فرسان أوروبا بأسرها، تخور قواهم من أجل رجل واحد قد وهن، حتى وإن يكن هذا الرجل هو ملك إنجلترا؟ ولم يوقف مرض رتشارد أو موت رتشارد مسير ثلاثين ألف رجل، كلهم كمثله بسالة وإقداما؟ أفئن خر زعيم الأياييل صريعا تشتت القطيع لمصرعه؟ إذا أصاب البازي كبير الكراكي تقدم غيره الرهط يتصدره. لماذا إذن لا تجتمع القوى وتنتخب من بينها رجلا تعهد إليه بقيادة الصفوف؟»
فأجاب دي فو قائلا: «وايم الحق لقد نما إلي أن القادة الملوك قد عقدوا المجامع يتشاورون في مثل هذا الغرض، ولعل هذا يرضي جلالتكم.»
فصاح رتشارد متعجبا، وقد تحركت الغيرة في نفسه وتوجه بنزق عقله وجهة أخرى وقال: «ها! إذن لقد نسيني أحلافي قبل أن أتناول العشاء الرباني الأخير؟ أفيحسبونني قد قضيت؟ ولكن، كلا! كلا! لقد صدقوا؛ ومن هذا الذي وقع عليه اختيارهم ليكون لجيش المسيحيين قائدا وزعيما؟»
فأجاب دي فو: «الرفعة والعزة تشيران إلى ملك فرنسا.»
فأجاب ملك الإنجليز: «أي نعم، فيليب ملك فرنسا ونافارا، ونيس منت جوا، صاحب الجلالة المسيحية العظمى! يا لها من كلمات تمتلئ بها الأشداق! ولكن هناك خطرا واحدا أخشاه، وذلك أن يتخذ شعاره «إلى الخلف» لا «إلى الأمام» ويعود بنا إلى باريس بدلا من أن يتقدم بنا إلى بيت المقدس؛ فلقد علمته حكمته السياسية حتى الآن أن الجور على أمراء الإقطاع، وسلب حلفائه أجدى له من مقاتلة الأتراك في سبيل القبر المقدس.»
فقال دي فو: «وقد يختارون أرشيدوق النمسا.» «ماذا تقول! ألأنه ضخم الجسم، كبير الحجم، مثلك يا توماس؟ نعم إنه قرينك في الخرق والغباء، ولكنه ليس كمثلك سهلا لا يبالي بالمخاطر، مستهترا لا يأبه للضر والأذى، صدقني أن النمسا ليس لها في هذه الكتلة اللحمية من دبيب الحياة إلا بمقدار ما في الزنبور الصاخب من جرأة، أو العصفور الصغير من إقدام، تبا له تبا! أفيكون قائد الفرسان إلى عمل مجيد! أعطه إبريقا من نبيذ الرين يحتسيه هو ورجاله الأدنياء من قتلة الدببة ورماة الرماح.»
واستأنف البارون الكلام غير آسف على أن يشغل انتباه سيده بأمور أخرى غير مرضه، حتى وإن يكن ذلك على حساب أشخاص الأمراء وأرباب النفوذ، فقال: «وهناك أيضا كبير فرسان المعبد، مقدام صادق باسل في مواقع القتال، حكيم في مجالس الشورى، ليس له ملك خاص يصرف جهده عن استرداد الأرض المقدسة. ماذا ترى جلالتكم في هذا الرجل قائدا عاما لجيوش المسيحيين؟»
فأجاب الملك وقال: «ها! نعم الاختيار! إنا لا نستثني الأخ «جليزأموري» نعم إنه يعلم قواعد الحرب، ويعرف كيف يقاتل في الطليعة إذا نشبت المعركة؛ ولكن هل من العدل يا سير توماس أن نستخلص الأرض المقدسة من يد الرجل المسلم صلاح الدين - وهو يفيض كرما وفضلا - ونسلمها «جليز أموري»، وهو أشد من صلاح الدين شركا بالله، وثني يعبد الشيطان، عراف، يرتكب أشد الجرائم سوادا وأكثرها شذوذا تحت القباب، وفي الأماكن الخفية الذميمة؟»
فرد توماس دي فو وقال: «إن كبير الإسبتارية أتباع القديس يوحنا ببيت المقدس له صيت لم يلوثه السحر ولا الضلال.»
فأجاب رتشارد على عجل وقال: «ولكنه ضنين خسيس، أليس كذلك؟ ألم يساورنا فيه الشك - بل اليقين - بأنه قد باع المسلمين، تلك المزايا التي ما كان لهم أن يظفروا بها بالقوة الصراح؟ صه، صه، يا رجل! تالله إنه لخير لنا أن نسلم الجيش لملاحي البندقية وباعة لومباردي المتجولين من أن نوكل به كبير أتباع القديس يوحنا.»
فقال البارون دي فو: «إذن فلأتقدم باقتراح آخر، ماذا تقول في المركيز منتسرا الشهم الحكيم، ذلك الرجل الرشيق المبرز في القتال؟»
فأجاب رتشارد قائلا: «الرجل الحكيم؟ بل قل الماكر - رشيق في خدور النساء إن شئت، أي والله! - كنراد منتسرا، من ذا الذي لا يعرف الأخيل جميل الهندام؟ أجل، إنه سياسي متلون، يبدل من أغراضه كما يبدل من حواشي صداره بحيث لا تستطيع أن تعرف من ظاهر حلته لونها في الباطن؛ وتقول إنه رجل محارب، أجل، إن له لقدا ممشوقا على ظهر الجواد، وإنه لجريء تحت الخيام وداخل الحصون، حيث تكون السيوف مثلومة الظباة والشفرات، وتكون الرماح مركبة أطرافها من ألواح الخشب لا من أسنان الحديد. ألم تكن معي يوم قلت لهذا المركيز الطروب، ها نحن ثلاثة من خيار المسيحيين، وهناك في ذلك السهل ترى عصابة من الأعراب تبلغ الستين عدا، يضربون في الأرض، هلا هممت لتحمل عليهم، ولن يلتقي الفارس الحق منا بأكثر من عشرين من اللئام الكفرة الجاحدين؟»
فقال دي فو: «أذكر أن المركيز أجاب بأن جوارحه من لحم البشر لا من صلب الحديد؛ وأنه يضم بين جنبيه قلب إنسان لا قلب حيوان، حتى وإن يكن ليثا ذلك الحيوان. ولكني الآن أرى الأمر واضحا جليا، سننتهي حيث ابتدأنا، ولا أمل لنا في إقامة الصلاة عند قبر المسيح حتى يرد الله للملك رتشارد الصحة والسلامة.»
وبعد هذا القول الخطير، انفجر رتشارد ضاحكا من الأعماق ضحكا لم يقهقه بمثله من منذ زمن طويل، ثم قال: «عجبا لهذا الذي يعرف بالضمير، فعن سبيله استطعت - وأنت رجل من أشراف الشمال، قليل الفطنة والحصافة - أن تحمل مليكك على أن يقر برعونته! حقا إنهم لو لم يروا أنفسهم - كمثلي - أكفاء لأن يحملوا عصا القيادة، ما اكترثت قليلا ولا كثيرا لأن أجرد هذا الرتل من التماثيل البشرية الحقيرة، التي عرضت علي، واحدا بعد الآخر، مما ازينت به من زخرف الحرير. ماذا يعنيني من هذه الحلل المزركشة يختالون فيها؟ إنها لا تعنيني إلا إذا ذكر أربابها كنظراء لي في هذا العمل الجليل الذي وقفت له حياتي؛ أي دي فو! إني أقر بضعفي وجموح مطامعي، ولا ريب أن معسكر المسيحيين يضم كثيرا من الفرسان ممن يفضلون رتشارد ملك إنجلترا، وإنه لمن الحكمة والعدل أن نسند إلى خيرهم قيادة الجيش، ولكن ...»
وهنا واصل الملك المحارب حديثه، وقد هب من مرقده، وخلع عن رأسه غطاءه، وتطاير الشرر من عينيه - وكان هذا أبدا شأنهما في عشيات المواقع - وقال: «ولكن لو أن هذا الفارس أراد أن ينصب علم الصليب فوق معبد بيت المقدس حيث أكون أنا عاجزا عن أن آخذ بنصيبي في هذا العمل النبيل، إذن ليكابدن نزالي في ضراب قاتل، حينما يبيت في طوقي أن أطعن برمحي، لحطه من ذكري، واستباقه إلى هدفي ومرماي. دع هذا واستمع! إني لأسمع أبواقا على بعد، ماذا عساها يا ترى أن تكون؟»
فأجاب الرجل الإنجليزي البدين وقال: «إني لإخالها يا مولاي أبواق الملك فيليب.»
فقال الملك وهو يحاول النهوض: «إنما أنت أصم يا توماس، ألا تسمع هذا الصليل وذاك الرنين؟ وحق السماء لقد حل الترك في المعسكر، وإني لأسمع هتافهم.»
ثم حاول أن ينهض من فراشه مرة ثانية، فاضطر دي فو أن يلجأ إلى قوته الغشومة، وأن يستعين كذلك برهط من الحجاب، فاستدعاهم من الفسطاط الداخلي كي يكبحوه.
فقال الملك وهو حانق - وقد تعلقت أنفاسه وأنهكه العراك، فاضطر أن يخضع لقوة فوق قوته، وأن يستقر على فراشه في سكون: «أنت خائن غدار يا دي فو، يا ليت لي من الطاقة ما يكفي لأن أهشم رأسك بسيفي.»
فقال دي فو: «يا ليت لك هذه الطاقة يا مولاي، بل ويا ليتك تصرفها كما ذكرت وتعرضني لأخطارها؛ لو مات توماس ملتن، وعاد قلب الأسد كما كان، إذن لرجحت كفة العالم المسيحي.»
فقال رتشارد وقد مد يده ولثمها البارون إكراما وتبجيلا: «إنما أنت خادم مخلص أمين، فهل تعفو عن سيدك وقد انتابه الجزع؟ إن هي إلا هذه الحمى المحرقة التي تزجرك، أما سيدك رتشارد ملك إنجلترا فرءوف بك رحيم؛ ولكني أرجوك أن تذهب وتأتيني بالخبر اليقين: من هؤلاء الأغراب الذين حلوا بالمخيم، فإني لا أظن هذه الأصوات من أصوات المسيحيين.»
وخرج دي فو من السرادق بهذه الرسالة التي كلفها، ووكل إلى الحجاب والأصفياء والأتباع أن يضاعفوا رعاية المليك إبان غيبته - وقد اعتزم ألا يطيل أمدها - وتوعد أن يحملهم تبعات الإهمال، فزار ذلك، بل زاد من تهيبهم وقلقهم على أداء واجبهم؛ إذ كانوا يخشون من المليك حنقه وغضبه أولا، ومن لورد جلزلاند
1
صرامته وصلابته ثانيا.
الفصل السابع
لم يمض على التخوم
1
فترة من الزمن.
التحم فيها الاسكتلنديون مع الإنجليز،
إلا وكان من عجيب الأمور
ألا يجري الدم القاني في الطريق
متدفقا كما تتدفق مياه الأمطار.
موقعة أوتر بورن
انضم إلى صفوف المسيحيين عدد عديد من المقاتلين الاسكتلنديين، وكان من الطبيعي أن ينضووا تحت لواء ملك الإنجليز، فلقد كان أكثرهم - كما كان الجنود من مواطنيه - من أصل سكسوني أو نورماندي، وينطقون بلسانهم، وبعضهم يمتلك عقارا في إنجلترا كما يملك في اسكتلندا، وتربط بعضهم ببعض أواصر الدم وعرى التزاوج؛ كما أن عصرنا هذا يسبق العصر الذي امتدت فيه مطامح إدوارد الأول العظيمة، واتسعت حتى نفثت بين الأمتين سما زعافا، وجعلت الحرب بينهما مهلكة ضروسا، فكان الإنجليز يحاربون لإخضاع اسكتلندا، والاسكتلنديين بعزمهم الصارم وعنادهم الذي تميزت به أمتهم في كل العصور، يحاربون للدفاع عن استقلالهم، بأعنف الوسائل وتحت أسوأ الظروف، مستهدفين لأشد المخاطر. أما الآن فكانت الحروب بين الأمتين - رغم حدتها وتكرار وقوعها - تقوم على مبادئ العداوة العادلة، وتتسع رقعتها لظلال دمثة، تجد فيها الرأفة والاحترام الواجب نحو خصوم صرحاء كرماء، سبيلهما لأن يلطفا ويخففا من مفازع القتال؛ ولذا ففي أوقات السلم، وبخاصة حينما تكون الأمتان - كما هما الآن - مشتبكتين في حرب نشبت في سبيل داع واحد مشترك، حرب جعلتها عقائدهم الدينية عزيزة على النفوس، كان المخاطرون البواسل من الدولتين يقاتلون جنبا إلى جنب، وليس للمنافسة الوطنية من أثر، إلا أن تعمل على حثهما على أن تبز كل منهما الأخرى في جهادها في وجه العدو المشترك.
وكان رتشارد يتصف بالصراحة والخلق الحربي، لا يفرق بين رعيته الخاصة، وبين رعية وليم ملك اسكتلندا، إلا بمقدار ما يظهرون من شجاعة وإقدام في ساحة الوغى؛ يسعى جهده لأن يوفق بين الأمتين؛ ولكن لما وقع الملك فريسة للمرض، وساءت ظروف الصليبيين، عاد إلى الظهور ذلك التنافر بين الفرقتين اللتين لم يؤلف بين صفوفهما إلا الحرب الصليبية، كما تنفجر الجراح العتيقة من جديد في جسم الإنسان من تأثير مرض أو هزال.
والاسكتلنديون والإنجليز كلاهما غيور حاد الطبع؛ في نفسه أهبة لأن يسيء الظن بالآخر - والاسكتلنديون أشد من الإنجليز إحساسا بهذا، لأنهم أكثر الأمتين ضعفا وعوزا - فأخذ أبناء الأمتين يشغلون بالشقاق الداخلي تلك الفترة التي حرمت عليهم الهدنة فيها القتال مع العرب. والاسكتلنديون - كزعماء الرومان الأقدمين - لا يرضون لغيرهم أن يعلو عليهم، كما أن جيرانهم، أهل الجنوب، لا يطيقون المساواة، فتبادلوا التهم والسباب، وحط كل فريق من شأن الآخر، سواء في ذلك عامة الجند وقادتهم وزعماؤهم، الذين كانوا خير صحاب وقت الظفر، كأن وحدتهم لم تكن حينئذ ألزم لهم من أي زمن مضى، لا لنجاح مسعاهم المشترك فحسب، وإنما لسلامتهم جميعا كذلك. وبدأ مثل هذا التنافر يظهر كذلك بين الفرنسيين والإنجليز، والإيطاليين والألمان، بل وبين الدنماركيين والسويديين، ولكنا سنعنى في روايتنا هنا قبل كل شيء بما كان من شقاق وانفصام بين أمتين تغذيهما جزيرة واحدة، وهما لذلك أشد تحرشا إحداهما بالأخرى.
وكان دي فو من بين أشراف الإنجليز جميعا، الذين ساروا وراء مليكهم إلى فلسطين، أشدهم تحاملا على الاسكتلنديين. كانوا جيرانه الأقربين، وقد اشتبك معهم طوال حياته، في حروبه خاصة أو عامة، وأوقع بهم كثيرا من المصائب، وتحمل على أيديهم غير قليل من الأرزاء، وكان حبه وإخلاصه لمليكه قويا شديدا كحب الكلب الإنجليزي قديما لصاحبه، وكان شرسا لا يقربه أحد غير سيده، حتى أولئك الذين لم يكن له شعور خاص نحوهم من حب أو بغض، وكان فظا خطرا على كل من لم يكن معه هواه؛ وما رأى دي فو مليكه قط يظهر أية شارة من شارات الرضا والرأفة لذلك الجنس اللئيم الغادر المتوحش
2
الذي نشأ على الضفة الأخرى للنهر الذي يفصل بين بلاده وبلادهم، أو على الجانب الآخر لأي خط وهمي يشق الفيافي والقفار ويفصل بينه وبينهم، إلا وتملكته الغيرة والسخط؛ بل إنه كان يشك في نجاح الحملة الصليبية، التي كان أولئك القوم يحملون فيها السلاح، وكان ينظر إليهم في دخيلة نفسه وكأنهم لا يفضلون كثيرا الأعراب الذين أتى لنزالهم، بل وفوق ذلك كان دي فو يرى نفسه رجلا إنجليزيا صريحا هادئ الطبع، لم يتعود أن يخفي أية شارة - مهما خفت - من شارات الحب أو البغض؛ ولذا فقد كان ينظر إلى التظرف والتلطف في الحديث - الذي تعلمه الاسكتلنديون من تشبههم بالفرنسيين حلفائهم الدائمين، أو الذي ربما كان ينبعث عن إعجاب بالنفس وتكتم في الخلق - كأنه دليل على خطط ماكرة يدبرونها ضد جيرانهم الذين كان دي فو يعتقد - والثقة الإنجليزية الحق تملأ نفسه - أن الاسكتلنديين لن يتفوقوا عليهم بمحض الرجولة الخالصة.
ومع أن دي فو كان يتأثر بهذه العواطف نحو جيرانه أهل الشمال - بل وكان يبالغ فيها ويبقي عليها غير منقوصة، حتى كانت تشمل أولئك الذين ينضوون منهم تحت لواء الصليب - فقد كان احترامه للمليك، وإحساسه بالواجب الذي يفرضه عليه عهد أخذه على نفسه للصليبيين، يحرمان عليه أن يظهر هذه العواطف بأية وسيلة ما، إلا أنه أصر على أن يتحاشى مخالطة الاسكتلنديين زملائه في القتال ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وكان يتكتم ويكتئب إذا اضطرته الظروف أن يلاقيهم حينا ما، وكان ينظر إليهم شزرا إذا التقى بهم في المسير أو المخيم؛ ولم يكن أشراف الاسكتلنديين وفرسانهم ليتقبلوا هذا الازدراء بالتغاضي أو إهمال الجواب، فكان أن أصبحوا ينظرون إليه كأنه عدو دائب لدود لأمة لم يحمل لها في الواقع أكثر من البغض وشيء من التحقير؛ بل إن كل من أمعن ودقق، عرف أنه وإن لم يعاملهم ببر المسيحية - الذي يقضي على المرء أن يقاسي كثيرا ويغلب الرأفة والشفقة إذا تحكم - إلا أنه لم يفته بأية حال أن يكرمهم - ولو قليلا وإلى مدى محدود - إكراما يخفف من عوز المحتاجين، ويفرج من هم المكروبين. وكان لتوماس الجلزلاندي من الثروة ما يمده بالمئونة والدواء، فكان شيء من هذا المدد يتسرب سرا إلى منازل الاسكتلنديين، وهذا الإحسان الجافي كان يقوم على عقيدة أن العدو يلي الصديق في الأهمية، ولا يتوسطهما رجال هم بين بين، فإنما هؤلاء لا هم إلى أولئك ولا هم إلى هؤلاء، وليسوا أهلا حتى للمحة من الفكر أو الاعتبار. وهذا البيان ضروري للقارئ كي يفهم جد الفهم ما سنفصله فيما يلي.
لم يبعد توماس دي فو كثيرا عن مدخل السرادق الملكي حتى أدرك ما أدركته في لمح البصر أذن ملك إنجلترا الحادة ذات الخبرة والمعرفة بفن العزف والغناء، وذلك أن الألحان الموسيقية التي طرقت أذنيه، كانت تنبعث من مزامير العرب وقصباتهم وطبولهم. وفي نهاية طريق طويلة ضربت الخيام على جانبيها، متصلة بفسطاط رتشارد، وقعت عيناه على حشد من الجنود الكسالى ، تجمعوا حول المكان الذي كانت أنغام الموسيقى تنبعث منه، وهو يتوسط المعسكر. ولشد ما كانت دهشته حينما رأى بين الخوذات المتعددة الأشكال - التي كانت على رءوس الصليبيين من الأمم المختلفة - عمامات بيضا وحرابا طوالا، مما كان يدل على وجود الأعراب المسلحين؛ كما رأى كثيرا من رءوس الجمال والإبل الضخمة المشوهة، وقد مكنتها أعناقها الطويلة القبيحة من الإشراف على الجمع المحتشد.
عجب البارون لهذا المشهد واشتد سخطه، إذ رأى منظرا فريدا لم يكن يتوقعه؛ ذلك لأن العادة جرت بأن تلقى أعلام الهدنة جميعا، وغير ذلك من رسائل العدو، في مكان معين خارج الحدود. وتلفت شغوفا ذات اليمين وذات اليسار، عله يرى أحدا يستفسر منه عن علة هذه الظاهرة الجديدة الخطيرة.
وكان أول من وقعت عليه عيناه من الناس رجل يتقدم نحوه، ظنه لأول وهلة من خطوه الرزين المتعجرف إسبانيا أو اسكتلنديا، ثم تمتم لنفسه وقال: «إنه اسكتلندي؛ إنه فارس النمر، لقد شاهدته مرة يقاتل في سبيل رجل من بني وطنه فيحسن القتال ولا يبالي.»
وقد كره أن يبتدر القادم حتى بسؤال عارض، وأوشك أن يمر بالسير كنث وعلى سيماه الاكتئاب والتكبر، وكأن لسان حاله يقول: «إني أعرفك، ولكني لن أبادلك الخطاب.» ولكن فارس الشمال أفسد عليه خطته إذ أقبل عليه يقصده، وبدأه بالمجاملة وقال: «سيدي دي فو الجلزلاندي، في ذمتي رسالة علي أن أبلغك إياها.»
فرد عليه البارون الإنجليزي وقال: «ها! رسالة تبلغنيها؟ قل ما شئت وأوجز إنما أنا في خدمة الملك.»
فأجاب السير كنث «إنما رسالتي أمس بالملك رتشارد مما تقوم أنت عليه، لقد أتيته بالصحة والعافية، إن صح أملي.»
وهنا رمق لورد جلزلاند الرجل الاسكتلندي بعين الريبة والإنكار وقال: «لست بالطبيب المداوي على ما أعتقد يا سيدي الاسكتلندي. إنه لأقرب إلى ظني أن تأتي لملك إنجلترا بالمال والثراء.»
ولم يرض السير كنث عن الأسلوب الذي أجابه به البارون، فرد عليه في هدوء وقال: «إنما الصحة لرتشارد فخار وثروة للعالم المسيحي طرا، ولكن على عجل، وأتوسل إليك أن تأذن لي برؤية الملك.»
فقال البارون: «كلا يا سيدي الكريم، لن تراه حتى تفضي إلي برسالتك بأكثر من ذلك جلاء. ليست غرف الأمراء المرضى مفتحة الأبواب لكل طارق كأنها نزل من منازل الشمال.»
فأجاب السير كنث وقال: «إن الصليب الذي أحمله يا سيدي - كما تحمله أنت - والأمر الجلل الذي أتيت لتبليغه، يحتمان علي الآن أن أتغاضى عن أسلوبك هذا، الذي ما كنت لولا ذلك لأصبر عليه؛ واعلم في صريح العبارة بعد هذا أني أتيت معي بطبيب من بلاد المغرب أخذ على نفسه أن يبرئ لنا الملك رتشارد.»
فقال دي فو: «طبيب من بلاد المغرب! ومن ذا الذي يكفل لنا أنه لم يأت بالسم الناقع عوضا عن الدواء الناجع؟» «حياته يا سيدي؛ إنه يقدم رأسه كفالة لما يقول.»
فقال دي فو «كم من رجل خبيث، ثابت العزم، عرفت، لم يقم لحياته وزنا، بل يسير إلى المقصلة مرحا كأن الجلاد رفيق له في حلبة الرقص.»
فأجاب الرجل الاسكتلندي وقال: «حقيقة الأمر يا سيدي أن صلاح الدين - الذي لا ينكر عليه أحد أنه عدو كريم شجاع - قد بعث بهذا الطبيب إلى هنا، ومعه حاشية شريفة وحرس نبيل، ممن يليق بالمكانة العليا التي يرفع السلطان إليها «الحكيم»، ومعه كذلك فاكهة وطعام وشراب لغرفة الملك الخاصة، كما أنه يحمل رسالة جديرة بأن تصدر من عدو نبيل إلى عدو نبيل، يرجو له فيها أن يسلم من الحمى معافى، حتى يتهيأ لزيارة السلطان الذي سوف يأتيه وبيده أحدب مسلول، وخلفه مائة ألف فارس. فهل تأذن - وأنت من أعضاء المجلس الملكي السري - بأن تطرح عن هذي البعير أحمالها، وأن تعد العدة للقاء الطبيب النطاسي؟»
فأجاب دي فو وكأنه يحدث نفسه: «يا للعجب! ومن ذا الذي يكفل لنا شرف صلاح الدين في أمر، لو ساء فيه مقصده، لخلص في الحال من أشد خصومه وأقواهم؟»
فأجاب السير كنث: «سأكون أنا نفسي له ضمينا بشرفي وحياتي ومالي.»
فتمتم دي فو ثانية وقال: «عجبا، رجل من أهل الشمال يكفل رجلا من أهل الجنوب؛ اسكتلندي يضمن تركيا! هل لي يا سيدي الفارس أن أسألك كيف أضحى يهمك هذا الأمر؟»
فأجاب السير كنث: «كنت متغيبا في الحج، وكانت لدي حينذاك رسالة أبلغها ناسك «عين جدة المقدس».» «هلا تستأمنني على هذه الرسالة يا سير كنث، وعلى ما أجاب به الناسك عليها؟»
فأجاب الاسكتلندي قائلا: «كلا يا سيدي.»
ورد عليه الرجل الإنجليزي في أنفة وكبرياء وقال: «إني من أعضاء المجمع السري في إنجلترا.»
فقال السير كنث: «ليس علي لهذه البلاد حق الولاء؛ وإن كنت قد تبعت جانب ملك إنجلترا في هذه الحرب طائعا، إلا أني مرسل من قبل المجمع العام للملوك والأمراء وكبار القواد في جيش الصليب المبارك، ولهؤلاء وحدهم أقوم برسالتي.»
فأجاب البارون دي فو فخورا شامخا بأنفه وقال: «ها! ماذا تقول؟ اعلم يا من قد تكون رسول الملوك والأمراء، أن ليس لطبيب أن يقرب فراش رتشارد ملك إنجلترا دون قبول رجل جلزلاند، ولن يجسر على اعتراض مشيئتي إلا من أتى برسالة السوء.»
ثم هم بالانصراف في كبر وخيلاء، ولكن الرجل الاسكتلندي دنا منه، واعترض سبيله، ووجه إليه الخطاب في صوت خافت، ولكنه لم يخل من نبرة تنم عن بعض الاعتزاز بالنفس، وسأله إن كان يقدره كرجل كريم وفارس نبيل.
فأجاب توماس دي فو في شيء من التهكم والسخرية وقال: «الاسكتلنديون جميعا أشراف نبلاء بفضل مولدهم ونشأتهم.» ولكنه أحس بالحيف في كلامه، ورأى الدم يعلو في وجنتي كنث، فاستطرد قائلا: «من الجرم أن يرتاب المرء في أنك فارس نبيل، وإنه لإثم على الأقل من رجل رآك وأنت تؤدي واجبك حق الأداء في جرأة وإقدام.»
وصادفت هذه الصراحة في هذا الاعتراف الأخير من نفس الفارس الاسكتلندي قبولا فقال: «إذن فإني أقسم لك يا توماس الجلزلاندي - وأنا رجل حسيب نسيب، وأنا فارس ارتديت نطاقي وأتيت إلى هنا طلبا للشهرة والصيت في هذه الحياة الفانية، والعفو عن ذنوبي في الحياة الآخرة - أني، بحق هذا الصليب المبارك الذي أحمل، حين أوصي بخدمة هذا الطبيب المسلم، لا أرمي إلا إلى سلامة رتشارد قلب الأسد.»
فصعق الرجل الإنجليزي من هيبة هذه الضراعة، وأجاب بإخلاص أشد مما أظهر حتى آنئذ وقال: «خبرني يا فارس النمر لو أني سلمت بأنك عن نفسك مقتنع بهذا الأمر، فهل تظن أني أصيب في بلاد فن التسمم فيها ذائع بين الناس ذيوع فن الطهي، إن أنا أتيت بهذا الطبيب المجهول، يجرب عقاقيره في رجل صحته لها قيمتها في العالم المسيحي؟»
فأجاب الاسكتلندي قائلا: «سيدي، لا يسعني إلا أن أجيب بأن حامل ترسي - وهو الوحيد من أتباعي الذي أفلت من الحروب والأوبئة وبقي لي يسهر علي - قد أصيب منذ عهد قريب بهذه الحمى ذاتها، التي حلت بالملك رتشارد الصنديد فشلت أهم الأعضاء في هذا المشروع المقدس، وقاسى منها كثيرا وتعرض لأخطارها، فأمده الحكيم بالدواء منذ أقل من ساعتين، وهو الآن يغط في نوم هادئ؛ أما أن هذا الحكيم يستطيع أن يشفي هذه العلة القاتلة فإني لا أشك في ذلك، وأما أنه يرغب في الأداء فهذا ما يكفله - على ما أظن - أنه رسول من السلطان صاحب النفوذ، وهو رجل طيب القلب مخلص أمين، إن صح أن تطلق هذه الصفات على كافر أعمى البصيرة؛ ويكيفنا ضمينا أنه إن نجح في علاجه فله ثواب مؤكد، وإن فشل عامدا فعليه الجزاء.»
وكان الرجل الإنجليزي يصغي مطرق النظرات، كأنه يشك فيما يسمع؛ ولكنه لم يكن عن الاقتناع راغبا، وأخيرا رفع بصره وقال: «هل لي أن أرى خادمك المريض يا سيدي الكريم؟»
فتردد الفارس الاسكتلندي وعلا الدم في وجنتيه وأجاب أخيرا وقال: «بكل ارتياح يا لورد جلزلاند، ولكنك يجب أن تذكر، حين ترى حقارة مسكني، أن نبلاء اسكتلندا وفرسانها لا يسرفون في الطعام، ولا يتقلبون على الحرير، ولا يأبهون لجلال المقام، إنما هذي من خواص جيرانهم أهل الجنوب.» ثم استطرد وقال: «إني أقطن في بيت حقير يا لورد جلزلاند.» وشدد التأكيد على كلمة «حقير» في عبارته وهو يسير نحو مقر إقامته في شيء من التأبي والتمنع.
ومهما تكن أهواء دي فو ضد الأمة التي كان منها هذا الرفيق الجديد - ونشهد أنا لا ننكر أن بعض هذه الأهواء يرجع إلى ما سار عن هذه الأمة في المثل من الفقر والعوز - فقلد كان لديه من نبل المقصد ما لم يحبب إليه إذلال رجل باسل جريء، أكرهته الظروف على أن يبوح بفاقة كان يود إخفاءها.
فقال: «عار على مقاتل الصليب أن يفكر في زخرف الدنيا أو في رغد العيش وهو يشق الطريق للاستيلاء على الأرض المقدسة. إنا مهما تكبدنا من مشقة فنحن خير من جماعة الشهداء والقديسين الذين وطئوا هذه الأرض من قبلنا، وهم الآن يمسكون بمصابيح من ذهب وبنخيل دائم الاخضرار.»
ولم ينطق قط توماس الجلزلاندي حياته بحديث فيه من الكناية والاستعارة مثل ما في هذا الكلام، وربما كان ذلك لأن هذا الحديث لم يعبر عن كل ما كان يجيش في نفسه من إحساس وعاطفة، لأنه كان على شيء من حب اللهو ورخاء العيش؛ وقد بلغا حينئذ مكان المخيم الذي اتخذه فارس النمر له مسكنا.
وكان ظاهر المكان هنا يدل على أن قواعد التقشف، التي كان الجلزلاندي يرى أن الصليبيين جميعا يجب أن يلزموها، قد روعيت جميعا: مساحة من الأرض قد تتسع لأن تقام فيها ثلاثون خيمة، ترك بعضها خلاء وفقا لقواعد الصليبيين في ضرب الخيام - وذلك لأن الفارس كان قد طلب أرضا تتسع في ظاهر الأمر لحاشيته الأولى - وأقيم في بعضها الآخر قليل من الأكواخ الحقيرة المصنوعة من غصون الأشجار، والتي تظللها أوراق النخيل، وكان يبدو على هذه المساكن أنها قد هجرت كل الهجران، فخرب الكثير منها وتدمر، وكان الكوخ الأوسط - وهو يمثل سرادق القائد - يتميز بعلم صغير له ذيل كذيل السنونو، رفع على رأس رمح وتهدلت ثناياه الطويلة على الأرض في سكون، كأنه يتألم من حرارة شمس آسيا المحرقة؛ ولم يقف إلى جوار هذا الكوخ - وهو رمز نفوذ الإقطاع وشرف الفروسية - حاجب أو خادم أو حتى حارس واحد؛ فإذا كان اسم المكان لا يدفع عنه العدوان، فهو مكان لا يستحق الحراسة.
أرسل السير كنث حواليه نظرة كئيبة، ولكنه كبح إحساسه ودخل الكوخ، وأشار إلى البارون جلزلاند أن يتبعه، ثم تلفت حواليه ثانية، وأرسل نظرة فيها تمعن، تنم عن إشفاق مشوب بشيء من الازدراء، والإشفاق - كالحب - يسير دوما مع الازدراء كما يقولون؛ ثم نكس رأسه الشامخ، ودخل كوخا منخفضا كاد جسمه الضخم أن يملأ كل فراغه.
وكان أهم ما يشغل داخل الكوخ سريران، أحدهما خال، وقد انتثرت عليه مجموعة من أوراق الأشجار وانتشر فوقه جلد ظبي. وتدل الأسلحة الملقاة إلى جانبه، والصليب الفضي المرفوع إلى رأسه في عناية ووقار، على أن هذا السرير هو فراش الفارس نفسه؛ أما السرير الآخر فكان يضم العليل الذي تحدث عنه السير كنث، وهو رجل قوي البنية، غليظ الملامح، تدل نظراته على أنه قد تجاوز سن الكهولة؛ وكان سريره أكثر هنداما وأشد نعومة من سرير سيده، وقد بدا للعيان أن السير كنث قد وقف ثيابه الفاخرة وعباءته الفضفاضة، التي كان الفرسان يرتدونها في أوقات السلم، وغيرها من الأشياء الدقيقة التي تتعلق باللباس والتزين، على توفير الراحة لخادمه العليل. وفي مكان خارج الكوخ، يقع تحت بصر البارون، كان يجثو على ركبتيه غلام خشن الكساء، يلبس حذاء طويلا من جلد الغزال، وقلنسوة زرقاء، وصدارا له مشبك من الحديد انطفأ بريقه، إلى جوار صحفة بالية مملوءة بالفحم، وكان يطهي في طبق من الصلب خبزا من الشعير كان إذ ذاك - ولا يزال - طعاما مستحبا لأهل اسكتلندا، وكان جانب من ظبي يتعلق بدعامة من دعامات الكوخ الكبيرة، ولم يكن من العسير على الرائي أن يعرف من أين كان هذا الظبي، فلقد كان هناك كلب كبير من كلاب الصيد أكبر حجما وأنبل مظهرا من غيره، حتى من تلك التي تقوم على حراسة الملك رتشارد وهو في فراش المرض، وكان الكلب يرقد وهو يرقب بعينيه الفطير وهو يخبز، وحينما دخل الفارس وصاحبه الكوخ، أرسل الكلب الأريب نباحا مختنقا ينبعث من صدره العميق كأنه رعد يقصف على أمد بعيد، ولكنه لمح صاحبه، فهز ذيله ونكس رأسه اعترافا بوجوده ، وسكت عن تحيته ذات العجيج والضجيج كأن غريزته النبيلة قد علمته حشمة الصمت في غرفة المريض.
وعلى حشية من الجلد إلى جانب السرير كان يجلس الطبيب المغربي الذي تحدث عنه السير كنث، وقد وضع ساقا فوق الأخرى كما يفعل أهل الشرق عادة، ولم يبد منه في النور الضئيل غير قليل، إلا أن النصف الأدنى من وجهه كانت تحجبه لحية طويلة سوداء، أرسلها على صدره، وكان يرتدي تقية تترية من صوف الغنم، صنعت في «استراخان» لونها قاتم، وقفطانه الفضفاض - أو ثوبه التركي - كان كذلك ذا صبغة معتمة. وفي هذا الظلام، الذي كان يغشى ملامحه، لم يبد من أسارير وجهه غير عينين نافذتين، يتألف فيهما بريق غير معهود، فوقف اللورد الإنجليزي صامتا في تهيب ووقار، لأن هذا الرجل الماثل أمام دي فو - رغم خشونة هيئته - كان عليه سيماء الكرب والعوز يقاسيهما برباطة جأش دون شكوى أو أنين، ومثل هذا المشهد، في أي وقت كان، يدعو توماس دي فو إلى احترام لا تثيره في نفسه المظاهر الفاخرة التي تحيط بغرف الملوك، مع استثناء غرفة الملك رتشارد وحدها.
ولم يسمع لفترة من الزمن صوت غير أنفاس مطردة وئيدة يرددها العليل، الذي كان ظاهره يدل على أنه في سبات عميق.
وقال السير كنث: «لم يأخذ الكرى بمعقد جفنيه لست ليال مضت، كما يؤكد لي الشاب الذي يباشره.»
فقال توماس دي فو وقد أمسك بيد الفارس الاسكتلندي وضغط عليها ضغطا فيه من الإخلاص ما لم يبد في كلامه: «أيها الاسكتلندي النبيل، ينبغي لك أن تعنى بخادمك هذا، فهو لا يأخذ من الطعام ما يكفيه؛ ولا من العناية ما يغنيه.»
ورفع صوته بطبيعة الحال إلى نبرته المألوفة الحاسمة في العبارة الأخيرة من كلامه، وحينئذ اضطرب العليل في سباته.
فقال: وكأنه يدمدم في حلم: «سيدي، أي سير كنث النبيل، هلا نشرب أنا وأنت من ماء الكليد
3
البارد الشافي بعد مياه العيون الآسنة في فلسطين؟»
فأسر السير كنث إلى دي فو وقال: «إنه يحلم بموطنه، وإنه لسعيد في نعاسه .» ولم يكد يلفظ بهذه الكلمات حتى هب الطبيب من مكانه بجوار سرير المريض، ووضع يد العليل - التي كان يرقب نبضها بعناية وحذر - على الفراش، في هدوء وسكينة، ثم أقبل على الفارسين وأمسك كلا منهما من ذراعه، وأشار إليهما أن يلزما الصمت، وسار بهما إلى خارج الكوخ.
ثم قال: «باسم عيسى ابن مريم، الذي نكرم كما تكرمون، ولكنا لا نحوطه بالخرافة العمياء، لا تفسدا أثر الدواء الناجع الذي تناول منه المريض. في يقظته الآن إما حتفه أو فقدان عقله؛ اذهبا وعودا حينما ينادي المؤذن من فوق المنارة بصلاة المغرب في المسجد، وإذا بقي المريض دون قلق حتى آنئذ، فإني أعدكم أن هذا الجندي الفرنجي سوف يقوى - دون إجهاد لصحته - على أن يتبادل معكما حديثا قصيرا في أي أمر تسألانه فيه، وبخاصة إن كان السائل سيده.»
فتراجع الفارسان طوعا للأمر الجازم الذي أمرهما به الطبيب، وكان يبدو عليه أنه يفهم جد الفهم أهمية الحكمة الشرقية السائرة، وهي أن غرفة المريض مملكة الطبيب.
وتوقف الفارسان عن المسير، ولبثا واقفين معا لدى باب الكوخ، وعلى سيماء السير كنث أنه كان يتوقع من زائره أن يودعه، ويبدو على دي فو كأن في نفسه شيئا يحول بينه وبين أن يفعل ذلك؛ ولكن الكلب انطلق من الخيمة وراءهما ورمى بوجهه الطويل الخشن في يد صاحبه، كأنه يتوسل إليه خاشعا أن يخلع عليه بعض عطفه، ولم يكد الكلب يحظى من صاحبه بالرعاية التي أراد، في كلمة طيبة، وتربيت خفيف، حتى ود أن يظهر عرفانه للجميل وسروره بمجاوبة سيده له، فهرع مسرعا، وهرول في مسيره، ومد ذيله ولوح به يمينا ويسارا، وأداره هنا وهناك، وهزه إلى أعلى وإلى أسفل، وهو يجوس خلال الأكواخ المتهدمة والرحبة التي وصفنا، ولكنه لم يتخط حدود المنطقة التي عرف بفطنته أن علم صاحبه يحميها، وبعد بضع وثبات من هذا القبيل، دنا الكلب من صاحبه وتخلى لحينه عن مجونه، وعاد إلى الجد الذي ألف، وإلى حركاته الوئيدة ومسلكه المتواني، وبدا عليه الخجل لأنه تنحى إلى هذا الحد البعيد عن الرزانة وحكم النفس، أيا كان الباعث على ذلك.
فنظر الفارسان جذلين؛ أما السير كنث فقد حق له أن يفخر بكلبه النبيل، وأما البارون الإنجليزي - وهو من أهل الشمال - فقد كان بطبيعة الحال ممن يعجبون بالصيد، فيستطيع أن يقدر ما لمثل هذا الكلب من جدارة.
فقال: «إنه كلب سليم قدير، وإني لأظن يا سيدي أن لو كان لهذا الكلب من القوة ما له من سرعة العدو، إذن فلن يكون له لدى الملك رتشارد صنو أو نظير، ولكني أرجوك - وأنا أكلمك بالشرف والكرامة - أن تخبرني: هلا سمعت بالبيان الذي يحتم على كل من هم دون مرتبة «الأيرل» ألا يقتنوا كلاب الصيد في دائرة الملك رتشارد بغير إذن منه! وما أظن يا سير كنث أنك استصدرت من المليك هذا الإذن، وإني أكلمك الآن كتابع من أتباع الملك.»
فقال السير كنث محتدا: «وإني أجيبك كفارس اسكتلندي حر؛ إني أسير اليوم تحت لواء إنجلترا، ولكني لا أذكر أني خضعت يوما لقوانين الغاب التي تسود في هذه الدولة، بل وإني لا أحمل لها من الاحترام ما يدفعني إلى ذلك؛ إذا نفخ في البوق لحمل السلاح خفت قدماي إلى ركابي كما يخف غيري، وإذا رن رنينه للحمل على العدو ما تخلف رمحي وراء غيره أو استكن. ولكني إذا فرغت من واجبي وكانت ساعة التراخي، فليس من حق الملك رتشارد أن يحول بيني وبين نزهتي وراحتي.»
فقال دي فو: «ومع ذلك فإنه من الحمق ألا تطيع سنة المليك، ولذا فهل تسمح لي - بصفتي صاحب النفوذ في هذا الأمر - أن أبعث إليك بما يحمي صاحبي هنا؟»
فأجاب الاسكتلندي في برود: «شكرا لك، ولكنه يعرف الحي الذي يخصني، وفي حدود هذا الحي أستطيع أن أدفع عنه بنفسي، ومع ذلك ...» وهنا بدل أسلوب كلامه واستطرد قائلا: «ومع ذلك فما هذا إلا رد بارد مني لعطف نبيل المقصد؛ إني أشكرك يا سيدي بكل قلبي، إن رؤساء الاصطبل الملكي قد يرون في «رزوال» (اسم الكلب) بعض المضرة فيلحقون به الأذى، ولكني قد لا أتوانى في رد هذا الأذى، وقد ينجم الشر عن ذلك، لقد رأيت الكثير من شئون داري يا سيدي.» وهنا تبسم واستأنف الحديث وقال: «فلا أرى بي حاجة إلى أن أستحي من أن أقول بأن «رزوال» هو أهم ما يمدنا بالمئونة، وإني لشديد الأمل في أن رتشارد الأسد لن يكون كالليث الذي نسمع به في الأغاني الخرافية، الذي خرج للصيد وعاد بالغنيمة كلها لنفسه؛ إني لا أظن أنه يضن على رجل كريم فقير، من أتباعه المخلصين، بساعة يلهو فيها، وجناح طائر يتبلغ به، وبخاصة إذا كانت الأطعمة الأخرى عسيرة المنال.»
فقال البارون: «وحق ما أعبد إنك إنما تنصف الملك، ولكن في ثنايا لفظك - رغم رقته وعذوبته - ما يثير ثائرة كل أمير نورماندي.»
فقال الاسكتلندي: «لقد سمعنا أخيرا من أفواه المنشدين والحجاج أن جماعة من طريدي الدهماء في بلادكم قد ألفوا عصابات كبيرة في مقاطعتي يورك ونتنجهام وعلى رأسهم نبال شديد البأس يدعى «روبن هود»، ووكيله «جون الصغير»، وإني لأظن أنه خير لرتشارد أن يتراخى في تطبيق قانون الغاب في إنجلترا من أن يفرضه في الأرض المقدسة.»
فأجاب دي فو وقد هز كتفيه كأنه يود أن يتحاشى التخبط في جدل خطر كريه وقال: «حقا إنه لعمل عنيف يا سير كنث، وإنها لدنيا جنون يا سيدي، والآن يجب أن أودعك، إذ لا بد لي أن أسارع بالعودة إلى سرادق الملك، وسأعودك في مسكنك إن رضيت ساعة الغروب، وأتحدث إلى هذا الطبيب المشرك؛ وإني لأحب بطيب الخاطر أن أبعث إليك بما يسري عنك ولو قليلا، إذا كنت لا ترى في ذلك إيذاء لنفسك.»
فقال السير كنث: «أشكرك يا سيدي، لا حاجة بي إلى ذلك، لقد أتى «رزوال» إلى خزانة مأكلي بما يكفيني أربعة عشر يوما، فإن شمس فلسطين، التي تجلب الأمراض، تساعد على حفظ لحم الغزال مقددا جافا.»
ثم افترق المحاربان وهما أشد صداقة مما التقيا أول الأمر، وقبل أن ينفصلا، وقف توماس دي فو يتعرف بشيء من الإسهاب الظروف التي تلابس بعثة هذا الطبيب الشرقي، وتسلم من الفارس الاسكتلندي وثائق الاعتماد التي أتى بها من صلاح الدين للملك رتشارد.
الفصل الثامن
الطبيب الحكيم يحذق شفاء الجروح
أجدى على الإنسان من جيوش وجيوش.
من الإلياذة ترجمة «بوب»
استمع الملك المريض إلى ما نبأه به بارون جلزلاند الصادق الأمين، ثم قال: «هذه قصة عجيبة يا سير توماس، هل أنت على يقين من أن هذا الرجل الاسكتلندي صادق أمين؟»
فرد عليه الرجل الغيور ساكن الحدود وقال: «لا أستطيع أن أجيبك على ذلك يا سيدي، إني أسكن بلدا شديد القرب من الاسكتلنديين، ولكني لم أتبين فيهم كثيرا من الصدق، وقد وجدتهم أبدا يتذبذبون بين الحق والباطل؛ ولكن هذا الرجل يتخلق بالصدق. وسواء كان شيطانا أم اسكتلنديا، فإن من واجبي أن أعترف له بهذا إرضاء لضميري.»
ثم سأله الملك وقال: «وماذا ترى في هيئته كفارس يا دي فو؟» «إن جلالتكم أعرف مني بهيئات الرجال وسلوكهم، وإني على ثقة من أنكم قد لحظتم كيف كان مسلك رجل النمر هذا، فلقد تحدث الناس عنه طويلا.»
قال الملك: «حق ما قلت يا توماس؛ إنا شهدناه بأنفسنا، ولقد كان مرمانا أبدا من تصدر المعارك أن نرى كيف يقوم موالينا وأتباعنا بواجباتهم، ولم نتقدم قط الصفوف مدفوعين بشهوة الزهو والغرور، كما قد يتطرق إلى أذهان بعضكم؛ إننا نعلم أن ثناء الإنسان زهو باطل، وإن هو إلا كبخار الماء، ولذا فلقد شككنا السلاح لأغراض أخرى، لا طمعا في اجتلاب المدح والثناء.»
فصعق دي فو حينما سمع الملك وهو يلقي هذا البيان الذي لا يتفق وطبيعته، وظن لأول وهلة أنه لم يعمد إلى هذا الحديث المهين عن الشهرة العسكرية - وقد كانت له بمثابة الأنفاس يستنشقها - إلا لاقتراب الموت منه على الأقل، ولكنه تذكر أنه التقى في السرادق الخارجي بالقس الذي تعود الملك أن يعترف له، ففطن إلى أن إذلال النفس هذا، الذي تملك الملك إذ ذاك، هو من أثر الوعظ الذي ألقاه ذلك الرجل المقدس، فلم يحر جوابا، وإنما أخذ يكابد الملك وقد استأنف الحديث.
وقال رتشارد مستطردا: «أي نعم، لقد شهدت حقا بأي أسلوب كان هذا الفارس يقوم بواجبه، والله لولا ملازمته لي لما كان لعصا قيادتي شأن يذكر؛ لقد أصابه قبل اليوم شيء من جودنا، ولكني لحظت فيه الاعتداد بالنفس والصلف والإقدام»:
وهنا لحظ بارون جلزلاند أن الملك قد تغيرت ملامحه فقال: «مولاي، إني لأخشى أن أكون قد اعتديت على جلالتكم بإغضائي قليلا عن تجاوزه وعدوانه.»
فأجاب الملك وقد قطب جبينه وتكلم بلهجة الدهشة والغضب وقال: «كيف هذا يا دي ملتن؟ هل أنت تتجاوز عن قحته؟ إن هذا لن يكون.» «هل لمولاي أن يأذن لي أن أذكره أن من حق وظيفتي أن أسمح لمن كان من دم كريم أن يقتني كلبا أو كلبين في المعسكر، وذلك إبقاء على الفن النبيل، فن الصيد والقنص؛ بل إنه لمن الجرم أن نشوه أو نؤذي مخلوقا وديعا ككلب هذا الرجل الكريم.»
فقال الملك: «إذن إن له لكلبا مليح المنظر.»
فأجاب البارون، وهو رجل شديد الحب للقنص في الخلوات، وقال: «إنه لمخلوق سماوي وافر الكمال، وهو من أنبل الفصائل الشمالية، عريض الصدر، قوي العجز، أسود اللون، مرقش من قبل وعلى الأقدام بخطوط داكنة، عليه سمات شهباء تضرب إلى البياض، فيه قوة يصرع بها الفحل، وسرعة يطارد بها الوعل.»
فضحك الملك من هذه الحماسة وقال: «وقصارى القول إنك قد أذنت له باقتناء الكلب وانتهى الأمر. ولكني أحذرك ألا تتهاون في إصدار إذنك كل هذا التهاون بين هؤلاء الفرسان، الذين ليس لهم أمير أو قائد يركنون إليه؛ إنهم قوم شديدو المراس، وقد لا يخلفون في فلسطين بأسرها صيدا يقتنص. ولكن دعنا من هذا، وخبرني عن علم هذا الرجل المشرك، إنك تقول إن الاسكتلندي قد لاقاه في الصحراء. أليس كذلك؟» «كلا يا سيدي، قصة الاسكتلندي كما يلي: كان في طريقه رسولا إلى ناسك عين جدة الذي يتحدث الناس عنه كثيرا.»
وهنا هب رتشارد من مرقده وقال: «يا لفداحة الخطب! من الذي بعث به، وفي أي أمر من الأمور؟ من ذا الذي يجرؤ على إرسال رجل أيا كان إلى هناك، وملكتي في دير عين جدة، وقد حجت إليه تدعو لي بالشفاء؟»
فأجاب البارون دي فو وقال: «هو رسول من قبل مجمع الصليبيين يا سيدي، وقد أبى أن يخبرني بالغرض من بعثته، ويخيل لي أن أحدا في المعسكر لا يعلم أن الملكة زوجكم قد رحلت إلى الحج، وحتى الأمراء أنفسهم قد لا يعلمون ذلك؛ إذ إن الملكة قد تنحت عن الجماعة مذ حرمت عليها جلالتكم أن تدنو منكم حفظا لها من العدوى.»
فقال رتشارد: «إن هذا لأمر يتطلب النظر. إذن لقد التقى هذا الرجل الاسكتلندي، هذا الرسول، بطبيب متجول لدى كهف عين جدة. أليس كذلك؟ خبرني!»
فأجاب دي فو وقال: «كلا يا سيدي، إنما التقى هذا الرسول، حسب ظني، قريبا من ذلك المكان بأمير عربي، وكان بينهما عراك، قصدا به امتحان ما هما عليه من جرأة وشجاعة، ولما ألفاه جديرا برفقة الشجعان، انطلقا معا إلى غار عين جدة، كما ينطلق فارسان شاردان.»
وهنا سكت دي فو، لأنه لم يكن ذلك الرجل الذي يستطيع أن يروي قصة طويلة في عبارة وجيزة.
فسأله الملك وقد نفد صبره: «وهل التقيا بالطبيب هناك؟»
فأجاب دي فو: «كلا يا سيدي، ولكن العربي حينما علم بمرض جلالتكم العضال، وعد بأن يبعث صلاح الدين بطبيبه الخاص إليك، مؤكدا لك أشد التأكيد براعته وحذقه. فجاء الطبيب إلى الغار بعد أن لبث الفارس الاسكتلندي يترقبه يوما وبعض يوم؛ جاء تحوطه الرعاية كأنه أمير تدق له الطبول ويتبعه الحشم راكبين وراجلين، ومعه خطابات الاعتماد من صلاح الدين.» «وهل فحصها جياكومو لورداني؟» «لقد عرضتها على الترجمان قبل أن آتي بها إلى هنا، وإليك ما اشتملت عليه.»
فتناول رتشارد قرطاسا دونت عليه هذه الكلمات: «سلام الله ورسوله محمد. تحية من صلاح الدين ملك الملوك، سلطان مصر وسوريا، نور الدنيا وملاذها، إلى رتشارد العظيم ملك إنجلترا. أما بعد، لقد نمى إلينا، يا أخانا في الملك، أن المرض قد مد إليكم يدا ثقيلة لا تحتمل ، وأن ليس لديكم من الأطباء غير النصارى واليهود، الذين يعملون بغير بركة الله ونبينا الكريم ولذا فإنا مرسلون إليكم بطبيبنا الخاص يقوم برعايتك، ويسهر على راحتك، وهو «أدنبك» الحكيم الذي إن رآه عزرائيل نشر جناحيه ورحل عن غرفة المريض، والذي يعلم مزايا الأعشاب والأحجار، ومسير الشمس والقمر والنجوم، وفي وسعه أن ينقذ الإنسان من كل ما لم يكتب على الجبين؛ وإنا لهذا فاعلون، متوسلين إليك من أعماق القلوب، أن تكرمه وتفيد من حذقه، وإنا لم نفعل ذلك خدمة لقدرك وشجاعتك فحسب - وهما فخر دول الفرنجة قاطبة - وإنما فعلناه كي نقضي على الخصومة القائمة بيننا الآن، إما باتفاق شريف وإما علنا بحد السيف في ساحة القتال، وذلك لأنا نرى أنه لا يليق بمكانتك وشجاعتك أن تموت ميتة العبد قد أنهكه سيده بالعمل، ولا يلائم اسمنا بين الناس أن ينتزع المرض من أسنة رماحنا خصما جريئا مثلك. إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ...»
فصاح رتشارد: «كفى، كفى. والله إنه ليضاعف من مرضي أن هذا السلطان الشجاع، صاحب المقام الرفيع، يعتقد في دين الإسلام؛ أجل سوف أرى طبيبه، وسوف أسلم نفسي لهذا الحكيم، وسوف أرد لهذا السلطان النبيل جوده ونواله، وسوف ألتقي بصلاح الدين في ميدان القتال وفقا لرأيه السديد؛ ولن نترك له مجالا كي يسم رتشارد ملك إنجلترا بالجحود ونكران الجميل، وسوف أدق عنقه وألقيه طريح الأرض بفأسي، وسوف أرده إلى حرم المسيحية بضربات لا أظنه عانى لها من قبل مثيلا، ولسوف ينبذ ضلاله أمام سيفي الكريم، ذي اليد الصليبية، ولسوف أعمده بالمسيحية في ساحة الوغى من خوذتي، حتى وإن امتزجت مياه الطهور بدمي ودمه؛ هيا يا دي فو، ولا تؤخر عني هذه النهاية الراضية البهيجة، هات الحكيم هنا.»
فقال البارون وقد رأى أثر الحمى في هذه الثقة بالنفس المتدفقة: «اعلم مولاي أن السلطان من المسلمين وأنت خصمه اللدود.» «ولهذا حق عليه أن يخدمني في هذا الشأن، كي لا تحسم هذه الحمى الطفيفة نزاعا بين ملكين مثلي ومثله؛ اعلم أنه يحبني كما أحبه - وكما يتحاب الخصوم النبلاء في كل حين - وشرفي إنه لمن الجرم أن أرتاب في حسن طويته!»
فقال لورد جلزلاند: «ومع ذلك فإني أرى من الحكمة يا مولاي أن تتريث حتى ترى أثر هذا الدواء في الخادم الاسكتلندي، إن هذا أمر تتعلق به حياتي، فإني لو اندفعت في هذه السبيل، وتحطمت سفينة العالم المسيحي على يدي، لحق علي أن أموت كما يموت الوغد الدنيء.»
فرد عليه ريتشارد وهو يؤنبه: «لم أعرفك قبل اليوم مترددا خشية الموت.»
فأجاب البارون ذو القلب الحديدي: «وما كنت لأتردد الآن يا مولاي لولا أن حياتك مع حياتي على كف عفريت.»
فقال رتشارد: «إذن فلتذهب عني ما دمت رجلا تداخله الريبة، وارقب سير هذا الدواء؛ والله إني لأود لو شفاني أو أودى بحياتي، فلقد كللت من رقدتي هنا كالثور يقضي عليه الطاعون في وقت تدق فيه خارج السرادق الطبول، وتدوس فيه الأرض الخيول، ويرن فيه رنين الأبواق.»
حينئذ سارع البارون بالرحيل واعتزم أن يبلغ رسالته رجلا من رجال الكنيسة، إذ قد أحس ببعض الوخز في ضميره؛ لأنه أدرك أن سيده سوف يكون تحت رعاية رجل من المنافقين.
وكان رئيس أساقفة «صور» هو أول من بث إليه شكوكه، إذ كان يعرف عنه اهتمامه بمولاه رتشارد، الذي كان يحب هذا الأسقف الحكيم ويجله، فاستمع الأسقف إلى هذه الشكوك التي حدثه بها دي فو، متنبها ذلك التنبه الدقيق الذي يتميز به رجال الدين من الرومان الكاثوليك، ونظر إلى هذه الريبة الدينية التي كانت تساور دي فو بالاستخفاف الذي يلائم نيافته أن يقابل به أمرا كهذا من أمور الدنيا.
فقال: «إنما الأطباء - كالدواء الذي يستخدمونه - عظيمو النفع، ولكنهم من أرذل بني الإنسان مولدا ونشأة، كما أن الدواء كثيرا ما يستخرج من أحط المواد.» ثم قال: «ولكم معشر الرجال أن تستعينوا عند الحاجة بالكفار والمشركين، بل إني ليخيل لي أن من أسباب استبقائهم على وجه الأرض أنهم قد يعملون على راحة المسيحيين المخلصين، ولذا فنحن نستعبد الأسرى من الكفار شرعا .»
واستطرد قائلا: «هذا إلى أنه ليس من شك في أن المسيحيين في جاهليتهم كانوا يستغلون الكفار الذين لم يعتنقوا المسيحية، ولك مثل في سفينة الإسكندرية التي أبحر فيها إلى إيطاليا بولس الرسول - بارك الله فيه - فلقد كان ملاحو السفينة كفارا، ولا مشاحة في ذلك، وهل تدري ماذا قال هذا القديس المكرم حينما أحس بالحاجة إلى خدمتهم؟ قال لا سبيل إلى خلاصكم إلا إن كان معكم هؤلاء الرجال على ظهر السفين، وفضلا عن ذلك فإن اليهود كالمسلمين، كلاهما مارق من المسيحية، وليس بالمعسكر إلا قليل من الأطباء من غير اليهود، ونحن نستخدم هؤلاء دون ريبة أو عار، ولذا فإني أستبيح الإفادة من المسلمين في هذا الشأن، وقد بينت لك جواز ذلك.»
1
هذه الأدلة أزالت عن توماس دي فو كل شك قائم في ضميره، وقد كان للمقتبسات اللاتينية خاصة أثر شديد على نفسه لأنه لم يفقه منها كلمة واحدة.
ثم استطرد الأسقف الحديث، وهو أقل طلاقة من ذي قبل، وعرض له أن الرجل العربي قد يتقدم إلى العمل بنية سيئة، ولكنه لم يستطع أن يحسم في الأمر على عجل، وقدم له البارون خطابات الاعتماد فقرأها وقرأها وقارن بين الأصل والترجمة.
ثم قال: «والله إنها لمكيدة قد دبرت على هوى الملك رتشارد، وإني لا يسعني إلا أن أرتاب في هذا العربي الماكر؛ إنهم قوم برعوا في فن السموم، ويستطيعون أن يخففوها حتى تلبث الأسابيع وهي تسري في الجسم، فيتسنى لمحضر السم إبان ذلك أن يلوذ بالفرار؛ إنهم يستطيعون أن يدسوا في الأقمشة والجلود، بل وفي الورق والرق خفي السموم - غفرانك يا مريم! - كيف لي وأنا بهذا عليم أن أمسك بخطابات الاعتماد هذه وأدنيها من عيني؟! خذها مني يا سير توماس، خلصني منها سريعا.»
ثم سلمها للبارون، وهي منه على بعد ذراع، وعليه لهفة العاجل، واستطرد قائلا: «ولكن هيا بنا يا سيدي دي فو إلى خيمة الخادم المريض، حيث نستطيع أن نعرف إن كان هذا الحكيم خبيرا حقا بفنون العلاج التي يدعيها لنفسه، قبل أن نفكر في سلامة الملك إذا نحن أذنا له أن يباشره بفنه. ولكن قف! ودعني أولا آتي بصندوق عطوري، فإن هذه الحميات تنتشر انتشار العدوى، وإني أشير عليك يا سيدي بأن تتناول حصى البان منقوعا في الخل فإني كذلك أعلم شيئا عن فنون العلاج.»
فأجاب توماس الجلزلاندي وقال: «أشكرك يا نيافة الأسقف؛ إني أظن أن لو كان لهذه الحمى أن تنال مني لأصابتني منذ زمن طويل وأنا ملازم جوار فراش سيدي.»
فخجل أسقف صور من هذا الجواب لأنه كان يتحاشى الملك المريض، ثم أمر البارون أن يتابع المسير.
ولما مرا بالكوخ الحقير، الذي كان يقطن به كنث صاحب النمر وتابعه، قال الأسقف لدي فو: «والآن اعلم يا سيدي يقينا أن هؤلاء الفرسان الاسكتلنديين أقل بأتباعهم عناية منا بكلابنا، فهذا فارس يقولون إنه جريء في القتال، ويرونه جديرا بأن يتحمل جسيم التبعات في زمن الهدنة، وهذا تابع من أتباعه يسكن في كوخ أحط من أسوأ بيوت الكلاب في إنجلترا، فماذا أنت قائل في جيرانك هؤلاء؟»
فقال دي فو: «إني أرى أن السيد يقوم بما يكفي نحو خادمه إذا أسكنه في بيت لا يقل عن بيته.» ثم دخل الكوخ وتبعه الأسقف، وعليه أمارات التأبي والإحجام بادية، فهو، وإن لم تنقصه الشجاعة من بعض نواحيها، إلا أنها كانت شجاعة ممزوجة باعتبار قوي شديد لسلامته وأمنه، ولكنه تذكر أن من واجبه أن يحكم بنفسه على حذق الطبيب العربي، فدخل الكوخ متعاليا بذاته شامخا بأنفه، متكلفا ذلك، ظنا منه أن في هذا ما يدعو إلى احترام القادم الغريب.
وكان الأسقف حقا رجلا يجذب النظر، عليه سيماء الهيبة والنفوذ؛ كان في شبابه فارط الجمال، وحتى في شيخوخته لم تقل رغبته في التظاهر بالجمال، فكان زيه الكنسي من أنفس طراز، حواشيه مزركشة بالفراء الثمين، ويتلفع بعباءة جملة التطريز، وعلى أصابعه خواتم تليق برجل يتأمر على مقاطعة من المقاطعات الكبيرة، ويلبس على رأسه قلنسوة كانت إذ ذاك محلولة الرباط، ومطروحة إلى الخلف من حمارة القيظ، وللقلنسوة أزرار من الذهب الخالص يوثقها بها حول رقبته وتحت ذقنه وقتما يشاء، ولحيته الطويلة التي فضضها العمر تتدلى على صدره. وكان له سادنان شابان يرعيانه، أحدهما يحمل فوق رأسه مظلة من أوراق النخيل الهندي ينشر بها ظلا مصطنعا، كانت تألفه بلاد الشرق حينذاك، والآخر بيده مروحة من ريش الطاووس يهز بها كي يروح عن سيده الكريم.
وحينما دخل الأسقف كوخ الفارس الاسكتلندي كان صاحب الدار متغيبا، والطبيب العربي - الذي جاء لرؤيته - يجلس الجلسة عينها التي خلفه عليها دي فو منذ ساعات عديدة، متصالب الساقين فوق حصير من أوراق الأشجار المقصوصة، إلى جوار العليل الذي كان في سبات عميق، والذي كان يجس نبضه حينا بعد حين؛ ولبث الأسقف منتصبا قبالته في سكون مدة دقيقتين أو ثلاث كأنه يرتقب منه تحية شريفة يحييه بها، أو كأنه كان على الأقل ينتظر من هذا العربي أن يذهل لنبل مظهره، ولكن «أدنبك» الحكيم لم يعره التفاته، اللهم إلا لمحة عجلى. وأخيرا لما حياه الأسقف باللغة الفرنجية السائدة في تلك البلاد، لم يجبه بأكثر من التحية الشرقية المألوفة، وقال: «عليكم السلام.»
فقال الأسقف وقد صعق من هذا الاستقبال الفاتر: «أأنت طبيب أيها الكافر؟ أريد أن أتحدث إليك في هذا الفن.»
فأجاب الحكيم وقال: «لو كنت تعلم فذلكة من الطب لعرفت أن الأطباء لا يتشاورون ولا يتجادلون في غرف مرضاهم.» ثم قال وقد سمع للكلب من الكوخ الداخلي دمدمة خافتة «اصغ! حتى الكلب يعلمك التعقل، فهل علمت؟ إن غريزته تهديه أن يكتم نباحه حتى لا يسمعه الرجل المريض.» ثم قال وقد هب من مكانه وتقدم نحو الطريق: «هيا بنا خارج الخيمة إن كان لديك شيء تريد أن تحدثني عنه.»
ورغم سذاجة الطبيب العربي في ملبسه، وضآلة جسمه إذا قيس بالأسقف الطويل القامة والبارون الإنجليزي الضخم، فلقد كان في مسلكه وطلعته شيء يجذب الأنظار، شيء حال بين أسقف صور وبين أن يحتج على هذه الإهانة التي لحقته من الاستخفاف بمقدمه؛ ولما بعدا عن الكوخ، صوب نظره بضع دقائق في صمت نحو «أدنبك»، وذلك قبل أن يستقر بينه وبين نفسه على خير أسلوب يجدد به ما انقطع بينهما من حديث؛ وكان العربي يلبس فوق رأسه عمامة كبيرة لا تظهر من تحتها خصل الشعر؛ وكانت العمامة تخفي كذلك أحد حاجبيه، وكان غزيرا طويلا ناعما خاليا من التجاعيد، كما كانت وجنتاه الباديتان تحت ظل لحيته الطويلة. هذا وقد ذكرنا من قبل نفاذ عينيه السوداوين.
وكان الأسقف مأخوذا بالفتوة البادية على صاحبه، ولكنه تمكن أخيرا من شق السكون المخيم - ولم يبد على العربي أنه كان يتعجل تعكير صفوه - وسأل الأسقف العربي عن عمره؛ فأجاب: «إنما تقاس أعمار عامة الرجال بتغضن البشرة، أما العلماء فتقاس أعمارهم بما يحصلون من علم. وإني لا أجرؤ على الظن بأني أزيد على مائة حول بعد الهجرة».
2
وفهم بارون جلزلاند هذه العبارة على ظاهر معناها، وظن أن العربي قد عاش قرنا من الزمان، فنظر إلى الأسقف نظرة الشك والريبة، ورغم أن الأسقف كان خيرا منه فهما لما رمى إليه الحكيم، إلا أنه رد عليه نظرته بهز رأسه هزة الدهشة والتعجب؛ ثم استرد هيئة الجد وأعاد السؤال على «أدنبك» بصيغة الجزم والأمر، وطلب إليه أن يقدم الدليل على كفاءته في طبه.
فرد عليه الرجل الحكيم - وقد وضع يده على عمامته دليلا على الاحترام والتقدير - وقال: «إن لديك كلمة صلاح الدين العظيم، وهي كلمة لم يحنث فيها قط لعدو أو صديق، فهل تريد شيئا أكثر من ذلك أيها النصراني؟»
فقال البارون: «أريد منك دليلا على مهارتك أشهده بعيني، ولن تقرب سرير الملك رتشارد بغير ذلك.»
فقال العربي: «جزاء الطبيب شفاء المريض؛ انظر إلى هذا الجندي الذي جففت دماءه الحمى - وقد أصابت مخيمكم فبيضت أديمه بعظام الموتى - تلك الحمى التي وقف فن أطبائكم المسيحيين إزاءها كما تقف الصدرة الحريرية في وجه الرمح الصلب؛ انظر إلى أصابعه وذراعيه وقد هزلت وباتت كمخالب الكركي وعظام سوقه. والله لقد حلق الموت هذا الصباح فوق رأسه، ولكن لو أن عزرائيل بجانب سريره، وأنا بجانبه الآخر ، ما فارقت الروح منه الجسد؛ لا تزعجني بسؤال بعد هذا، وإنما تريث حتى تحل ساعة الفصل واشهد الخاتمة العجيبة وأنت صامت ذاهل.»
ثم لجأ الطبيب إلى الإسطرلاب، وهو مصدر الوحي للعلم في الشرق، ولبث يرقب بجد وإمعان، حتى إذا ما حان وقت صلاة العشاء، خر على ركبتيه ويمم وجهه شطر مكة، وصلى لله الصلاة التي يختتم بها المسلمون اليوم بعد العمل، فتبادل الأسقف والبارون الإنجليزي النظر، وعليهما أمارات الازدراء والحنق، ولكن أحدا منهما لم ير أن من اللياقة في ذلك أن يعترض الحكيم في صلواته مهما تكن في اعتبارهما خالية من كل تقديس.
ونهض العربي من الأرض التي خر عليها ساجدا، وولج الكوخ حيث كان العليل ممتدا على فراشه، ثم أخرج من صندوق صغير من الفضة اسفنجة مشربة بقطرات العطر، ووضعها على أنف النائم، فعطس وتيقظ، ثم تلفت حواليه هائجا مذعورا، وكان مرآه مروعا، وقد هب على سريره شبه عار، عظامه وغضاريفه ينم عنها ظاهر الجلد، كأنها لم تكتس يوما بلحم، ووجهه طويل، تشققه الغضون أخاديد، وكانت عيناه أول الأمر حائرتين، ولكنهما أخذتا تهدآن شيئا فشيئا، ويظهر أنه قد أحس بوجود زائريه ذوي المكانة الرفيعة، لأنه حاول - في دهشة - أن ينزع الغطاء عن رأسه احتراما لهما، وسأل عن سيده بصوت فيه ذلة وخضوع، فقال له لورد جلزلاند: «هل تعرفنا أيها التابع؟»
فأجابه التابع بصوت خافت: «لا أعرفكما حق المعرفة، إن سباتي كان طويلا ومليئا بالأحلام، ولكني أعرف أنك من كبار اللوردات الإنجليز، كما يدل على ذلك صليبك الأحمر؛ وصاحبك أسقف مقدس يتوق إلى بركاته آثم مسكين مثلي.»
فقال الأسقف: «لك مني البركات، وغفر الله لك.» ثم رسم علامة الصليب ولكنه لم يدن من فراش المريض.
فقال العربي: «ها أنت ذا تشهد بعينيك أن الحمى قد غلبت على أمرها وقهرت، وها هو ذا الرجل يتكلم في طمأنينة وروية، وخفقات قلبه هادئة كخفقات قلبك، وتستطيع أن تخبر نبضها بنفسك.»
فأبى الأسقف أن يقوم بهذه التجربة، ولكن توماس الجلزلاندي - وقد كان أشد إصرارا على هذا الاختبار - جس نبض المريض، واقتنع بأن الحمى قد أدبرت وتولت.
ثم نظر الفارس إلى الأسقف وقال: «إن هذا لشيء عجاب؛ لقد تم شفاء الرجل ولا ريب في ذلك، لا بد لي أن أصطحب هذا الطبيب توا إلى خيمة الملك رتشارد؛ ماذا ترى يا نيافة الأسقف؟»
فقال العربي: «البثا قليلا ودعاني أتم علاجا قبل أن أشرع في الآخر؛ سوف أصحبكما بعد أن أناول مريضي الكأس الثانية من هذا الإكسير المبارك.»
وبعد أن فرغ من حديثه، استخرج كأسا فضية وملأها بالماء من جرة كانت إلى جانب السرير، ثم أخرج كيسا صغيرا من الحرير المطرز مجدولا بالفضة، ولم يعلم الحاضرون ما بداخله، ثم غمره في الكأس ولبث يرقبه في سكون مدة خمس دقائق، وخيل للنظارة أن الماء قد فار وجاش من هذا العمل، ثم هدأ بعد لحظة.
وقال الطبيب للرجل المريض: «اشرب ونم ثم اصح بريئا من المرض.»
فقال أسقف صور: «أفبهذه الجرعة الهينة تأخذ على نفسك علاج الملك؟»
فرد عليه الرجل الحكيم وقال: «لقد شهدت أني عالجت بها رجلا بائسا، فهل ملوك الفرنجة من طينة غير الطينة التي خلق منها أدنى رعاياهم؟»
فقال بارون جلزلاند «لنسقه توا إلى الملك؛ لقد دل على أنه يعرف سر السبيل إلى استرداد صحته، ولو أنه أبى مباشرة العلاج لأرديته حيث لا يجدي فعل الدواء.»
وبينما هم يتأهبون لمغادرة الكوخ، صاح الرجل المريض وقد رفع صوته بقدر ما سمح له ضعفه وقال: «أبانا المقدس، ويا أيها الفارس النبيل، وأنت أيها الطبيب الرءوف، إن أردتموني على أن أنام وأشفى فخبروني برا منكم وإحسانا؛ ماذا دها سيدي العزيز؟»
فأجاب القس: «لقد رحل يا صديقي إلى بلاد نائية يحمل رسالة نبيلة قد تستبقيه بضعة أيام.»
وقال بارون جلزلاند: «كلا، ولماذا تخدع هذا الرجل المسكين؛ لقد عاد سيدك إلى المعسكر وعما قريب تراه.»
فرفع المريض إلى السماء يديه الهزيلتين حمدا لله، ولم يعد يقدر على مقاومة فعل الإكسير المنوم، واستولى عليه نعاس خفيف وديع.»
وقال الأسقف: «إنما أنت يا سير توماس طبيب خير مني، وللباطل المرضي أليق بحجرة المريض من الحق الكريه.»
فأجاب دي فو متعجلا: «ماذا تعني يا سيدي الموقر، أفتظن أني أقول كذبا كي أنقذ عشرة من أمثال هذا الرجل؟»
فقال الأسقف وأمارات الذعر بادية عليه: «إنك تقول إن سيد هذا التابع - أعني فارس النمر الرابض - قد عاد. أليس كذلك؟»
قال دي فو: «وحقا لقد عاد، وتحدثت إليه منذ بضع ساعات مضت، وقد عاد برفقة هذا الطبيب النطاسي.»
فقال الأسقف وهو بادي الاضطراب: «يا للعذراء البتول! ولماذا لم تنبئني بإيابه؟»
فأجاب دي فو غير مبال وقال: «ألم أقل لك إن هذا الفارس، فارس النمر، قد عاد بصحبة الطبيب؟ أظنني خبرتك بذلك، ولكن ما شأن إيابه وحذق الطبب أو شفاء المليك؟»
فرد عليه الأسقف وقد أمسك إحدى يديه بالأخرى، وضرب بقدمه الأرض، وبدت عليه دلائل الجزع، وقال، وكأنه مكره على ما يقول «شأن كبير يا سير توماس، ولكن هلا خبرتني أنى ذهب هذا الفارس؟ رحماك اللهم! لقد نقع الآن في إثم ما بعده إثم!»
فأجاب دي فو وقد أدهشه انفعال الأسقف وقال: ربما خبرنا ذلك التابع الواقف بعيدا في الخلاء أنى ذهب سيده.»
ودعا الصبي للحضور، وأخذ يحدثهم بلغة لا يكادون يفقهون لها معنى، واستطاع بعد لأي أن يفهمهم أن ضابطا جاء لسيده واستدعاه إلى السرادق الملكي قبل قدومهما إلى خيمة مولاه بزمن وجيز، وحينئذ ازداد بالأسقف القلق حتى بلغ أقصاه، واستطاع دي فو أن يتبينه، رغم أنه لم يكن بالرجل الدقيق الملاحظة، ولا بالمرتاب الظنين، وكلما تزايد قلق الأسقف اشتدت رغبته في كبته وكتمانه عن العيان؛ ثم استأذن دي فو في الانصراف على عجل، فنظر إليه دي فو حائرا مذهولا، وهز كتفيه إلى أعلى في صمت وعجب، ثم شرع يرشد الطبيب العربي إلى خيمة الملك رتشارد.
الفصل التاسع
هذا أمير الأطباء،
إن شهدته حمى أو طاعون،
أو نقرس أو زكام،
تولى الداء عن جسم العليل.
لكاتب غير معروف
سار البارون جلزلاند بخطوات وئيدة نحو السرادق الملكي، وعليه سيماء القلق والجزع، وكان البارون قليل الثقة بنفسه وبكفاياته إلا في ساحة القتال، يحس من نفسه افتقار الذكاء المتوقد، ويكفيه أن يقف من الظروف موقف التعجب والدهشة حيث يسعى غيره من الرجال من ذوي الخيال الحي إلى التفهم والتنقيب، أو إلى التأمل والتفكير على الأقل؛ ولكنه كان أمرا شاذا - حتى في نظره - أن يحول الأسقف انتباهه من التفكير في العلاج العجيب الذي شهداه وفي احتمال شفاء رتشارد واسترداده صحته بذلك الدواء، إلى نبأ تافه عن توجه فارس اسكتلندي بائس من مكان إلى مكان، فارس لم يعلم عنه توماس الجلزلاندي أنه من دم كريم، ولم يكن في نظره أكثر من رجل قليل الأهمية حقير؛ ورغم أن البارون قد تعود أن ينظر إلى ما قد يمر به من أحداث نظرة سالبة، إلا أنه أخذ الآن يكدح الذهن كدحا لم يألفه متخرصا بحقيقة الأمر.
وأخيرا عرض له بغتة أن الأمر ربما كان مؤامرة تدبر لرتشارد وتختمر في معسكر الحلفاء، وليس من البعيد أن يكون الأسقف عضوا من أعضائها لما عرف عنه بعضهم من أنه رجل سياسي لا يتورع فيما يريد، وكان يرى أن ليس بين الجميع رجل كامل الخلق كسيده؛ فلقد كان رتشارد زهرة الفرسان طرا، ورأس القواد المسيحيين جميعا، مطيعا في كل أمر لأحكام الكنيسة المقدسة، ولم ير «دي فو» بعد هذا الكمال كمالا؛ ومع ذلك فهو يعرف أن سيده كان دائما يجلب على نفسه - بغير حق - لوما وكرها، بقدر ما يجلب شرفا وحبا، لما يبدي من جليل الصفات؛ ويعلم أن في المعسكر ذاته، وبين أولئك الأمراء الذين أقسموا يمين الولاء للحرب الصليبية، الكثير ممن يود لو يضحي بكل أمل في الظفر على العرب في سبيل إرضاء نفسه بالقضاء على رتشارد ملك إنجلترا، أو بإذلاله على الأقل.
وقال البارون محدثا نفسه: «ليس من المحال أن يكون هذا الحكيم، وهذا الشفاء - أو شبه الشفاء - الذي أدخله في جسم الخادم الاسكتلندي، ما هما إلا خدعة، ينضم إليها فارس النمر، ويساهم فيها أسقف صور، رغم وظيفته الدينية .»
ولكن لم يكن من اليسير حقا أن يوفق البارون بين هذا الظن وبين ما أبداه الأسقف من هلع وذعر حينما علم - على غير انتظار - أن الفارس الاسكتلندي قد عاد بغتة إلى معسكر الصليبيين؛ ولكن دي فو لم يكن يتأثر بغير أهوائه عامة، وكانت أهواؤه توحي إليه يقينا لا يداخله الشك بأن قسا إيطاليا ماكرا محتالا، ورجلا اسكتلنديا خبيث الطوية، وطبيبا مسلما، إنما يؤلفون مجموعة لا يصدر عن أفرادها غير الشر، ولا يرجى أن ينبع منها الخير، فاعتزم أن يصارح بشكوكه مليكه، وكان يقدر إصابته في الحكم قدرا عاليا لا يقل عن عقيدته في شجاعته وإقدامه.
ولكن الأحداث التي وقعت إبان ذلك جرت مجرى يناقض الظنون التي لعبت برأس توماس دي فو، فلم يكد يترك السرادق الملكي حتى بدأ رتشارد - وهو بين جزع أنشبته الحمى وجزع هو من طبيعة نفسه - يشكو غياب البارون، ويبث شديد رغبته في عودته؛ وقد عانى من قبل كثيرا، فحاول الآن أن يخلص من هذا الهياج الذي زاد من علة جسمه زيادة كبيرة، وأضنى أتباعه بكثرة ما طلب إليهم من ألوان اللهو، وعبثا ما استعان القس بدعواته، والكاهن بقصص الخيال، بل ومغنيه المحبوب بقيثارته. وأخيرا، قبيل انحدار الشمس بنحو ساعتين - وكان ذلك قبل الوقت الذي كان يرتقب فيه نبأ يسره عن سير العلاج الذي يباشره المغربي (أو العربي) بزمن طويل - أرسل كما سمعنا رسولا يأمر فارس النمر بالحضور؛ واعتزم أن يهدئ من جزعه بحصوله من السير كنث على بيان مفصل عن سبب تغيبه عن المعسكر، وعن ظروف التقائه بهذا الطبيب الذائع الصيت.
استدعي الفارس الاسكتلندي ومثل لدى حضرة المليك، وكأنه ليس بالغريب على أشباه هذه المقابلات؛ لكن ملك إنجلترا لم يكد يعرف منه حتى مرآه، وذلك رغم أنه (الفارس) كان شديد الاحتفاظ بمرتبته، وكان متفانيا في إخلاصه للسيدة التي تملكت منه سويداء القلب، فلم يغب في ظرف واحد من الظروف التي كانت أريحية إنجلترا وسخاؤها تفتح فيها بلاط مليكها لكل من بلغ مرتبة خاصة في سلك الفروسية . ونظر الملك وأمعن في النظر إلى السير كنث وهو يقترب من فراشه، وقد ثنى الفارس ركبتيه لحظة من الزمن، ثم نهض ووقف أمام الملك موقفا يليق بضابط في حضرة مليكه، موقف الإجلال ولكن بغير ذلة أو خنوع.
قال الملك: «اسمك كنث فارس النمر؛ أنى لك مرتبة الفروسية؟»
فأجاب الاسكتلندي: «لقد نلتها من حسام وليم الأسد ملك اسكتلندا.»
فرد عليه الملك وقال: «والله إنه لسلاح ما أجدره بمنح الشرف، وتالله إنه لم يوضع على كتف ليست له أهلا
1
فلقد شهدناك وأنت في موقف الفروسية والشجاعة لما حمي وطيس القتال واشتدت الحاجة؛ ولكن قبل أن تعرف أنا بكفاءتك علماء، بلغت بك القحة في بعض الأمور حدا لا يخول لك أن تطلب لخدماتك جزاء خيرا من العفو عن عدوانك، فماذا تقول في هذا؟»
فحاول كنث أن يجيب عن ذلك، ولكن عجز عن أن يفصح عن نفسه، وقد تآصر على بلبلته إحساسه بحب عالي المطامح، ونظرة ثاقبة كنظرة البازي رمقه بها قلب الأسد، وكأنه يريد أن ينفذ إلى دخيلة نفسه.
ثم قال الملك: «ومع ذلك، ورغم أن الجند عليهم طاعة الأمر، وعلى الأتباع احترام أولي الأمر، فإنا نستطيع أن نعفو عن فارس مقدام جرما أخطر من اقتنائه لكلب عز، مع ما في ذلك من مخالفة لما فرضناه على الناس فرضا صريحا لا يحتمل التأويل.
وظل رتشارد يحدق في وجه الاسكتلندي، ويبادله النظر، وسر في دخيلة نفسه واطمأن للأسلوب الذي ساق فيه اتهامه.
فقال الاسكتلندي: «إن جلالتك يا مولاي، إن شئت، ينبغي أن تتهاون معنا نحن فقراء اسكتلندا من النبلاء في هذا الشأن، فنحن عن الوطن بعيدون، مواردنا قليلة، ولا نستطيع أن نقيم أودنا كما يستطيع أشرافكم الأغنياء الذين لهم ثروة اللمبارد. وإن ضرابنا ليكونن على الأعراب أشد وقعا لو أنا تناولنا من لحم الغزال المجفف الحين بعد الآخر مع ما نأكل من العشب ومن خبز الشعير.»
فقال رتشارد: لست بحاجة إلى رضاي ما دام توماس دي فو - كغيره ممن يتحوطني من الرجال - يعمل ما يروق في عينيه، وقد أذن لك بالصيد والقنص.»
فأجاب الاسكتلندي وقال: «إنما أذن لي بالصيد فقط يا مولاي، ولكن إن أردت جلالتكم أن تمن علي بمنة القنص، وكذلك إن بدا لكم أن تأذنوا لي باستخدام البزاة، فإني آخذ على نفسي أن أمد سرادقكم الملكي بخير طيور الماء.»
فقال الملك: «لو كان لك باز ما كنت تنتظر منا الإذن، وأنا أعرف جيدا أنه يقال عنا خارج بلادنا إننا أبناء أنجو نستنكر الاعتداء على ما شرعنا للغاب من سنن، كما نستنكر الخيانة لتاج الملك، ولكنا نعفو عن هذه الإساءة - كما نعفو عن تلك - للرجال الشجعان ذوي المكانة. ولكن دعنا من هذا، إنما أريد أن أعرف منك أيها الفارس لماذا ومن ذا الذي أذن لك أن تقوم برحلتك الحديثة العهد إلى قفار البحر الأحمر وإلى عين جدة؟»
فقال الفارس: «بأمر من مجمع أمراء الحروب الصليبية المقدسة.» «وكيف يجسر امرؤ على إصدار مثل هذا الأمر وأنا - ولست قطعا بأقلهم شأنا في هذا المجمع - غير عالم به؟»
فقال الاسكتلندي: «لم يكن من شأني يا جلالة الملك أن أسأل عن مثل هذه الدقائق، إنما أنا جندي من جنود الصليب، ولا ريب أني أخدم الآن تحت لواء جلالتكم، وأنا فخور لأنكم قد أذنتم لي بذلك، ولكني لست مع ذلك إلا رجلا يحمل الرمز المقدس في سبيل حقوق المسيحية واسترداد القبر المقدس، وأنا لذلك مكره على أن أطيع طاعة عمياء أوامر الأمراء والزعماء الذين يدبرون هذا المشروع المبارك، وإني والعالم المسيحي بأجمعه نندب انحرافهم عن جلالتكم، وإبعادهم إياكم لفترة وجيزة - على ما أرى - عن مجامعهم التي لجلالتكم فيها صوت قوي مسموع. ولكني كجندي يجب أن أطيع أولئك الذين يئول إليهم حق الحكم شرعا، وإلا كنت مثالا سيئا في معسكر المسيحيين.»
فقال الملك رتشارد: «حق ما تقول، ولا لوم عليك في ذلك ولا تثريب، وإنما العتب على أولئك الذين أرجو أن أواجههم عين عين حينما يكتب لي الله أن أنهض من هذا الفراش اللعين، فراش المرض والفتور ؛ ولكن هلا خبرتني فحوى رسالتك؟»
فأجاب السير كنث وقال: «أظن يا جلالة المليك أن هذا السؤال جدير به أولئك الذين أنا رسول منهم، فهم أقدر على إبداء العلة في رسالتي، أما أنا فلا أستطيع إلا أن أتحدث عن ظاهر معناها ومغزاها وحسب.»
فقال الملك النزق: «لا تراوغني أيها السيد الاسكتلندي، إن في هذا لخطرا على سلامتك.»
فأجاب الفارس رابط الجأش وقال: «سلامتي يا مولاي أنا لا أكترث لها، فما هي إلا من توافه الأمور إزاء يمين أقسمتها لهذا المشروع، وإني لا أنظر إلا إلى نعيم الخلد في الدار الباقية، ولا تعنيني سعادة الجسد في هذه الدنيا الفانية.»
فقال الملك رتشارد: «وحق القداس إنك لرجل شجاع! استمع إلي يا سيدي الفارس، إني أحب أهل اسكتلندا، فإنهم قوم أشداء، إلا أنهم يتصفون بالعناد وصلابة الرأي، وإنهم لقوم ملخصون في قلوبهم، إلا أن ظروف دولتهم تضطرهم أحيانا إلى اصطناع الخداع والرياء، وإني أستحق منهم المحبة والتقدير، فلقد قمت لهم طوعا بما لم يكونوا يستطيعون ابتزازه كرها بحد السيف مني أو من أسلافي، فأعدت بناء قلعتي «ركبره» و«برك» اللتين تدينان لإنجلترا بالولاء، وأعدت لكم التخوم القديمة، وخلصتكم أخيرا من واجب الولاء لتاج إنجلترا، وهو واجب رأيت أنه قد فرض عليكم ظلما وجورا، وسعيت في أن أجعل منكم أصدقاء أشرافا مستقلين. ولم يرم ملوك إنجلترا السابقون إلى أكثر من أن يرغموكم على الطاعة كارهين، ويبقوكم أتباعا لهم ناقمين.»
فقال السير كنث وقد أحنى رأسه إجلالا: «أجل، لقد فعلت هذا كله يا سيدي المليك، ولقد فعلته وعقدت عليه معاهدة ملكية مع ملك بلادنا في «كنتربري» ولذا فها أنا ذا طوع أمرك، وها هم من هم خير مني من الاسكتلنديين يأتمرون لك، ويشنون الغارة على المسلمين تحت لوائك، ها نحن رهن إرادتك، ولولا ما ذكرت لكنا الآن نعيث فسادا في حدود بلادك بإنجلترا، ولئن كنا الآن قليلا عديدنا فما ذلك إلا لأنا وهبنا في سبيلك حياتنا وأزهقناها راضين طائعين.»
فقال الملك: «صدقت فيما تقول، ولكن بحق ما أديت لبلادكم من جليل الخدمات، أود أن أذكرك أن من حقي - كعضو رئيسي في عصبة المسيحيين - أن أعرف ما يتفاوض فيه خلاني، فهل لك بعد هذا أن تنصفني وتخبرني بما هو من حقي أن أعرفه، وإني لعلى ثقة من أنك سوف تصدقني في هذا أكثر من كل من عداك.»
فأجاب الاسكتلندي وقال: «مولاي، أما وقد ناشدتني هكذا، فسأصدقك القول، وإني أعتقد أن مراميك من حملتنا هذه نبيلة خالصة لوجه الله، وإن هذا لأكثر مما أظن في الآخرين من أعضاء العصبة المقدسة؛ وإذن فليسرك يا مولاي أن تعرف أن مهمتي كانت أن أقترح بوساطة ناسك عين جدة، وهو رجل يحبه ويذود عنه صلاح الدين نفسه ...»
وهنا سارع رتشارد معترضا وقال: «مد أجل الهدنة ولا ريب.»
فأجاب الفارس الاسكتلندي وقال: «كلا يا سيدي وحق القديس اندراوس، بل عقد صلح دائم، وسحب جيوشنا من فلسطين.»
فرد عليه رتشارد دهشا وقال: «يا لله! لقد ساء ظني بهم حقا، ولكني لم أكن لأحلم أنهم سيذلون أنفسهم إلى مثل هذا الخزي والهوان، خبرني يا سير كنث بأية طوية حملت هذه الرسالة؟»
فقال كنث: «بطوية خالصة طيبة يا مولاي، لأنا بعد ما افتقدنا زعيمنا النبيل، الذي كنت آمل في الظفر تحت قيادته وحده، لم أر أن أحدا يستطيع أن يخلفه، أو أن نرجو منه أن يقودنا إلى النصر، فرأيت أنه خير لنا في مثل هذه الظروف أن نتجنب الهزيمة.»
فقال رتشارد وقد كتم غيظا أليما يكاد قلبه يتميز منه: «وما هي الشروط التي أردتم أن تعقدوا عليها هذا الصلح المرجو؟»
فأجاب فارس النمر الرابض وقال: «هذه لم يعهد إلي بها يا مولاي، إنما سلمتها للناسك مختومة مغلقة.»
فقال رتشارد: «وماذا ترى في هذا الناسك الوقور، وهل هو غافل أو مجنون أو خائن أو قديس؟»
فأجابه الرجل الاسكتلندي الماكر وقال: «يخيل لي أنه يدعي الغفلة يا سيدي كي يكتسب من المسلمين رضاهم واحترامهم، وهم قوم ينظرون إلى الرجل المعتوه وكأنه يوحى إليه من السماء، ولقد بدا لي على الأقل أن جنون هذا الراهب لا يظهر إلا لماما، وهو ليس - كالجنون المألوف - جزءا من طبيعة عقل صاحبه.»
فقال الملك وقد ارتمى إلى الوراء على سريره، وكان قد نهض منه إلى نصفه: «أمكر بك في هذا الجواب، والآن هلا حدثتني طرفا عن توبته؟»
فاستطرد كنث الحديث وقال: «أما توبته فقد بدا لي أنه مخلص فيها، وهي ثمرة لندمه على ذنب مروع يحسب - فيما يرى - أنه يقضي عليه بأن ينتبذ من الناس مكانا قصيا.»
فقال الملك رتشارد: «وما سياسته؟»
فأجاب الفارس الاسكتلندي وقال: «أظن يا سيدي أنه قد يئس من استخلاص فلسطين، كما يئس من خلاص نفسه، اللهم إلا بمعجزة من السماء، أو هو يرى ذلك على الأقل مذ انقطعت ذراع رتشارد ملك إنجلترا عن أن تجاهد في سبيله.» «وإذن فسياسة هذا الناسك هي سياسة الجبن والخور، وهو كأولئك الأمراء الأشقياء الذين نسوا فروسيتهم ودينهم ولم تصح منهم العزيمة، ولم يثبتوا إلا على أمر واحد، وذلك أن يكروا راجعين. أولئك خير لهم أن يتقهقروا على جثة حليف لهم ينازع الروح من أن يتقدموا ويلتحموا بالأعراب المسلحين!»
فقال الفارس الاسكتلندي: «هل لي يا سيدي المليك أن أذكر لك أن هذا الحديث إنما يزيد من حرارة مرضك، وما مرضك إلا عدو يخشى العالم المسيحي منه شرا أكثر مما يخشى من جيوش الكفار المجهزين بالسلاح.»
وحينئذ علا الدم في وجه الملك رتشارد، واستشرى في حركاته، وأمسك إحدى يديه بالأخرى، ومد ذراعيه، وتطاير الشرر من عينيه، وظهر عليه في الحين أنه يعاني ألما جسمانيا شديدا وثورة نفسية عنيفة في آن واحد، ولكن حماسته دفعته إلى أن يواصل حديثه كأنه لم يأبه لهذا أو لتلك.
وقال: «تستطيع يا سيدي الفارس أن تداهن، ولكنك لن تفلت مني، ولا بد لي أن أعرف منك أكثر مما ذكرت، هل رأيت زوجي الملكة وأنت لدي عين جدة؟»
فأجاب السير كنث، وقد تملكه ارتباك شديد إذ تذكر الموكب الذي مر به في منتصف الليل في المعبد الصخري وقال، «لا أعلم أني رأيتها يا مولاي.»
فقال الملك بصوت حازم: «إني أسائلك: ألم تكن في معبد راهبات «كرمل» لدي عين جدة، وهل لم تر هناك «برنجاريا» ملكة إنجلترا ووصيفات بلاطها اللائي قصدن إلى هناك حاجات؟»
فرد عليه السير كنث وقال: «سيدي، سأصدقك القول كأني أعترف لك! في معبد تحت الأرض، هداني إليه الناسك، شاهدت رتلا من النساء يغنين ويظهرن ولاءهن لأثر مقدس كريم، ولكني لم أر وجوههن، ولم أسمع أصواتهن، إلا وهن يرتلن الأناشيد، ولذا فإني لا أستطيع أن أقول هل كانت ملكة إنجلترا في هذا السرب أو لم تكن.» «وهل لم تتعرف واحدة من هؤلاء السيدات؟»
فسكت السير كنث ولم يحر جوابا.
فقال رتشارد وقد نهض على مرفقيه: «إني أسائلك كفارس وكرجل كريم - وسوف أعرف من جوابك كيف تقدر هاتين الخلتين - هل عرفت أية سيدة من بين هذه الزمرة من العابدات أو لم تعرف؟»
فقال كنث وقد خالجه كثير من التردد: «مولاي، إني أستطيع أن أرمي بالظن.»
فرد عليه الملك وقد قطب جبينه وعبس وقال: «وأنا كذلك أستطيع أن أرمي بالظن، ولكن كفاك هذا، قد تكون نمرا يا سير كنث، ولكن حذار أن تتحرش بكف الأسد. استمع إلي، إنك إن شغفت بالقمر حبا فلقد أتيت أمرا إدا، وإنك إن قفزت من أسوار برج شاهق أملا في الدنو من هالته فلقد هلكت رعونة ونزقا.»
وفي تلك الآونة علا في الغرفة الخارجية بعض الضجيج، فسارع الملك وارتد إلى أسلوبه المعهود وقال: «كفى، كفى، واغرب عني. سارع إلى دي فو وابعث به إلي مع الطبيب العربي. حياتي لدين السلطان! تالله لو أنكر السلطان عقيدته لمددته بمهندي يطرد به هذا الزبد من الفرنسيين والنمساويين من ملكه، وما أظن إلا أن فلسطين ستنعم تحت حكمه كما كانت تنعم حينما كان يتأمر عليها ملوك مباركون بتفويض من الله.»
وحينئذ تراجع فارس النمر، ولم تمض دقائق معدودات حتى أعلن الحاجب قدوم وفد من المجمع أتى ليمثل لدى جلالة ملك الإنجليز.
فأجاب الملك قائلا: «يسرني أنهم يعترفون بأني ما زلت على قيد الحياة، ولكن من هم أولاء السفراء الموقرون؟» «هما الرئيس الأعلى لرجال المعبد ومركيز منتسرا.»
فقال رتشارد: «إن أخانا ملك فرنسا لا يحب فراش المرضى، ولو كان فيليب هو العليل لوقفت إلى جوار سريره أمدا طويلا، أي «جوسلين» مهد سريري خيرا من هذا، فلقد انقلب كبحر عاصف، وهات لي تلك المرآة الصلبة، ومشط شعر رأسي ولحيتي فإنهما حقا ليبدوان كمعرفة الأسد، لا كغدائر الرجل المسيحي، ناولني ماء.»
فقال الحاجب وهو يرتعد: «إن الأطباء يقولون يا مولاي إن الماء البارد قد يكون فيه الهلاك.»
فأجاب الملك: «اذهب بالأطباء إلى الشيطان الرجيم! إذا كانوا لا يعرفون لي شفاء، أفتظن أني أسمح لهم بإيلامي وتعذيبي؟ هات الماء وحسبك هذا!» وبعدما اغتسل بالماء قال: «أدخل علي الرسولين الكريمين، وما إخال إلا أنهما سوف يريان الآن أن المرض لم يحد برتشارد إلى أن يتهاون في مظهره.»
وكان رئيس رجال المعبد الشهير رجلا طويلا نحيلا، برته الحروب، نظراته وئيدة إلا أنها نافذة، وله حاجبان طبعت عليهما ألوف الدسائس المظلمة لمحة من خفائها ودجنتها، وهو على رأس تلك الجماعة الفريدة التي ترى في نفسها متكاتفة كل شيء، ولا ترى في نفسها أفرادا شيئا، تلك الجماعة التي تسعى لإعلاء كلمتها حتى وإن استهدف للخطر في سبيل ذلك الدين ذاته، وقد تآلفوا متآخين من أول الأمر للذود عنه، وهم قوم يتهمون بالزندقة والسحر رغم ما لهم من صفة القساوسة المسيحيين، ويظن بعض الناس أنهم متآمرون مع السلطان سرا رغم اليمين التي أقسموها للإخلاص في الدفاع عن المعبد المقدس أو استرداده؛ هذه الجماعة كلها، وشخص زعيمها - أو قل سيدها الأعلى - كانت لغزا، إذا ذكر ارتعدت منه الفرائص؛ وكان الرئيس مرتديا ثيابا بيضاء تكسبه وقارا، ويحمل في يده عصا الحكم السحرية، التي كثيرا ما أثارت بشكلها العجيب التأويلات والظنون، مما كان يؤدي إلى الشك بأن هؤلاء الإخوة من الفرسان المسيحيين المعروفين، إنما يأتلفون تحت أحط رموز الوثنية.
أما كنراد منتسرا فكان ظاهره أسر للنفس من صاحبه الجندي القس ذي اللون القاتم الذي يحوطه الإبهام والغموض؛ كان منتسرا رجلا مليح الوجه، في شرخ الشباب أو جاوزه قليلا إلى الكهولة، جريئا في القتال، حكيما في المشورة، مرحا جذلا في أوقات اللهو والسرور؛ إلا أنه كثيرا ما كان يتهم بالتلون وبالأطماع الذاتية الضيقة، وبرغبته في مد إمارته دون اعتبار لخير المملكة اللاتينية في فلسطين، وبسعيه وراء صلاحه الذاتي بإجراء المفاوضة الخاصة مع صلاح الدين معتديا بذلك على حقوق الحلفاء المسيحيين.
تقدم هذان الرجلان ذوا المقام الرفيع إلى رتشارد بالتحية المألوفة، فردها الملك بلطف وبشاشة، ثم شرع مركيز منتسرا يشرح ما حدا بهما إلى تلك الزيارة، وقال إنهما مرسلان من قبل الملوك والأمراء الذين يتألف منهم مجمع الصليبيين، وقد ازداد قلقهم، «كي يستفسروا عن صحة حليفهم الكريم ملك إنجلترا الجسور.»
فأجاب الملك الإنجليزي قائلا: «إنا نعرف ما لصحتنا من أهمية لدى أمراء المجمع، وإنا نعلم حق العلم كم ذا يكابدون من كتمان كل ما بهم من طلعة بشأنها مدة أربعة عشر يوما، خشية منهم - دون ريب - أن تشتد بنا العلة لإظهارهم الجزع لما أصابنا».
وهكذا أوقف الملك تيار البيان الذي كان يتدفق على لسان المركيز، وتحير المركيز نفسه واضطرب لهذا الجواب، فوصل صاحبه - وهو أشد منه صراحة - ما انقطع من حبل الحديث، وفي هيبة جافة، وصيغة موجزة توائم الحضرة التي يوجه إليها الخطاب، قال للملك إنهما جاءا من قبل المجمع يتوسلان إليه باسم العالم المسيحي: «ألا يعرض صحته لطبيب مسلم يعبث بها، طبيب قيل إن السلطان قد بعث به إليه، وأن يتريث حتى يتدبر المجلس الريب التي يرون الآن أنها تلابس بعثة مثل هذا الرجل، فإما أزالوها أو أيدوها.»
فأجاب رتشارد: «أي رئيس فرسان المعبد الشجعان المقدسين، وأنت يا مركيز منتسرا يا ذا النبل الرفيع، لو تفضلتما وعرجتما على السرادق المجاور، لرأيتما أي وزن نقيم لهذا العتب الرقيق من زملائنا في هذه الحرب الدينية من ملوك وأمراء.»
فانسحب على أثر ذلك المركيز ورئيس الفرسان، ولم يتغيبا طويلا في السرادق الخارجي حتى وصل الطبيب الشرقي يصحبه بارون جلزلاند وكنث الاسكتلندي، وقد تأخر البارون في مقدمه إلى الخيمة قليلا عن الرجلين الآخرين، وربما تريث كي يصدر إلى الحراس خارج السرادق أمرا ما.
ولما دخل الطبيب العربي، انحنى على الطريقة الشرقية امتثالا وإجلالا للمركيز ورئيس الفرسان، وكانا باديي الوقار مظهرا ومخبرا، فرد رئيس الفرسان التحية بصيغة فيها برودة الأنفة والازدراء، أما المركيز فقد ردها بلطفه المعهود الذي ألف التقدم به إلى الرجال على اختلاف مراتبهم وأوطانهم، ثم كان سكون، لأن الفارس الاسكتلندي كان يرتقب دي فو، ولم يجرؤ على أن يدخل من تلقاء نفسه خيمة ملك إنجلترا، وفي غضون تلك الفترة، سأل رئيس الفرسان الرجل المسلم مقطبا عابسا وقال له: «أيها الرجل، هل لديك من الشجاعة ما يمكنك من ممارسة فنك في شخص ملك مبارك من جيوش المسيحيين؟»
فأجابه الحكيم وقال: «إن شمس الله تضيء على النصراني كما تضيء على المسلم المؤمن، وليس لعبد الله أن يفرق بين هذا وذاك إذا دعا الداعي لأن يمارس فن الشفاء.»
فقال رئيس الفرسان: «يا أيها الحكيم المنافق - وسواء كان هذا اسمك أو أي غيره مما يدعونك به، فأنت عبد من عبيد الظلام لم تعتنق دين المسيح - هلا عرفت أن الخيول الوحشية سوف تمزقك إربا إربا لو مات الملك رتشارد بين يديك؟»
فرد عليه الحكيم وقال: «ما أقسى هذا من حكم، إني لا يسعني إلا أن أستخدم وسائل البشر، أما العاقبة فمسطورة في كتاب النور.»
فقال مركيز منتسرا: «كلا يا رئيس الفرسان الوقور المقدام. اعلم أن هذا الرجل العالم لا يعرف شيئا عن نظامنا المسيحي الذي يقوم على خشية الله ومن أجل سلامة من حلت فيهم بركته؛ ولتعرف إذن أيها الطبيب الخطير، يا من لا نشك في حذقه ومهارته، أن خير سبيل تسلك هي أن تقصد إلى مجمع حلفنا المقدس المجيد، وتمثل لديه، وهناك تدلي بكل ما يتعلق بالوسائل التي سوف تتخذها في علاج هذا العليل صاحب المقام الرفيع، وتشرح رأيك لمن ينتقون لك من أطباء وحكماء عالمين، وبذا تفلت من كل خطر قد تثيره على نفسك بنفسك لو أنك اندفعت وأخذت على نفسك وحدها تبعة مثل هذا الأمر الخطير.»
فأجاب الحكيم قائلا: «سيدي، إني أفهم ما ترميان إليه حق الفهم، ولكن للعلم أساطينه كما أن لفنونكم الحربية أبطالها، بل لقد كان له - كما كان للدين - شهداؤه. إني آتمر بأمر مليكي السلطان صلاح الدين، وقد أمرني بشفاء هذا الملك النصراني، وسوف أصدع بأمره، بارك الله فيه، ولئن فشلت فيما أردت فها هو جسمي أقدمه لسلاحكم، وإنكم لتمتشقون سيوفا عطشى لدماء المؤمنين؛ ولكني لن أجادل رجلا لم تطهره فضائل الأدوية التي جمعت شيئا من علمها بفضل الله، وأتوسل إليكم ألا تضعوا التواني حائلا بيني وبين أداء واجبي.»
فقال البارون دي فو، وقد سارع ودخل الفسطاط: «من ذا الذي يذكر التواني، كفانا ما نلنا منه. إليكما تحيتي يا لورد منتسرا ويا رئيس فرسان المعبد الجسور، لا بد لي أن أدخل توا مع هذا الطبيب العالم إلى فراش مولاي.»
فقال المركيز بالفرنسية النورماندية أو لغة: «وي
Ouie » كما كانت تسمى إذ ذاك: «سيدي، هلا عرفت أنا إنما أتينا كي نذكر - نيابة عن الملوك والأمراء الصليبيين - بالخطر الذي ينجم عن السماح لطبيب شرقي مسلم أن يعبث بصحة عزيزة كصحة مولاي الملك رتشارد؟»
فأجاب الرجل الإنجليزي بفظاظة وغلظة وقال: «ليس في وسعي أن أستخدم ألفاظا كثيرة، ولا يسرني أن أستمع إليها، وفضلا عن ذلك فإني إلى تصديق ما رأت عيناي أقرب مني إلى ما سمعت بأذني، وإني لعلى ثقة من أن هذا الرجل قدير على شفاء الملك رتشارد من علته، وإني أومن وأوقن أنه سوف يسعى جهده في هذه السبيل. الوقت ثمين، ولو أن محمدا ذاته وقف بباب الفسطاط وفي نفسه مثل هذا الغرض السامي الذي بنفس «أدنبك» الحكيم لرأيت من الجرم أن نمهله دقيقة واحدة؛ وإذن فلتتوكلا على الله يا سيدي.»
فأجاب كنراد منتسرا وقال: «ولكن الملك نفسه قد قال إنه ينبغي لنا أن نمثل وقتما يعالجه هذا الطبيب.»
وحينئذ أسر البارون إلى الحاجب بشيء ما، ولربما كان يريد أن يعرف إن كان المركيز صادقا فيما يقول، ثم أجاب: «سيدي، لو صبرتما رحبنا بمثولكما معنا؛ ولكنكما إن عارضتما بالفعل أو بالتهديد هذا الطبيب في أداء واجبه فلتعلما أني لن أرعى لعلو مكانتكما حرمة، وسوف أفرض عليكما الابتعاد عن فسطاط رتشارد، ولتعلما كذلك أني قوي الإيمان بما لدواء هذا الرجل من فضائل، حتى لو أن رتشارد ذاته أعرض عن تناوله، فبحق سيدة «لانركست» ما أظن إلا أني سوف أجد في قلبي ما يدفعني إلى أن أكرهه على أن يتعاطى أسباب شفائه، أراد أو لم يرد. هيا بنا يا حكيم.»
ولفظ كلمته الأخيرة باللغة الفرنجية، وصدع الطبيب بما أمر في الحين، وحينئذ نظر رئيس فرسان المعبد متجهما عابسا، إلى هذا الجندي المسن، الذي لا يعرف من آداب اللياقة شيئا، ولكنه ما إن تبادل النظر مع المركيز حتى انفرج جبينه المقطب على قدر ما وسع، وتبع كلاهما دي فو والعربي إلى الفسطاط الداخلي حيث كان رتشارد مستلقيا على سريره يترقبهم، وقد ارتسم عليه ذلك الجزع الذي يرقب به المريض خطوات الطبيب؛ أما السير كنث الذي لم يكن مثوله مرادا أو ممنوعا، فقد شعر بأن من حقه في تلك الظروف التي وقف فيها أن يتبع هؤلاء الرجال ذوي المكانة الرفيعة، ولكنه أحس بحطته نفوذا ومرتبة فانتأى بعيدا إبان ما جرى إذ ذاك.
وما إن دخلوا غرفة رتشارد حتى صاح الملك متعجبا: «هيا، هيا، أكرم بهؤلاء الزملاء الذين أتوا كي يشهدوا رتشارد وهو يقفز في الظلام. أي حلفائي النبلاء، إني أحييكم كممثلين لمجمعنا المنعقد، وعما قريب إما ترون رتشارد بينكم بسالف هيئته، أو تحملون إلى القبر جثمانه ورفاته. أي دي فو، لك من أميرك الشكر حيا أو ميتا. ولكن هناك شخصا آخر؛ لقد أضاعت هذه الحمى مني البصر. ماذا؟ يا أيها الاسكتلندي الجسور: من ذا الذي يرقى إلى السماء بغير درج؟ مرحبا بك؛ هيا يا سيدي الحكيم، إلى العمل، إلى العمل.»
وكان الطبيب قد استعلم من قبل عن مختلف الأعراض التي تبدو على الملك في مرضه، فشرع الآن يجس نبضه، ولبث كذلك طويلا، شديد التنبه والتيقظ، بينما وقف الجميع حواليه صامتين يترقبون بأنفاس مقطوعة، وبعد ذلك ملأ الحكيم كأسا بماء معدني، وغمس فيه الكيس الأحمر الصغير الذي أخرجه من صدره كما فعل من قبل، ولما بدا له أنه تشبع بالدواء تشبعا كافيا هم أن يناوله الملك، لولا أن اعترضه هذا، وقال: «البث قليلا؛ لقد جسست نبضي، فدعني أضع إصبعي فوق إصبعك، فإني كذلك - كما يليق بالفارس النبيل - أعرف شيئا عن فنك.»
فأسلم العربي يده بغير تردد، واختفت - بل وانطمرت - أصابعه الطويلة الرقيقة السوداء برهة من الزمن في قبضة يد الملك رتشارد الكبيرة.
ثم قال الملك: «إن دمه ينبض في هدوء كدم الطفل، أما أولئك الذين يسممون الأمراء فلا تتدفق دماؤهم هكذا. أي دي فو! لتصرف هذا الحكيم مكرما آمنا سواء مت أم حييت. واذكرنا بالخير يا صديقي عند صلاح الدين النبيل؛ لو مت فسأموت ولا يخامرني شك في نيته، ولو حييت فلأشكرنه كما يحب المقاتل أن يشكر.»
ثم نهض من فراشه وتناول الكأس في يده، والتفت إلى المركيز وإلى رئيس فرسان المعبد وقال: «أصغيا إلى ما أقول، ولتدعا إخواني الملوك يذكرونني وهم يحتسون نبيذ قبرص ويقولون: «هذا من أجل الشرف الخالد، الذي سوف يناله أول صليبي يضرب برمحه أو بسيفه أبواب بيت المقدس، ومن أجل العار والشنار الأبدي الذي سوف يلحق بكل من ولى ظهره السلاح بعد أن امتدت إليه يده!»
ثم احتسى الكأس حتى ثمالتها وردها إلى العربي وغاص ثانية - كأنه مجهد منهوك - فوق الحشايا التي أعدت لراحته؛ ثم ألمع الطبيب بعد ذلك بإشارات صامتة، إلا أنها قوية التعبير، بأن يغادروا الفسطاط جميعا، ما خلاه هو ودي فو، الذي لن ينسحب لإشارة أو أمر، فخلت الغرفة بعد ذلك كما أشار الطبيب.
الفصل العاشر
والآن سوف أفتح كتابا خفيا،
وأقرأ لكم فصلا عميقا خطيرا،
تدركونه بنافذ البصيرة فتبرمون منه ولا ترضون.
هنري الرابع، الجزء الأول
وقف مركيز منتسرا ورئيس فرسان المعبد معا أمام السرادق الملكي الذي وقع فيه هذا الحادث الفريد، ورأيا حراسا أشداء بنشابهم وقسيهم مشهورة، وهم على هيئة دائرة حول السرادق، يبعدون كل ما قد يزعج الملك النائم؛ وكان هؤلاء الجنود يتطلعون بنظرات خافضة صامتة كئيبة كأنهم يجرون سلاحهم في جنازة، وكانوا إذا خطوا خطوة في حرص شديد، حتى لا تكاد تسمع رنين الدرق أو صليل السيوف، رغم العدد العديد من الرجال المسلحين الذين كانوا يسيرون حول الفسطاط. ولما مر الرجلان ذوا المكانة الرفيعة بصفوفهم نكسوا السلاح إكبارا وإجلالا، ولكنهم لزموا الصمت العميق.
وقال رئيس فرسان المعبد لكنراد بعدما مرا بحرس رتشارد: «لقد غير كلاب الجزيرة
1
هؤلاء من روحهم الطروب. أي ضجيج أجش وأي قصف كان من قبل أمام هذا السرادق! كنت لا ترى إلا المتاريس تدق، والكور تقذف، والمصارعة وزئير الأغاني وطقطقة كئوس النبيذ، واجتراع الأباريق، بين هؤلاء الرعاع الضخام الجسوم، كأنهم على سهر في الريف تتوسطهم السارية بدلا من العلم الملكي.»
فأجاب كنراد وقال: «هذه الكلاب الجسيمة من أمة مخلصة أمينة، وقد أحرز الملك سيدهم محبتهم باستعداده للمصارعة والنزال والمجون بين المتقدمين منهم كلما تملكه الهوى.»
فقال رئيس الفرسان: «ما هذا الملك إلا مجموعة من الأهواء، ألم تلحظ العهد الذي حملنا إياه عوضا عن الصلاة والدعاء وهو يتناول الكأس المباركة هناك؟»
فقال المركيز: «والله لو كان صلاح الدين كأي تركي آخر ممن يلبسون العمائم ويولون وجوههم شطر مكة إذا ما نادى المؤذن بالصلاة، لأحس رتشارد ببركة الكأس، بل ولاستساغ مذاقها كذلك، ولكن صلاح الدين يتظاهر بالإيمان والشرف والكرم، كأنه يجوز لوغد مثله لم يعتنق دين المسيح أن يتحلى بأخلاق الفارس المسيحي الفاضلة! هل نما إليك ما يقال من أنه تقدم إلى رتشارد يطلب الانخراط في سلك الفروسية؟»
فأجاب كبير الفرسان متعجبا وقال: «وحق القديس «برنارد» لقد آن لنا إذن أن نخلع النطق والمهاميز يا كنراد ونمحو شعار الدروع وننبذ الخوذات، لو كان أرفع الشرف المسيحي يمنح تركيا لم يعتنق دين المسيح ولا يساوي عشرة دراهم.»
فرد عليه المركيز وقال: «إنما أنت تحط من شأن السلطان، ومع ذلك، ورغم أنه رجل له قيمة، فلقد رأيت خيرا منه من المشركين يباع بأربعين درهما في المواخير.»
وكان الرجلان إذ ذاك قد دنوا من جواديهما - وكانا واقفين بعيدا عن السرادق الملكي يمرحان بين جماعة الخدام والحجاب الشجعان الذين كانوا يباشرونهما - وحينئذ عرض كنراد على صاحبه، بعد برهة ساد فيها السكون، أن يستمتعا بنسيم المساء البارد الذي بدأ في الهبوب، وأن يصرفا جواديهما وخدامهما ويسيرا راجلين إلى بيتيهما في الحي الذي يسكنانه، متخللين صفوفا ممتدة من خيام المسيحيين، فقبل رئيس الفرسان، ثم طفقا يسيران معا وكأنهما تراضيا على أن يتجنبا الأماكن المأهولة في هذه المدينة من الخيام، ويتابعا الرحبة الفسيحة التي كانت تقع بين الخيام وقوى الدفاع الخارجية، حيث يستطيعان أن يتحدثا مختليين، لا ترعاهما عيون غير عيون الحراس وهما يمران بهم.
وتبادلا الحديث برهة من الزمن على النقط الحربية والاستعداد للدفاع، ولكن هذا اللون من الحديث، الذي لم يرق لهما كليهما، سرعان ما خمد وأعقبته فترة طويلة ساد فيها السكون، ثم انتهى الأمر بأن وقف مركيز منتسرا بغتة وكأنه انتهى إلى رأي طارئ، ثم حدق ببصره بضع لحظات في عيني رئيس الفرسان السوداوين النافذتين، ووجه إليه الخطاب أخيرا وقال: «هل لي أن أطلب إليك يا سير «جلز أموري»، يا أيها الرجل المبجل، طلبة عساها تتفق وكرامتك، وتفوز منك بالرضا والقبول؟ وذلك أن تخلع عنك هذا القناع الأسود الذي تتقنع به وأن تتحدث إلى صديق لك بوجه عار.»
فابتسم رئيس فرسان المعبد نصف ابتسامة.
ثم قال: «من الحجب ما خف لونه، ومن الستر ما اسودت صفحته، وأولهما - كثانيهما - يخفي الملامح الطبيعية كل الخفاء.»
فقال المركيز، وقد مد يده إلى لحيته، ثم رفعها وكأنه يضم قناعا: «ليكن ذلك، هذا حجابي أرفعه، والآن ماذا ترى في أمر هذه الحرب الصليبية فيما يمس صالح رجال معبدك؟»
فأجابه رئيس الفرسان قائلا: «إنما أنت بسؤالك هذا تمزق الحجاب الذي يستر فكري، ولا ترفعه عما بنفسك، ومع ذلك، فإني أجيبك بقصة مجازية حدثني بها شيخ من شيوخ الصحراء؛ قال الشيخ: دعا مرة رجل فلاح ربه أن ينزل له من السماء ماء، ولما نزل الماء في غير وقت حاجته شكا الفلاح وتململ، فأراد الله أن يجزيه جزعه، فأرسل على حقله الفرات، فهلك الرجل وما يملك، ومع ذلك فقد استجاب الله له الدعاء.»
فقال المركيز كنراد: «ما أصدق ما تقول، وددت لو ابتلع المحيط تسعة عشر جزءا من سلاح أمراء الغرب هؤلاء! فإن ما يبقى بعد ذلك يؤدي لنبلاء فلسطين المسيحيين، وللبقية التعسة من مملكة بيت المقدس اللاتينية، أغراضهم خيرا من ذي قبل؛ لو أنا تركنا لأنفسنا لصمدنا للعواصف، ولو أن مددا معتدلا جاءنا من المال والرجال لأكرهنا صلاح الدين على أن يحترم فروسيتنا، ويقدم لنا صلحا وحماية بشروط هينة، ولكنا من الخطر الداهم الذي يكتنف هذه الحروب الصليبية القوية التي تهدد صلاح الدين - لو أنها وقعت - لا ننتظر من العرب أن يرضوا لأي منا أن يستولي على ملك أو إمارة في سوريا، بله أن يسمحوا ببقاء جماعات الإخوان المسيحيين الحربيين الذين نالوا على أيديهم شرا كثيرا.»
فقال رئيس الفرسان: «أي نعم، ولكن هؤلاء الصليبيين المغامرين قد ينجحون ويرفعون الصليب ثانية على حصون صهيون.»
فأجاب المركيز وقال: «وماذا يجدي هذا على رجل المعبد أو على كنراد منتسرا؟»
فأجاب رئيس الفرسان قائلا: «قد يجدي عليك، وقد يصبح كنراد منتسرا كنراد ملك بيت المقدس.»
فرد عليه المركيز وقال: «هذا كلام فيه شيء من الرنين، ولكنه رنين أجوف، فإن «جودفري أمير بوين» قد يختار التاج الشائك رمزا له. أي رئيس الفرسان، إني أعترف لك أني الآن أميل بعض الميل إلى هيئة الحكومة الشرقية: الدولة ما هي إلا ملك ورعية؛ هذا هو البناء الفطري الساذج؛ الراعي والقطيع، وما هذه السلسلة من الإقطاعيات المستقلة بين الطرفين إلا نظام مصطنع غير طبيعي، وإنه لخير لي أن أمسك بعصا المركيزية بقبضة ثابتة وأهزها كما أهوى من أن أستولي على صولجان الملك، ولا أكون في حقيقة الأمر إلا مقيدا وخاضعا لإرادة كل أمير من أمراء الإقطاع المختالين الذين يمتلكون أرضا تحت قانون بيت المقدس؛
2
ينبغي يا كبير الفرسان أن يطأ الملك الأرض حرا لا تعوقه حفرة هنا وسياج هناك؛ هذا امتياز إقطاعي وذاك بارون يتدرع بالزرد وقد استل سيفه في يمينه يتقي به. وموجز القول أني أعلم أن مطالب «جاي دي لزجنان» في العرش سوف توضع فوق مطلبي له، لو أن رتشارد عوفي وكان له أن يقول كلمته في الانتخاب.»
فقال كبير الفرسان: «كفى، كفى. حقا لقد أقنعتني بإخلاصك، وقد يرى غيرك ما ترى، ولكن قليلا سوى كنراد منتسرا من يجرؤ على أن يجهر صراحة بأنه لا يرغب في إعادة مملكة بيت المقدس، وإنما هو يؤثر أن يبقى سيدا على جزء من أجزائها، مثله في ذلك مثل سكان الجزر البرابرة الذين لا يعملون على خلاص سفين كريم من لجج الأمواج إلا إن كان لهم في حطام السفين مغنم.»
فقال كنراد وقد نظر نظرة حادة فيها شك وريبة: «ينبغي ألا تبوح بهذا السر، واعلم وكن على ثقة أن لساني لن يسيء إلى ضميري، ولن تمتنع يدي عن الدفاع عنهما معا. اتهمني بالخيانة إن شئت، فإني مستعد لأن أدفع عن نفسي، وأن أقف في رحبة النزال في وجه خير رجل من رجال المعبد ممن يحملون الرماح.»
فقال رئيس الفرسان: «هذه نهضة مباغتة منك أيها الرجل الجسور، وإني لأقسم لك بالمعبد المقدس - الذي أخذت وزملائي على أنفسنا أن ندفع عنه - أني سوف أحفظ سرك كزميل صادق.»
فقال مركيز منتسرا - وهو رجل كثيرا ما غلب حبه للسخرية سياسته وحكمته: «بأي معبد تقسم لي؟ أفبذاك القائم على تل صهيون الذي ابتناه الملك سليمان، أم بذلك البناء المجازي الذي يقال إن المجامع التي تعقد في قاعات دروسكم ترمز به إلى توسيع نطاق جماعتكم؟»
فتجهم له رئيس رجال المعبد، ونظر إليه بعين قاتلة، ولكنه أجاب في هدوء وقال: «أيا كان المعبد الذي أقسم لك به، فكن على يقين يا لورد مركيز أن يميني مقدسة ، ولكن أنى لي أن أعرف كيف أربطك بيمين تعادل يميني إلزاما وثقة؟»
فأجاب المركيز ضاحكا وقال: «أقسم لك حقا بتاج «الإيرل»، الذي أرجو أن أحيله قبل انتهاء هذه الحروب إلى شيء خير منه؛ وإني لأحس على جبيني بالبرودة من هذا التاج الخفيف، وتالله إن خوذة «الدوق» التي يتقى بها لخير من التاج وقاية من نسيم الليل البارد الذي يهب علينا الآن، وخير من هذا وذاك تاج الملك فهو مبطن بالمخمل والفراء الثمين الوثير. وموجز القول أنا نرتبط معا بصالح مشترك ولا تظن يا سيدي الرئيس أن هؤلاء الأمراء المتحالفين - لو أنهم استردوا بيت المقدس ونصبوا عليهم هناك ملكا باختيارهم - سوف يرضون ببقاء جماعتك أكثر مما يرضون ببقاء إمارتي الفقيرة، أو يرضون بأن نحتفظ بالاستقلال الذي نتمتع به الآن، كلا، وحق العذراء، إن فرسان القديس يوحنا المختالين في مثل هذه الحال سوف ينشرون الدواء ويضمدون بالغ الكلوم في المستشفيات، وأنت يا أشد فرسان المعبد مقدرة وأكثرهم جلالا، سوف تعود إلى حالك، ولا تبيت أكثر من جندي ساذج، تنامون ثلاثة فوق حصير واحد، ويمتطي كل اثنين منكم جوادا واحدا، كما لا يزال طابعكم الحالي يدل على أن هذه العادات الساذجة كانت دأبكم الزمان الخالي.»
فقال رئيس رجال المعبد بأنفة وكبرياء: «إن جماعتنا لها من المكانة والفضل والرخاء ما يمنع مثل هذا الانحطاط الذي تهدد به.»
فرد عليه كنراد منتسرا وقال: «وإن في ما ذكرت لأسباب شقائكم، وأنت كمثلي يا رئيس رجال المعبد، يا أيها الرجل الموقر، تعرف أن لو نجح الأمراء المتحالفون في فلسطين، فإن ذلك سوف يكون مبدأ لسياسة ترمي إلى الحد من استقلال جماعتك، هذا الاستقلال الذي لولا حماية أبينا البابا المقدس له، وضرورة استخدام شجاعتك في فتح فلسطين، لافتقدته منذ زمن طويل؛ أعطهم نجاحا تاما ينبذوك كما تنبذ شظايا الرمح المحطم بعيدا عن رحبة النزال.»
فقال رئيس رجال المعبد وقد ابتسم ابتسامة كئيبة: «قد يكون صدقا ما تقول، ولكن أي أمل لنا لو أن الحلفاء سحبوا قواهم، وخلفوا فلسطين في قبضة صلاح الدين؟»
فأجاب كنراد: «أملنا عظيم ومؤكد، سوف يسمح السلطان للأقاليم الكبيرة بأن تبقي على فرقة من خيار الرماحين الفرنجة تكون رهن مشيئته، وإن مائة من أمثال هؤلاء الأعوان تلتحق بخيالته الخفيفة في مصر وسوريا لتظفرن في القتال على أشد الأعداء فزعا ورعبا؛ وهذا الاعتماد على جيوش السلطان سوف لا يدوم إلا فترة وجيزة - ربما كانت طيلة حياة هذا السلطان الطموح - وذلك لأن الدول في الشرق تهب كما يهب الفطر،
3
وهب أنه قد مات، وهبنا تعضدنا من أوروبا نفوسا مقحامة متقدة تأتينا دائبة متتابعة، فأي شيء لا نطمح في الظفر به دون أن يسيطر علينا هؤلاء الملوك الذين لهم من الرفعة اليوم ما يرمي بنا في الظلام؟ أما إن لبثوا هنا ونجحوا في هذه الحملة، فإنهم سوف يودعوننا أبدا، عن رغبة منهم، إلى الذلة والتواكل.»
فقال رئيس الفرسان: «هذا كلام طيب يا سيدي المركيز، وإن لكلماتك لصدى في نفسي، ولكنا مع ذلك ينبغي أن نكون على حذر؛ إن فيليب ملك فرنسا حكيم كما هو جسور شجاع.» «حقا وهو لذلك سوف يكون أشد تساهلا في تحوله عن حملة ارتبط بها مندفعا في لحظة اشتعلت فيها نار الحماس أو استفزه فيها نبلاؤه، إنه يغار من الملك رتشارد عدوه الطبيعي، ويتوق إلى العودة إلى متابعة خطط أطماعه، وهي إلى باريس أقرب منها إلى فلسطين، أي دعوى عادلة سوف يتوكأ عليها كي ينسحب من ملحمة يعلم أنه إنما يبدد فيها قوى مملكته.»
فقال رئيس الفرسان: «وماذا ترى في دوق النمسا؟»
فرد عليه كنراد وقال: «أما فيما يخص الدوق، فإن غروره بذاته، وحمقه، سوف يؤديان به إلى النتائج عينها التي وصل إليها فيليب بسياسته وحكمته؛ إنه يرى أنه عومل بالجحود، وذلك لأن أفواه الرجال - حتى مغنية من الجرمان - تمتلئ بمحامد الملك رتشارد، الذي يخشاه ويمقته، والذي يسر لأذاه، مثله في ذلك مثل أولئك الأوغاد الأنذال الذين لم يصبهم شيء من التهذيب، والذين إذا نهش المجلى من سربهم ذئب، فمسه ضر، كانوا إلى مهاجمة زميلهم من الخلف أسرع منهم إلى الخف إلى معونته. ولكن لماذا أحدثك بهذا، اللهم إلا إن كان ذلك لأدلل لك على أني مخلص في رغبتي في أن ينفض هذا المجتمع، وأن تتحرر البلاد من هؤلاء الملوك العظام وجيوشهم؟ وأنت جد عليم؛ وقد شاهدت بنفسك كيف أن الأمراء قاطبة من ذوي النفوذ والسلطان، لا تستثني منهم غير واحد، يودون لو يبرمون عهدا مع السلطان.»
فقال رئيس الفرسان: «إني أقر بذلك، ومن لم يشهد ذلك إبان تداولهم أخيرا فهو أعمى البصر، ولكن هلا رفعت عنك الحجاب قيد أنملة إلى أعلى وحدثتني عن الباعث الحق الذي حدا بالمجمع أن يبعث بذلك الرجل من أبناء الشمال، إنجليزيا أو اسكتلنديا، أو أيا كان ذلك الفارس، فارس النمر، يحمل مقترحهم لعقد المعاهدة؟»
فأجابه الرجل الإيطالي وقال: «إن وراء ذلك لحكمة، فإن صفة الرجل كواحد من أبناء بريطانيا، قمينة بأن تسد ما يطلب صلاح الدين، فهو يعرف أن الرجل ينتمي إلى فريق رتشارد؛ وصفته كاسكتلندي، وغير ذلك من الضغائن الشخصية التي أعلم، تجعل اتصال رسولنا - بعد عودته - برتشارد وهو على فراش المرض، أمرا بعيد الاحتمال، فإن رتشارد لا يحب مرآه.»
فقال رئيس الفرسان: «تالله إنها لسياسة دقيقة الحبك، صدقني إن نسيح العنكبوت الإيطالي هذا الذي نسجتم لن يقيد شمشون
4
الجزيرة هذا الذي لم يقص شعره بعد. ليس لهذه المؤامرة أن تنجح إلا إذا حبكتموها من جديد بالحبال، وبأشد من الحبال متانة وصلابة؛ ألا ترى أن الرسول الذي عنيتم جد العناية بانتخابه قد أتى لنا بطبيب بين يديه شفاء الملك الإنجليزي قلب الأسد وعنق الثور، ورده إلى تنفيذ مشروعه الصليبي؛ وإذا ما بات على الانطلاق قديرا فأي الأمراء يجسر على كبح جماحه؟ إنهم سوف يتبعونه خجلا وحياء، وإن يكن أحب إليهم أن يسيروا تحت لواء الشيطان.»
فقال كنراد منتسرا: «لا تجزع، فقبل أن يتم هذا الطبيب شفاء رتشارد - إن كان يعمد إلى أي شيء غير المعجزة - فإنه من الممكن أن نحفر هوة عميقة بين الرجل الفرنسي - أو النمساوي على الأقل - من ناحية، وبين حلفائه من الإنجليز من ناحية أخرى، حتى يتعسر رتق الخرق على الراقع، وقد يهب من فراشه رتشارد بعدئذ كي يتأمر على جنده الخاص من مواطنيه، ولكن لن يسيطر وحده على قوى الصليبيين جميعا.»
فرد عليه رئيس الفرسان وقال: «إنما أنت يا كنراد منتسرا نبال صحت عزيمته، ولكن قوسك مرتخية لا تبلغ بالنشاب إلى الهدف.»
وتوقف عن الكلام فجأة، وأرسل نظرة فيها شك وريبة كي يستوثق أن أحدا لم يكن يتسمع له، ثم أمسك بيد كنراد وقبض عليها بشدة وحدق في وجه صاحبها الإيطالي، وكرر هذه العبارة في أناة وتؤدة: «أفتقول إن رتشارد قد يهب من فراشه؟ كنراد! ينبغي ألا يهب رتشارد مطلقا!»
ففزع من ذلك مركيز منتسرا وقال: «ماذا! هل أنت تتحدث عن رتشارد ملك إنجلترا قلب الأسد بطل العالم المسيحي؟»
وعلت الصفرة وجنتيه وارتعدت فرائصه وهو يتكلم، فنظر إليه رئيس الفرسان وقد تقلصت ملامحه ونمت عن ابتسامة فيها تحقير وازدراء. «هلا تعرف أيها السيد كنراد لأي شيء أنت تشبه هذه الآونة؟ لست كمركيز منتسرا السياسي الجسور - ولست كمن هو قمين بتوجيه مجمع الأمراء والفصل في قضاء الدول - إنما أنت كتلميذ زل عند رقية في كتاب سحر لأستاذه، فابتعث الشيطان من حيث لا يدري، ثم وقف مذعورا أمام الشبح الذي مثل أمام عينيه.»
فقال كنراد وقد ثاب إلى رشده: «إني أسلم لك أنا إن لم نكشف عن طريق أكيدة نخلص بها، فلقد أشرت أنت إلى تلك التي تؤدي رأسا إلى ما نرمي. ولكن، لك الله يا مريم! لسوف تصب أوروبا كلها علينا اللعنات، ونصبح مسبة في جميع الأفواه، من البابا على عرشه إلى أدنى متسول لدى باب الكنيسة، يحمد ربه - على شعثه وبرصه وتمرغه في الدرك الأسفل من الشقاء الإنساني - على أنه ليس بجيلز أموري أو كنراد منتسرا.»
فرد عليه رئيس الفرسان برباطة الجأش التي تميز بها خلال هذا الحوار الهام وقال: «لو كان هذا ما ترى إذن فلنمض وكأن لم يكن بيننا شيء، وكأن حديثنا حديث نيام، وما لبثنا أن صحونا حتى تبددت من أمامنا الأحلام.»
فأجاب كنراد قائلا: «إن هذه الأحلام لن تنقشع.»
فرد عليه رئيس الفرسان وقال: «أجل إن رؤيا أكاليل الأمراء، وتيجان الملوك تحتل في المخيلة مكانا لا يتزعزع.»
فأجاب كنراد وقال: «إذن فدعني أحاول بادئ ذي بدء أن أفصم عري الوئام بين النمسا وإنجلترا.»
ثم افترقا، ولبث كنراد ساكنا لا يتحرك حيث كان ينظر إلى عباءة رئيس الفرسان البيضاء ترفرف، وهو يخطر في مشيته في تؤدة وأناة، ويبتعد قليلا قليلا حتى ابتلعه ظلام الليل الشرقي الذي سرعان ما يرخي سدوله وينوء بكلكله. وكان مركيز منتسرا مختالا طموحا، جريئا أريبا، ولكنه - مع ذلك - لم يكن قاسي القلب بطبعه، كان شبقا أبيقوريا، ولكنه كان - كغيره ممن يتخلقون بخلقه - يعاف الإيلام، ولا يحب أن يشهد عملا فيه قسوة أو صرامة، حتى وإن يكن في نفسه من البواعث ما يبرره، وكان لديه كذلك إحساس عام بتقدير ذكره بين الناس؛ ذلك الإحساس الذي كثيرا ما يسد النقص في المبادئ السامية التي يقوم عليها طيب الأحدوثة.
قال وما فتئت عيناه ترقبان الموضع الذي شاهد به عباءة رئيس الفرسان وهي تهتز الهزة الخفيفة الأخيرة: «حقا لقد أثرت في الشيطان روح الانتقام! من ذا الذي كان يظن أن هذا الرئيس الحازم الزاهد - الذي يتلاشى كل أمل له في آمال طائفته - يكون أشد مني رغبة في إشعال الفتنة، وأنا إنما أعمل لنفعي خاصة؟ حقا لقد كان إيقاف هذه الحرب الصليبية الهمجية هو باعثي الوحيد، ولكني لم أجرؤ على أن أفكر في هذه الطريق العاجلة التي تجاسر هذا القس القوي العزيمة على اقتراحها، وهي مع ذلك آكد الطرق، وربما كانت آمنها.»
وهكذا كان المركيز يناجي نفسه، وبهذه الخواطر كان يتمتم، حينما استوقفه صوت غير بعيد ينادي، وكأنه صوت رائد في نبراته رنة التأكيد، ويقول: «اذكروا القبر المقدس!»
وردد هذا النذير حارس بعد الآخر؛ إذ كان من واجب الخفراء أن يصيحوا بهذا النداء الفينة بعد الفينة وهم في رقابتهم المتعاقبة، حتى لا يغيب أبدا عن ذكر الصليبيين الغرض من حمل السلاح، ولكن رغم أن كنراد كان يألف هذه العادة، ورغم أنه سمع هذا الصوت النذير في كل مناسبة سبقت وكأنه أمر مألوف، إلا أن صوت المنادى قد اتصل إذ ذاك اتصالا وثيقا بسلسلة أفكاره، حتى خيل له أنه صوت من السماء يحذره من الإثم الذي يتردد في صدره، فتلفت حواليه جزعا كأنه - وإن اختلفت ظروفه - ذلك الأب القديم يرتقب كبشا يأتيه من الغاب، فداء عن القربان الذي اقترح له رفيقه أن يقدمه لا إلى الكائن الأعلى، وإنما إلى وثن أطماعهما. وإذ هو يتلفت اختطفت بصره ثنايا العلم الإنجليزي ترفرف متثاقلة مع نسيم الليل العليل، وكان العلم مرفوعا فوق ربوة مصطنعة تكاد تتوسط المعسكر، ربوة ربما كان قد اختارها في الزمن القديم زعيم من زعماء بني إسرائيل، أو بطل من الأبطال، لتكون شاهدا على جدثه، وإن صح هذا، فلقد غاص اسم الرجل في لجج النسيان وأطلق الصليبيون على المكان اسما نصرانيا هو جبل «سنت جورج»، وذلك لأن العلم الإنجليزي كان يخفق فوق هذه القمة الشامخة، ويعلو على كل ما عداه، كأنه رمز السلطان يسمو على العدد العديد من البيارق البارزة النبيلة، بل والبيارق الملكية التي كانت ترفرف فوق المواضع الدنيا.
ورجل له من سرعة الخاطر ما لكنراد، قمين بأن يرى الرأي في وميض برهة أو لمحة، وكأن نظرة واحدة إلى العلم قد بددت كل ما قام في نفسه من ريبة أو شك، فسار إلى سرادقه بخطى حازمة حثيثة، كأنه رجل قد اختط لنفسه خطة صح منه العزم على إنفاذها، ثم صرف رتلا من الرجال، لهم ما يشبه الأبهة الملكية، كانوا يقومون على خدمته. وما إن استلقى على فراشه حتى تمتم بعزمه الجديد، وذلك أن يحاول وسائل اللين قبل أن يعمد إلى خطة اليأس.
وقال: «غدا أجلس في مجمع أرشدوق النمسا، وسوف نرى ما عسى أن نفعل لبلوغ مأربنا قبل أن نلجأ إلى الرأي الأغبر، رأي رئيس المعبد.»
الفصل الحادي عشر
في بلادنا الشمالية أمر أكيد؛
قد يتميز الفرد مولدا أو شجاعة أو ثروة أو ذكاء،
ولكن الحسد الذي يتبع هذي الفضائل،
كما يتبع كلب الصيد طريق الغزال،
يهدمها جميعا واحدة بعد الأخرى.
السير دافيد لندزي
كان ليوبولد دوق النمسا الأعظم أول من تملك تلك البلاد الكريمة التي تنتمي إليها مرتبة الإمارة السامية؛ ارتفع في الإمبراطورية الألمانية إلى مرتبة الدوق لصلة رحم قريبة بينه وبين الإمبراطور هنري الحازم الشديد، وتملك تحت حكومة الإمبراطور خير الأقاليم التي يرويها الدانوب، وقد تلوث اسمه في التاريخ بسبب فعلة شنعاء، كان فيها ختال منه، نشأت عن هذه الحروب في الأرض المقدسة، وذلك هو العار الذي ارتكبه حينما زج برتشارد في السجن وهو عائد خلال أملاكه متخفيا لا تتبعه حاشية، ومع ذلك فإن هذا العمل لم يصدر عن سجية ليوبولد وطبيعته، فلقد كان أميرا إلى الضعف والعبث أقرب منه إلى الطموح والجور، وهو في قواه العقلية أشبه بصفاته الشخصية؛ كان طويل القامة، قوي البنية، تظهر على بشرته الحمرة والبياض على أشد تباين، وله شعر أشقر جميل تتدلى منه خصلات طويلة متهدلة، ولكن بمشيته نبوا كأن ليس بجسمه من النشاط والحياة ما يكفي لأن يدفع بمثل هذا الحجم الكبير، وكذلك كان يرتدي ثيابا فاخرة وكأنها لا تنسجم عليه، وكان يبدو عليه أنه لم يألف كثيرا أن يحتفظ بكرامته كأمير نبيل. ولما كان في كثير من الأحيان في حيرة من أمره كيف يفرض سلطانه ونفوذه حينما يدعو إلى ذلك داع، فكثيرا ما كان يظن أنه مضطر إلى الفعال العنيفة والألفاظ الشديدة في غير مناسبة، كي يسترد مكانة ما كان أيسر له وأوفر كرامة من أن يبقي عليها لو كان لديه قليل من الحصافة في أول الجدل.
ولم تكن هذه النقائص ليراها غيره فحسب، وإنما لم يسع الأرشدوق نفسه أحيانا إلا أن يحس إحساسا أليما بأنه لم يكن البتة جديرا بأن يفرض نفوذه ويحتفظ بالمرتبة العالية التي أحرزها، وكان يحس إلى جانب ذلك بريبة قوية - كثيرا ما كان مصيبا فيها - في أن الآخرين كانوا من أجل هذا لا يولونه إلا قليلا من الاحترام والتقدير.
ولما التحق ليوبولد بالحرب الصليبية أول الأمر، تتبعه حاشية عليها أبهة الإمارة، كان يتوق كثيرا لأن يظفر بصداقة رتشارد وإخلاصه، وقد تقدم إليه يخطب الود، ويرتقب من ملك إنجلترا أن يتقبل - لدهائه - هذا التودد ويجيبه، ولكن بين الأرشيدوق - وإن تكن لا تنقصه الشجاعة والإقدام - وبين قلب الأسد بونا شاسعا في تلك الحرارة القلبية التي تعانق الأخطار كأنها عروس حسناء، فلم يسعد الملك إلا أن ينظر إليه بشيء من التحقير والازدراء. وكان رتشارد كذلك أميرا نورمانديا، والنورمان قوم ضبط النفس من طبعهم، فكان يحتقر الجرمان الذين يميلون إلى السماط الممدود بشهي الطعام، وبخاصة ذلك الإدمان الفارط في احتساء النبيذ؛ ومن أجل هذا عامة، ولأسباب شخصية أخرى، سرعان ما نظر ملك إنجلترا إلى الأمير النمساوي بقلب ملؤه الاستخفاف والتحقير، ولم يكلف نفسه مشقة إخفاء هذا الشعور أو الحد منه، ولذا فسرعان ما بدا عليه، ورده ليوبولد - الذي كانت تداخله الريبة - بالبغض الشديد. هذا التنافر بينهما زاد من حدته فيليب ملك فرنسا بالدسائس الخفية الماكرة، وفيليب أحد الملوك ذوي الفطنة في ذلك الزمان، وكان يخشى من رتشارد ثورته وصلفه، وينظر إليه كمنافسه الطبيعي، ويحس كأنه - وهو تابع من أتباع فرنسا من حيث أملاكه في القارة الأوروبية - يسيء إليه بذلك الإملاء الذي يمليه ويتظاهر به إزاء سيده، فكان فيليب لذلك يحاول أن يشد من أزر حزبه، ويضعف من شأن حزب رتشارد، بتوحيد الأمراء الصليبيين ذوي المراتب الدنيا، للوقوف في وجه ما كان يسميه السلطة الغاصبة لملك إنجلترا. تلك كانت السياسة، وهذه كانت الخواطر التي يرحب بها أرشدوق النمسا، حينما اعتزم كنراد منتسرا أن يستخدم غيرته من إنجلترا كوسيلة لحل مجمع الصليبيين أو الفت منه على الأقل.
وقد اختار أوج النهار وقتا لزيارته، ودعواه أنه يريد أن يقدم للأرشدوق بعضا من خير نبيذ قبرص وقع أخيرا بين يديه، ويحب أن يتحدث في شأن ما له من مزايا، ويوازي بينه وبين نبيذ المجر والرين؛ وقد أجيب بالطبع لهذا الإلماع إلى مرماه، بدعوة كريمة لأن يشترك في مأدبة يؤدبها الأرشدوق، وقد بذل كل مسعى لأن تكون هذه المأدبة لائقة بأبهة أمير ملكي، ولكن الرجل الإيطالي رغم ذلك، رأى بذوقه المهذب أن في الأطعمة المعروضة وفرة غير متسقة، أثقلت بها المائدة، أكثر مما رأى فيها تأنقا وبهاء.»
والجرمان، قوم ما عتموا يحتفظون بالصراحة والصفات الحربية التي ورثوها عن آبائهم الذين أخضعوا الإمبراطورية الرومانية، إلا أنهم مع ذلك قد أبقوا على أثر طفيف من آثار وحشيتهم، فلم ترتفع بينهم عادات الفروسية ومبادئها إلى ذلك الحد الرقيق الذي بلغته بين الفرسان الإنجليز والفرنسيين، ولم يرعوا قواعد الجماعة المرسومة دقيق الرعاية، تلك القواعد التي كانت بين تينك الأمتين تنم عن مبلغ الحضارة والتمدين. ولما جلس كنراد إلى مائدة الأرشدوق، صعق لساعته، وذعر لنقيق الأصوات التيوتونية التي كانت تقرع سمعه من جانب، رغم الوقار الذي ينبغي أن يلابس موائد الأمراء؛ ولم تكن أزياؤهم بأقل غرابة، وقد احتفظ الكثير من أشراف النمسا بلحى طويلة، وكانت غالبيتهم الساحقة ترتدي معاطف قصيرة متنوعة الألوان، وقد رسمت وازينت، وتهدلت منها هدب على طراز غير مألوف في غرب أوروبا.
وكم كان في السرادق من الأتباع كهولة وشبابا، على الخدمة قائمون، وهم يساهمون في الحديث أحيانا، ويتسلمون من سادتهم ما تبقى من طعام أو شراب يلتهمونه وهم وقوف خلف ظهور الحافلين. وكان عدا هؤلاء عدد عديد من المهرجين والأقزام والمغنين، وهم أعلى ضجيجا وأكثر تدخلا مما يسمح لهم به في حفل خير من هذا نظاما. ولما أن كان مباحا لهم أن يأخذوا بنصيبهم، بقدر ما يشتهون، في النبيذ الذي كان يتدفق هنا وهناك أنهارا جارية، فقد أفرطوا في اللجب الذي أجيز لهم أن يلجوا فيه.
وفي غضون ذلك، ووسط هذا الضجيج والعجيج، وذلك المضطرب الذي هو بحان ألماني في سوق قائمة أليق منه بفسطاط أمير ملكي، كان الأرشدوق يخدم خدمة رقيقة في ظاهرها ومواضعاتها، مما كان يدل على مبلغ اهتمامه بحفظ المستوى والصفة اللتين تخولهما له مرتبته العالية حفظا صارما دقيقا؛ وكان الموالي يخدمونه وهم ركع، ولا يتقدم لخدمته من الغلمان إلا من كان من دم نبيل. وكان يطعم في طبق من الفضة، ويحتسي نبيذ توكي ونبيذ الرين في قدح من ذهب، وعباءة الأرشدوق التي يرتديها تتزين أسنى زينة بالفراء الثمين، وتويجه قد يعادل في قيمته تيجان الملوك، وقدماه تدثران في حذاء من المخمل (طوله حتى أطرافه قد يبلغ القدمين)، ويستوي على مقعد من الفضة الخالصة؛ وتعرف طرفا من خلق الرجل إذا عرفت أنه كان يود أن يتلفت إلى مركيز منتسرا الذي أجلسه إلى يمينه متلطفا باشا، ولكنه كان إلى نديمه أو «محدثه» أشد إصغاء، وقد وقف النديم خلف كتف الدوق اليمنى.
وكان هذا النديم فاخر الثياب، يرتدي عباءة وصدرة من المخمل الأسود، والصدرة مزركشة بقطع نقدية مختلفة من فضة وذهب، حيكت بها ذكرى للأمراء الأسخياء الذين وهبوها إياه، ويحمل عصا قصيرة تتعلق بها كذلك باقات من النقد في حلق يجلجله كي يجذب إليه الأنظار حينما يهم بأن يقول شيئا يكون في ظنه جديرا بالالتفات. ولهذا الرجل من النفوذ بين حاشية الأرشدوق شيء بين ما للمنشد والمستشار؛ هو مرة مداهن، ومرة شاعر أو خطيب، وكل من أراد أن يتقرب إلى الدوق كان يسعى لكسب رضا هذا النديم.
وكان إلى كتف الدوق اليسرى «مهرجه» واسمه «جوناس شوانكر» خشية أن يكل الحاضرون من تمادي «المحدث» في حكمته. و«المهرج» يحدث بتقيته وأجراسه وألاعيبه ضوضاء كضوضاء المحدث التي يحدثها بجلجلة عصاه.
وكان هذان الرجلان يرسلان عبث الكلام تارة جادين وطورا هازلين، وسيدهما، إما ضاحك منهما أو محبذ لهما، إلا أنه كان كذلك يرقب، ممعنا، ملامح ضيفه الكريم، كي يرى أي أثر يرتسم على فارس مهذب مثله من عرض تلك الفصاحة والنكات النمساوية، وليس من اليسير أن تعرف أيهما كان للحفل أكثر تلهية وسلوى، رجل الحكمة أو رجل الهراء، أو أيهما كان له لدى سيدهما الأمير القدر الأوفر، ولكن ملحهما كليهما كانت تقابل بالإعجاب الشديد، وأحيانا يتنافسان في التحدث ويهزان بعصويهما ، وكل منهما يناظر صاحبه ويباريه مباراة مزعجة، ولكنهما كانا على الجملة على وئام، وقد ألفا أن يعين كل منهما الآخر في ألاعيبه، حتى إن المحدث كثيرا ما تنزل إلى مستوى المهرج يتابعه في نكاته بالشرح والتعليق فيجعلها أشد وضوحا لإدراك السامعين، حتى باتت حكمته ما هي إلا شرح لهراء المهرج، وكثيرا ما رد المهرج فكاهة موجزة يعقب بها على ختام خطاب طويل ممل يلقيه «المحدث».
ومهما تكن عواطف كنراد في حقيقتها، فلقد كان شديد الحرص على ألا تنم ملامحه عن غير الرضا بما سمع، وكان يبتسم ويتظاهر بالثناء الحار - كما كان يفعل الدوق نفسه - على فكاهة المحدث المحتشمة ونكات المهرج الوضيعة، وكان في الواقع يترقب بانتباه أن يبدأ أحدهما بموضوع ما يناسب الغرض الذي كان يحتل في ذهنه المكانة الأولى.
ولم يمض زمن طويل حتى رمى المهرج بملك إنجلترا على بساط الحديث، وقد اعتاد أن يتخذ من «دكن» صاحب المكنسة - وقد استعار هذا الاسم الذميم لرتشارد بلانتاجنت
1 - موضوعا للهزل مقبولا لا ينفد؛ أما المحدث فقد صمت حقا ولم يتكلم إلا حينما شرع كنراد يتحدث عن النبات الذي تصنع منه المكانس، فقال (أي المحدث): «هذا العشب هو رمز الذلة والخضوع، وخير للذين يلبسونه أن يذكروا ذلك.»
وكان هذا الإيحاء إلى شارة بلانتاجنت البراقة جليا واضحا، فقال جوناس شوانكر المهرج: «إن أولئك الذين تواضعوا قد رفعهم الانتقام إلى مراتب المجد.»
فأجاب مركيز منتسرا: «الشرف لمن يستحق الشرف، لقد اشتركنا جميعا في هذه الحملة وهذي المواقع، وإني أرى أن الأمراء الآخرين ينبغي أن يساهموا قليلا في الصيت الذي يحتكره رتشارد ملك إنجلترا بين جماعة المنشدين والمغنين الجرمان؛ أليس من بين هذه الجماعة المرحة هنا من يعرف أنشودة واحدة في مدح أرشدوق النمسا الملكي مضيفنا الكريم؟»
فاستبق ثلاثة من المنشدين وخطوا إلى الأمام يرفعون الصوت بالغناء ويضربون على القيثار، وقد وجد «المحدث» مشقة في إسكات اثنين منهم، وكان المحدث يتصرف كأنه سيد القصف، وأخيرا ظفر الشاعر الذي أوثر على صاحبيه باستماع الحاضرين ، وأخذ يغني بالألمانية أبياتا من الشعر، ترجمتها:
أي زعيم مقحام يتقدم الجيوش،
حيث تتجمع فيالق الصليب الأحمر؟
إنما هو خير فارس على خير الخيول،
وأعلى الرءوس ذو الريشة الحسناء.
وهنا جلجل المحدث بعصاه، واعترض الشاعر، وألمع للحافلين إلى ما قد يفوتهم إدراكه من هذا الوصف، وذلك أن القائد الذي أشير إليه إنما هو مضيفهم الملكي، ثم طافت بين الحاضرين كأس مترعة، وصاح الجميع: «ليحي الدوق ليوبولد» ثم تلا الشاعر أبياتا أخرى:
لا تسألوا النمسا لماذا
يرفرف فوق أعلام الأمراء لها علم،
وإلا فاسألوا النسر ذا الجناح المتين،
لماذا يحلق صوب السماء ويسبق كل الطيور.
وقال المحدث وهو شارح الأقوال الغامضة: «النسر شارة سيدنا النبيل الأرشدوق - عفوا! إنما ينبغي أن أقول صاحب الجلالة الملكية الأرشدوق - والنسر يحلق فيعلو ويصبح إلى الشمس أدنى من كل طائر مريش.»
فقال كنراد غير مكترث: «ولكن الليث قد قفز فوق النسر.»
فاحمر الأرشدوق، وحدق ببصره في المتكلم، وقد أجابه المحدث بعد ما تروى دقيقة وقال: «ليأذن لي سيدي المركيز أن أقول إن الأسد لا يستطيع أن يحلق فوق النسر، إذ ليس لأسد جناح.»
فأجاب المهرج: «إلا أسد القديس مرقص.»
وقال الدوق: «هذا علم البندقية، ولكن لا ريب أن هذا القبيل المختلط، نصف من الأشراف ونصف من التجار، لا يجرؤ على الموازنة بين مرتبته ومرتبتنا.»
فأجاب مركيز منتسرا وقال: «كلا وما عن ليث البندقية تحدثت، وإنما عن ليوث إنجلترا الثلاثة التي تتطلع ذات اليمين. وقد قيل إنها قديما كانت نمورا، ولكنها صارت اليوم أسدا من كل وجه، وينبغي أن تسبق الوحش والطير والأسماك وإلا فالويل لمن يقترب منها.»
فقال النمساوي وقد أصبح شديد الحمرة من فعل النبيذ: «هل أنت في هذا جاد يا سيدي؟ وهل تظن أن رتشارد ملك إنجلترا يزعم لنفسه فضلا على الملوك الأحرار الذين تحالفوا معه طوعا في هذه الحروب الصليبية؟»
فأجاب كنراد وقال: «والله إني لا أعرف إلا ما تنم عنه الظروف، فهناك يخفق علمه فريدا وسط مخيمنا، كأنه ملك على جيوشنا المسيحية كلها، وكأنه كبير قوادها.»
فقال الأرشدوق: «وهل أنت تحتمل هذا صابرا، وتتحدث عنه بمثل هذه البرودة؟»
فأجاب كنراد: «سيدي! ليس لمركيز منتسرا المسكين أن يحتج على أذى يخنع له خضعا أمراء أشداء كفيليب فرنسا وليوبولد النمسا؛ ما تخضعان له من هوان لن يكون لي شنارا.»
وحينئذ أطبق ليوبولد قبضة يده وضرب بها على المائدة بشدة وعنف. وقال: «لقد قلت لفيليب ذلك، وكم من مرة قلت له إن من واجبنا أن نحمي صغار الأمراء من اغتصاب هذا الجزري؛ ولكنه كان دائما يجيبني بوجوب رعاية تلك العلاقة السخيفة بينهما، علاقة السيد والمسود، ويقول أن ليس من الحكمة من جانبه أن يعلن انفصام هذه الرابطة في هذا الوقت وذلك الحين.»
فقال كنراد: «يعلم الناس قاطبة أن فيليب رجل حكيم، وسوف ينظرون إلى خضوعه كأنه من حسن السياسة؛ أما ذلتك يا سيدي فأنت وحدك مسئول عنها، ولكني لا أشك في أن لديك أسبابا قوية تدعوك إلى الإسلام إلى نفوذ الإنجليز.»
فأجاب ليوبولد موتور الكرامة وقال: «أنا أسلم لهم! أنا أرشدوق النمسا ذلك العضو الحيوي الهام في جسم الإمبراطورية الرومانية المقدسة. أنا أذل نفسي لهذا الملك الذي يتأمر على نصف جزيرة؛ هذا الحفيد لرجل نورماندي نغل! كلا ورب السموات العلا! لسوف يرى المعسكر، ولسوف يرى العالم المسيحي طرا، أني أعرف كيف أعيد لنفسي حقها، ولسوف يرى إن كنت أتنزل عن قيد شعرة لهذا الوغد الإنجليزي. هيا يا سادتي، يا رفاق الحبور، هيا اتبعوني! سوف نضع نسر النمسا حيث يحلق عاليا كما حلقت في التاريخ أية شارة لملك أو لقيصر، ولن نتوانى في ذلك برهة أو لحظة.»
ولما أتم حديثه نهض من مقعده، ووسط الهتاف العجاج الذي هلل به ضيوفه وأتباعه توجه نحو باب السرادق، وأمسك بعلمه الخاص الذي كان منتصبا لديه.
فقال كنراد متلمسا للتدخل سببا: «كلا يا سيدي! إنك لو أثرت بالمعسكر شغبا في هذه الساعة للطخت بذلك سداد رأيك، ولربما كان خيرا لك أن تبقى خاضعا لاغتصاب إنجلترا فترة من أن ...»
فصاح الدوق بأعلى صوته وقال: «كلا، لن أخضع بعد اليوم ساعة، كلا بل ولا دقيقة واحدة.» ثم سار والعلم في يده، وفي إثره ضيوفه وأتباعه مهللين، وسارع إلى الرابية الوسطى التي كان يخفق عليها علم إنجلترا، ووضع يده على رمح اللواء يريد أن يقتلعه من الأرض.
فقال جوناس شوانكر، وقد مد ذراعيه حول الدوق: «سيدي! سيدي العزيز، احذر فإن للأسد أنيابا ...»
فقال الدوق: «وللنسور مخالب.» ولم يترك عصا اللواء من قبضته، ولكنه تردد في اقتلاعها من الأرض.
وكان للمحدث فترات يصدر فيها عن روية وبصيرة - وهذا بعض واجبه - فقرع عصاه بصوت مرتفع حتى أدار ليوبولد رأسه نحو مستشاره، وكأنه قد اعتاد ذلك، فقال المحدث: «النسر ملك بين الطيور في الهواء، وكذلك الليث بين الوحوش في الغاب؛ كل له دائرة يصول فيها تنفصل عن الأخرى تماما، كما تنفصل إنجلترا عن ألمانيا؛ فلا تلحق بالأسد الملكي هوانا أيها النسر النبيل، وخل لوائيكما يخفقان جنبا إلى جنب آمنين مطمئنين.»
فباعد ليوبولد يده عن رمح اللواء، وتلفت يبحث عن كنراد منتسرا، ولكنه لم يره، لأن المركيز لم يلبث أن رأى الشر قائما على قدم وساق حتى انسحب من الحشد، وقد عبر للكثير من المحايدين عن أسفه لأن يختار الأرشدوق تلك الساعة بعد المأدبة ليثأر من أية إساءة يرى أن من حقه أن يشكو منها. ولما لم ير الدوق ضيفه الذي كان يرغب في التحدث إليه خاصة، رفع عقيرته وقال: «إنه لا يرغب في أن يولد بين صفوف جيش الصليب فتنة. إنه يريد أن يؤيد حقه في أن يقف وملك إنجلترا على قدم المساواة، ولكنه لا يتطلع - وقد كان في وسعه ذلك - إلى رفع علمه (الذي تسلمه من العواهل أسلافه) فوق علم ملك ما هو إلا حفيد من أحفاد أمراء أنجو. ثم أمر الدوق بدن من النبيذ يؤتى به إليه، ويدك فوق الأرض ليحتسي منه الواقفون الذين تجرعوا المدام تكرارا حول راية النمسا بين قرع الطبول ونغم الموسيقى.
ولم ينته هذا الحفل المهوش بغير ضجيج أزعج المعسكر بأسره.
وأزفت الساعة الحرجة، الساعة التي رأى الطبيب وفقا لقواعد فنه أن عليله الملكي يجوز أن يوقظ فيها بطمأنينة وسلام، واستخدم إسفنجة لهذا الغرض، ولم يتفرس مريضه طويلا، وأكد لبارون جلزلاند أن الحمى قد تخلت عن مليكه بتاتا، وأن من حسن الطالع أن للملك من قوة البناء ما لم يحتم تناوله جرعة أخرى من الدواء الناجع، كما يجب في غالب الظروف؛ والظاهر أن رتشارد نفسه كان يرى الرأي ذاته، فقد استوى على السرير، ومسح بعينيه، وسأل دي فو عن مبلغ النقد الذي كان بالخزائن الملكية حينذاك.
ولكن البارون لم يستطع أن يجيبه إلى ذلك على وجه دقيق.
فقال رتشارد: «ليكن المال قليلا أو كثيرا، فليس هذا بأمر ذي بال؛ امنح كل ما هنالك لهذا الطبيب النطاسي الذي ردني - على ما أعتقد - لخدمة الحرب الصليبية، ولو كان المبلغ ينقص عن ألف بيزنط
2
فأعطه من الجواهر ما يرفع القيمة إلى هذا المقدار.»
فأجاب الطبيب العربي قائلا: «إني لا أبيع الحكمة التي وهبنيها الله. واعلم أيها الأمير العظيم أن الدواء الإلهي الذي تناولت منه يفقد أثره بين يدي الضعيفتين لو أني بعت فضائله بالذهب والماس.»
فقال دي فو محدثا نفسه «إن الطبيب يرفض المنحة، والله إن هذا لأعجب من أنه في المائة من عمره.»
وقال رتشارد: «أي توماس دي فو، إنك لا تعرف من البسالة إلا ما بظباة السيف، ولا تعرف جودا أو فضلا إلا ما يسري في الفروسية. ألا فلتعلم أن هذا المغربي يستطيع - باعتماده على نفسه - أن يكون مثلا لأولئك الذين يظنون أنفسهم زهرة الفروسية.»
فقال المغربي وقد طوى ذراعيه على صدره ووقف موقفا موقرا محترما: «كفاني ثوابا أن ملكا عظيما كالملك رك
3
ينطق بهذا الكلام عن خادمه، ولكني أتوسل إليك الآن ثانية أن تستوي على فراشك، لأني وإن كنت لا أظنك بحاجة إلى أن تعاود اجتراع هذا الشراب الإلهي، إلا أنك إن بذلت جهدا مبتسرا قبل أن تسترد قواك كاملة، فقد يعود عليك ذلك بالضر والأذى.»
فقال الملك: «تجب علي طاعتك أيها الحكيم، ولكن صدقني أن صدري قد تحرر من تلك النار المتأججة التي لبثت أياما طوالا تلتهم ما بين جنبي، وإني لا أكترث الآن إن أنا بادرت إلى تعريضه لرمح رجل من بواسل الرجال، ولكن صه، صه! ما وراء ذلك الصياح وتلك الموسيقى النائية التي تعزف في المعسكر؟ اذهب، توماس دي فو، واكشف عن الأمر.»
فتغيب دي فو دقيقة ثم عاد وهو يقول: «إنه الأرشدوق ليوبولد يسير وإخوانه في الشراب في موكب خلال المعسكر.»
فصاح الملك رتشارد قائلا: «يا له من وغد قد ثمل! ألا يستطيع أن يخفي هذا الثمل الوحشي وراء ستار سرادقه، وهل لا بد له أن يبدي خزيه هذا للعالم المسيحي طرا؟» ثم أردف موجها الخطاب إلى كنراد منتسرا - وقد ولج الفسطاط آنئذ - وقال له: «ماذا ترى في هذا، سيدي المركيز؟»
فأجاب المركيز قائلا: «كم يسرني أيها الأمير النبيل أن أرى جلالتك معافى وقد برئت إلى هذا الحد. إن الحديث في هذا الشأن شاق على رجل ناله شيء من قراء دوق النمسا.»
فقال الملك: «ماذا! هل كنت تتناول الغداء مع هذه القربة التيوتونية المترعة بالنبيذ؟
4
أنى له هذا المرح الذي انتهى به إلى كل هذا الضجيج؟ حقا يا سير كنراد لقد كنت أظنك حتى الآن رجلا محبا للهو والطرب، حتى إني لأعجب كيف هجرت مكان القصف.»
وكان دي فو إذ ذاك قد وقف وراء الملك وقريبا منه، يسعى جهده - باللمحات والشارات - أن يشير إلى المركيز بألا يبوح لرتشارد بشيء مما كان يدور خارج السرادق، ولكن كنراد لم يفهم هذا التحذير، أو قل إنه لم يأبه له.
فقال: «إن ما يعمل الأرشدوق شيء قليل الجدوى لغيره، وأقل جدوى لنفسه، فهو لا يعرف ما هو صانع، وما هذا حقا إلا لعب لا أحب أن أساهم فيه ما دام الدوق يخلع لواء إنجلترا من فوق جبل سنت جورج وسط ذاك المخيم، وينشر رايته مكانه.»
فصاح الملك بصوت يكاد يوقظ من في القبور وقال: «ماذا تقول؟»
فقال المركيز: «كلا! لا يغضبن جلالتك أن رجلا أحمق يعمل ما يمليه عليه حمقه ...»
فقال رتشارد وقد هب من مرقده وانثنى على ثيابه بعجلة عجيبة: «لا تخاطبني يا سيدي المركيز! أي دي ملتن، إني آمرك ألا تنبس إلي ببنت شفة - من يلفظ كلمة واحدة فليس لرتشارد بلانتاجنت بصاحب أو صديق - ناشدتك الله أن تلزم الصمت أيها الحكيم!»
وفي تلك الأثناء كان الملك يرتدي ثيابه متعجلا، ولم يكد يلفظ الكلمة الأخيرة حتى انتزع حسامه من إحدى قوائم الفسطاط، وانطلق من السرادق وليس معه سلاح آخر، ولم يدع أحدا يتبعه. فرفع كنراد يديه كأنه ذاهل، وبدت عليه الرغبة في التحدث إلى دي فو ولكن السير توماس خلفه واندفع بشراسة، ثم نادى أحد رعاة الخيول الملكية، وقال له متلهفا متعجلا: «انطلق إلى بيت اللورد «سولزبري» واطلب إليه أن يجمع رجاله ويتبعني توا إلى جبل سنت جورج، قل له إن الحمى قد خرجت من دماء الملك، واستقرت في رأسه.»
وذعر الخادم الذي وجه إليه دي فو الخطاب بهذه اللهفة، فلم يستمع إلى كل حديثه، ولم يكد يفقه له قولا؛ وانطلق على إثر ذلك رئيس رعاة الخيل وزملاؤه من خدام البيت المالك وهرولوا إلى خيام النبلاء المجاورة، وسرعان ما نشروا الذعر بين الجنود البريطانيين كافة، وبقي الباعث غامضا لم يدر به أحد، فاستيقظ الجند الإنجليز وهبوا من قيلولتهم، التي علمتهم حرارة الجو أن يستغرقوا فيها كأنها لون من ألوان الترف، وأخذوا فيما بينهم يتساءلون: ما تلكم الجلبة، وما ذلك الشغب، وقبل أن يجابوا سؤلهم كفتهم قوى الخيال ما نقصهم من خبر، وقال بعضهم إن العرب قد حلوا بالمعسكر، وقال بعضهم حياة المليك مهددة، وقال بعضهم إنه هلك من الحمى في المساء السابق، وقالت كثرة منهم إن دوق النمسا قد اغتال حياته، وبات الأشراف والضباط - كغيرهم من عامة الرجال - في حيرة من حقيقة الباعث على هذا الاضطراب، فلم يعملوا إلا على أن يبقوا أتباعهم شاكي السلاح، مؤتمرين لذوي النفوذ والسلطان، خشية أن ينجم عن تهورهم شر مستطير يلحق بجيش الصليبيين ؛ ورن رنين الأبواق الإنجليزية، وجلجل صوتها دون انقطاع، وعلا صوت القوم مذعورين، وأخذوا ينادون: «قسيكم ورماحكم! قسيكم ورماحكم!» وسرى النداء من حي إلى حي، وأخذ يتردد مرة تلو الأخرى، فيجاب بالفوج إثر الفوج من المقاتلين المتأهبين، ودعواهم القومية: «سنت جورج لإنجلترا الطروبة!»
وسرى الذعر في أقرب الأحياء بالمعسكر، وتجمهرت زمرة من الرجال من الأمم المختلفة جميعا، وربما كان لكل قوم من أقوام العالم المسيحي من يمثلهم، ورفع الجميع السلاح متكاتفين في ظرف هذا المعمعان المضطرب الذي لم يعرفوا له باعثا أو مرمى؛ وكان من حسن الطالع وسط هذا المشهد المروع أن «الإيرل أف سولزبري» - وقد هرع بعد أن استدعاه دي فو في ثلة من خيار الرجال الإنجليز المدججين بالسلاح - قد سير بقية الجيش الإنجليزي، وأشار لهم أن يحتشدوا ويبقوا شاكي السلاح، كي يسيروا إلى نجدة رتشارد إن دعا إلى ذلك داع، وأن يتقدموا بنظام لائق، وألا يتحركوا إلا إن جاءهم أمر معتمد، وألا يسيروا بعجلة لجبة قد يجلبها عليهم ما يتملكهم من ذعر وما يدفع بهم من غيرة على سلامة المليك.
وفي تلك الآونة أخذ رتشارد يشق طريقه إلى جبل سنت جورج منطلقا كالشهاب، ولم يكترث لحظة لتلك الصيحات وذلك الهتاف والضجيج الذي أخذ يتعالى حواليه، وثيابه أبعد ما تكون عن الاتساق، ولم يتبعه غير دي فو وواحد أو اثنين من حشمه.
وكان في انطلاقه أسرع من الذعر الذي أثاره باندفاعه وتهوره، ومر بحي جنوده البواسل من «نورماندي» و«بواتو» و«غسقونيا» و«أنجو» قبل أن يبلغهم الاضطراب - وإن يكن الشغب الذي كان يرافق قصف الألمان قد دفع بالكثير من الجند إلى أن يهبوا على أقدامهم يتسمعون - وكانت قلة الاسكتلنديين تقطن إلى جوار ذلك الحي، ولكن هذا اللجب لم يزعجهم، أما فارس النمر فقد لحظ شخص الملك وما كان عليه من عجلة، فعلم أن الخطر لا بد دان، فسارع كي يساهم فيه، وانتزع درعه ومهنده، وانضم إلى دي فو الذي كان يجد بعض المشقة في مسايرة سيده - وقد اشتعل نارا وجزعا - وصوب الفارس الاسكتلندي إلى دي فو نظرة تطلع وتشوق، فأجابه دي فو بهز كتفيه العريضتين، وانطلقا جنبا إلى جنب، يتابعان خطا رتشارد.
وسرعان ما بلغ الملك سفح جبل سنت جورج، وقد تحوط القوم إذ ذاك سفح الجبل وجوانبه، واحتشد من الناس زحام، بعضه من أتباع دوق النمسا الذين كانوا يمجدون - مهللين هاتفين - ذلك العمل الذي كانوا يعدونه إقرارا للكرامة القومية، وبعضه نظارة من أمم مختلفة، ضمهم بعضا إلى بعض - ليشهدوا نهاية هذا العمل الشاذ - بغض في النفوس للإنجليز، أو حب للتطلع مجرد. وانطلق رتشارد في طريقه وسط هؤلاء الجند المختلطين كأنه سفين كريم امتلأ شراعه بالهواء، وسار يشق طريقه عنوة خلال الأمواج المتلاطمة، لا يبالي إن تجمعت الأمواج بعد مسيره أو خر خريرها على مؤخرته.
وكانت قمة الجبل فسحة من الأرض صغيرة مستوية، اندكت فوقها الأعلام المتنافسة، وما فتئ يحوطها أصدقاء الأرشدوق وحاشيته، وكان ليوبولد نفسه وسط الدائرة، وما برح ينظر إلى الفعلة التي فعلها بنفس مطمئنة، وما عتم يستمع إلى هتاف الاستحسان الذي لم يدخر حزبه نفسا في توجيهه إليه، وإذ هو كذلك في غبطته، إذا برتشارد يندفع إلى الحلقة وليس له من الأتباع حقا غير اثنين، ولكنه بنشاطه المتدفق جيش وحده لا يقاوم.
وقال وقد مد يده إلى العلم النمساوي، وتكلم بصوت يشبه تلك الجلجلة التي تسبق الزلازل: «من ذا الذي حدثته نفسه أن يضع هذه الخرقة الحقيرة إلى جوار الراية الإنجليزية؟»
ولم يفتقر الأرشدوق إلى الشجاعة الشخصية، وكان محالا أن يسمع هذا السؤال دون أن يجيب، ولكنه رغم ذلك انزعج وذهل ذهولا شديدا لمقدم رتشارد الذي لم يكن في الحسبان، وتملكه رعب مبعثه شخصية الملك الغيورة التي لا تلين، حتى إنه أعاد السؤال مرة بعد أخرى - في نغمة كأنها تتحدى السماوات والأرضين - قبل أن يجيب الأرشدوق ويقول رابط الجأش جهد الطاقة: «أنا ذلك الرجل، ليوبولد النمساوي.»
فأجاب رتشارد: «إذن فلسوف يرى ليوبولد النمساوي عما قريب أي وزن يقيم رتشارد الإنجليزي لرايته ودعواه.»
ولم يكد يتم حديثه حتى اقتلع رمحه العلم وحطمه إربا إربا، ورمى بالعلم فوق الثرى ووطأه بقدميه.
ثم قال: «هكذا أدوس علم النمسا! فهل من بين فرسانكم التيوتون من يجرؤ على مناقشتي الحساب؟» وحينئذ ساد الصمت حينا؛ ولكن ليس في الرجال من لهم شجاعة الألمان، فكم من فارس من أتباع الدوق أجاب رتشارد قائلا: «أنا ذلك الرجل.» وضم الدوق نفسه صوته إلى أصوات أولئك الذين ردوا على ملك إنجلترا تحديه.
قال «الإيرل والنرود» وهو مقاتل كبير الجسم من حدود المجر: «فيم هذا التواني، أي إخواني يا كرام النبلاء، إن هذا الرجل يطأ بقدمه شرف بلادكم؛ هلموا بنا ننقذه من هذا الاعتداء، ولتسقط كبرياء إنجلترا!»
ولم يكد يتم قوله حتى استل حسامه ووجه نحو الملك ضربة، كان فيها قضاؤه لولا أن اعترضها الرجل الاسكتلندي وتلقاها بدرعه.
فقال الملك رتشارد، وقد استشرى وعلا صوته الشغب الذي ارتفع ضجيجه إذ ذاك: «لقد أقسمت يمينا ألا أضرب رجلا يحمل الصليب على كتفه، وإذن فلتعش يا «والنرود»، ولكن عش لتذكر رتشارد ملك إنجلترا.»
ولم يفرغ من حديثه حتى أمسك الرجل المجري الطويل القامة من خصره - وهو رجل لا يبارى في الصراع كما لا يبارى في غيره من الحركات الحربية - وطوح به إلى الوراء بعنف، فتدحرج جسم الرجل البدين - وكأنه ينطلق من مدفع عسكري - لا وسط النظارة الذين شهدوا هذا المنظر الشاذ فحسب، وإنما فوق حافة الجبل نفسه وعلى جرفه الذي أخذ يتقلب عليه والنرود رأسا على عقب، حتى ارتكز أخيرا على كتفه، وتخلخلت عظامه، ولبث ملقى على الأرض وكأن الحياة قد فارقته. هذا الحادث الذي بدت فيه قوة الملك - وهي تكاد تفوق الطاقة البشرية - لم تشجع الدوق أو أحدا من أتباعه، على أن يعاود السجال الذي لم تكن بدايته ميمونة الطالع؛ وحقا لقد صلصل بالسيوف أولئك الذين وقفوا بعيدا إلى الخلف وصاحوا: «مزقوا وغد الجزيرة إربا إربا.» ولكن الأقربين منهم أخفوا مخاوفهم الشخصية تحت ستار مصطنع، هو ستار الرغبة في حفظ النظام، وكنت أكثر ما تسمع منهم «السلام، السلام ! سلام الصليب ! سلام الكنيسة المقدسة وأبينا البابا!»
هذه الصيحات المختلفة من المغيرين كان يناقض بعضها بعضا فتدل على فتور في العزيمة، بينما كان رتشارد - وقدمه ما تزال فوق راية الأرشدوق - يتطلع حواليه بعين كأنها تبحث عن عدو، عين تراجع منها الأشراف الغاضبون فزعين، كأن ليثا هصورا يتهددهم بالهجوم، ولبث دي فو وفارس النمر مكانهما إلى جوار الملك، ورغم أن سيفيهما ما برحا مغمدين، إلا أنه كان جليا أنهما يتحفزان لحماية شخص رتشارد حتى النفس الأخير، وكانا بضخامة جسميهما وقوة بنيتهما الفائقة يدلان دلالة واضحة على أن دفاعهما سوف يكون دفاع المستقتلين.
وقد دنا سولزبري وحاشيته كذلك إذ ذاك برماح وحراب مسنونة وقسي مشدودة.
وفي تلك الآونة جاء فيليب ملك فرنسا يتبعه واحد أو اثنان من أشرافه، واعتلى المنصة مستعلما عن سبب تلك الشحناء، ولوح بشارات التعجب حينما ألفى ملك إنجلترا وقد هب من فراش مرضه، وواجه دوق النمسا، حليف الطرفين، وقد وقف وقفة المتوعد المتحدي؛ ولقد خجل رتشارد نفسه حينما رآه فيليب - وكان يقدر فيه حكمته بقدر ما كان يكره شخصه - وهو في هيئة لا تليق بمركزه كملك، ولا بصفته كصليبي، ولحظ الحاضرون أنه رفع قدمه - وكأنه غير عامد - من فوق الراية المهينة، وبدل من نظرته الممزوجة بالعاطفة الحارة نظرة اصطنع فيها الطمأنينة وعدم المبالاة؛ وجاهد ليوبولد أن يظفر بشيء من الهدوء، وكاد يموت كمدا حينما رآه فيليب وهو في موقف الذلة والخنوع بسبب الإهانة التي لحقته من ملك إنجلترا وهو يتقد غضبا.
وكان فيليب على كثير من تلك الصفات الملكية التي أطلقت عليه رعيته من أجلها لقب العظيم، حتى أنا نستطيع أن ندعوه «يوليسيز» كما كان رتشارد «أخيليس»
5
غير منازع في الحرب الصليبية. كان ملك فرنسا حكيما عاقلا حازما في مشورته، متزنا ساكنا فيما يعمل، يتبصر فيما يدبر لصالح مملكته، ويرسم لذلك خطة يتابعها راسخ القدم ثابت العزيمة؛ وهو في سلوكه ملك موقر، مقدام في نفسه، إلا أنه إلى السياسي أدنى منه إلى المقاتل. وما كان للحرب الصليبية أن تكون من محض اختياره، ولكن عدواها أصابته، وفرضت عليه الكنيسة الحملة فرضا، كما دفعته إليها رغبة قوية أجمع عليها أشرافه. ولو كان الظرف غير الظرف، أو لو كان العصر أشد رفقا، لكان يعلو في خلقه على قلب الأسد الجسور، ولكن في حرب صليبية - هي في ذاتها أمر لا روية البتة فيه - لا يكون العقل السليم من بين جميع الصفات إلا أقلها قدرا؛ ولو أن شجاعة الفروسية، التي كان يتطلبها العصر ومشروع الحرب، اختلطت بأدنى أثر من آثار الحكمة لحط ذلك من قدرها، ولذا فإن مزية فيليب، إذا قيست بصفات منافسه الشامخ بأنفه، ما كانت إلا كضوء المصباح الضئيل الصافي إذا وضع إلى جوار وهج المشعل المتوقد الذي ليس له من النفع نصف ما للآخر، إلا أن له من الأثر على العين عشرة أمثاله. وكان فيليب يحس بحطته عن رتشارد في أعين الجمهور، فيألم لذلك ألما يحس به كل أمير كريم النفس. وليس عجيبا أن ينتهز كل فرصة تسنح كي يقرر شخصيته إلى جوار منافسه بحيث يرفع من قدر نفسه، وكان الظرف إذ ذاك إحدى تلك المناسبات التي تنتصر الحكمة والهدوء فيها على العناد والتهور والعنف. «ما وراء هذا الشجار الذي لا يليق بأخوين في الصليب أقسما له الولاء، بين صاحب الجلالة ملك إنجلترا والأمير الدوق ليوبولد؟ كيف يجوز لزعماء هذه الحملة المقدسة وعمدها أن ...»
فقال رتشارد - وقد تأججت النار في صدره حينما ألفى نفسه وقد وضع على شيء من المساواة مع ليوبولد، ولم يدر كيف يستنكر هذا الموقف: «مهلا بعض هذا العتاب ملك فرنسا؛ إن هذا الدوق أو الأمير أو الدعامة - إن شئت - قد دل على قحته فلاقى مني الجزاء. وهذا هو ما نحن فيه. وحقا إن هذا لشغب كثير من أجل وغد مهين!»
فقال الدوق: «أي جلالة ملك فرنسا، إني أعمد إليك وإلى كل أمير ملكي في هذا الخزي المشين الذي كابدته وعانيت منه. إن ملك إنجلترا هذا قد نزع رايتي ومزقها وداسها.»
فقال رتشارد: «أجل، لأنه بلغ من الجرأة أن يرفعها إلى جوار رايتي.»
فأجاب الدوق وقد شجعه مثول فيليب: «إن مكانتي كند لك تخول لي هذا.»
فقال الملك رتشارد: «وحق القديس جورج لو أعلنت هذه المساواة بينك وبيني لفعلت بك ما فعلت بهذه الراية الموشاة التي لا تليق إلا بأدنى وظيفة يمكن لراية أن تؤديها.»
فقال فيليب: «صبرا أخي ملك إنجلترا، ولسوف أري الآن دوق النمسا أنه مخطئ في هذا الشأن.» ثم استأنف الكلام وقال: «لا تظنن أيها الدوق النبيل أننا، إذ نرضي لعلم إنجلترا أن يحتل المكانة العليا في معسكرنا، نقر - نحن ملوك الحرب الصليبية المستقلين - بأننا أصغر من الملك رتشارد شأنا، أو أحط منه قدرا؛ كلا، ليس هذا من الصواب في شيء، ما دام لواء الجهاد ذاته - وهو علم فرنسا الأعظم الذي ليس الملك رتشارد نفسه فيما يخص أملاكه الفرنسية إلا تابعا له - يتبوأ الآن مكانة أدنى من ليوث إنجلترا.
6
ولكنا - كإخوة في الصليب - قد أقسمنا له جميعا يمين الولاء، وكحجاج حربيين قد طرحنا عظمة الدنيا وكبرياءها جانبا، وأخذنا نشق بسيوفنا طريقا إلى القبر المقدس، فتخيلت أنا نفسي وغيري من الأمراء للملك رتشارد - احتراما لصيته الذائع ومآثره في القتال - عن هذا التصدر الذي ما كنا لنسلمه له في مكان غير هذا المكان، وتحت بواعث غير هذه البواعث. وإني على يقين أنك يا صاحب الفخامة الملكية دوق النمسا، لو تدبرت ما أقول، سوف تأسف على أنك رفعت رايتك في هذا المكان، وأنا على ثقة بأن جلالة ملك إنجلترا سوف يرضيك بعد هذا لما ألحق بك من مهانة.»
وكان المحدث والمهرج كلاهما قد أويا إلى مكان بعيد مطمئن حينما ادلهمت الأمور وأنذرت بالقتال، ولكنهما عادا بعد أن عرفا أن المكان - وهو جل بضاعتهم - قد أوشك أن يكون هو الحكم في ذلك اليوم.
وكم سر رجل الأمثال (أي المحدث) من خطاب فيليب السياسي حتى لقد هز بعصاه عند اختتام الكلام كأنه يؤيد ما قال فيليب، ونسي الحضرة التي كان ماثلا لديها، وبلغ به النسيان أن رفع عقيرته قائلا إنه هو نفسه لم يفه حياته بكلام أحكم من هذا.
فهمس جوناس شوانكر وقال: «قد تكون مصيبا فيما تقول، ولكنك إن رفعت صوتك بالكلام فستضربن بالسياط.»
وأجاب الدوق، مكتئبا، بأنه سوف يرفع أمر هذا النزاع إلى مجمع الصليبيين العام - وهو رأي أثنى عليه فيليب كثيرا وقال عنه إنه قمين بأن يرفع خزيا بالغ الأذى بالعالم المسيحي.
أما رتشارد فقد بقي كما كان على هيئته غير مكترث أو مبال، وأنصت لفيليب حتى أوشك أن ينضب معين فصاحته، ثم قال بصوت جهوري: «إني وسنان، وما زالت الحمى تلعب برأسي. أي أخي ملك فرنسا، إنك بمزاجي عليم، وإنك لتعرف أني دائما لا أكتم إلا قليلا من اللفظ؛ فاعلم إذن في التو والحين أني لن أعرض أمرا يمس شرف إنجلترا على أمير أو مجمع أو بابا. هذا لوائي قائم، وأية راية ترتفع على مدى رماح ثلاثة منه - حتى وإن كانت راية فرنسا التي أظنك كنت تتحدث عنها الآن - فلسوف يكون حظها كحظ تلك الخرقة المهينة، ولن تناولوا مني ترضية غير تلك التي تستطيع جوارحي الضعيفة هذه أن تؤديها، وذلك بمبارزة من يجرؤ منكم على النزال؛ أي وربي، حتى وإن يكن منازلي خمسة من أبطالكم لا واحدا فحسب.»
فقال المهرج همسا إلى زملائه: «تالله إن هذا لحديث خرافة ما بعدها خرافة، وكأنه قد صدر عني، ومع ذلك فما إخال إلا أن هناك من هو أشد من رتشارد غفلة وأكثر هراء.»
وقال رجل الحكمة: «ومن عسى أن يكون ذلك الرجل؟»
فقال المهرج: «ذلك هو فيليب أو دوقنا الملكي، لو أن أحدهما قبل النزال. هيه يا أيها المحدث الحكيم، والله ما كان أجدرني وإياك أن نكون من عظام الملوك، ما دام أولئك الذين يحملون التيجان على رءوسهم يستطيعون أن يمثلوا دور المحدث بالأمثال والمهرج، مثلي ومثلك تماما!»
وبينا هذان الرجلان مشتغلان بهذا الحديث وحدهما، أجاب فيليب على رتشارد تحديه الجارح في هوادة وهدوء وقال: «إني لم آت إلى هنا كي أوقظ خصومات جديدة لا تتفق واليمين التي أقسمناها، والقضية المقدسة التي نشتغل بها. إني أبرح أخي ملك إنجلترا كما يبرح الأخ أخاه، ولن تكون بين أسد إنجلترا
7
وزنبق فرنسا
8
من الخصومة إلا ما نوجهه معا حاملين على صفوف أعدائنا الكفار.»
فقال رتشارد: «هذه صفقة رابحة يا أخي المليك.» ومد يده وقلبه مفعم بالإخلاص الذي يتصف به طبعه الكريم رغم تهوره، ثم قال: «وعما قريب قد تتاح لنا الفرصة لتنفيذ هذا الاتفاق الأخوي المجيد.»
فأجابه فيليب وقال: «دع هذا الدوق النبيل يساهم كذلك في صداقة هذا الظرف السعيد.» واقترب الدوق مكتئبا بعض الاكتئاب، يقدم رجلا ويؤخر أخرى، كي يصل إلى تسوية ما.
فقال رتشارد غير مكترث: «إني لا أفكر في الغافلين أو في غفلتهم.» فولاه الأرشدوق ظهره وانسحب من الميدان، ونظر إليه رتشارد وهو يتراجع وقال: «إن من ألوان الشجاعة لونا كاليراعة، لا يظهر للعيان إلا ليلا، وإني لن أبرح هذا العلم بغير حارس في كنف الظلام، أما إذا انبثق ضياء النهار، فإن عيون الأسد كفيلة وحدها بأن تدفع عنه؛ أي توماس الجلزلاندي، إني أعهد إليك برعاية العلم، وأكلفك السهر على شرف إنجلترا.»
فقال دي فو: «سلامة إنجلترا عزيزة علي، وإن في حياة رتشارد لسلامة لها، يجب علي أن أعود بجلالتك إلى الفسطاط، وينبغي ألا نتريث هنا بعد هذا.»
فانفرجت شفتا الملك عن ابتسامة وقال: «إنما أنت ممرض غليظ صارم يا دي فو.» ثم واصل الحديث مخاطبا السير كنث وقال: «أيها الاسكتلندي الجسور، إني مدين لك بالجميل، وسوف أرده لك جزيلا. هناك ترى لواء إنجلترا مرفوعا! هلا عنيت برقابته كما يعنى الناشئ بسلاحه عشية اليوم الذي يحرز فيه شرف الفروسية؛ لا تبتعد عنه أكثر من طول ثلاثة رماح، وادفع عنه بجسمك أي أذى أو إهانة - لو هاجمك أكثر من ثلاثة رجال في آن فانفخ في البوق. فهل تقوم بهذه المهمة؟»
فقال كنث: «لأقومن بها عن رغبة، ولئن قصرت في أدائها لحياتي قصاصي، وسوف أمتشق سلاحي وأعود فورا إلى هنا.»
وحينئذ استأذن في الانصراف ملكا فرنسا وإنجلترا أحدهما الآخر ، وكلاهما يخفي وراء ستار من المجاملة أسباب شكواه من الآخر؛ أما رتشارد فيشكو من فيليب ما كان في ظنه تدخلا فضوليا بينه وبين دوق النمسا، وأما فيليب فيشكو من قلب الأسد مسلكه المشين إزاء توسطه. أما أولئك الذين حشدهم هذا الاضطراب، فقد تسللوا الآن، وسلك كل منهم سبيله، مخلفين الجبل الذي دار النزاع على قمته في عزلته التي لم تفارقه حتى شابها استخفاف دوق النمسا؛ وحكم الرجال على حوادث ذلك اليوم كل على هواه؛ فبينما عاب الإنجليز على دوق النمسا أنه أول من تقدم بسبب للنزاع، أجمع أهل الأمم الأخرى على صب اللوم الأكبر على كبرياء رجل الجزيرة وعلى صلف رتشارد.»
وقال مركيز منتسرا لرئيس فرسان المعبد: «أما رأيت أن الدهاء أبلغ أثرا من الشدة والعنف، لقد حللت المواثيق التي كانت توثق هذه الرابطة من الصوالجة والرماح، ولسوف تراها عما قريب وهي تساقط متناثرة متنافرة.»
فأجاب رئيس المعبد وقال: «ما كان أحكم خطتك لو كان هناك رجل واحد باسل بين أولئك النمساويين ذوي الدم البارد يفصم بسيفه عري الروابط التي تحدثت عنها. إن العقدة إذا انحلت قد تلتئم ثانية، ولكن ذلك لن يكون إذا تقطع الحبل إربا إربا.»
الفصل الثاني عشر
هي المرأة تغري بني الإنسان جميعا
جاي
كان جزاء الشجاعة العسكرية في أيام الفروسية كثيرا ما يكون وظيفة خطرة، أو مغامرة مهلكة، تسند إلى الرجل تعويضا له عما كابد من محن؛ مثلهم في ذلك مثل الإنسان يصعد جبلا عاليا، كلما تسلق صخرة ارتفع إلى صخرة أشد خطرا.
ففي منتصف الليل، والقمر في كبد السماء يتلألأ ضياء، كان كنث الاسكتلندي واقفا فوق قنة جبل سنت جورج، إلى جوار راية إنجلترا يخفرها منعزلا نائيا، ويحمي رمز تلك الأمة من أية إهانة قد تلعب برأس واحد من تلك الألوف التي صيرها رتشارد بكبريائه أعداء له. ودار برأس هذا المقاتل خطير الفكر واحدة تلو الأخرى، وخيل له أنه قد اكتسب الرضا في عيني ذلك الملك الفارس، الذي حتى آنئذ لم يكن يميزه بين جموع شجعان الرجال، الذين جمعهم تحت رايته صيته الذائع؛ ولم يكترث السير كنث كثيرا للموقف الخطر الذي ساقته إليه الرعاية الملكية، وكان تفانيه في حبه لفتاة من ذوي المكانة الرفيعة يشعل فيه الحماسة العسكرية. وحقا لقد كان فاقد الأمل في وصلها تحت الظروف المألوفة، إلا أن تلك الأحداث التي وقعت أخيرا قاربت ما بينه وبين «أديث» بعض المقاربة، ولم يعد كنث - وقد من عليه رتشارد وميزه بحراسة رايته - مقحاما خامل الذكر، وإنما هو محط الرعاية من أميرة من الأميرات، وإن يكن أبعد ما يكون عن مستواها. ولن يكون بعد اليوم نكرة من النكرات، ولو أنه أخذ على حين غرة، وقتل وهو قائم بالعمل الذي أسند إليه، فلسوف يستحق بموته - وقد اعتزم أن يكون موتا يحوطه الجلال - من قلب الأسد الثناء، كما يظفر منه بالانتقام له، وسوف يتبع موته الأسى والدمع، تذرفه الجميلات من بنات الأسر الكريمة في البلاط الإنجليزي. ولم يبق بعد اليوم ما يحمله على أن يخشى أن يموت كما يموت صغار الرجال.
استرسل السير كنث في الاستمتاع بهذه الخواطر الطامحة وأشباهها، التي يغذيها ذلك الروح الهمجي، روح الفروسية الذي يحلق فيعلو ويرتفع ويسبح في الخيال، ولكنه يظل رغم ذلك نقيا طاهرا من شوائب حب النفس. هو روح كريم مخلص، وقد لا تعيب عليه إلا أنه في أغراضه وما يرسم من خطط العمل لا يتفق وضعف الإنسان ونقصه. والطبيعة كلها حول السير كنث نائمة في ضياء القمر الهادئ، أو في الظلال الحالكة، والصفوف الممتدة من الخيام والسرادقات، مظلمة كانت أو متألقة بالنور - وهي قائمة في ضوء القمر، أو في الظلام - كانت صامتة ساكنة، كما تكون الطرقات في مدينة مهجورة، وإلى جوار سارية العلم كان يرقد الكلب الذي ذكرنا من قبل، رفيق السير كنث الأوحد وهو في خفارته، يركن إلى تنبهه نذيرا له باكرا كلما دنا من عدو وقع القدم؛ وكأن هذا الحيوان النبيل قد أدرك مرمى هذه الرقابة، فأخذ يتلفت الحين بعد الآخر إلى ثنايا العلم الثقيل، وإذا ما سمع صياح الحراس من الصفوف النائية وأماكن الدفاع في المعسكر، أجابه بنباح عميق متكرر ومتواصل، كأنه يؤكد أنه كذلك يقظ في أداء واجبه، وكان يخفض رأسه الشامخ الفينة بعد الفينة، ويهز ذيله كلما مر به سيده مرة بعد الأخرى وهو يدور دوراته القصيرة أثناء حراسته؛ وكلما وقف الفارس صامتا شارد الذهن، متكئا على رمحه، ومصوبا نظره نحو السماء، اجترأ صاحبه الأمين «أن يقطع عليه سلسلة خواطره.» إن صح هذا التعبير الخيالي، ووخز الفارس في يديه ذواتي القفاز بمقدم فمه الخشن الكبير، فأيقظه من أحلامه متوسلا إليه أن يدلله لحظة أو بعض لحظة.
وهكذا تصرمت من رقابة الفارس ساعتان دون أن يقع فيهما أمر ذو بال، وأخيرا، وعلى حين بغتة، أخذ هذا الكلب الشهم ينبح محتدما، وبدا عليه كأنه يوشك أن ينطلق إلى الأمام، حيث الظلال على أشدها حلوكة، ولكنه رغم ذلك تريث، كأنه على ارتقاب، حتى يتعرف ما يريد صاحبه.
فقال السير كنث وقد أحس بأن شيئا يزحف قدما على جانب الجبل الظليل، «من السائر هناك؟»
فأجابه صوت خشن يعافه السمع: «باسم «مارلين» و«موجيس» قيد أقدام ماردك
1
هذا الأربع، وإلا فلن آتيك.»
فقال السير كنث وقد حدق ببصره الثاقب ما استطاع في شيء يكاد لا يراه في أسفل المنحدر، ولم يستطع أن يتبين له شكلا أو هيئة: «ومن عسى أن تكون أيها الداني من منصبي، حذار! حذار! إنما أنا هنا للموت أو الحياة.»
فرد عليه الصوت قائلا: «أبعد مخالب شيطانك الطويلة، وإلا فسأرميه بسهم من قوسي.»
وسمع في ذات الحين صوت انثناء أو جذب كذلك الذي تسمعه حينما تشد القوس.
فقال الاسكتلندي: «أقم قوسك ولا تثنها، وتعال في ضوء القمر، وإلا فبحق القديس أندراوس لأطرحنك أرضا، وكن ما شئت أو من شئت!»
وأمسك برمحه من وسطه وهو يتكلم، ودنا ببصره نحو ذلك الجسم الذي كان كأنه يتحرك، وهز بسلاحه كأنه يفكر في قذفه من يده - والسلاح يستخدم أحيانا، وإن يكن نادرا، ويركن إليه حين تلزم الرماية. ولكن السير كنث استحى من مقصده، فرمى بسلاحه أرضا حينما أقبل من الظلام إلى ضوء القمر مخلوق مقعد عاجز، وكأنه ممثل قد أقبل على المسرح، وقد عرف السير كنث من زيه الغريب وتشويه خلقه، ولما يزل بعيدا عنه، أنه ذكر القزمين اللذين رآهما في معبد «عين جدة». وفي تلك اللحظة عينها عادت إلى ذاكرته المشاهد الأخرى التي رآها في تلك الليلة الفريدة، وهي تختلف جد الاختلاف عن هذا القزم في مرآها، وأومأ إلى كلبه بإشارة أدركها الكلب في الحين، فأوى إلى العلم ورقد إلى جواره وهو يدمدم بصوت مختنق.
هذه الصورة الإنسانية الصغيرة المشوهة،
2
بعدما أيقنت من سلامتها من هذا العدو المخيف، أقبلت تصعد الجبل وهي تلهث من الإعياء؛ وكان الصعود شاقا على ساقيه القصيرتين، ولما بلغ مستوى القمة، نقل إلى يسراه القوس الصغيرة، وهي أشبه باللعبة التي كان يسمح للأطفال في ذلك الأوان أن يصيدوا بها صغار الطير، ووقف موقف الكرامة والاعتزاز بالنفس، ومد يمناه برشاقة وكياسة إلى السير كنث، وتدل هيئته على أنه كان يرتقب منه أن يلثمها، ولما لم يفعل ذلك السير كنث، طلب إليه بصوت فيه رنة الحدة والغضب وقال: «أيها الجندي، لماذا لا تؤدي إلى «نكتبانس» الولاء الواجب لكرامته؟ أو قد نسيته؟»
فأجاب الفارس وهو يود لو يخفف من حدة هذا المخلوق وقال: «أي نكتبانس العظيم، إن هذا عسير على كل من وقعت عليك عيناه. وإني لأسألك العفو، إذ إني كجندي أؤدي واجبي ورمحي بيدي ليس لي أن أسمح لرجل من شاكلتك أن يدنو من مكان حراستي، أو أن يسيطر على سلاحي، وحسبك أني أحترم كرامتك، وأخضع لك خاشعا على قدر ما يستطيع جندي في مكاني أن يخضع.»
فقال نكتبانس: «حسبي هذا، إن كنت بعد قليل تصحبني إلى حضرة أولئك الذين بعثوا بي إلى هنا كي أستدعيك.»
فأجاب الفارس: «سيدي العظيم، لا أستطيع في هذا الأمر كذلك أن أصدع بما تريد، فلقد أمرت أن ألزم هذه الراية حتى مطلع الفجر؛ ولذا فإني ألتمس منك أن تعذرني في هذا الشأن كذلك .»
وبعدما أتم حديثه استأنف مسيره فوق الجبل، ولكن القزم لم يطق أن يدعه يفلت من لجاجته بتلك السهولة.
فقال وقد وقف قبالة السير كنث كي يعترض سيبله: «استمع إلي، إما أطعتني يا سيدي الفارس كما يحتم عليك واجبك، أو أمرتك باسم تلك التي تستطيع بجمالها أن تستنزل الجن من عالمه، وبجلالها أن تسيطر على هذه المخلوقات الخالدة بعد هبوطها من عليائها.»
فخطر للفارس خاطر وحشي بعيد الاحتمال، ولكنه كبته ورده عن نفسه، وظن أن من المحال أن ترسل إليه غادة قلبه وهواه رسالة كهذه على لسان رسول كهذا. ومع ذلك فقد أجاب وفي صوته رعشة وقال: «اذهب عني يا نكتبانس. خبرني على الفور وأصدقني القول، هل هذه السيدة الكريمة التي تتحدث عنها امرأة غير الحوراء التي رأيتها تعاونك وأنت تكنس معبد عين جدة؟»
فأجاب القزم قائلا: «ما هذا أيها الفارس المدعي! أفتظن أن السيدة التي عقدنا بها حبنا الملكي، شريكة عظمتنا، ورفيقة جلالتنا، تستذل نفسها وتتعلق بتابع مثلك؟ كلا، إن شرفك لعظيم، ولكنك لست بعد جديرا برضى الملكة «جنفرا»
3
عروس آرثر الحسناء التي تعتلي مقعدا مرتفعا فيبدو لها الناس قاطبة، حتى أمراؤهم، أقزاما؛ ولكن، انظر إلي، إن كنت تعرف هذه الشارة أو تنكرها فلتطع أمر صاحبتها أو اعصه، ذلك الأمر الذي تعطفت بفرضه عليك.»
وبعدما أتم حديثه، وضع بين يدي الفارس خاتما من ياقوت، فاستطاع الرجل أن يتعرف في لمحة - حتى في ضياء القمر - أنه ذلك الذي يتحلى به عادة إصبع السيدة ذات الأصل الكريم، التي كرس نفسه لخدمتها. ولو كان له أن يرتاب في صدق الشارة لاستيقن من الوشاح الصغير المعقود ذي اللون القرنفلي، الذي كان مربوطا إلى الخاتم، فذلك كان اللون الرغيب إلى نفس سيدة قلبه. وكم من مرة عمل على أن ينتصر القرنفل على كل ما عداه من ألوان في حلبة المصارعة أو ميدان القتال، مدعيا أن ذلك اللون هو لون حاشيته وأتباعه.
وحقا لقد صعق السير كنث، وأوشك أن يخرس حينما رأى هذه الشارة بين تلك اليد.
فقال الفارس: «باسم كل ما تقدس، خبرني ممن أخذت هذا الشاهد؟ ناشدتك الله أن تجمع - إن استطعت - ذهنك الشارد لحظة أو لحظتين، وأن تكون ثابتا رزينا، وتحدثني شيئا عمن أرسلتك، وعن حقيقة الغرض من رسالتك، وحاذر فيما تقول، فليس هذا مجال المجون.»
فقال القزم: «حقا إنك لفارس متيم غافل، أفتريد أن تعرف عن هذا الشأن أكثر من أنك تتشرف بتلقي الأمر من أميرة ألقى إليك بها ملك من الملوك؟ إنا لا نريد أن نتحدث إليك بأكثر من أن نأمرك باسم هذا الخاتم، وبما له من نفوذ، أن تتبعنا إلى صاحبته، واعلم أن كل دقيقة تتوانى جرم في واجب ولائك.»
فقال الفارس: «أي نكتبانس الكريم، تريث قليلا، هل تعرف سيدتي أية مهمة قد أسندت إلي هذا المساء، وفي أي مكان أقوم بها، وهل هي عليمة بأن حياتي - رحماك اللهم، كيف لي أن أتحدث عن حياتي - كلا، إنما شرفي، يتوقف على حراسة هذه الراية حتى منبثق النهار؛ وهل يجوز أن ترضى هي بأن أخلفها حتى وإن يكن لأداء واجب الخضوع؟ كلا، إن هذا لأمر محال، إن الأميرة قد أرادت أن تمزح مع خادمها حينما بعثت إليه بمثل هذه الرسالة، وما أظن غير ذلك، وبخاصة حينما أذكر أنها قد اختارت مثلك لها رسولا.»
فقال نكتبانس وقد تلفت كأنه يريد أن يفصل عن قنة الجبل «اعتقد بما شئت، إنني لا أكترث كثيرا إن كنت لهذه السيدة الملكية خائنا أو أمينا؛ وإذن فلأستودعك الله.»
فقال السير كنث: «البث قليلا، البث هنا؛ إني أتوسل إليك ألا تبرح؛ أجبني عن سؤال واحد، هل السيدة التي بعثت بك قريبة من هذا المكان؟»
فقال القزم: «وما شأن هذا؟ هل يحسب الإخلاص للفراسخ والأميال حسابا، كما يحسب الساعي الفقير الذي يؤجر على عمله بمقدار ما يقطع من أبعاد؟ ولكن، لتعلم أيها المرتاب أن صاحبة الخاتم الحسناء، التي بعثت بي إلى تابع مثلك ليس له وزن، وليس به صدق أو إقدام، لا تبعد عن هذا المكان أكثر من مرمى السهم من هذه القوس.»
فحدق الفارس في الخاتم، كأنه يريد أن يتثبت أن ليس بالشارة أثر من زيف أو بهتان، ثم قال للقزم: «هل سأمثل طويلا هناك؟»
فأجاب نكتبانس بأسلوبه الطائش وقال: «طويلا! ماذا تعني بقولك طويلا - إني لا أدرك للزمن معنى ولا أحس به، إن هي إلا كلمة مبهمة - ما الزمن إلا أنفاس متلاحقة نقيسها ليلا برنين الأجراس ونهارا بظل المزولة. هلا عرفت أن الوقت للفارس الحق ينبغي ألا يقاس إلا بما يؤدي من عمل في سبيل الله وفي سبيل سيدته؟»
فقال الفارس: «حقا إنها لكلمة الصدق من فم الطائش الأرعن، ولكن هل تستدعيني سيدتي حقا كي أقوم بعمل ذي بال باسمها وفي سبيلها؟ وهلا يمكن أن نستأخره بضع ساعات حتى ينبثق النهار؟»
فقال القزم: «إنها تريد منك المثول توا وبأسرع مما تتسرب عشر حبات من رمال مقياس الزمن؛
4
استمع إلي أيها الفارس المرتاب ذو الدم البارد، هذي هي كلماتها لفظة لفظة: «قل له إن اليد التي يتساقط منها الورد في وسعها أن تضفر الأكاليل».»
هذا الإلماع إلى لقائها بمعبد «عين جدة» أثار في ذهن السير كنث ألوف الذكر، وأقنعه بأن الرسالة التي بلغه إياها القزم صادقة لا غبار عليها، وكانت براعم الزهر - رغم ذبولها - لما تزل مكنوزة تحت درعه، وأقرب ما تكون إلى قلبه، فوقف الفارس قليلا ولم يستطع أن يعتزم عزمة قوية على أن يدع هذه الفرصة - وهي الفريدة التي ربما تعرض له حياته، ويفوز فيها بالرضا في عيني تلك التي ولاها ملكة على قلبه - وفي ذلك الحين زاده القزم ارتباكا بأن كرر عليه القول، وعرض عليه إما أن يرد الخاتم أو يتبعه على الفور.
فقال الفارس: «مهلا، مهلا. تريث لحظة واحدة.» ثم واصل الكلام وهو يدمدم ويقول: «هل أنا للملك رتشارد تابع أو رقيق علي من الواجبات أكثر مما على الفارس الحر يقسم على خدمة الحرب الصليبية؟ ومن عساني قد أتيت من أجله هنا لأرفع من شرفه بالرمح والسيف؟ إنما أتيت لغرضنا المقدس ولسيدتي البارعة !»
وصاح به القزم جزعا وهو يقول: «الخاتم! الخاتم! أيها الفارس الخائن المتواني. رد إلي الخاتم فلست جديرا بمسه أو بالنظر إليه.»
فقال السير كنث: «أمهلني لحظة. برهة واحدة يا نكتبانس الكريم. لا تزعج خواطري؛ هب أن الأعراب يوشكون أن ينقضوا على صفوفنا، أألبث هنا كتابع أقسم الولاء لإنجلترا، وأسعى على ألا يلين كبرياء مليكها لذلة أو خضوع، أم أسارع إلى الحنث في اليمين وأقاتل من أجل الصليب؟ كلا، بل إلى الحنث، وليس بعد سبيل الله إلا ما تأمرني به حبيبتي سيدة قلبي، ولكن ما الرأي في مشيئة قلب الأسد والوعد الذي أخذت على نفسي! أي نكتبانس، إني أناشدك مرة أخرى أن تقول لي هل أنت سائر بعيدا عن هنا؟»
فأجاب نكتبانس وقال: «كلا، بل إلى ذلك السرادق؛ وأنت لا ريب ترى القمر يتلألأ فوق القبة الموشاة بالذهب، التي تتوج أعلاه، والتي تستحق فداء المليك.»
فقال الفارس وقد تملكه اليأس، وأغمض عينيه عن كل ما قد ينجم بعد ذلك من نتائج: «إني أستطيع أن أعود بعد لحظة، وإني أستطيع أن أستمع من هناك لنباح الكلب لو اقترب من العلم إنسان - لسوف أرتمي لدى قدمي سيدتي وأستأذنها في العود كي أتم رقابتي - أسمعت يا رزوال؟» (ونادى كلبه وطرح عباءته إلى جوار رمح العلم): «راقب هذا المكان، ولا تسمح لأحد أن يقترب.»
فحدق الكلب المهيب في وجه صاحبه، كأنه يؤكد له أنه فهم ما عهد به إليه، ثم جلس إلى جانب العباءة، وأذناه مستقيمتان، ورأسه مرفوع كأنه حارس يدرك تمام الإدراك الغرض الذي استقر من أجله هناك.
وقال الفارس: «هيا يا نكتبانس الكريم، سارع بنا إلى تلبية ما أتيت به من أمر.»
فقال القزم مكتئبا: «ليسارع من يستطيع ذلك، إنك لم تخف لإطاعة ما دعوتك إليه، وأنا لا أستطيع أن أسرع في مشيتي بحيث أسير وخطاك الواسعة. إنك لا تمشي كما يمشي الرجال، إنما أنت تثب كما تثب النعامة في الصحراء.»
ولم يكن هناك غير سبيلين للتغلب على عناد نكتبانس الذي أبطأ في مشيته وهو يتحدث، وبات يسير كما تسير القوقعة؛ إما رشوته وليس للسير كنث إلى ذلك من سبيل، وإما مصانعته وليس لها من الوقت متسع؛ فنفد من فارسنا الصبر، واختطف القزم ورفعه من فوق الأرض، وحمله وسار به لا يعبأ بتوسله أو بخوفه، حتى كاد أن يبلغ السرادق الذي أشار إليه القزم من قبل وقال إنه سرادق الملكة. ولما دنا الاسكتلندي، ألفى هناك قليلا من الحراس الجنود متربعين على البسيطة، وقد كانت تخفيهم عنه الخيام المتوسطة؛ وعجب الفارس كيف أن صليل سلاحه لم يجذب منهم التفاتا، وعرض له أنه ينبغي في ذلك الظرف الراهن أن يسير في الخفاء، فوضع مرشده الصغير على الأرض - وهو يتنهد - كي يسترد أنفاسه ويشير بما ينبغي بعد ذلك أداؤه؛ وكان نكتبانس غاضبا حانقا، ولكنه شعر بأنه أضحى بكليته تحت سلطان الفارس القوي، كأنه البوم في مخلب النسر، ولذا لم يفكر في استثارته إلى ما يدعوه لإظهار قوته أكثر مما فعل.
ومن أجل هذا لم يشك من المعاملة التي لاقى، وإنما عرج خلال تيه الخيام، وسار بالفارس في سكون إلى الجانب الآخر من السرادق الذي كان يحجبهم عن رؤية الحراس، الذين كانوا إما بالغي الإهمال أو في النوم مستغرقين فلم يؤدوا واجبهم بكثير من العناية.
ولما بلغا ذلك المكان رفع القزم جانب الخيمة الأسفل من الأرض، وأشار إلى السير كنث أن يتسرب إلى داخل الفسطاط زاحفا تحته، فتردد الفارس قليلا، إذ لم يكن من اللياقة في شيء أن يتسرب خفية إلى داخل السرادق الذي ضرب - بغير ريب - لإيواء كرائم السيدات، ولكنه تذكر الشارات الأكيدة التي عرضها عليه القزم، واستقر به الرأي على ألا يجادل في رغبات سيدته.
وعلى ذلك طأطأ الرأس، وزحف تحت السور الذي كان يحوط الفسطاط، وسمع القزم يهمس من الخارج ويقول: «البث هنا حتى أناديك.»
الفصل الثالث عشر
إنكم تتحدثون عن اللهو مع البراءة!
ولكنهما في اللحظة التي أكلت فيها الثمرة التي كان فيها القضاء،
افترقا على غير لقاء؛
ومن ثم بات الشر قرين اللهو والحبور
من اللحظة الأولى حينما يودي الطفل الباسم
بالزهرة أو بالفراشة لاعبا لاهيا،
إلى أن يقهقه البخيل وهو يموت
إذ يضحك ضحكاته الأخيرة فوق فراش الفناء
حينما يسمع أن جاره الثري قد أصابه الإفلاس.
من رواية تمثيلية قديمة
لبث السير كنث بضع دقائق وحده في الظلام، وكان في ذلك عطلة له، وبات لزاما عليه أن يمد أجل غيابه عن مقر حراسته، وبدأ يدب في نفسه الندم على السهولة التي أغري بها على أن يترك مكانه، ولكن لم يعد يطرأ على ذهنه أن يعود دون أن يرى السيدة أديث. لقد خرج على النظام العسكري، واعتزم أن يحقق على الأقل صدق الأمل الذي أغري به وساقه إلى ما فعل، ولكن موقفه لم يكن رضيا في ذلك الحنين فلم يكن هناك ضوء يبين له أية غرفة كانت تلك التي سيق إليها - والسيدة أديث كانت من الوصيفات الملازمات لملكة إنجلترا - ولو عرف عنه كيف ولج السرادق الملكي خلسة، فقد يؤدي ذلك - لو كشف الأمر - إلى شكوك كثيرة خطرة. أسلم الفارس نفسه لهذه الخواطر البغيضة إلى النفس، وكاد يود لو عاد وتم له ذلك دون أن يرى. وإذ هو كذلك، طرق أذنه شغب من أصوات النساء يتضاحكن ويتهامسن، ويتبادلن الحديث في غرفة مجاورة لا يفصله عنها إلا حاجز من القماش، كما تدل على ذلك الأصوات التي نمت إليه، وقد عرف أن المصابيح موقدة من النور الخافت الذي انتشر حتى ظهر على الجانب الذي كان إلى ناحيته من الحاجز الذي يقسم السرادق، واستطاع أن يرى ظلالا لشخوص عديدة، كانت تجلس وتتحرك في الغرفة المجاورة. وليس عدلا أن نقول إنه لم يكن من اللياقة في شيء أن يستمع السير كنث - وهو في موقفه الذي وقف - إلى الحديث الذي ألفى نفسه وقد التذ منه غاية اللذة.
وقال صوت من أصوات أولئك النسوة الضاحكات المختفيات عن الأبصار: «ادعها،
1
ادعها، بحق العذراء! أي نكتبانس، إنك سوف تعين سفيرا لبلاط «برسترجون» لتريهم كيف أنك تستطيع أن تؤدي الرسالات بحكمة وتدبير .»
وسمع السير كنث صوت القزم الأجش، وقد خنع واستذل، حتى إن الفارس لم يدرك مما كان يقول، إلا أنه قد تفوه بشيء عن أسباب الطرب التي قدمت للحراس. «ولكن كيف نستطيع أيتها الأوانس أن نخلص من هذا الروح
2
الذي أثاره نكتبانس؟»
قال صوت آخر: «استمعي إلي سيدتي الملكة، إذا لم يكن نكتبانس الحكيم الأمير شديد الغيرة من عروسه وعاهلته البارعة، فلنبعث بها تنقذنا من هذا الفارس الشارد السفيه، الذي أمكن إغراؤه بهذه السهولة، حتى ظن أن كرائم السيدات بحاجة إلى بسالته المتصلفة العاتية.»
وأجابت الأخرى: «من العدل أن تصرف الأميرة «جنفرا» بكياستها ذلك الرجل الذي استمالته إلى هنا حكمة زوجها.»
وأصاب سويداء القلب من سير كنث الخزي والغيظ مما سمع، حتى أوشك أن يسعى إلى الفرار من السرادق مهما كلفه ذلك، لولا أن ما تلا ذلك من حديث ملك عليه لبه وخاطره.
إذ قالت المحدثة الأولى: «كلا. حقا إن ابنة عمنا أديث ينبغي أن تعلم أولا أي مسلك سلك هذا الرجل المتبجح، وعلينا أن نسوق إليها دليلا عيانا على أنه قد فشل في أداء واجبه، وقد يكون في ذلك درس نافع لها، لأني - وصدقيني فيما أقول يا «كالستا» - كثيرا ما ظننت أنها قد سمحت لهذا المخاطر من أهل الشمال أن يدنو من قلبها أكثر مما تجيز لها الروية.»
وارتفع حينئذ صوت آخر يدمدم بشيء عن حكمة السيدة أديث، وحصافة رأيها.
فقيل ردا على ذك: «أي حصافة رأي يا فتاة! إن هو إلا كبرياء ورغبة في أن تشتهر بالصرامة والصلابة أكثر منا جميعا؛ كلا، إني لن أتهاون في حقي، إنكن تعرفن حق المعرفة أننا إن أخطأت إحدانا، فلا تستطيع أينا أن تضع بلباقة أمام الآثمة إثمها واضحا ملموسا كما تستطيع سيدتي أديث. صه! ها هي ذي قد أقبلت.»
وانتشر من شخصها وهي تلج الغرفة ظل فوق الحاجز أخذ ينزلق رويدا رويدا حتى اختلط بغيره من الظلال التي كانت تظلم بغيومها الحاجز، ورغم ما مر بالفارس من خيبة مريرة، ورغم الإهانة والأذى اللذين ألحقهما به حقد الملكة «برنجاريا» - أو إن أحسن الظن بها فتندرها به تندرا شديدا - (وكان إذ ذاك قد أيقن أن تلك التي كانت تعلو بصوتها جميع الأصوات وتتكلم بنغمة الآمر إن هي إلا زوج رتشارد)، رغم كل ذلك، أحس الفارس بشيء يلطف مشاعره، حينما علم أن أديث لم تكن تساهم في الغدر الذي تواطأ به الحاضرات عليه، كما أحس بشيء من التشوق والتطلع إلى ما يوشك أن يقع، فلم يقم بإنفاذ العزم الحكيم الذي اعتزم، وهو الرجوع توا بغير توان، بل على النقيض من ذلك، أخذ يبحث متلهفا عن شق أو خصاص يستطيع أن يكون منه شاهد عيان، وشاهد سمع، لكل ما يقع.
وقال محدثا نفسه: «لا ريب أن الملكة التي سرها أن تتفكه فكاهة سمجة سقيمة، وتعرض بذكري بل وبحياتي، لا تستطيع الشكوى إن أنا اغتنمت هذه الفرصة - التي أراد الجد السعيد أن يرمي بها إلي - كي أظفر ببعض العلم عما برح في مكنون الطوايا.»
وفي ذلك الحين كانت أديث كأنها ترتقب ما تأمر به الملكة، وكأن الملكة قد أحجمت عن الكلام خشية أن يفلت زمام نفسها منها، فلا تستطيع لضحكها أو لضحك زميلاتها ردا، لأن السير كنث لم يستطع أن يميز أكثر من صوت كأنه صوت ضحكات محبوسة ومرح مكبوت.
وأخيرا قالت أديث: «يظهر أن لجلالتك الآن مزاجا طروبا، وإن كنت أرى أن هذه الساعة من الليل تحث على الميل إلى النوم. ولقد كنت في فراشي راغبة، حتى أتاني أمر جلالتك بأن أمثل لديك.»
فقالت الملكة: «لن أستأخرك يا ابنة العم طويلا على راحتك، وإن كنت أخشى أن تنامي نوما عميقا حينما أقول لك إنك قد خسرت الرهان.»
فأجابت أديث وقالت: «كلا يا مولاتي الملكة، ما هذا حقا إلا إصرار منك على فكاهة أوشكت أن تبلى؛ إني لم أراهن على شيء رغم إلحاح جلالتك بأني فعلت ذلك.» «كلا، ولكن رغم حجنا إلى هنا فما فتئ للشيطان عليك يا ابنة العم الكريمة سلطان عظيم، وإنه ليدفع بك إلى المخاتلة والخداع . هل تنكرين أنك قد رهنت خاتمك الياقوتي تلقاء سواري الذهبي على أن فارس النمر ذاك - أو أيا كان ما تسمينه به - لا يمكن أن يغرى عن أداء واجبه؟»
فأجابت أديث قائلة: «إن جلالتك أعظم من أن أعارض، ولكن هؤلاء السيدات يستطعن - إن أردن - أن يؤيدنني في أن جلالتك هي التي تقدمت بهذا الرهان، وأخذت الخاتم من إصبعي، رغم أني كنت أعلن صراحة أنني لم أر من الخير في شيء أن أراهن بأي شيء في هذه السبيل.»
فرد عليها صوت آخر قائلا: «ولكن ينبغي يا سيدتي أديث أن تسلمي راضية بأنك قد بحت بشديد ثقتك في بسالة هذا الفارس عينه؛ فارس النمر.»
فقالت أديث غاضبة: «هبيني فعلت ذلك يا حبيبتي! فهل في هذا ما يبرر أن ترفعي صوتك تداهنين جلالة الملكة في مزاحها؟ إنني لم أذكر عن هذا الفارس إلا ما يذكر عنه كل رجل رآه وهو في ساحة الوغى، وليس لي في الذود عنه هوى أكثر مما لك في الانتقاص منه. بماذا عسى النساء أن يتحدثن في المعسكر غير رجال الحرب وأعمال القتال؟»
فأجاب صوت ثالث قائلا: «إن السيدة أديث الكريمة ما عفت قط عن «كالستا» أو عني مذ ذكرنا لجلالتك أنها أسقطت من يدها زهرتين في المعبد.»
فقالت أديث بنغمة كانت فيما يرى السير كنث عتابا لطيفا: «إذا لم يكن لجلالتك أمر غير أن أستمع إلى سخرية وصيفاتك، فهل لي أن أستأذنك في الانصراف؟»
فقالت الملكة: «صه يا فلورنس، ولا يدفعنك تهاوننا إلى تجاهل ما بينك وبين قريبات الملك من فارق.» ثم استأنفت الكلام مستعيدة نغمة التهكم والتعنيف، وقالت: «أما أنت يا ابنة العم العزيزة، فكيف لك - وأنت دمثة الطبع - أن تضني علينا نحن البائسات ببضع دقائق نتضاحك فيها بعد ما مرت بنا أيام عديدة صرفناها جميعا باكيات نتميز من الغيظ؟»
فقالت أديث: «زادك الله يا سيدتي المليكة مرحا وحبورا، ولكن والله لخير لي ألا أبتسم بقية العمر من أن ...»
ثم توقفت عن الكلام إجلالا، ولكن السير كنث استطاع أن يتسمع ويدرك أنها كانت في ثورة نفسية عنيفة.
وقالت برنجاريا وهي أميرة من بيت نافار، خفيفة العقل، ظريفة الطبع: «ماذا عسى أن تكون الإساءة الكبرى؟ إن فارسا شابا قد خدع وسيق إلى هنا، فتسلل من منصبه - أو قلن إنه استل من منصبه الذي لن يعتدي عليه أحد في غيبته - وجاء من أجل سيدته الكريمة؛ إننا ينبغي أن ننصف بطلك أيتها الحسناء؛ إن حكمة نكتبانس ما كان لها أن تستهويه إلى هنا باسم غير اسمك.»
فقالت أديث بصوت فيه رنة الذعر، يخالف كل الخلف ذلك الغضب الذي بدا عليها منذ حين: «يا لله! هل تقول جلالتك بذلك! إن معنى هذا ضياع شرفي وشرفك، فإني أمت لزوجك بصلة الرحم! قولي إنك كنت معي تمزحين يا سيدتي الملكة، واعفي عنه فإني ما كنت أحسبك لحظة واحدة إلا هازلة.»
فأجابت الملكة بصوت يرن فيه الاستياء وقالت: «إن السيدة أديث تأسف على الخاتم الذي ظفرت به منها ... سنرد إليك الرهان يا ابنة العم اللطيفة، على ألا تنكري علينا تلقاء ذلك أن نتغلب - ولو قليلا - على هذه الرزانة التي انتشرت فوق رءوسنا مرارا كما ينتشر العلم على رءوس الجنود.»
فصاحت أديث حانقة وقالت: «تتغلبين! تتغلبين! إنما الغلبة سوف تكون للكافر حينما يسمع أن ملكة إنجلترا في وسعها أن تجعل من اسم امرأة من دم زوجها موضوعا للهو والعبث.»
فقالت الملكة: «إنما أنت غاضبة يا ابنة العم الحسناء لأنك سوف تفقدين خاتمك العزيز. استمعي إلي، ما دمت تضنين ببذل الرهان، فسوف نتنازل عن حقنا فيه؛ إنما أتى بالرجل إلى هنا اسمك وهذا الخاتم، وإنا لا نقيم للطعم وزنا بعد أن يقع الصيد في الشباك.»
فأجابت أديث جازعة وقالت: «مولاتي، إنك تعلمين جد العلم أن جلالتك لا تتطلعين إلى شيء مما أملك إلا صار لك في التو والحين، وإني لأبذل قنطارا من الياقوت على ألا يستخدم خاتمي أو اسمي للإيقاع برجل باسل في الخطيئة، أو سوقه إلى الخزي والعقوبة.»
فقالت الملكة مجيبة: «إننا لا نخشى إلا على سلامة فارسنا الحق، وإنك لتستخفين بنفوذنا يا ابنة العم الحسناء إذ تتحدثين عن حياة هذا الرجل وكأنها هريقت من جراء فكاهتنا وتندرنا. أيتها السيدة أديث، من النسوة غيرك من لهن على صدور المقاتلين الحديدية نفوذ كما لك، وحتى الليث ذاته ليس قلبه إلا من لحم ودم لا من حجر، وصدقيني إن لي برتشارد من الصلة ما يكفي لإنقاذ هذا الفارس - الذي تهتم السيدة أديث بشئونه اهتماما كبيرا - من العقوبة التي حقت عليه لعصيانه أمر مليكه.»
فقالت أديث: «أستحلفك بحب الصليب المبارك أيتها الملكة ...» وهنا أحس السير كنث بعاطفة كان عسيرا عليه أن يدرك كنهها وهو يستمع إلى أديث، وهي تنكب بوجهها لدى قدمي الملكة وتقول: «ناشدتك بحب العذراء البتول، وبكل قديس مبارك في الوجود، أن تحذري فيما تفعلين! إنك لا تعرفين الملك رتشارد - ولم يمض على قرانك به إلا زمن وجيز - والله لأيسر لك أن تناهضي بأنفاسك رياح الغرب حين يشتد هبوبها من أن تحملي هذا الملك قريبي على أن يعفو عن جريمة عسكرية. أستحلفك بالله أن تصرفي هذا الرجل الكريم، إن كنت حقا قد أغويته إلى هنا! تالله لأرضين أن يعلق بي عار دعوته لو أني عرفت أنه عاد ثانية حيث واجبه يناديه!»
فقالت الملكة برنجاريا: «انهضي يا ابنة العم، انهضي، وتيقني أن الأمر سوف ينتهي على خير مما تظنين. انهضي يا عزيزتي أديث؛ إني آسفة لأني تفكهت بفارس، لك فيه كل هذا الهوى. كلا، كلا، لا تهزي بيديك؛ سوف أعتقد أنك لا تعنين بأمره، لسوف أعتقد بأي شيء حتى لا أراك في هذا المظهر البائس الكئيب. اعلمي أني سوف أتلقى من الملك رتشارد على نفسي العتاب نيابة عن صاحبك الكريم ابن الشمال. كلا، بل ينبغي أن أقول أحد معارفك، فإنك لا تعترفين به صاحبا لك. كلا، لا تنظري إلي بهذه العين العاتبة؛ سوف نبعث بنكتبانس كي يصرف هذا الفارس الذي وكلت إليه حراسة العلم، ويعود إلى مقره، وسوف نتعطف عليه يوما نحن أنفسنا ونهيئ له ظرفا يعوض به هذا الخطأ الفاحش. ما إخاله الآن إلا مستلقيا متخفيا في إحدى الخيام المجاورة.»
فقال نكتبانس: «أقسم بإكليل الزنبق الذي أحمل، وبصولجان القصب الجميل الذي أرفع، إن جلالتك لخاطئة؛ إنه أقرب مما تظنين، إنه يرقد متحجبا هناك خلف حاجز الفسطاط.»
فصاحت الملكة بدورها، وقد اشتد بها الذعر والغضب وقالت: «إنه إذن لعلي مسمع من كل ما نقول. اغرب عني أيها الوحش الأحمق الخبيث!»
وما إن فاهت بهذه الكلمات حتى فر نكتبانس من السرادق وهو يصرخ صراخا يداخلك من طبيعته الشك: هل قصرت برنجاريا زجرها على اللفظ أم هل أضافت إلى ذلك تعبيرا آخر عن حنقها أشد توكيدا.
وقالت الملكة لأديث وهي تهمس همسا بادي القلق: «ماذا عسانا نصنع الآن؟»
فقالت أديث رابطة الجأش: «لنصنع ما ينبغي؛ يجب أن نرى هذا الرجل الكريم، وأن نضع أنفسنا تحت رحمته.»
وبعدما أتمت هذا الحديث، خفت إلى سجاف ترفعه، وكان السجاف يستر من أحد جوانبه مدخلا يصل الداخل بالخارج.
وقالت الملكة: «برب السماوات لا تفعلي، انظري، هذه غرفتي وذاك ردائي، وفي أي ساعة! وشرفي!»
ولكن قبل أن تدلي بكل عتابها، سقط السجاف، ولم يعد بين الفارس المسلح وجماعة النساء حجاب، وكان ذلك في ليلة من ليالي الشرق الدفيئة، التي حدت بالملكة برنجاريا ووصيفاتها إلى أن يخلعن أثوابهن ولا يرتدين إلا لباسا خفيفا لا كلفة فيه، ولا يتفق وما يقتضي موقفهن، ولا يلتئم ومثول شاهد من الرجال له مكانته. وما إن ذكرت الملكة هذا حتى صاحت صيحة عالية، ولاذت بالفرار من الغرفة التي كشفت عن السير كنث، وأظهرته للعيان في غرفة أخرى من غرف السرادق الفسيح لم يعد يفصلها على الغرفة التي وقف النسوة بها فاصل. وكانت السيدة أديث في حال من الأسى والهياج، وأحست بلهفة شديدة وهي تتبادل الحديث مع الفارس الاسكتلندي متعجلة مسرعة، فأدى بها ذلك إلى أن تنسى أن خصلات شعرها كانت على شعث، وأن جسمها لم يكن محكم الحجاب، ولم يكن ذلك مما تألفه بنات الأسر الكريمة في عصر لم يكن - رغم هذا - أكثر عصور العهد القديم تحسبا أو بصرا؛ وكان أهم ما تسترت به رداء رقيق فضفاض من الحرير الأحمر، وخف شرقي، دفعت بقدميها العاريتين فيه على عجل، ووشاح اتشحت به على كتفيها في لهفة وبغير اكتراث، وليس على رأسها ما يحجبه غير قناع من خصلات شعرها الغزير المهوش، تتدلى حوله من كل جانب، وتحجب محياها حجابا خفيفا، وقد انتشرت الحمرة فيه مما اعتراها من مزيج المشاعر، إذ أحست بالحياء والاستياء وغير ذلك من العواطف الثائرة العميقة.
وأحست أديث بموقفها بكل تلك الرقة التي هي أشد ما يسحرنا في الجنس اللطيف، ولكن لم يطرأ لها لحظة أن ترفع حياءها إلى حد التغاضي عن أداء الواجب نحو هذا الرجل الذي انساق إلى الخطأ والخطر من أجلها. حقا إنها جرت وشاحها وقربته من جيدها وصدرها، وأسرعت بنبذ مصباح كان بيدها، يشع منه ضياء شديد على جسمها؛ وبينما وقف السير كنث لا يبدي حراكا في ذات المكان الذي شوهد به أول الأمر، كانت هي إلى التقدم إليه أدنى منها إلى التقهقر عنه، وهي تصيح مذعورة وتقول: «أسرع إلى مقر حراستك أيها الفارس الجسور! لقد خدعت إذ سيق بك إلى هنا. عد ولا تسل.»
فجثا الفارس على إحدى ركبتيه، كأنه القديس أمام المذبح إخلاصا وتقديرا، ثم قال: «ليس بي حاجة إلى سؤال.» وأطرق ببصره نحو الأرض خشية أن يزيد بمرآه ما كانت عليه السيدة من حيرة وارتباك.
فقالت أديث جازعة: «هل سمعت كل ما دار. يا كرام الأولياء، إذن فلماذا أنت باق هنا، وأنت تعلم أن كل دقيقة تنقضي معبأة بالخزي وامتهان الكرامة؟»
فأجابها كنث وقال: «سمعت منك يا سيدتي أن الخزي قد أصابني، فلست أبالي أن يحل بي الجزاء بعد هذا، إنما لي لديك مطلب واحد، لا أعبأ بعده أن أسير خلال سيوف الكفرة علني أمحو الخزي بالدماء.»
فقالت السيدة: «كلا، لا تفعل ذلك. كن حكيما ولا تلبث هنا. ولئن هممت بالعودة فلربما ينتهي الأمر بخير العواقب.»
فقال الفارس وما برح جاثيا : «إنما أنا أنتظر العفو منك عن جرأتي في الاعتقاد بأن خدماتي القليلة ربما سدت لديك حاجة أو لاقت منك تقديرا.» «لقد عفوت عنك - يا إلهي، ليس لدي ما أعفو عنه! - لقد كنت السبيل إلى أذاك، ولكن بربك انصرف! لسوف أعفو عنك، ولسوف أقدر خدمتك، وذلك بمقدار ما أقدر كل صليبي مقدام، ولن تنال مني ذلك إلا إن انصرفت!»
ثم عرض الفارس الخاتم على أديث، وهي تبدي من الشارات ما ينم عن الجزع، وقال: «خذي أولا هذا الميثاق النفيس القاتل.»
فقالت وهي معرضة عن تناوله: «كلا، كلا، احتفظ به. احتفظ به دليلا على تقديري، بل على أسفي. أواه، هلا انصرفت من أجلي، إن لم يكن من أجل نفسك!»
فهب السير كنث من جثوه، ورمق أديث بنظرة عجلى، وانحنى كثيرا، وهم بالانصراف وكأنه قد أثيب - بما بدا عليها من لهفة على سلامته - عن كل ما افتقد، حتى عن ضياع شرفه الذي افتضحته بنبرة صوتها. وفي تلك اللحظة عينها غلب على أديث ذلك الحياء العذري، الذي تمكنت حتى آنئذ بشدة انفعال مشاعرها من أن تكبح جماحه، فخفت من الغرفة، وأطفأت المصباح وهي تنصرف، وخلفت في خواطر السير كنث من بعدها اكتئابا في حسه ونفسه.
وكان أول خاطر واضح أيقظ السير كنث من هواجسه وجوب طاعتها، فسارع إلى المكان الذي ولج منه السرادق؛ ولكنه إن انزلق تحت السور كما دخل فإنه يحتاج لذلك إلى الوقت والحذر، فثقب بخنجره السور الحائط، وأصبح له بذلك مخرج ميسور. وما إن خرج إلى الهواء الطلق حتى هاجمته المشاعر المتنازعة، فتبلد حسه وغلب على أمره، ولم يستطع أن يستوثق من كنه ما مر به ومن حقيقة الأمر، واضطر أن يحفز نفسه للعمل حينما ذكر أن أمر السيدة أديث يتطلب العجلة؛ وحتى بعد هذا كان لا بد له - وهو مشتبك بين الخيام وحبالها - أن يسير حذرا حتى يبلغ الطريق الجانبية التي سلكها القزم وإياه من قبل، كي يتحاشى أعين الحراس الواقفين لدى سرادق الملكة، واضطر إلى أن يسير وئيدا حريصا ، كي لا ينبه الأذهان إن هو خر على الأرض أو صلصل سلاحه؛ وفي تلك اللحظة عينها التي فصل فيها السير كنث عن الفسطاط، غشيت القمر سحابة رقيقة، واضطر الفارس أن يواجه هذه المشقة في وقت لا يكاد يبقي له دوار رأسه وخفقان قلبه من نفاذ البصيرة ما يكفي لأن يدبر به مسيره.
ولكن سرعان ما طرقت أذنيه الأصوات على حين غرة، فثاب توا إلى رشده وإلى قواه العقلية كاملة، وكان جبل سنت جورج هو مبعث هذه الأصوات، وكان أول ما سمع نباحا منفردا همجيا غاضبا متوحشا تبعه على الفور صراخ الكرب والألم، وما كان الظبي ليثب فازعا من صوت «رزوال» كما وثب السير كنث، إذ خشي أن يكون ذلك الصوت هو نزع الموت يصيح منه ذلك الكلب النبيل، الذي ما كان لأذى مألوف أن يستخلص منه أدنى شكاية من الألم، فذلل الفارس المدى الذي كان يفصل ما بينه وبين الطريق، وما إن بلغها حتى شرع يجري نحو الجبل، ورغم أنه كان مثقلا بالزرد فما كان لرجل أن يلحق به، حتى وإن كان مجردا عن السلاح؛ ولم يتراخ في خطاه وهو يصعد جوانب الرابية المصطنعة الشديدة الانحدار، ولم تمض بضع دقائق حتى كان فوق قمة الجبل.
وفي تلك اللحظة أرسل القمر سهام نوره، وتبين له أن راية إنجلترا قد اختفت، وأن الرمح الذي كانت ترفرف فوقه كان ملقى على الأرض محطما، وإلى جواره كلبه الأمين يعالج سكرات الموت.
الفصل الرابع عشر
... لقد أضعت أذيال الشرف الطويلة،
وقد جمعتها في شبابي وادخرتها لمشيبي!
ماذا؟ هل غاض معين الشرف؟
أجل، لقد كان،
ولتمض إذن صغار الأطفال بأقدام عارية
يجمعون الحصا من مخاضة العين بعد جفافها.
دون سبستيان
انتاب السير كنث فيض من الإحساسات المتضاربة، كاد أول الأمر أن يذهله ويشتت ذهنه. ولما أفاق كان أول ما خطر له أن يبحث عمن اعتدوا على العلم الإنجليزي، ولكنه لم ير لهم أثرا في أية ناحية من النواحي، فخطر له ثانيا أن يفحص حال «رزوال» الأمين ، وقد أصيب بجراح قاتلة وهو - على ما يظهر - يؤدي الواجب الذي أغري سيده بهجرانه؛ وقد يبدو هذا الخطر غريبا لبعض القوم، ولكنه ليس كذلك لكل من كانت له بالكلاب صلات وثيقة. أخذ كنث يدلل الكلب مخلصا حتى النهاية، فتناسى الكلب آلامه من أثر السرور الذي أحس به من قرب سيده، ولبث يهز ذيله، ويلعق يديه، حتى حينما كانت أناته الضعيفة تدل على أن آلامه كانت تتزايد كلما حاول السير كنث أن يستخلص من الجرح شظايا الرمح أو النشاب الذي أصيب به. وأخذ الكلب يضاعف من إعزازه لصاحبه - رغم فتوره وضعفه - كأنه كان يخشى أن يسيء إليه إن هو أبدى إحساسا بالألم الذي أصابه من جراء تعرضه للدفاع. ولقد كان في هذا المظهر الذي ظهر به الكلب وهو يعالج سكرة الموت، مظهر التعلق بصاحبه، شيء من المرارة اختلط في نفس السير كنث بشعوره بالخزي والوحشة اللذين حاقا به؛ وشعر كأن صديقه الأوحد قد رحل عنه في الوقت الذي كان يحس فيه بالازدراء والبغضاء لكل من عداه، فلم يسع الفارس - رغم صدق عزيمته - إلا أن يستسلم للانفجار من هذا الكرب الأليم، فأخذ يتأوه ويبكي بكاء مرا.
وبينا هو كذلك مستغرق في الهم، إذا بصوت جهوري وقور وراءه وعلى مقربة منه ينطق بهذه الكلمات، برنين فيه نغم القراء في المساجد، وباللغة الفرنجية التي كان يفهمهما المسيحيون والأعراب على السواء. «إنما المصائب كالمطر المتلاحق؛ فيه للإنسان والحيوان برودة ومشقة وعداوة، وفيه كذلك حياة للزهر والتمر والورد والرمان.»
فتلفت السير كنث فارس النمر صوب المتكلم، ووقع بصره على الطبيب العربي وقد اقترب صامتا، وجلس خلفه وقريبا منه، ووضع ساقا فوق الأخرى، وأخذ - في هدوء ورزانة وبنغمة تنطوي على العطف - ينطق بالحكم والأمثال التي فيها للإنسان عزاء، وقد استمدها من القرآن وأقوال المفسرين. وليست الحكمة في الشرق في ما يظهر الحكيم من قوة الابتكار بمقدار ما هي في حضور الذاكرة وإجادة التطبيق والإشارة إلى «الكلام المسطور».
وخجل السير كنث إذ بوغت وهو ينفس عن أساه كما تنفس النساء ، فمسح دموعه، وأزالها حياء وخزيا، ثم أخذ يشتغل ثانية بكلبه العزيز وهو يفارق الحياة.
وواصل العربي حديثه، ولم يسترع التفاته أن الفارس قد أشاح ببصره، أو ما كان يعلو محياه من الاكتئاب، وقال: «لقد قيل: «الثور للحقل، والجمل للصحراء»، أليست يد الطبيب ألين من يد المقاتل لشفاء الجروح، وإن تكن أقل منها قدرة على ثلمها؟»
فقال السير كنث: «ليس لك بهذا المريض أيها الحكيم حيلة، وهو فوق ذلك حيوان نجس في شريعتكم.»
فقال الطبيب: «حيثما من الله بالحياة، وأوجد الحس باللذة والألم، فإنه لكبرياء باطل من الحكيم - وقد أنار الله بصيرته - أن يحجم عن أن يمد أجل البقاء، أو يخفف وقع الألم. إنما علاج الخادم البائس، أو الكلب المسكين، أو الملك الظافر، سواء لدى الحكيم؛ كلها أمور لا نفرق بين أحدها وبين الآخر. دعني أفحص هذا الحيوان الجريح.»
فأسلم له السير كنث صامتا، وأخذ الطبيب يفحص ما برزوال من جراح، ويقلبه بين يديه بحرص وعناية كأنه مخلوق آدمي، ثم استخرج حقيبة بها بعض آلاته, وأولج في جسم الكلب مسبرا بحكمة ومهارة، واجتذب من كتفه الجريحة شظايا السلاح، ثم أوقف بالأدوية الواقية والضمادات ما عقب ذلك من تدفق الدماء، والكلب خلال ذلك يكابد الألم صابرا، ويستسلم للطبيب وهو يعالجه برفق، كأنه يدرك طيب طويته.
وقال الحكيم موجها للسير كنث الخطاب: «إن في شفاء الكلب لرجاء لو أذنت لي أن أحمله إلى خيمتي وأعالجه بالعناية التي يستحقها نبل طبيعته، ولتعلم أن خادمك «أدنبك» ليس بفصائل الكلاب وكرام الخيل وسلالاتها وطباعها، أقل حذقا منه في الأمراض التي تصيب البشر.»
فأجاب الفارس وقال: «إذن فلتصطحبه، وإني أهبكه بغير مقابل إذا عوفي، إني مدين لك بالجزاء على عنايتك بخادمي، وليس لدي غير ذلك أرد لك به حسن صنيعك. أما أنا فلن أنفخ بعد اليوم في بوق أو أنادي كلبا!»
فلم يحر العربي جوابا، وإنما صفق إشارة بيديه أجيبت على الفور بمثول عبدين أسودين، أصدر لهما أمره بالعربية وأجاباه «سمعا وطاعة»، ثم حملا الكلب بين أذرعهما ، ورفعاه بغير كبير مقاومة من جانبه، لأنه - وإن يكن قد رفع بصره نحو سيده - لم يقو على المناضلة.
فقال السير كنث: «أستودعك الله إذن يا رزوال، وداعا يا صاحبي الأوحد والأخير، إنما أنت أنفس من أن يتملكك رجل له ما سوف يكون لي في مستقبل أيامي.» ولما تراجع العبدان قال: «وددت لو أني بدلت بحالي حال هذا الحيوان النبيل، رغم أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة!»
فأجاب العربي مع أن السير كنث لم يتوجه إليه بهذا الرجاء وقال: «لقد كتب على المخلوقات جميعا أن تكون في خدمة الإنسان، فإذا كان سيد الأرض يود لو يبدل - وهو جازع - بأمله في الدنيا والآخرة حالا وضيعة يعيش عليها مخلوق دنيء كالكلب، فإنه لا ينطق إلا حمقا.»
فقال الفارس عابسا: «إنما الكلب الذي يموت في أداء واجبه خير من الإنسان الذي يحيا بعد إهماله. دعني أيها الحكيم. أجل، إن لديك بطبك المعجز أعجب ما وصل إليه الإنسان من علم، ولكن جراح الروح فوق طاقتك.»
فقال «أدنبك» الحكيم: «كلا، ليس كذلك إن كان المريض يبوح برزئه، ويسلس للطبيب القياد.»
فقال السير كنث: «ما دمت تلحف كذلك فلتعلم إذن أن راية إنجلترا كانت الليلة البارحة مرفوعة فوق هذه الرابية، وكنت على حراستها - لقد انبثق النهار - انظر ترى رمح العلم المحطم ملقى هناك، وقد افتقدت الراية نفسها. وها أنا ذا أجلس هنا على قيد الحياة!»
فأجاب الحكيم وهو يتفرسه وقال: «كيف كان ذلك! إني أرى درعك سليما ولا أرى أثرا للدماء على سلاحك؛ وذكرك بين الناس ينطق ببعد احتمال عودك هكذا بعد القتال. أجل، لقد انسقت من منصبك، وجذبتك بورد خديها، وحور عينيها، إحدى أولئك الحور، اللائي تحملون لهن - أنتم أيها النصارى - ولاء يليق برب السماوات، لا حبا يجوز التوجه به شرعا لمخلوقات مثلنا من الطين. لا شك في أن الأمر كان كذلك، فهكذا زل الإنسان منذ الأزل من يوم أبينا آدم.»
فرد عليه السير كنث مكتئبا وقال: «وإن كان الأمر كذلك أيها الطبيب فما دواؤك؟»
فقال الحكيم: «العلم فوق المقدرة، كما أن الشجاعة فوق القوة. استمع إلي، ليس الإنسان كالشجرة معقودا بمكان واحد من الأرض، وليس مصاغا بحيث يتشبث بصخرة واحدة جرداء كالقوقعة تكاد لا تدب فيها الحياة، وكتابكم المسيحي يأمركم إن لاقيتم جورا ببلد أن تلوذوا ببلد آخر، ونحن المسلمين كذلك نعرف أن محمدا رسول الله بعدما فر من مكة المكرمة أوى إلى المدينة وألفى بها أنصارا.»
فقال الاسكتلندي: «وما شأن هذا بي؟»
فأجابه الطبيب قائلا: «شأن كبير، ألا تعلم أن الحكيم نفسه يتوارى عن العاصفة إن كان لا يستطيع لها ردا؟ إذن فلتعمد إلى العجلة وتفر من نقمة رتشارد إلى ظل راية صلاح الدين الظافرة.»
فرد عليه السير كنث ساخرا وقال: «إذن لسوف أخفي عاري في معسكر الكفرة الذين لا يعرفون لهذه الكلمة معنى، ولكن أليس خيرا لي أن يلحق بي عارهم؟ هلا توصيني بلبس العمامة؟ تالله لم يعد لي إلا أن أرتد عن ديني كي تبلغ فضيحتي منتهاها.»
فقال الطبيب عابسا: «لا تجدف أيها النصراني، إن صلاح الدين لا يقبل في دين محمد إلا أولئك الذين يؤمنون بقواعد الإسلام. افتح عينيك للنور - إن شئت - يهبك السلطان العظيم ملكا، فهو رجل ليس لجوده أو سلطانه حد، وإن شئت فلتبق أعمى البصيرة، فلن يكون نصيبك من الحياة الآخرة غير الشقاء، ولكن صلاح الدين سوف يغنيك ويسعدك في هذه الدار الفانية. ولا تخش أن تطوق حاجبيك العمامة إلا إن أردت ذلك راغبا.»
فقال الفارس: «إنما إرادتي أن يسود جبيني المقطب، وهو ما يحتمل وقوعه عند مغيب الشمس هذا المساء.»
فأجاب الحكيم وقال: «كلا، ليس من الحكمة في شيء أيها النصراني أن تنبذ ما عرضت عليك. إن لي على صلاح الدين لسلطانا، وأنا أستطيع أن أرفع من شأنك حتى تشملك رعايته. استمع إلي يا بني، إن هذا المشروع الهمجي الذي تسمونه الحرب الصليبية ليس إلا كالسفين يشق عباب الماء. لقد حملت بنفسك شروط الهدنة من الملوك والأمراء - الذين تتجمع جيوشهم هناك - إلى السلطان العظيم، وربما لم تكن تعلم كل ما كانت ترمي إليه رسالتك.»
فقال الفارس وقد تملكه الجزع: «لست أعرف ولا يهمني أن أعرف. وماذا يعنيني أني كنت منذ حين رسول الأمراء، ما دمت سوف أمسي - قبل أن يسدل الليل ستاره - جثة مهينة تحت المقصلة؟»
فأجابه الطبيب وقال: «كلا، سوف أسعى في أن يكون إلى غير ذلك منتهاك؛ إنهم جميعا يتوددون إلى صلاح الدين. إن اتحاد الأمراء في هذا المجمع، الذي تألف لمعارضته، قد تقدم إليه يعرض المهادنة والصلح، ولو كنا في زمان غير هذا لكان جديرا بشرف صلاح الدين أن يمنحهم سؤلهم. وسعى إليه غير هؤلاء بالأصالة عن أنفسهم يعرضون فصل قواهم عن معسكر ملوك الفرنجة، بل ويعيرون أسلحتهم للذود عن راية الإسلام، ولكن ليس صلاح الدين بالذي يقبل الخدمات من أمثال هؤلاء الخونة العاجزين ذوي المنافع الخاصة. ليس لملك الملوك أن يواتي غير الملك الأسد. إن صلاح الدين لن يعقد مع أحد ميثاقا سوى الملك رتشارد، وسوف يواتيه كما يواتي الأمير الأمير، أو يقاتله كما يقاتل البطل البطل. إنه يسلم لرتشارد - لجوده وسخائه - بشروط ليس لسيوف أوروبا جميعا أن تفرضها عليه عنوة أو إرهابا، إنه يسمح بالحج دون قيد أو شرط إلى بيت المقدس وإلى كل مكان يحب النصارى أن يتعبدوا فيه؛ بل إنه ليقتسم حتى دولته مع أخيه رتشارد، فيسمح للجاليات المسيحية أن تقيم في أشد مدن فلسطين الست قوة وفي بيت المقدس ذاته، ويرضى لهم أن يكونوا تحت إمرة ضابط رتشارد مباشرة، ويقبل لهؤلاء الضباط أن يحملوا اسم «حرس فلسطين الملكي»، وفضلا عن ذلك لتعلم يا سيدي الفارس - وقد يبدو لك ما سأحدثك به أمرا غريبا لا يحتمل التصديق، ولكني سأبوح إكراما لك بهذا السر الذي يكاد لا يصدقه أحد - اعلم أن صلاح الدين سوف يختم بخاتم قدسي على هذا الائتلاف السعيد بين أشجع الشجعان وأنبل النبلاء في بلاد الفرنجة وفي آسيا؛ وذلك بأن يرفع إلى مرتبة الزوجية الملكية فتاة مسيحية تصلها بالملك رتشارد أواصر الدم وتعرف باسم السيدة أديث بلانتاجنت.»
1
فصاح السير كنث قائلا: «ها! أفهذا ما تقول؟» وكان يستمع شارد اللب غير آبه إلى الشطر الأول من حديث الحكيم، إلا أن هذا الخبر الأخير قد مس منه كامن حسه، وأيقظه كما توقظ رجفة الأعصاب - حين تنتفض على حين بغتة - الحس بالألم حتى في سبات المفلوج، ثم خفف من نبرة كلامه، وإن يكن قد عانى في ذلك ما عانى، واكتتم ما أحس به من امتهان الكرامة، وستره بستار من الريبة والازدراء، ثم واصل الحديث كي يظفر بأكثر ما يستطيع من علم عن هذه المؤامرة - وقد ظنها كذلك - هذه المؤامرة التي كانت تدبر ضد فتاته، ضد شرفها وسعادتها، ضد تلك التي لم ينتقص من حبه لها ما أصاب جده وشرفه بسببها، فقال في سكينة وهدوء: «وأي مسيحي ذلك الذي يصادق على عقد غير طبيعي، كذلك الذي يكون بين مسيحية عذراء وعربي مسلم؟»
فأجاب الحكيم وقال: «إنما أنت نصراني جاهل متعصب، أفلم تر إلى الأمراء المسلمين كيف يتزاوجون كل يوم مع النبيلات من عذارى إسبانيا النصارى، وما في هذا عار على مغربي أو مسيحي؟ ولسوف يسمح السلطان النبيل - لثقته التامة في دم رتشارد - للفتاة الإنجليزية بالحرية التي وهبتها المرأة طباعكم الفرنجية؛ سوف يسمح لها بالحرية في ممارسة دينها، وسوف يخصها بمكانة ومرتبة فوق نسائه جميعا، فتبيت من كل وجه ملكته الفريدة المطلقة.»
فقال السير كنث: «كيف تجرؤ أيها المسلم على أن تحسب أن رتشارد يتنازل عن قريبته، وهي أميرة فاضلة كريمة النسب، لتكون - أحسن ما تكون - فضلى الإماء بين «حريم» رجل مسلم! اعلم أيها الحكيم أن أدنى مسيحي نبيل حر يأبى لابنته مثل هذا العار الشنيع.»
فرد عليه الحكيم وقال: «والله لقد أخطأت، ولقد نما هذا الرأي إلى فيليب ملك فرنسا، وهنري صاحب شمبانيا، وغيرهما من زعماء أحلاف رتشارد، ولم يصعق أحدهم للخبر، ووعدوا جميعا أن يسعوا ما وسعهم السعي في حلف قد تكون فيه نهاية هذه الحرب الضروس. وقد أخذ الرجل الحكيم كبير قساوسة «صور» على نفسه أن يزف هذا المقترح إلى رتشارد، ولا تداخله ريبة في أنه سوف يستطيع أن يسوق الخطة إلى خير غاية، وقد احتفظ السلطان - لحكمته - بهذا الأمر سرا، وكتمه على أمثال صاحب منتسرا ورئيس فرسان المعبد، لأنه يعلم أنهما وأمثالهما يسعون إلى الفلاح من وراء حتف رتشارد أو خزيه، لا عن سبيل حياته وشرفه. فهيا إذن يا سيدي الفارس، وامتط صهوة جوادك، وسأعطيك مكتوبا يرفع من شأنك لدى السلطان، ولا تحسبن أنك تارك بلادك أو قضيتها أو دينها ما دام صالح الملكين عما قريب سوف يتحد. إن مشورتك سوف تلقى من صلاح الدين خير القبول، ما دام في وسعك أن تخبره بالكثير عن الزواج لدى المسيحيين، وكيف يعاملون أزواجهم، وغير ذلك من أمور شريعتهم وعاداتهم، فإن السلطان يهمه كثيرا أن يعرف ذلك من أجل المعاهدة. إن السلطان يقبض على كنوز الشرق بيمناه، ومنها تنفجر عيون الجود والسخاء. ولن يتعسر على صلاح الدين - إن تحالف مع إنجلترا - أن يظفر من رتشارد لا بالعفو عنك وردك إلى حظيرة الرضا فحسب، وإنما يستطيع أن يحصل لك كذلك على قيادة شريفة بين من قد يتخلف من جنود جيش ملك إنجلترا للإبقاء على حكمهما المشترك في فلسطين. فهيا إذن واركب جوادك وأمامك الطريق واضحة.»
فأجابه الفارس الاسكتلندي وقال: «أيها الحكيم، إنما أنت رجل من رجال السلم، وإنك كذلك أنقذت حياة رتشارد ملك إنجلترا، بل وحياة خادمي المسكين «ستروخان»، ولذا فلقد أصغيت إليك حتى النهاية وأنت تتحدث في أمر لو أن رجلا مسلما غيرك تقدم به إلي لأوقفته بطعنة من خنجري! أيها الحكيم، إني أنصح لك - جزاء رأفتك - أن تنصح العربي الذي يتقدم إلى رتشارد يطلب وصل دم بلانتاجنت بدمه الكريه، بلبس خوذة تقوى على تلقي ضربة بالفأس كتلك التي دكت تحتها أبواب عكا، وإلا فلا ريب أنه سوف يضع نفسه موضعا ينأى حتى عن حذقك ومهارتك.»
فقال الطبيب: «إذن فلقد اعتزمت عامدا مصرا على ألا تفر إلى صفوف الأعراب؛ ولكن ألا فلتذكر أنك قد قلت إن في هذا قضاءك المحتوم، وحدود شريعتكم - كحدود شريعتنا - تحرم على المرء أن يعتدي على حرم حياته.»
فرسم الاسكتلندي علامة الصليب على نفسه وقال: «حاشا لله، ولقد حرم علينا كذلك أن نتحاشى ما يحق على ذنوبنا من جزاء. ولكن عقيدتك في الله ضعيفة أيها الحكيم، وإنه والله ليحفظني أني وهبتك كلبي الكريم، لأنه إن عاش فسوف يكون له صاحب جاهل بقدره.»
فقال الحكيم: «إن العطية إن ضن بها معطيها فكأنه يستردها، ولكنا معشر الأطباء قد أقسمنا ألا نرد مريضا بغير علاج. لئن شفي الكلب فلسوف يكون ثانية لك.»
فأجاب السير كنث وقال: «اذهب أيها الحكيم، إن المرء لا يتحدث عن البزاة والكلاب حينما لا يكون بينه وبين الموت غير ساعة من نهار، دعني أذكر ذنوبي وأتقرب إلى الله.»
فقال الطبيب: «إني أدعك لعنادك. إن الغيوم لتخفي وراءها المنحدر فلا يراه أولئك الذين كتب الله عليهم الهبوط من فوقه.»
ثم تسلل وئيدا، ولبث يتلفت وراءه الفينة بعد الفينة، كأنه يرقب عسى أن يستدعيه هذا الفارس المخلص بكلمة أو إشارة، وأخيرا اختفى هذا الرجل المعمم بين تيه الخيام التي كانت تمتد في أسفل الجبل وبياضها ينصع في ضوء الفجر الشاحب - وقد اندحر أمامه شعاع القمر.
ولم يكن لكلمات «أدنبك» الطبيب على السير كنث ذلك الأثر الذي كان يرمي إليه الحكيم، إلا أنها بعثت في الاسكتلندي حب الحياة، وقد كان منذ حين يود لو يفارقها كأنها ثوب ملوث لم يعد يليق به ارتداؤه، وذلك رغم أنه كان يحسب أنه يتسم بالخزي والهوان، وعاد إلى ذاكرته كثير مما دار بينه وبين الناسك، ومما شهد بين الناسك وشيركوه (أو الضريم)، ومال به ما ذكر إلى تأييد ما خبره به الحكيم عن الشرط الخفي الذي ورد بالمعاهدة.
ثم صاح محدثا نفسه: «يا له من محتال في ثياب الشرف!
2
يا له من منافق أشيب! لقد تحدث عن الزوج المشرك كيف ترده عن شركه الزوجة المؤمنة. وماذا عساي أن أعرف غير أن الخائن قد عرض على العربي ما حبا الله أديث بلانتاجنت من جمال، حتى يستطيع هذا الرجل أن يحكم إن كانت هذه الأميرة المسيحية تليق بأن تنخرط في سلك «حريم» رجل مسلم؟ والله لو وقع ذلك الرجل «الضريم» - أو أيا كان اسمه - ثانية في قبضتي التي أمسكت عليه بها يوما إمساكا شديدا، كما يمسك كلب الصيد بالأرنب، فلن يأتي أحد ثانية - وهو خاصة - برسالة مشينة بشرف ملك مسيحي أو فتاة نبيلة فاضلة ... إن ساعاتي تتناقص سريعا إلى دقائق، ولكن لا بد رغم ذلك من أداء عمل ما، ولا بد من أدائه سريعا، ما دام في عرق ينبض ونفس يتردد.»
وسكت بضع دقائق، ثم رمى بخوذته وانطلق مسرعا من فوق الجبل، وسار في الطريق المؤدية إلى سرادق الملك رتشارد.
الفصل الخامس عشر
نفخ الديك - وهو ذاك المنشد المريش -
في البوق؛ يعلن للقروي الباكر إشراق الصباح.
ورأى إدوارد الملك خيوط الضياء الموردة
يتراجع من وهجها الظلام،
واستمع إلى الغراب الأسحم ناعيا،
ينادي بانصرام يوم من الزمان.
فقال الملك: «إنك لعلى حق،
وإني لأقسم بالله الذي يتربع على العرش في السماء،
ليموتن اليوم «شارك بودوين» وصاحباه.»
تشاترتن
في الليلة التي استولى فيها السير كنث على منصبه، أوى رتشارد إلى فراشه بعد ذلك الحادث العاصف الذي عكر صفو المساء، وهو أشد ما يكون ثقة بالنفس. وقد أوحت إليه بهذه الثقة شجاعته التي لا تحد، وذلك الفضل الذي أحرزه على غيره حينما أصاب مرماه على مرأى من الجيوش المسيحية وزعمائها جميعا. وكان يعلم أن كثيرا منهم من كان يرى في دخيلة نفسه أن المهانة التي لحقت بدوق النمسا إن هي إلا انتصار عليه. وإذن فلقد أشبع رتشارد كبرياءه، فإنه إذ كبح عدوا قد أذل مئين.
ولو أن هذا الأمر قد وقع لملك آخر لضاعف من حرسه في المساء بعد هذا الحادث، ولأبقى جانبا على الأقل من جنوده بالسلاح مدججين، ولكن قلب الأسد صرف على أثر ما وقع حتى حرسه الذي اعتاد، وخص جنوده بهبة من النبيذ، كي يحفلوا بشفائه، ويشربوا نخب راية سنت جورج. ولولا أن سير توماس دي فو وإيرل سولزبري، وغيرهما من الأشراف، قد اتخذوا الحيطة لحفظ السكينة والنظام بين الحافلين، لانطبع على هذه الناحية من المعسكر التي يشغلها الملك طابع الفوضى والاستهتار.
أما الطبيب فقد سهر على الملك مذ أوى إلى فراشه حتى انصرم الهزيع الأول من اليل، وفي هذه الفترة ناوله الدواء مرتين، وهو في كل مرة يرقب في السماء ذلك البرج الذي يتربع فيه بدر التم، فإن للبدر - كما يقول الطبيب - أثرا على فعل عقاقيره، يجعل فيها الحياة أو الهلاك. وانقضت ثلاث ساعات بعدما تصرم النصف الأول من الليل، ثم تسلل الحكيم من السرادق الملكي إلى سرادق آخر ضرب له ولأتباعه، وإذ هو في طريقه إلى هناك، عرج على خيمة السير كنث فارس النمر، كي يرى حال مريضه الأول في معسكر المسيحيين، وهو «ستروخان» ذلك الرجل المسن خادم الفارس، ولما استعلم هناك عن السير كنث نفسه، علم الحكيم على أي واجب كان يقوم، وقد دفع به هذا الخبر إلى جبل سنت جورج، حيث ألفاه وهو في ذلك الظرف المنكوب الذي أشرنا إليه في الفصل السابق.
وقبيل شروق الشمس، نما إلى سرادق الملك وقع خطوات وئيدة دانية من قوم مسلحين، وما إن هب دي فو من مرقده وتساءل «من القادم؟» - وكان ينام إلى جوار فراش سيده نوما خفيفا، ولم يأخذ الكرى بمعقد جفنيه إلا كما يأخذ بجفون كلاب الحراسة - حتى ولج الفسطاط فارس النمر، تعلو ملامح الرجولة فيه كآبة عميقة بعيدة المدى.
فقال دي فو عابسا، وفي نغم كلامه نبرة الاحترام لسبات سيده: «فيم هذا التهجم الجريء يا سيدي الفارس؟»
فتيقظ رتشارد توا وقال: «صه يا دي فو! لقد أقبل علينا السير كنث إقبال الجندي الكريم، يقص علينا قصة حراسته. ولمثل هذا ينبغي أن يكون سرادق القائد أبدا قريب المنال، ثم نهض من نومه، وارتكز على مرفقه، ورمق المقاتل بعينيه الواسعتين البراقتين، وقال: «تكلم يا سيدي الاسكتلندي؛ لقد أتيت تحدثني عن حراسة يقظة آمنة شريفة، أليس كذلك؟ إن حفيف ثنايا راية إنجلترا قمين وحده بحراسة العلم، حتى دون أن يمثل مثل هذا الفارس بشخصه فيراه كل ذي عينين.»
فأجاب السير كنث قائلا: «كلا، لن يراني بعد اليوم أحد، إن حراستي لم تكن يا مولاي يقظة ولا آمنة ولا شريفة، ولقد امتدت إلى راية إنجلترا يد واختطفتها.»
فأجاب رتشارد وفي صوته نبرة الازدراء والتكذيب وقال: «وما برحت على قيد الحياة تذكر ذلك؟ عني! إن هذا لن يكون. إني لا أرى أثرا لخدش على محياك. خبرني لماذا أنت ماثل كذلك صامتا؟ اصدقني واعلم أن المزاح مع الملوك خطير، ومع ذلك فلأعفون عنك إن كان كذبا ما تقول.»
فرد عليه الفارس البائس وقال: «لم يكن كذبا ما خبرتك يا مولاي المليك!» وفي صوته نغم التأكيد الجاف، وفي عينيه سهام من النار براقة نافذة متألقة، كأنها وميض الصوان المتحجر البارد، ثم قال: «ولكن ينبغي أن أصمد هنا كذلك. هذا هو الحق خبرتك به يا مولاي.»
فانفجر الملك في عاصفة من الغضب، ما لبثت أن خمدت وسكن ثائرها، وقال: «يالله! ويا لسنت جورج! دي فو، اذهب إلى المكان وألق عليه بنظرة؛ لقد عكرت هذه الحمى صفو ذهنه. إن هذا لن يكون حسب شجاعة الرجل مناعة! إن هذا لن يكون! اذهب عني سريعا أو أرسل من لدنك رسولا إن كنت لا تريد الانصراف.»
وهنا استوقف الملك السير هنري نفيل، وقد أقبل متقطع الأنفاس يقول إن الراية قد اقتلعت، وإن الفارس الذي كان يقوم على حراستها قد غلب على أمره، وغالب الظن أنه قتل، لأنه رأى بركة من الدماء إلى جوار رمح العلم المحطم.
وما إن وقعت عينا نفيل بغتة على السير كنث حتى تساءل «من ذا أرى هنا؟»
فهب الملك على قدميه، وأمسك بالفأس القصيرة التي كانت أبدا لا تبرح جوار فراشه، وقال: «خائنا، خائنا! ولسوف تراه يموت ميتة الخونة.» ثم جذب سلاحه إليه كأنه يريد أن يضرب به.
ووقف الاسكتلندي أمامه ممتقع اللون، ولكنه رابط الجأش، كأنه تمثال من المرمر، ورأسه عار لا يقيه لباس، وعيناه مطرقتان نحو الأرض، وشفتاه لا تكادان تنبسان، والراجح أنه كان يتمتم بالدعوات، ووقف الملك رتشارد قبالته على قيد رمح، وقد ادثر جسمه الضخم بين طيات ثوب من الكتان فضفاض، وتستر جميعه، إلا حيث أزال انفعاله الشديد الدثار من فوق ساعده الأيمن وكتفه وجانبا من صدره، وبدا للعيان كأنه مثال من صورة إنسانية جديرة بالصفة التي كان يتصف بها سلفه السكسوني وهي «جانب الحديد». ولبث هنيهة متأهبا للضراب، ثم أمال رأس السلاح صوب الأرض، وصاح متعجبا وقال: «أفكانت هناك دماء يا نفيل؟ هل كان لدى المكان دم؟ استمع إلي يا سير كنث، لقد كنت باسلا في يوم من الأيام، ولقد شهدتك وأنت تقاتل، فهلا قلت لي إنك جندلت لصين دفاعا عن العلم، بل جندلت واحدا، بل قل لي إنك ضربت ضربة قوية في سبيلي، ثم انصرف عن المعسكر بحياتك وخزيك!»
فأجابه كنث رابط الجأش وقال: «مولاي الملك؛ لقد دعوتني كاذبا، ولقد أسأت إلي في هذا على الأقل. اعلم أنه لم ترق في سبيل الذود عن العلم دماء، اللهم إلا دم الكلب المسكين، حين تصدى للدفاع عن الواجب الذي هجره صاحبه، والكلب أشد إخلاصا منه.»
فقال رتشارد: «بحق القديس جورج.» وهم بساعده ثانية، ولكن دي فو رمى بنفسه بين الملك ومحط نقمته، وشرع يدلي بذلك الصدق الصراح الذي يتخلق به، قال: «مولاي، لن يكون هذا، لن يقع هذا الأمر هنا، ولن تتلوث به يداك؛ وكفى حمقا بين عشية وضحاها، أن تكل أمر العلم إلى رجل اسكتلندي. ألم أقل لك إنهم أبدا على ظاهر من الحق وباطن من الباطل؟»
1
فأجاب رتشارد وقال: «أجل، لقد فعلت يا دي فو، ولقد أصبت، وإني بذلك أقر. كان ينبغي لي أن أعرفه خيرا من هذا، وكان ينبغي أن أذكر كيف أن الثعلب وليم قد خدعني في أمر هذه الحرب الصليبية.»
فأجابه السير كنث وقال: «مولاي، إن وليم الاسكتلندي لم يخدعك، ولكن الظروف لم تمكنه من حشد جنوده.»
فقال الملك: «مهلا بعض هذا واستح قليلا! إنك تلوث اسم الأمير حتى إن لفظت به.» ثم أردف بقوله: «ولكن، مع هذا، إنه لعجيب يا دي فو مسلك هذا الرجل، إنه إما جبان أو خائن، ولكنه صمد - رغم ذلك - لضربة رتشارد بلانتاجنت حينما ارتفع ساعدنا لوسم الفروسية على كتفه؛
2
والله لئن كان قد أبدى أتفه دليل على خوفه، والله لو كانت قد ارتعدت منه فريصة أو ارتجف له جفن، لهشمت رأسه كما يتهشم القدح من البلور، ولكن ما كان لي أن أضرب حيث لا خوف هناك ولا صدود.»
ثم كان سكون.
ثم قال كنث: «مولاي ...»
فاعترضه رتشارد وأجابه قائلا: «ها! آلآن عرفت الكلام؟ أدع ربك الرحمة ولا تدعني، لقد لحق بإنجلترا العار من جراء خطئك. والله لو كنت لي أخا، ولو لم يكن لي سواك أخ، لما عفوت عن إثمك.»
فقال الاسكتلندي: «إني لم أتكلم طلبا للرأفة من إنسان فان، إنما الأمر لجلالتكم إما جدتم أو ضننتم علي بالوقت أكفر فيه عن سوءاتي كما يكفر المسيحيون. ولئن أنكر الإنسان علي هذا فالله أرجو أن يهبني المغفرة التي أطلب من الكنيسة بعد الله! وسواء مت الآن أو بعد هذا بنصف ساعة فإني ألتمس من جلالتكم أن تهبني الفرصة لحظة واحدة أتحدث فيها إلى شخصك الكريم بما يمس ذكرك كملك مسيحي مسا شديدا.»
فأجابه الملك وقال: «هيا، قل ما تريد.» ولم يشك في أنه إنما كان يتأهب للإصغاء إلى شيء من الاعتراف في أمر يخص العلم.
قال السير كنث: «إن ما سوف أذكر يمس ملكية إنجلترا، وينبغي ألا يتطرق إلى غير أذنيك.»
فقال الملك لنفيل ودي فو: «اغربا عني سيدي.»
فصدع أولهما بالأمر، وصمد ثانيهما في حضرة الملك لا يبدي حراكا.
وأجاب دي فو مولاه قائلا: «ألم تقل مولاي إني على جادة الصواب؟ إذن لتعاملني كما ينبغي أن يعامل من هو على محجة الحق؛ وإذن فلتبق لي إرادتي، وإني لن أتركك وحدك مع هذا الاسكتلندي الأفاك.»
فقال رتشارد غاضبا وهو يضرب الأرض بقدمه ضربا خفيفا: «كيف هذا يا دي فو! وكيف لا تأمن على شخصنا مع خائن واحد؟»
فأجاب دي فو وقال: «عبثا يا مولاي أن تقطب جبينك أو تضرب بقدمك. إني لا آمن أن أترك رجلا مريضا مع آخر معافى، رجلا مجردا عن السلاح مع آخر مسلح ممتنع.»
فقال الفارس الاسكتلندي: «ليس هذا بأمر ذي بال، إني لن أتلمس المعذرة كي أستأخر الزمن، ولأتكلمن في حضرة لورد جلزلاند فإنه سيد كريم صادق.»
فأجاب دي فو وفي صوته رنة الأسى، وفيها مزيج من الحزن والحنق وقال: «لقد كنت أقول عنك مثل هذا القول منذ نصف ساعة!»
ثم استأنف السير كنث حديثه وقال: «إن الغدر يحيط بك يا ملك الإنجليز.»
فأجاب رتشارد قائلا: «قد يكون صدقا ما تقول: فإن أمامي لمثالا محسوسا.»
فقال السير كنث: «إنها خيانة سيكون أذاها أشد وقعا عليك من ضياع مائة راية في ساحة الوغى، إن ... إن ...» وهنا تردد السير كنث، ثم استأنف الكلام أخيرا وقد خفض من صوته وقال: «إن السيدة أديث ...»
فاستجمع الملك نفسه بغتة، واتخذ هيئة المنصت المتكبر، وحدق ببصره فيمن ظن فيه الإجرام ثم قال: «ها! ما بها؟ خبرني ما بها؟ ما شأنها وهذا؟»
فقال الاسكتلندي: «مولاي، هناك دسيسة تدبر لتدنيس ذريتكم الملكية الكريمة، وذلك بمنح يد السيدة أديث للسلطان العربي، وشراء سلم مشين بالعالم المسيحي بحلف هو وصمة شديدة في جبين إنجلترا.»
وكان لهذا البلاغ أثر يختلف كل الخلف عما كان يتوقع السير كنث، فلقد كان رتشارد بلانتاجنت أحد أولئك الذين لا يعملون لله انصياعا لأمر الشيطان - كما يقول أياجو
3 - ولم يكن في غالب الأحيان ليتأثر بالنصح أو بالخبر بمقدار ما ينطويان عليه من صدق، كما كان يتأثر بهما بمقدار ما يصطبغان به من شخصية المحدث ونظرته. ومن نكد الطالع أن أحيا ذكر هذه السيدة - وهي من ذوات قرباه - ذكرياته عن وقاحة فارس النمر في هذا الشأن، حتى حينما كان في طليعة الفرسان. وقد بدا له أن في ما ذكر السير كنث - وهو في تلك الحال الراهنة - مهانة تكفي لأن تدفع بالملك، وهو يشتعل غضبا، إلى انفعال الجنون.
فقال : «الزم الصمت أيها المرذول الوقح! وحق السماوات لأمزقن لسانك بمقبض الحديد الحار لأنك ذكرت اسم سيدة من كرائم المسيحيات! اعلم أيها الخائن الوضيع، أني كنت أعلم من قبل إلى أي حد بلغت بك الجرأة أن ترفع عينيك، ولقد تحملت ذلك - رغم ما فيه من قحة وجرأة - حتى حينما خدعتنا حتى ظننا أنك رجل له ذكر وصيت. أما الآن وقد تقيحت شفتاك بما اعترفت به من خزيك - إذ كيف تجرؤ على أن تذكر الآن سيدة كريمة تربطها بنا صلة الرحم، وكأنها سيدة لك في حظها سهم أو نصيب! - ما شأنك إن هي تزوجت من عربي أو مسيحي؟ ما شأنك ونحن في معسكر الأمراء فيه أنذال نهارا ولصوص مساء، وبواسل الفرسان فيه خونة أدنياء يفرون من الواجب. أقول ما شأنك، أو ما شأن غيرك، إن أنا أردت أن أتحالف مع الصدق والشجاعة متمثلين في شخص صلاح الدين؟»
فأجاب السير كنث متشجعا وقال: «شأني في هذا قليل حقا، وأنا رجل سوف تصبح الدنيا لي عما قريب هباء، ولكن، حتى ولئن كنت الآن موثوقا بسرير العذاب، أقول إن ما ذكرت لك يمس ضميرك واسمك مسا كبيرا، إني أقول يا مولاي الملك إنك إن قبلت - ولو في خاطرك وحسب - أمر زواج قريبتك هذه السيدة أديث ...»
فقال الملك: «لا تذكر اسمها، ولا تفكر فيها لحظة واحدة.» وضغط على فأسه القصيرة ثانية بقبضته، حتى برزت العضلات في ساعده المفتول كخيوط الحلبلاب حول أعضاء السنديان.
فأجاب السير كنث قائلا: «لا أذكر اسمها! ولا أفكر فيها!» وقد صعق وخيمت عليه الكآبة وتملكه انقباض النفس، ثم أخذ يسترد مرونته بعد هذا اللون من الحديث، فقال: «والآن بحق الصليب الذي عقدت به آمالي، ليكونن اسمها آخر ما يلوك فمي، ولتكونن صورتها آخر ما يخطر لذهني! جرب قوتك - التي بها تفخر - على هذا الجبين العاري، وانظر هل أنت بمانعي عن مرماي؟»
فقال رتشارد: «والله إنه ليدفعني إلى الجنون.» ورده ثانية عن هدفه - راغما - عزم لا يلين ملك على الجاني نفسه.
وقبل أن يحير توماس الجلزلاندي جوابا، نما إلى السرادق شغب من الخارج، وأعلن المعلن من ظاهر الفسطاط قدوم الملكة.
فصاح الملك: «ردها يا نفيل، ردها! ليس هذا بالمشهد الذي يليق بالنساء. تبا، تبا، لقد عانيت من مثل هذا الخائن الوضيع إغاظته لي كما ترون!» ثم قال همسا: «أبعده عن مرآي يا دي فو، واخرج به من المدخل الخلفي من سرادقنا، وضيقوا عليه أشد ضيق، واعلم أن حياتك رهينة بحفظه في محبسه، وضع نصب عينيك أنه عما قريب يفارق الحياة، فأت له بأب روحي فإنا لن نقتل فيه الروح والجسد، البث قليلا واستمع إلي، إنا لا نريد به خزيا ولا عارا. لسوف يموتن ميتة الفرسان بنطاقه ومهمازه؛ فلئن كانت خيانته مظلمة كالجحيم فإنه ليباري بإقدامه الشيطان نفسه.»
ولا نعدو الحقيقة إذا نحن قلنا إن دي فو قد سر سرورا عظيما بانتهاء ذلك الموقف دون أن يتنزل رتشارد إلى عمل لا يليق بالملوك، ويقتل بنفسه سجينا لا يدفع عن نفسه، ثم سارع إلى إخراج السير كنث من منفذ خاص إلى خيمة منفصلة، حيث جرده من سلاحه وكبله في الأصفاد، كي يأمن جانبه، ووقف دي فو ينظر إلى ما يجري رابط الجأش حزينا، وضباط السجن، الذين بات السير كنث تحت إمرتهم، يتخذون هذه الحيطة الشديدة.
ولما فرغوا قال للآثم التعس مكتئبا: «هي إرادة الملك أن تموت محتفظا بشرفك - فلن نبتر جسدك أو نشوه ساعديك - وأن يفصل رأسك عن جذعك سيف الجلاد.»
فقال الفارس: «إنها لرأفة منكم.» وفي صوته نغم خافت، فيه ذلة وخنوع، كأنه رجل ظفر برضا غير منظور، ثم قال: «إذن فأهلي لن يسمعوا عني أسوأ القصص. آه يا أبتاه! يا أبتاه!»
وهذا الابتهال الذي تمتم به لم يغب عن الرجل الإنجليزي الجلف الطيب القلب، فمسح بظاهر يده الكبير محياه الغليظ قبل أن يشرع في الجواب.
ثم قال أخيرا: «ويريدك الملك كذلك أن تتحدث إلى رجل من رجال الدين، ولقد التقيت في طريقي إلى هنا بقس من كرمل يليق بك وأنت تفارق هذه الدار الدنيا، وهو ينتظر خارج الفسطاط حتى تتهيأ للقائه.»
فقال الفارس: «سارع به إلي، إن رتشارد في هذا كذلك لرءوف بي رحيم؛ لن أكون ساعة ما أكثر تأهبا للقاء القس الكريم مني الآن، فلقد ودعت الحياة، وافترقت وإياها كراحلين بلغا مفترق الطريق، ثم اختلف سير أحدهما عن الآخر.»
فقال دي فو متئدا رزينا: «هذا خير، فوالله إنه ليضنيني بعض الشيء أن أذكر لك فحوى رسالتي؛ وذلك أن الملك رتشارد يريدك على أن تتأهب للموت العاجل.»
فأجاب الفارس صابرا: «لتكن إرادة الله ومشيئة المليك. إني لا أعارض في عدالة الحكم، ولا أرغب في تأجيل القضاء.»
وحينئذ شرع دي فو يفصل عن الفسطاط في أناة شديدة، ثم وقف لدى الباب، والتفت خلفه ونظر إلى الاسكتلندي الذي وقف وكأن آمال هذه الدار الفانية قد انتفت من خاطره انتفاء تاما، وكأنه رجل قد توجه إلى الله بكل نفسه. ولم يكن البارون الإنجليزي البدين عامة من ذوي المشاعر الحادة، ولكن عاطفته في ذلك الموقف غلبت عليه - رغم ذلك - غلبة لم يعهدها في نفسه من قبل، فقفل راجعا إلى فراش القصب الذي كان يرقد عليه الأسير، وأمسك بإحدى يديه المغلولتين وقال بنغم فيه من اللين بمقدار ما يستطيع صوته الأجش أن يلفظ: «سيدي كنث، إنك ما زلت في ريعان الشباب، وإن لك لأبا، وإن ابني «رالف» الذي خلفته يدرب جواده الصغير الذي أتينا له به من «جالوى» على ضفاف «أرذنج» قد يبلغ عمرك يوما من الأيام - ولا أخفيك أني ليلة الأمس كنت أرجو الله أن أرى شبابه كشبابك - هلا تريدني أن أقول شيئا أو أفعل فعلا نيابة عنك؟»
فكان الجواب الحزين على ذلك: «لا شيء، لقد أهملت واجبي، وفقد العلم الذي عهد به إلي. فإذا ما أصبح الجلاد وباتت المقصلة على استعداد، فإن رأسي وجذعي كليهما على أهبة أن يفترقا.»
فقال دي فو: «رحماك اللهم، والله لوددت لو أني قمت بحراسة العلم عوضا عن رعاية جوادي الكريم. إن في الأمر لسرا أيها الرجل الشاب، سرا يلمسه الرجل الساذج وإن كان لا يدرك له كنها، هل كان جبنا منك؟ كلا. ما قاتل جبان قط كما شهدتك تقاتل. هل كانت خيانة؟ لا أظن الخونة يموتون في خيانتهم بمثل هذه السكينة. إنما صرفك عن مقرك غدر بعيد المدى وخطة محكمة التدبير. إنما ملك عليك سمعك صياح فتاة منكوبة، أو صرف عنك بصرك وجه ضاحك باش، لا تستح من هذا، فليس منا من لم يحد به يوما مثل هذا الدافع عن جادته، هيا، هيا، وبح لي عوضا عن قسك بمكنون سريرتك؛ إن رتشارد لرءوف رحيم حينما تهدأ ثورته. أليس لديك ما تعهد به إلي؟»
فأشاح الفارس البائس بوجهه عن هذا المقاتل الرحيم، وأجابه بغير تردد أن: «لا شيء.»
ولما أن استنفد دي فو كل حديث من أحأديث الإغراء، نهض وفصل عن الفسطاط مطبق الذراعين، تعلوه كآبة ظن أنها أظلم مما تقتضي الحال، بل وناقما على نفسه لأنه رأى أن أمرا تافها - كموت رجل اسكتلندي - له مثل هذا الأثر العميق في نفسه.
ولكن، كما قال محدثا نفسه: «لئن كان الأجلاف ذوو الأقدام الخشنة أعداء لنا في كمبرلاند
4
فإنا في فلسطين نكاد نحسبهم لنا إخوانا.»
الفصل السادس عشر
ليس الأمر ما تدرك فتاتي،
فهي في إدراكها لا تعدو ما ألفتم،
وما فطنتها إلا لغو،
كغيرها من بنات حواء.
أنشودة
كانت برنجاريا العريقة النسب ابنة «سانشز»، ملك نافار ملكة حليلة لرتشارد الباسل، وتعد من أجمل النسوة في زمانها، قدها نحيل، وجسمها بارع الجمال في صورته، حباها الله ببشرة غير مألوفة بين بنات جلدتها، ولها شعر كث يضرب إلى الصفرة، وملامحها غاية في نضارة الشباب، حتى إنها لتبدو للعيان أصغر سنا من حقيقتها بسنوات عدة، وإن تكن في الواقع لما تعد الحادية والعشرين، ولربما كان إحساسها بمظهرها هذا البالغ في حداثته، باعثا لها على أن تصطنع، أو أن تقوم على الأقل، بقليل من أعمال النزق الصبيانية وصلابة الرأي في سلوكها. وليس هذا - حسب ظنها - مما لا يليق بعروس شابة، مرتبتها وسنها يعطيانها الحق في أن تتمادى في نزواتها هذه، وأن تأمر فتطاع، وكانت بالسليقة غاية في طيب القلب، وإذا ما أسلم لها رفيقاتها - غير منازعة - بحظها من الإعجاب والولاء لها (وهو حظ كبير فيما كانت ترى) فلن تجد من يفضلها مزاجا أو ميلا إلى المحبة والوداد، ولكنها - ككل حاكم مطلق - كلما نالت زيادة في نفوذها من الناس طوعا، ازدادت شغفا بمد سلطانها. وإذا ما أشبعت جميع أطماعها تراها تتظاهر أحيانا بانحراف صحتها وتعكير صفو مزاجها، فيقدح الأطباء الأذهان، ويبتدعوا لها أسماء لأمراض ما أنزل الله بها من سلطان، وتشحذ وصيفاتها الخيال حتى يجدن لها ألعابا مبتكرة، وأزياء جديدة للرأس، وفضائح في البلاط لم تسمع عنها من قبل، تصرف بها تلك الساعات البغيضة - وهي ساعات لا يكون موقف وصيفاتها فيها ما يغبطن عليه كثيرا. وأكثر ما كن يلجأن إليه ليسرين عن الملكة علتها خدعة أو عمل ضار تعمله إحداهن بالأخرى؛ ولا نعدو الحق إن قلنا إن الملكة ذات القلب الطيب - وهي في نشوة انتعاش مزاجها - كانت لا تبالي كثيرا إن كان هذا المزاح الذي يمزح به الوصيفات مما يليق بكرامتها كل اللياقة، أو كان الألم الذي يكابده أولئك اللائي يصيبهن وقعه لا يتناسب واللهو الذي تظفر به هي منه. وكانت أبدا على ثقة من رضا زوجها، ومن علو مرتبتها، ومما كانت تفرض في نفسها من حق الإفادة من المرح مهما كلف غيرها، أو قل في عبارة موجزة إنها كانت تثب من مكان إلى آخر حرة كأنها شبل من الأشبال لا يحس بثقل مخالبه على أولئك الذين تلهو بهم.
وكانت الملكة برنجاريا تحب زوجها حبا جما، ولكنها كانت تخشى من خلقه الكبرياء والخشونة. ولما كانت تحس من نفسها أنها لا تباريه ذكاء، فلم تكن لتطمئن إليه حين تراه وهو يكثر من التحدث إلى أديث بلانتاجنت، راغبا فيها عنها، لا لشيء إلا لأنه يجد في حديثها لذة، وفي إدراكها سعة، وفي خواطرها وعواطفها سيماء النبل والشرف، أكثر مما تبدي حليلته الحسناء. ولم تكن برنجاريا تبغض أديث من أجل هذا، وما كان أبعدها عن أن تدبر لها أذى أو مضرة، لأن خلقها - إن تهاونا في شيء من حب الذات - كان على الجملة سمحا بريئا، ولكن حاشيتها من السيدات - وهن بعيدات النظر في مثل هذه الأمور - كن قد أدركن منذ حين أن التندر الصارم على حساب السيدة أديث كان لجلالتها فيه شفاء من توعك المزاج، وقد خلصن بهذا الإدراك من كثير من كد الخيال.
ولم يكن في هذا شيء من كرم الخلق، إذ كان يعرف عن السيدة أديث أنها يتيمة الأم والأبوين. وهي وإن كان يطلق عليها اسم بلانتاجنت، وفتاة أنجو الحسناء، ولئن كان رتشارد قد أذن لها أن تستمتع ببعض المزايا مما لا يمنح إلا لأعضاء الأسرة المالكة، فكانت وفقا لهذا تتبوأ مكانتها في الأوساط والدوائر، إلا أنه رغم ذلك قل من كان يعرف على أية درجة من صلة الرحم هي من قلب الأسد. ولم يجرؤ على السؤال في هذا أحد ممن له صلة ببلاط إنجلترا. أتت مع «إليانور» أم ملك إنجلترا الشهيرة، واتصلت برتشارد عند «مسينا» على أنها ممن قدر لهن أن يكن من وصيفات برنجاريا التي كان زواجها إذ ذاك وشيك العقد. وكان رتشارد يعامل قريبته هذه بكثير من الاحترام والرعاية، وجعلت الملكة منها ألزم وصيفاتها، وكانت تعاملها على الجملة بما يليق بها من إجلال رغم ما شهدنا فيها من أثر الغيرة.
ولبث سيدات البلاط طويلا دون أن يكون لهن على أديث فضل، اللهم إلا ما تهيئه الفرصة حينما يأخذن عليها عدم الحذق في وضع لباس رأسها، أو سوء اختيارها لثوبها، إذ كن يحكمن عليها بالحطة والجهل بأسرار اللباس والتجمل. ولم يمض ذلك الإخلاص الصامت - الذي كان يحمله الفارس الاسكتلندي لها - دون التفات، فكن يرقبن عن كثب ما يرتدي من ثياب، وما يبدي من دراية، وما يظهر من حذق في الضرب بالسلاح، وما يحمل من شعار ويدبر من مكائد، وكثيرا ما اتخذن من هذا موضوعا لفكاهة عارضة. وبقيت الحال كذلك حتى آن للملكة ووصيفاتها أن يحججن إلى عين جدة ، وهي رحلة قامت بها الملكة كي تبتهل إلى الله أن يرد لزوجها صحته، وشجعها على القيام بها رئيس أساقفة «صور» لغرض سياسي في نفسه. وفي ذلك الحين، في المعبد القائم بذلك المكان المقدس، الذي يتصل فوق الأرض بدير الراهبات في كرمل، وتحت الأرض بكن الناسك، لحظت إحدى وصيفات الملكة تلك الشارة الخفية التي أومأت بها أديث إلى عشيقها، ولم يفتها أن تبلغ الملكة نبأها في الحال، فعادت الملكة من حجها مزودة بهذا الدواء الناجع شفاء لها من الكآبة والضجر، وقد انضم إلى حشمها قزمان شقيان وهبتهما إياها ملكة بيت المقدس المخلوعة عن العرش، لهما من تشويه الخلق والخبل (وهذا خير ما يتصف به هذا الضرب التعس من الناس) ما يحببهما إلى أية ملكة من الملكات. وكان من ضروب اللهو العقيم تلهو به برنجاريا أن تختبر ما لظهور هذه الصورة الوهمية، الشاحبة اللون، على أعصاب الفارس من أثر، حينما يخلو لنفسه في المعبد، ولكن تندرها لم يفلح إذ إن الرجل الاسكتلندي قد صمد للموقف، كما أن الناسك اعترض الأمر، ولم تتم الفكاهة، فحاولت الآن فكاهة أخرى، وهي تأمل أن تكون عواقبها أشد خطرا.
وبعد أن انصرف السير كنث عن الفسطاط، اجتمع السيدات ثانية، ولم تهتز الملكة أول الأمر إلا قليلا من غضب أديث وعتابها، فلم تجبها بأكثر من عذلها على اصطناعها الحشمة والخفر، ومن تماديها في التندر على حساب ثياب فارس النمر، وعلى أمته، وفوق هذا وذاك على فقره الذي سخرت منه كثيرا سخرا تستشف من خلفه الحقد والضغينة، وإن كان ممزوجا بالبشاشة والمجون. وبقيت على ذلك حتى اضطرت أديث أن تأوي إلى غرفتها المستقلة بهواجسها وبلبالها. ولما أشرق الصباح بعثت أديث بإحدى خادماتها تستعلم عما وقع، فأتت إليها بنبأ فحواه أن العلم قد افتقد وأن بطله قد اختفى، فانطلقت أديث إلى غرفة الملكة، وتضرعت إليها أن تنهض وتخف إلى سرادق الملك بغير توان، وأن تستخدم وساطتها النافذة كي تمنع العواقب الوخيمة التي نجمت عن مزاحها.
وارتاعت الملكة بدورها ، وأنحت كعادتها في عبثها هذا على من كن يتحوطنها، وحاولت أن تخفف من أسى أديث، وأن تخمد فيها ثائر غضبها بألوف الأقوال المتضاربة، وكانت على يقين من أن لم يحدث أذى، وخيل إليها أن الفارس لا بد نائم بعد سهره ليلا. وفيم الخوف من غضب الملك إن كان الفارس قد فر بالعلم؟ ليس العلم إلا قطعة من حرير، وما الفارس إلا رجل جريء معدم. وإن كان كنث قد زج به في السجن إلى حين فلسوف تستصدر له من الملك العفو سريعا، وما عليها إلا أن تتريث حتى تمر برتشارد هذه السحابة الكئيبة ثم تنقشع.
وهكذا واصلت حديثها بغير انقطاع، وتفوهت بكل ضروب المتناقضات، وهي ترجو عبثا أن تخدع أديث وتخدع نفسها بأن اللهو لن ينتهي إلى أذى، ولكنها كانت الآن من صميم قلبها نادمة أحر الندم على هذا العبث الذي عبثت. وبينا أديث تحاول دون جدوى أن تعترض هذا السيل الدافق من الحديث العقيم، دخلت إلى غرفة الملكة إحدى السيدات فملكت على أديث بصرها، إذ كان الموت في مرآها المروع الخائف؛ وما إن وقع بصر أديث على محياها حتى خرت على الأرض صريعة، ولولا الضرورة الملحفة وعلو خلقها لما أمكنها أن تستبقي على الأقل ظاهرا من رباطة الجأش.
وقالت للملكة: «مولاتي، لا تنبسي هباء بكلمة واحدة تلفظينها بعد هذا، ولكن أنقذي حياة ...» ثم أردفت وصوتها يختنق وهي تتكلم وقالت: «أنقذي حياة إن كان للحياة من بعد هذا منجاة.»
فأجابت السيدة كالستا وقالت: «إن في النجاة لأملا؛ فلقد نما إلي الآن أنه سيق إلى الملك، ولما ينته الأمر ولكن ...» ثم انفجرت في فيض من البكاء غزير، كان لمخاوفها الذاتية فيه نصيب وقالت: «ولكن الأمر عما قريب ينتهي إلا إن سلكتن طريقا أخرى.»
فقالت الملكة محتدة: «نذرت للقبر المقدس قنديلا من الذهب، ولسيدتنا صاحبة عين جدة حرما من الفضة، وللقديس «توماس أرثر» بساطا للرحمة قيمته مائة بيزنط ...»
فقالت أديث: «هيا، هيا يا مولاتي. ادعي القديسين إن شئت، ولكن كوني أنت خير قديسة .»
فأجابت الوصيفة المرتاعة وقالت: «حقا مولاتي، ما تقول السيدة أديث إلا صدقا؛ انهضي مولاتي وهيا بنا إلى سرادق الملك رتشارد نطلب العفو عن حياة هذا الرجل الفاضل.»
فقالت الملكة: «إني ذاهبة، سوف أتوجه إليه توا.» ثم نهضت وهي ترتعد ارتعادا شديدا، والنسوة حواليها في مثل حيرتها وارتباكها، عاجزات عن أن يؤدين لها تلك الخدمات التي لم يكن عنها مندوحة لهذه الزيارة الرسمية. وتقدمت أديث إلى الملكة هادئة رابطة الجأش، إلا أن صفرة كصفرة الموت كانت تعلو جبينها، وناولت بيدها الملكة ما أرادت، وسدت وحدها ما قصر فيه الوصيفات العديدات.
ولم تستطع الملكة حتى آنئذ أن تنسى ما تميزت به من الاستخفاف والاستهتار فقالت: «أية خدمة تؤدين أيتها النسوة، كيف ترضين أن تقوم السيدة أديث بواجبكن في الخدمة؟ هلا ترين يا أديث أنهن لا يعملن شيئا! ما أظنني بمستطيعة أن أتم ارتدائي في حينه؛ لنبعثن إذن لرئيس أساقفة صور ونستخدمه لنا وسيطا.»
فصاحت بها أديث قائلة: «كلا، كلا، بربك لا تفعلي، اذهبي بنفسك يا مولاتي، لقد صدرت عنك الإساءة وعليك محوها.»
فقالت الملكة: «إذن لأذهبن، ولكن إن كان رتشارد لما يزل غاضبا فلن أجرؤ على التحدث إليه، إنه ليقتلني إن أنا فعلت!»
فقالت السيدة كالستا وهي خير من يعرف مزاج مولاتها: «ومع ذلك فلتذهبي مولاتي الكريمة، ولن ينظر إلى هذا الجبين وذاك الجسد ليث غاضب ثم يقوى على استبقاء خواطره ثائرة، فما بالك بفارس محب شغوف كرتشارد الملك، وما أدنى كلمة منك إلا فريضة عليه؟»
فقالت الملكة: «هل تظنين ذلك يا كالستا، آه، إنك لا تعرفين إلا قليلا ومع ذلك فإني ذاهبة، ولكن استمعي إلى، ماذا تعنين بهذا! لقد كسوتني بكساء أخضر وهو لون بغيض إلى نفسه، عني هذا، وهات لي ثوبا أزرق وائت لي بالبنيقة الياقوتية التي كانت بعض رداء ملك قبرص، وسوف تجدينها إما في صندوق الحديد أو في مكان آخر.»
فقالت أديث ساخطة حانقة: «كل هذا وحياة الرجل في خطر! إن هذا لفرق ما يصبر عليه المرء؛ مهلا مولاتي، سأذهب أنا إلى رتشارد؛ إن هذا الأمر يهمني، وسوف أعرف إن كان يجوز العبث إلى هذا الحد بشرف فتاة مسكينة من دمه، وأن ينتهك اسمها لصرف رجل فاضل عن واجبه، والإتيان به إلى دائرة الموت والعار، وأن يبيت مجد إنجلترا ذاتها في الوقت عينه سخرية للجيوش المسيحية قاطبة.»
وأصغت برنجاريا إلى هذه العاطفة التي تفجرت على غير انتظار، وكاد أن يطير لبها خوفا وعجبا، ولكنها، وأديث توشك أن تغادر الفسطاط، صاحت بصوت ضعيف خافت وقالت: «أوقفنها، إمنعنها عن الذهاب!»
فقالت كالستا: «حقا يجب ألا تذهبي أيتها السيدة النبيلة أديث» وأمسكت بذراعها في لين ورفق ثم قالت: «وإني علي يقين من أنك يا مولاتي الملكة سوف تذهبين، وسوف تذهبين بغير توان بعد هذا، ولئن ذهبت السيدة أديث وحدها إلى الملك ليثورن ثورة عنيفة، وليبيتن رهينة غضبه الكثير من الناس.»
فقالت الملكة وقد أذعنت للضرورة: «إذن لأذهبن» وتوقفت أديث عن المسير، غير مطمئنة، ترقب ما سوف تفعل الملكة.
وأسرع النسوة جميعا كما أرادت أديث، ولفت الملكة نفسها متعجلة في ملاءة كبيرة فضفاضة، وارت بها كل ما فاتها من أسباب التجمل، وفي هذا الستار - وأديث ونسوتها يتبعنها، ويتقدمها ويخلفها قليل من الضباط والرجال المسلحين - خفت إلى سرادق زوجها المستأسد.
الفصل السابع عشر
لو أن كل شعرة في رأسه حياة،
ولو أن أربعة أمثال هذه الشعرات عدا
تتضرع لكل حياة منها،
لبذلها جميعا حياة بعد حياة،
وتناقص عديدها كالكواكب قبل منبثق النهار،
أو كالمصابيح توقد في المآدب
وتشع الضياء على اللاهين في منتصف الدجى
ثم ينطفئ بريقها والحافلون يفصلون!
من رواية تمثيلية قديمة
تصدى للملكة برنجاريا عند ولوجها إلى داخل سرادق رتشارد أولئك الحجاب القائمون على الحراسة في السرادق الخارجي. وحقا لقد اعترضوا سبيلها باحترام وتقدير، إلا أنها تعطلت على أية حال، واستطاعت أن تستمع إلى الملك وهو يأمر من الداخل أمرا صارما بمنع دخولهن.
فقالت الملكة متوجهة إلى أديث، كأنها استنفدت كل ما تملك من وسائل الشفاعة «الآن ألا ترين أني كنت به عليمة ؛ إن الملك يأبى أن يستقبلنا.»
وسمعن إذ ذاك رتشارد يتحدث في الداخل إلى شخص ما ويقول: «اذهب واصدع بما تؤمر الآن أيها المولى، فإن في هذا لرأفة بك، ولك عشر بيزنطات لو قضيت عليه بضربة واحدة. استمع إلي أيها الشقي، راقبه وقل لي إن امتقع لون خده أو فترت عيناه، وخبرني بأدق ما تلحظ من لمحة في طلعته أو طرفة في عينه. إني أحب أن أعرف كيف تلقى النفوس الجريئة الموت.»
وأجابه صوت أجش عميق يقول: «تالله لو رأى ظباتي وهي تهتز عالية ولم يتقهقر لكان أول من يفعل ذلك.» ولطف من حدة هذا الصوت إحساس بالرعب لم يألفه، وأحاله إلى نبرات أكثر خفضا من نبراته الخشنة المعهودة.
فلم تستطع أديث أن تلزم الصمت بعد هذا وقالت: «إذا لم تشق جلالتك لنفسها طريقا فدعيني أفعل ذلك - وإن لم يكن لك، فلي على الأقل - أيها الحجاب، إن الملكة تريد أن ترى الملك رتشارد، الزوجة تريد أن تتحدث إلى زوجها.»
فقال الضابط وقد خفض عصاه «أيتها السيدة النبيلة، يحزنني أن أعترضك فيما تقولين، ولكن جلالة الملك مشتغل بأمور فيها حياة أو موت.»
فقالت أديث «ونحن كذلك نريد أن نكلمه في أمور فيها حياة أو موت. سأجعل لجلالتك مدخلا.» ثم أزاحت الحاجب جانبا بإحدى يديها وأمسكت السجان بالأخرى.
فقال الحاجب وقد أذعن لحدة هذه الحسناء صاحبة الحاجة «إني لا أجرؤ على معارضة رغبة جلالتها.» وألفت الملكة نفسها - والحاجب يخلي الطريق - مضطرة إلى دخول غرفة رتشارد.
وكان الملك مستلقيا على سريره، وعلى مقربة منه يقوم رجل كأنه يرتقب أمرا جديدا، ولم تكن مهمته مما يشق حدسه، فلقد كان يرتدي سترة قصيرة من القماش الأحمر لا تتدلى دون كتفيه إلا قليلا، تاركا ذراعيه عاريتين من منتصف ما فوق المرفق، وكان يكتسي معطفا أو صدرة بغير كم، يرتديه فوق ذلك حين يهم - كما هم الآن - بأداء واجبه الشاق، وهو أشبه بمعطف الرائد مصنوع من جلد الثور المدبوغ، ويلوث ظاهره نقط كثيرة كبيرة الحجم ولطخات حمراء قاتمة ؛ والسترة والصدرة فوقها تتدليان حتى ركبتيه، وجواربه السفلى - أو ما يغطي به ساقيه - من الجلد عينه الذي صنعت منه الصدرة، وله تقية من الشعر الخشن، يتخذها حجابا للنصف الأعلى من وجهه الذي يشبه وجه البوم الصياح، وتبدو عليه كالبوم الرغبة في الاختفاء عن النور. أما النصف الأدنى من محياه فتخفيه لحية كبيرة حمراء تختلط بخصلات مشعثة لونها من لون اللحية، أما ما بدا من ملامحه فعليه سيماء الفظاظة وبغض الناس، أما قامته فقصيرة، ولكنه قوي البنية، له رقبة ثور، وكتفان عريضتان، وساعدان بالغتا الطول لا تناسق فيهما، وجذع كبير مربع جدا، وساقان غليظتان عوجاوان. وكان هذا الموظف الشرس يرتكز على حسام تبلغ ظباته نحو أربعة أقدام ونصف قدم طولا، وطول مقبضه عشرون بوصة، وتحيط بالمقبض حلقة من خيوط الرصاص كي توازن ثقل مثل هذا السيف، ويرتفع المقبض كثيرا فوق هامة الرجل، وقد أسند الرجل ساعده فوق نصابه ينتظر إرشادا جديدا من الملك رتشارد.
ولما دخل النسوة على حين غرة، كان رتشارد مستلقيا على سريره ووجهه صوب الباب، مرتكزا على مرفقه وهو يتحدث إلى خادمه هذا البشع، فارتمى على الجانب الآخر مسرعا كأنه غاضب دهش، وولى ظهره الملكة وحاشيتها من النسوة، والتحف بغطاء سريره وهو يتألف من جلدي ليثين كبيرين، دبغا في البندقية بمهارة تدعو إلى الإعجاب، حتى أصبحا أشد نعومة من جلد الغزال، وهذا الغطاء ربما كان من انتقاء رتشارد نفسه، أو ربما كان على الأرجح قد اختاره له حجابه ملقا له ودهانا.
وكانت برنجاريا كما وصفنا تعرف جيدا طريقها إلى الظفر. وأي امرأة لا تعرف الطريق إلى الظفر؟ فبعدما ألقت نظرة عجلى، فيها رعب غير خاف ولا مصطنع من هذا الرفيق المروع، رفيق زوجها وهو في مجالسه الخاصة، اندفعت توا إلى جوار سرير رتشارد، وخرت على ركبتيها، ونزعت ملاءتها عن كتفيها، فبدت منها جدائل شعرها الذهبية الجميلة وقد استرسلت بتمام طولها. ومع أن طلعتها كانت تبدو كالشمس يشق ضياؤها ظلام السحب، إلا أن جبينها الشاحب كانت - رغم ذلك - تبدو عيله آثار السنا قد انطفأ بريقه. وبهذه الصورة أمسكت بيمين الملك، وكانت يمناه وهو يستعيد رقدته التي ألف مشتغلة بجذب غطاء السرير، ثم أخذت تجذب إليها يد الملك شيئا فشيئا بقوة قاومها الملك مقاومة طفيفة، حتى تملكت الساعد، وهو دعامة العالم المسيحي وفزع المشركين المنافقين. ولما أن استولت على زمام الساعد بين يديها الدقيقتين الجميلتين، ثنت جبينها عليه ولثمته بشفتيها.
فقال الملك ولما يزل منصرفا عنها برأسه، وإن تكن يده تحت سلطانها: «فيم هذا يا برنجايا؟»
فتمتمت برنجاريا قائلة: «اصرف هذا الرجل، إنه يقتلني بمرآه!»
فقال رتشارد وما عتم مشيحا بوجهه: «اغرب عنا أيها الخادم، فيم بقاؤك هنا؟ وهل يليق بك أن تنظر إلى هؤلاء السيدات؟»
فقال الرجل: «لتكن مشيئة مولاي.»
فأجاب رتشارد: «عني أيها الوغد! قاتلك الله.»
ثم اختفى الرجل بعدما رمق بنظره الملكة الحسناء وقد خلعت عنها رداءها، وبدا للعيان جمالها الطبيعي، وعلى شفتيه ابتسامة الإعجاب، وبسمته أبغض إلى النفس من عبوسه المألوف وكراهيته الساخرة لبني الإنسان.
ثم قال رتشارد: «والآن ماذا تريدين أيتها المرأة الحمقاء؟» واستدار بجسمه في أناة وشبه إباء نحو هذه الملكة المتضرعة.
وليس من الطبيعي لامرئ أيا كان - بله رجل كرتشارد يعجب بالجمال ويحله في المحل الثاني بعد المجد - أن ينظر بغير عاطفة إلى طلعة مخلوق جميل كبرنجاريا وإلى ترنحه وارتجافه، أو أن يحس بشفتيها وجبينها وهما على يده، وقد بللتها بالدموع، دون أن تفعم العاطفة قلبه، فأخذ الملك يلفت نحوها محياه المسترجل شيئا فشيئا، وفي عينيه الكبيرتين الزرقاوين اللتين كثيرا ما يشع منهما ضياء لا يحتمل، كل ما وسعتا في نظرات اللين والدعة، وأخذ يمسح برأسها الجميل، ويرسل أصابعه الكبيرة خلال فرعها الفاتن المسدول، ثم رفع جبينها الملائكي ولثمه برفق وصاحبته تبدي رغبتها في إخفائه في يده، وهذا الجسم الضخم، وذاك الجبين النبيل العريض، وتلك النظرات المهيبة، وذاك الساعد والكتف العاريتان، وجلود الأسد التي كان يستلقي عليها، وذلك المخلوق الضعيف الذي خر إلى جواره على ركبتيه، كل هذا يصح أن يكون تمثالا لهركيوليز ،
1
وقد اتفق وزوجه «ديمانيرا» بعد ما وقع بينهما من خلاف. «إني لأتساءل ثانية ماذا تريد سيدة قلبي في سرادق فارسها في هذه الساعة الباكرة التي لم تألف؟»
فقالت الملكة: «العفو، العفو، سيدي الكريم.» وقد تملكتها المخاوف ثانية، ولم يعد في وسعها أن تؤدي واجب الشفاعة.
فسألها الملك: «فيم العفو؟»
قالت: «العفو أولا عن مثولي لدى حضرتك الملكية بجرأة وبغير روية ...»
ثم سكتت عن الكلام.
فقال الملك: «أفتقولين إنك كنت جريئة! إذن فللشمس أن تطلب العفو عن تسرب أشعتها خلال النوافذ إلى جب مظلم ذميم؛ إنما أنا كنت مشتغلا بأمر لا يليق بك أن تشهديه يا سيدتي الكريمة، وفوق ذلك كنت لا أحب أن تخاطري بصحتك العزيزة إلى حيث حل المرض من منذ حين.»
فقالت الملكة: «ولكنك الآن بخير.» وأرجأت التحدث في الأمر الذي كانت تخشاه. «نعم إني بخير، وأستطيع أن أحطم الرمح فوق قمة رأس ذلك البطل الجسور الذي ينكر أنك أجمل سيدة في العالم المسيحي.» «إذن فلن تجحدني هبة واحدة ليس غير ... تلك هي حياة رجل مسكين؟»
فقال الملك وقد قطب الجبين: «ها! قولي ما تريدين.»
فتمتمت الملكة وقالت: «هذا الفارس الاسكتلندي البائس.»
فصاح بها رتشارد عابسا وقال: «لا تتكلمي بشأنه سيدتي، لسوف يموتن؛ إن قضاءه محتوم.» «كلا يا سيدي المليك ويا حبيب قلبي، ما هي إلا راية من حرير قد أهملها، ولسوف تعطيك برنجاريا راية أخرى طرزتها بيدها، راية ثمينة كأية راية أخرى داعبها الريح، سوف أحليها بكل ما أملك من جواهر، وسوف أذرف مع كل جوهرة دمعة شكر لفارسي الكريم!»
فعارضها الملك غاضبا وقال: «إنك تهرفين بما لا تعرفين؛ جواهر! أفتظنين أن جواهر الشرق جميعا تستطيع أن تكفر عن وصمة واحدة في شرف إنجلترا، أو أن كل ما بكت نساء العالم من دمع يمحو لطخة لحقت برتشارد؟ عني يا سيدتي واعرفي لنفسك مكانها وزمانها وحدودها، أما الآن فلدينا من الواجبات ما لا تستطيعين أن تساهمي فيه.»
فهمست الملكة قائلة: «هل سمعت هذا يا أديث؟ إنما نحن نثير كامن غضبه.»
فقالت أديث وقد تقدمت خطوة أو بعض خطوة: «ليكن ذلك، سيدي! أنا قريبتك المسكينة أطلب إليك عدلا ورحمة، ولصوت العدالة يجب أن تتفتح آذان الملوك في كل حين وفي كل زمان وتحت كل ظرف.»
فهب رتشارد من مرقده، واستقام في جلسته على جانب السرير، وادثر بدثاره الأحمر وقال: «هيه! ابنة عمي أديث؟ والله إنك لتنطقين أبدا بما ينطق الملوك، ولسوف أجيبك كما يجيب الملوك؛ إنك ما أتيت إلي بمطلب لا يليق بكرامتك.»
وكان جمال أديث عليه مسحة أشد فطنة وأقل شهوة مما يبدو على الملكة، ولكن الجزع والفزع قد رسما على محياها وميضا كانت تفتقر إليه أحيانا، وكان على طلعتها سيماء الوقار والنشاط، حتى لقد فرضت بمرآها السكون لحظة من الزمن على رتشارد نفسه، الذي كان فيما يبدو على ملامحه يود لو يعارضها. قالت: «سيدي، إن هذا الفارس الكريم الذي توشك أن تريق دماءه قد أدى في حياته خدمة للعالم المسيحي، وإنه لم يقصر في واجبه إلا لأن مكيدة قد دبرت له في ساعة ساد فيها لهو عقيم أخرق؛ بعث إليه برسالة سيدة - وما لي لا أفوه باسمها؟ باسمي أنا - فأغوته هذه الرسالة على أن يترك مكانه لحظة - وأي فارس في معسكر المسيحيين لا يتخطى واجبه إلى هذا الحد انصياعا لإرادة فتاة، مهما كانت ضعيفة من بعض صفاتها، فإن دم بلانتاجنت يجري في عروقها؟»
فقال الملك وقد عض على شفتيه كي يكبح جماح غضبه: «وهل رأيته يا ابنة عمي؟»
فقالت أديث: «أجل لقد رأيته يا مولاي، وليس لي الآن أن أبوح بما بعثني على ذلك، ولست هنا لأبرئ نفسي أو أعذل غيري.» «وإني صنعت فيه هذا الجميل؟» «في سرادق جلالة الملكة.»
فقال رتشارد: «في سرادق زوجي الملكة! برب السماء، وبالقديس جورج الإنجليزي بكل قديس صعد إلى القبة الزرقاء، لقد أتيتن شيئا إدا! إني لاحظت على هذا المقاتل قحته في إعجابه بسيدة تعلوه كثيرا وأغضيت عن ذلك، ولم أضن عليه بأن تسبغ عليه واحدة من ذوات قرباي مثل هذا الهوى وهي في عليائها كما ترسل الشمس من علاها على الدنيا الضياء، ولكن وحق الأرض والسماوات كيف رضيت له أن يمثل لديك ليلا، وفي خيمة زوجنا الملكية! وكيف تجسرين على أن تتقدمي بهذا معذرة له على عصيانه وإهماله في واجبه! وروح أبي يا أديث لتكفرن عن هذا حياتك في الدير!»
فقال أديث: «مولاي، إن عظمتك تجيز لك الظلم، ولكن شرفي يا سيدي المليك - كشرفك - لم يمسه أحد. وتستطيع مولاتي الملكة أن تشهد بذلك إن شاءت. ولكني قلت لك من قبل إني لست هنا لأبرئ نفسي أو أتهم غيري، إني أضرع إليك أن تمد إلى رجل ارتكب إثمه تحت تأثير الإغراء الشديد، تلك الرحمة التي سوف تلتمسها أنت نفسك يا سيدي المليك يوما من حكم أعلى ولآثام ربما كانت أقل من هذي حقا بالغفران.»
فأجاب الملك بحرارة وقال: «أهذي أديث بلانتاجنت، أديث بلانتاجنت العاقلة النبيلة؟ أم امرأة مريضة بالحب، لا تبالي بشرف اسمها من أجل حياة عشقيها؟ والآن أقسم بروح الملك هنري لن يصرفني شيء عن أن آمر بأن يؤتى بجمجمة حبيبك من المقصلة، وأن تعلق حلية دائمة على الصليب في بيتك!»
فقالت أديث: «لو بعثت بها من المقصلة كي توضع على مرأى مني أبدا، فلسوف أقول إنها أثر لفارس كريم ساقه إلى الموت عنوة وجورا رجل ...» (ثم كبحت جماح نفسها وقالت) «رجل لا أقول عنه إلا أنه كان ينبغي أن يعرف خيرا من هذا كيف يجزي الشهامة.» ثم أردفت وقد زادت من حدتها وقالت: «إنك تقول إنه كان عشيقي؟ حقا لقد كان لي حبيبا وحبيبا غاية في الإخلاص، ولكنه لم يتقرب إلي بنظرة أو كلمة، واكتفى بمثل تلك الرعاية وذلك الخضوع الذي يقدمه للقديسين الرجال، ولكن هذا الرجل الطيب، هذا الرجل الجسور، هذا الرجل المخلص، ينبغي أن يموت من أجل ذلك!»
فهمست الملكة قائلة: «مهلا، مهلا، ورفقا به، إنك إنما تزيدين من الإساءة إليه!»
فردت أديث قائلة: «إني لا أبالي، إن العذراء البتول لا تخشى الليث الثائر، لينفذ في هذا الفارس الكريم إرادته، فإن أديث التي يموت من أجلها تعرف كيف تندب ذكراه، ولن يكلمني أحد بعد هذا عن حلف سياسي ويطلب إلي عقده بهذه اليد الضعيفة. ما كان لي - وكيف يكون لي؟ - أن أكون له عروسا في الحياة. إن بيني وبينه في المرتبة فراسخ، ولكن الموت يزاوج بين الرفيع والوضيع. إني منذ الآن قرينة قبره.»
وأوشك الملك أن يجيبها غاضبا، لولا أن راهبا من كرمل دخل الغرفة مسرعا ورأسه مكمم، وجسمه مستتر في عباءة طويلة وقلنسوة من القماش المخطط من النسيج الخشن الذي يميز مذهبه الديني، وخر على ركبتيه أمام الملك، وناشده بكل كلمة وشارة مقدسة أن يوقف إنفاذ الحكم.
فقال رتشارد: «أقسم بمهندي وصولجاني لقد تآمرت الدنيا على جنوني! فكل غافل وكل امرأة وكل راهب يعترضني في كل خطوة أخطو؛ كيف يعيش هذا الرجل حتى الآن؟»
قال الراهب: «مولاي الكريم، لقد توسلت إلى لورد جلزلاند أن يوقف الإعدام حتى أرتمي لدى جلالتكم ...»
فقال الملك: «وهل بلغت به صلابة الرأي أن يمنحك مطلبك؟ ولكن ما هذا إلا جانب من عناده المألوف. والآن ما تريد أن تقول؟ هيا وقل لي باسم الشيطان!» «مولاي، إن لدي لسرا عميقا - ولكني أخفيه بحق الاعتراف - وإني لا أجرؤ على التحدث به أو حتى على الإيماء إليه، ولكني أقسم لك بحياتي المقدسة، بهذا الرداء الذي أرتدي، «بإلياس» المبارك الذي وضع لنا الأساس، وهو ذلك الرجل الذي انتقل إلى جوار ربه دون أن يعاني ما يعاني الناس من آلام الموت. أقسم لك أن هذا الشاب قد فشا لي سرا، إن بحت به إليك عدلت عدولا تاما عن هذه الغاية القاضية التي فرضت عليه.»
فقال رتشارد: «أبي الكريم، إن هذا السلاح الذي أمتشق الآن من أجل الكنيسة ليشهد بإجلالي لها؛ بح لي بهذا السر، ولسوف أفعل ما أراه لائقا في هذا الشأن، ولكني لست رجلا أعمى البصيرة أعمل بغير روية إن أهاب بي رجل من رجال الدين، لست «كبيارد» العاجز أقفز في الظلام إذا استحثني قس أو قسان.»
فطرح القس عنه قلنسوته وحلته الخارجية، وكشف تحت الحلة عن كساء من جلد الماعز، وتحت القلنسوة عن وجه استوحش ونحل من أثر الجو والصيام والتوبة، حتى بات أشبه بصورة من هيكل عظمي تسري فيه الروح منه بوجه الإنسان، ثم قال: «مولاي، لقد تقشفت عشرين عاما في كهوف عين جدة حتى أضعفت هذا الجسد الذميم تكفيرا عن ذنب عظيم ارتكبت، فهل تظن أني - وأنا ميت في هذه الدنيا - أدبر زورا أو بهتانا أعرض بهما روحي للخطر، أو هل تظن أن رجلا أقسم يمينا غليظة على أن يجانب الإثم، رجلا مثلي ليس له في هذه الدنيا أمل واحد يعقد به رجاءه - وذلك أن نعيد للكنيسة المسيحية بناءها - هل تظن أن رجلا مثلي يفشي سر الاعتراف. إن كليهما بغيض لنفسي.»
فأجابه الملك «إذن فأنت ذلك الناسك الذي يتحدث عنه الناس كثيرا، إني أقر بأنك شديد الشبه بتلك الأرواح التي تسري في الأرض الخلاء، ولكن رتشارد لا يخشى ماردا ولا عفريتا. وما إخالك إلا ذلك الرجل الذي بعث أمراء المسيحية إليه بهذا الجارم كي تفاوض السلطان في وقت أنا فيه طريح فراش المرض، وأنا أول من تنبغي مشورته في هذا الأمر؛ فلتطمئن وليطمئنوا، إني لن أضع رقبتي في سم نطاق رجل من كرمل. أما رسولك فسوف يموت، وهو بالموت العاجل أحق وأجدر بعد شفاعتك له وتضرعك.»
فقال الناسك وقد ملكت عاطفته نفسه: «بارك الله فيك يا مولاي الملك! إنك والله لتخلق شرا، سوف تود في مقتبل الأيام لو أنك أقلعت عنه، حتى ولو كلفك هذا شلوا من أشلائك. ليكن رجلا مندفعا أو أعمى، ولكني أضرع إليك أن ترفق به.»
فصاح به الملك، وقد ضرب الأرض بقدميه: «عني، عني! لقد أشرقت الشمس على عار إنجلترا ولما ننتقم له. أيتها السيدات وأيها القس، اغربوا إن أردتم ألا تسمعوا أمرا يسيء إليكم، لأني بحق القديس جورج أقسم ...»
فأجابه صوت رجل دخل إذ ذاك السرادق وقال: «لا تقسم!»
فقال الملك: «ها! هذا طبيبي النطاسي قد أقبل يستجدي سخاءنا.»
كلا، إنما أطلب التحدث إليك فورا في أمور ذات بال.» «أنظر أيها الحكيم إلى زوجتي، ودعها تعرف فيك رجلا أبقى لها زوجها.»
فأطبق الطبيب ساعدا فوق الأخرى، ليظهر التواضع والاحترام على الطريقة الشرقية، وأطرق ببصره نحو الأرض، ثم قال: «ليس لي أن أنظر إلى جمال لا يحجبه قناع، جمال يذود عنه رونقه وبهاؤه.»
فقال الملك: «إذن فلتتراجعي يا برنجاريا، وأنت يا أديث تراجعي كذلك؛ كلا، لا تعيدي على مسمعي لجاجتك! هذا ما أمنحكما: ليبق نفاذ الحكم حتى تبلغ الشمس رابعة النهار. اذهبا بهذا مطمئنتين، اذهبي يا عزيزتي برنجاريا.» ثم ألقي نظرة بعثت الرعب حتى في نفس أديث قريبته الجريئة وقال: «اذهبي إن كنت حكيمة.»
فانسحب النسوة، أو قل خففن من السرادق، وقد نسين المراتب والرسوم وهن كسرب الطير البري نزل به باز منذ حين فاختلط الحابل فيه بالنابل.
عدن من هنا إلى سرادق الملكة، كي يسترسلن في أسفهن ومهاترتهن، وليس في هذا أو ذاك ما يجدي. وكانت أديث وحدها من بينهن تستخف بضروب الأسى هذه التي ألفن، فوقفت بخدمة الملكة لا تتنهد ولا تبكي ولا تنبس بكلمة لوم أو تأنيب، وقد أبدت الملكة - لضعفها - أسفها، في نزوات كنزوات الجنون شديدة على النفس، وفي صحيات حارة كأنها عليلة آدتها العلة، وفي غضون ذلك كانت أديث تقوم بخدمتها بكل ما وسعت من جهد، بل وبكل ما في نفسها من حب.
وقالت «فلوريس» إلى «كالستا» رئيستها في خدمة الملكة «محال أنها أحبت هذا الفارس؛ إنا كنا خاطئات؛ ما هي إلا آسفة على قضائه كما تأسف على غريب حلت به المصائب من أجلها.»
فأجابتها زميلتها، وهي أكثر منها خبرة وأشد تأدبا «صه، صه؛ هي من ذلك البيت الفخور، بيت بلانتاجنت، الذي ما يقر أبناؤه قط بأن الأذى يحزنهم. قد يصيب الواحد منهم جرح مميت يدمي حتى الموت، ولكنك ترينه مع ذلك يضمد أخداشا خفيفة يكابدها أقرانه من ذوي القلوب الواهنة. فلوريس! لقد أخطأنا خطأ كبيرا، وإني من جانبي أود لو بذلت كل ما أملك من جواهر لو أصبحت فكاهتنا هذه كأنها لم تكن.»
الفصل الثامن عشر
هذا أمر يتطلب من الشمس والمشتري وساطة الكواكب،
ولكن هذين النجمين العاليين
بأنفيهما شامخان، وفي الخيال سابحان،
وما أكثر ما يكلفاننا
حتى ينصرفا عن فلكيهما،
وينزلا لرعاية الأحياء.
البومازار
سار الناسك خلف النسوة من سرادق رتشارد، يتبعهن كما يتبع الطفل شعاعا من الضياء حينما تنطلق السحب على وجه الشمس. ولما بلغن الباب أدار وجهه ورفع يده نحو الملك يحذره، ووقف وقفة التهديد والوعيد وهو يقول: «الويل لمن ينبذ مشورة الكنيسة وينصرف إلى «ديوان» الكفرة الدنس! أيها الملك رتشارد، إني لما أنفض التراب عن قدمي وأفصل عن مقامك - والسيف لما يهو - وإنما هو معلق بشعرة. أيها الملك الغطريس، سوف نلتقي ثانية.»
فرد عليه رتشارد وقال: «ليكن ذلك أيها القس الغطريس، وأنت في جلد الماعز أشد صلفا من الأمراء في لباس الكتان الأرجواني الرقيق.»
ثم اختفى الناسك عن الفسطاط، وأردف الملك موجها خطابه للعربي وقال: «هل للدراويش في الشرق أيها الطبيب الحكيم مثل هذه الألفة مع الأمراء؟»
فقال «أدنبك» مجيبا: «الدرويش إما حكيم أو مجنون، وليست هناك طريق بين بين لمن يلبس «الخرقة» ويسهر الليل ويصوم النهار، ولذا فهو إما حكيم يستطيع أن يتأدب، ويحرص وهو في حضرة الأمراء، أو رجل لا يحمل تبعة ما يفعل لأن الله لم يمنحه نعمة العقل.»
فقال رتشارد: «يخيل إلي أن أكثر رهباننا قد اتخذوا لأنفسهم هذه الصفة الأخيرة، ولكن دعنا من هذا ولنتكلم فيما أتيت من أجله. كيف لي أن أدخل السرور على نفسك أيها الطبيب العالم؟»
فامتثل الحكيم للملك امتثاله الشرقي الخاشع، وقال: «أيها الملك العظيم، اسمح لخادمك أن ينبس بكلمة واحدة لا يموت بعدها، إني أذكرك أنك مدين للوسطاء من الكواكب، ولا أقول لي؛ فما أنا إلا أداة لها خاضعة، أفيد منها وأنفع الأحياء وأرد لهم حياة ...»
فعارضه الملك قائلا: «وأنا أكفل لك أن أجازيك حياة بحياة، فهل هذا ما تريد؟»
فقال الحكيم: «هذي ضراعتي المتواضعة للملك رتشارد العظيم؛ هي حياة هذا الفارس الكريم، الذي قضي عليه بالموت من أجل إثم كذلك الذي ارتكب آدم أبو البشر.»
فعبس الملك قليلا وقال: «وهلا ذكرتك حكمتك أيها الحكيم أن آدم قد مات من أجل خطيئته.» ثم شرع ينقل الخطى في حيز فسطاطه الضيق، وقد غلبه الانفعال وأخذ يحدث نفسه، ثم قال: «رحماك اللهم، لقد عرفت فيم أتى حينما دخل الفسطاط! هنا حياة واحدة بائسة حكم عليها عدلا بالإعدام، وأنا ذلك الملك المقاتل الذي قتل الألوف بأمر منه، والعشرات بيده، ليس لي سلطان على تلك الحياة، مع أن شرف سلاحي وبيتي ومليكتي قد لوثته جريمة الآثم، وحق القديس جورج إن هذا ليضحكني! وبحق القديس «لويس» إنه ليذكرني بقصة «بلندل والقصر المسحور» حيث وقفت في وجه الفارس البائس أشكال وجسوم متتابعة لا شبه بين بعضها وبعض، ولكنها جميعا تناصبه فيما أراد العداء، ما إن اختفى واحد منها حتى بدا له آخر؛ زوجة، ثم قريبة، ثم ناسك، ثم حكيم، إذا ما انهزم منهم واحد تصدى للدفاع آخر. ماذا؟ والله إني إذن لفارس أوحد ينازل حشدا بأسره في ساحة الوغى. ها! ها! ها!» ثم أخذ رتشارد يضحك ضحكات عالية، وبدأ فعلا يبدل من حال نفسه حالا أخرى، لأنه كان في حنقه عادة شديدا عنيفا بحيث لا يستطيع أن يبقى كذلك طويلا.
وإذ ذاك رنا إليه الطبيب بنظرة دهشة لا تخلو من الازدراء والاستخفاف، لأن أهل الشرق لا يتسامحون في مثل هذه التغيرات المتقلبة في المزاج، ويظنون الضحك الصراح - مهما كان الظرف - محطا بكرامة الرجل، ولا يليق إلا بالنساء والأطفال. وأخيرا لما أن استقرت نفس الملك، خاطبه الحكيم وقال: «إن حكم الموت لا يصدر عن شفتين ضاحكتين، وما يخال خادمك إلا أنك قد منحت الرجل حياته.»
فقال رتشارد: «لك أن تنال الحرية لألف أسير عوضا عنه، ولك أن تعيد من شئت من بني جلدتك إلى خيامهم وأهلهم، وسوف أمنحك هذا بغير توان، ولكن حياة هذا الرجل لا تجديك شيئا، وقد صدر فيها القضاء وانتهى الأمر .»
فقال الحكيم وقد مد يده إلى قلنسوته: «إن حياتنا جميعا إلى الضياع ولكن الإله الأعظم الذي وهبنا الحياة بنا رحيم، وهو لا يسلبنا ودائعه عنوة وبغير أوان.»
فقال رتشارد: «وهل لك صالح خاص في التوسط بيني وبين إنفاذ العدالة التي أقسمت لها كملك على رأسه تاج؟»
فقال الحكيم: «إنك أقسمت أن تقيم الرأفة كما تقيم العدل، وإنما أنت أيها الملك العظيم ترمي إلى تنفيذ إرادتك الخاصة، ولتعلم أن حياة الكثير من الرجال تتوقف على جودك بالعفو في هذا الأمر الذي أتضرع إليك فيه.»
فقال رتشارد: «أفصح عن القول، ولا تظنن أنك سوف تفرض علي إرادتك بباطل دعواك.»
فقال «أدنبك»: «ما أبعد خادمك عن هذا، ولتعلمن إذن أن الدواء الذي تدين له بالشفاء أنت يا سيدي الملك وكثيرون غيرك ما هو إلا طلسم، تألف والسماء في برج خاص، ونجوم السماء ميمونة الطالع، ولست إلا رسولا لفضائله، أغمسه في قدح من الماء، وأرقب الساعة التي تليق بالمريض أن يتناوله فيها، ثم تفعل الجرعة فعلها بما فيها من قدرة على الشفاء.»
فقال الملك: «أندر بهذا من دواء وأنجع به! ولما كان بوسع الطبيب أن يحمله في حقيبته، فإنه يوفر عليه قافلة بأسرها من البعير قد يحتاج إليها لحمل العقاقير والأدوية، وإني لأعجب إن كان هناك غير هذا الدواء دواء يتعاطاه الناس.»
فأجاب الحكيم في رزانة وغير اضطراب يقول: «لقد كتب على الناس ألا يسيئوا إلى الدواب التي تحملهم من ساحة القتال؛ ولتعلم أن أمثال هذه التمائم يمكن حقا أن تسطر، ولكن قل من النطاسيين من جرؤ على الانتفاع بفضائلها؛ إذ إن الحكيم الذي يستخدم هذا الضرب من العلاج ينبغي له أن يتعرض لقيود شديدة وشروط أليمة، وللصوم والتكفير العنيف، ولو فاته أن يشفي ما لا يقل عن اثني عشر شخصا كل شهر إهمالا منه، أو حبا للدعة والراحة، أو لاسترساله في الشهوات الحسية، فإن مزية هذه الهبة الإلهية تسقط عن التميمة، ويتعرض الطبيب ومريضه الأخير كلاهما لنكد الطالع يحل بهما سريعا، ولن يبقى بعد الحول أحدهما على قيد الحياة، وقد بقيت لي حياة واحدة أبلغ بها العدد المضروب.»
فقال الملك: «اذهب أيها الحكيم الكريم إلى المعسكر حيث تجد هناك الكثير، ولا تفكر في أن تسلب جلادي أسراه، فإنه لا يليق بطبيب له مكانتك أن يتدخل في عمل غيره، وفضلا عن ذلك فإني لا أرى كيف أن إنقاذ جارم من الموت الذي يستحق يتم لدوائك هذا المعجز قصته.»
فقال الحكيم: «إن استطعت أن تريني كيف أن جرعة من الماء البارد قد جلبت لك الشفاء حيث باءت بالفشل أنفس العقاقير، إذن فلك أن تفكر في العجائب الأخرى التي تتعلق بهذا الأمر. أما أنا فلست قمينا بهذا العمل العظيم؛ إذ إني لمست هذا الصباح حيوانا دنسا، وإذن فلا توجه إلي بعد هذا سؤالا، وحسبك أن تعرف أنك إن استبقيت لهذا الرجل حياته إذعانا لرجائي، أنقذت خادمك ونفسك أيها الملك العظيم من خطر جسيم.»
فأجاب الملك قائلا: «استمع إلي يا «أدنبك»، إني لا أعترض على الأطباء يراوغون في الحديث ويزعمون أنهم يستمدون من النجوم علما، ولكنك حينما تريد رتشارد بلانتاجنت على أن يخشى خطرا ينزل به من طيرة سقيمة، أو لإهمال في المواصفات، فلست تخاطب رجلا سكسونيا جاهلا، أو امرأة عجوزا خرفة تتخلى عن هدفها لأن أرنبا يعبر الطريق، أو لأن غرابا أسحم ينعب أو قطا يعطس.»
فقال «أدنبك»: «ليت بوسعي أن أقف بينك وبين ريبتك فيما أقول، ولكن ليعلم سيدي المليك أن الحق على لسان خادمه؛ هل ترى عدلا أن تحرم الدنيا وكل بائس يعاني مما أصابك أخيرا من آلام ألزمتك الفراش، من نفع هذه التميمة ذات الفضل العظيم، ولا تمد عفوك إلى رجل واحد آثم بائس؟ هل ترى يا جلالة الملك أنك - وقد استطعت أن تقتل الألوف - لا تستطيع أن ترد إلى رجل واحد صحته. إن للملوك لقوة الشيطان على التعذيب، وللحكماء قدرة الله على الشفاء، إن كنت لا تستطيع أن تفعل الخير للإنسانية فحذار أن تقف في سبيلها. إنك تستطيع أن تفصل الرأس عن الجسد، ولكنك لا تستطيع أن تعالج سنا موجعة.»
وتكلف الحكيم في حديثه نغمة الترفع، بل الإشراف والتسلط، فشد الملك من أزر نفسه وقال: «إن هذه لقحة منك، بل وأكثر من قحة؛ لقد اتخذناك لنا طبيبا لا ناصحا ولا على الضمائر قائما.»
فقال الحكيم: «وهل هكذا يرد أعلى أمراء الفرنجة فضلا أصاب شخصه الكريم؟» وبدل من وقفته الخاشعة الذليلة، التي وقف حتى ذاك متضرعا إلى الملك، وقفة الشامخ الآمر، ثم قال: «فلتعلم إذن أني سوف أذيع في كل بلاط في أوروبا وآسيا - لكل مسلم ونصراني، ولكل فارس وسيدة، وحيثما يضرب على وتر أو يمتشق حسام، وأنى يستحب الشرف ويمقت الخزي والعار - أن الملك رتشارد جحود ضيق الفكر، وستبلغ فضيحتك هذه كل بلد لم يسمع باسمك - إن كان هناك منها ما هو كذلك!»
فأجاب رتشارد وقد أفج في خطاه نحوه غاضبا وقال: «هل هذه شروط تشرطها علي أيها الرجل؟ هل كللت من حياتك؟»
فقال الحكيم: «دق عنقي! إذن ليبخسن عملك قدرك أكثر مما تستطيع كلماتي، وإن كان لكل منها لدغ الزنبور.»
فأشاح رتشارد عنه بوجهه هائجا، وقد أطبق ساعديه، وعبر السرادق من جانب إلى آخر كما فعل من قبل، ثم صاح: «جحود ضيق الفكر؟ إذن فلتصمني بالجبن والكفر! أيها الحكيم، لقد أعطيت سؤلك، وإني وإن كان خيرا لي أن تطلب إلي جواهر تاجي، ليس لي كملك أن أنكر عليك ما أردت. خذ هذا الاسكتلندي إذن تحت حفظك، وسيسلمك إياه السجان على هذه البينة.»
ثم خط مسرعا سطرا أو سطرين وسلمهما إلى الطبيب.
ثم قال: «واستخدمه لديك عبدا رقيقا، وتصرف في أمره كيفما شئت، ولكن حذره من أن يأتي تحت بصر رتشارد. استمع إلي، فأنت رجل حكيم، إنه جاوز الجرأة بين أولئك اللائي نودع شرفنا في جميل محياهن وضعف كلمهن، كما تودعون أنتم أهل الشرق كنوزكم في صناديق من سلوك الفضة دقيقة رقيقة كخيوط الشمس.»
فاستعاد الحكيم لتوه في أسلوب خطابه ذلك الاحترام الذي بدأ به وقال: «إن خادمك يدرك كلمات مليكه. إذا تلوث البساط النفيس أشار الأحمق إلى ما يشوبه، وستره الرجل الحكيم بعباءته. لقد سمعت ما يريد مولاي، وما سمعي إلا طاعة.»
فقال الملك: «خير له أن يبقي على سلامته، وألا يظهر في حضرتي بعد هذا. هل هناك أمر آخر أستطيع أن أدخل به السرور على نفسك؟»
فقال الحكيم: «والله لقد ملأ الملك بسخائه كأسي حتى حافتها. أجل لقد كان جودك غزيرا كتلك العين التي انبثقت وسط مخيم بني إسرائيل حينما ضرب موسى بن عمران الحجر بعصاه.»
فقال الملك باسما: «أجل ولكن هذا الجود قد تطلب - كما تطلبت الصحراء - ضربة قوية فوق الصخر قبل أن يخرج ما به من كنوز، والله لوددت لو أني عرفت ما أسرك به، إذن لوهبتك طائعا كما تلفظ العين الطبيعية ماءها.»
فقال الحكيم: «دعني ألمس هذه اليد الظافرة، ليكون في ذلك دليل على أن «أدنبك» الحكيم، لو طلب بعد هذا إلى رتشارد ملك إنجلترا مطلبا، فله أن يفعل ذلك على أن يتوسل ويضرع فيما يريد.»
فأجابه رتشارد قائلا: «لك يدي وقفازها فوقها أيها الرجل، ولكنك إن استطعت أن تتم قصة مرضاك سليمة دون أن تطلب إلي أن أنقذ من العقوبة من حقت عليه، لدفعت إليك ديني في صورة أخرى، وأنا أشد رغبة وأكثر اختيارا.»
فأجاب الحكيم قائلا: «مد الله في أيامك!» ثم خرج من الغرفة بعدما امتثل خاضعا خاشعا كما ألف.
ولما هم بالرحيل، نظر إليه الملك رتشارد نظرة لا تنم عن الرضا بكل ما فات.
ثم قال: «ما أعجب هذا الحكيم في إصراره، وما أغرب هذه الفرصة التي ساقته كي يتدخل بين ذلك الاسكتلندي الجريء وبين ما حق عليه من جزاء هو الحق، ولكن ليعش هذا الرجل! فإنه شجاع يستحق الحياة. والآن ما بال ذلك النمساوي؟ ها! هل بارون جلزلاند خارج الفسطاط؟»
وما إن صاح الملك هكذا بتوماس دي فو، حتى هرول وأظلم مدخل السرادق بجسمه الضخم، ووراءه ناسك عين جدة بصورته الوحشية، متلفعا في عباءة من جلد الماعز، يتسلل كأنه طيف من الأطياف، لم يدعه للمثول أحد ولم يعارضه أحد.
ولم يلحظ رتشارد وجوده، فصاح بالبارون في صوت مرتفع وقال: «أي سير توماس دي فو صاحب «لانركست» و«جلزلاند»، اصحب معك البوق والمنادى، واذهب توا إلى خيمة ذك الذي يسمونه أرشدوق النمسا، وارتقب حتى يكون احتشاد فرسانه وأتباعه حواليه على أشده - وهو ما سيكون، على ظني، في هذه الساعة، لأن هذا الخنزير الألماني يتناول طعام الإفطار قبل الصلاة - وامثل لديه بقليل من الاحترام بقدر ما تستطيع، واتهمه باسم رتشارد ملك إنجلترا بأنه قد اختطف هذا المساء بيده، أو بيد غيره، راية إنجلترا من فوق عصاها، ثم قل له إنا نريد - قبل أن تنقضي ساعة بعد هذه اللحظة التي أحدثك فيها - أن يعيد الراية بكل احترام، وأن يعيدها بنفسه مصحوبا بكبار الأمراء المحيطين به برءوس عارية وبغير ثياب الشرف، وأنه فوق ذلك ينبغي أن يضرب إلى جوار رايتنا من ناحية رايته، راية النمسا مقلوبة كأنها أشينت بالسرقة والخيانة العظمى، وأن يضرب من الناحية الأخرى رمحا يحمل رأس ذلك الرجل اللعين الذي نصح له بهذه الإساءة الدنيئة. وقل له إنه إن قام بإنفاذ إرادتنا هذه في حينها، فسوف نعفو عن خطاياه الأخرى، حفظا لليمين التي أقسمنا، ومراعاة لخير الأرض المقدسة.»
فقال توماس دي فو: «وماذا لو أن دوق النمسا أنكر كل صلة له بهذا العمل السيئ الأثيم.»
فأجاب الملك قائلا: «إذن فقل له إنا سوف نثبته على جثمانه؛ أي والله، حتى ولئن كان بطلاه الجريئان بنصرته، إنا سوف نثبت عليه هذا ونحن كالفرسان على ظهور الخيل، أو ونحن راجلين، في الفلاة أو في الميدان، وله أن يختار الزمان والمكان والسلاح كما يريد.»
فقال بارون جلزلاند: «فكر يا مولاي في سلامة الله والكنيسة، وفي أولئك الأمراء المشتغلين بالحرب الصليبية المقدسة.»
فأجابه رتشارد وقد نفد منه الصبر: «فكر أنت يا مولاي الكريم كيف تصدع بأمري، والله إني لإخال الرجال يظنون أنهم سوف يصرفوننا عن مرمانا بأنفاسهم، كما تنفخ الأطفال الريش فتطوح به هنا وهناك. سلامة الكنيسة! بربك قل لي من ذا الذي يرعى لها حرمة؟ إن سلامة الكنيسة بين الصليبيين معناها محاربة العرب، وقد هادنهم الأمراء، وفي هدنتهم قضاء على سلامة الكنيسة، وفضلا عن ذلك هلا ترى كيف أن كل أمير منهم يرمي إلى غرضه الخاص؟ فسوف أقصد أنا كذلك إلى مرماي، وما ذاك إلا الاحتفاظ بشرفي. وما أتيت إلى هنا إلا من أجل الشرف، فإن لم أنله على حساب الأعراب، فلا أقل من ألا أضيع ذرة منه من أجل هذا الدوق الخسيس، حتى وإن تحصن واحتمى بكل أمير في الحرب الصليبية.»
فهم دي فو بالانصراف إذعانا لأمر مليكه، ولكنه هز بكتفيه، إذ إنه - لصراحة طبعه - لم يستطع أن يخفي أن مشيئة الملك لا تتفق وما يرى؛ ولكن ناسك عين جدة تقدم إلى الأمام ووقف وقفة رجل يحس بعلو مرتبته على مراتب الملوك. وحقا لقد كان بزيه الخشن الجلدي، ولحيته وشعره الأشعث غير المشذب، وملامحه الهزيلة الوحشية المعوجة، وتلك النار التي توشك أن تكون نار الجنون تشع من تحت حاجبيه الكثين، كان بكل هذا أشبه ما يكون بالصورة التي ترتسم في أذهاننا عن هيئة نبي من أنبياء الكتاب المقدس، وقد كلف برسالة عالية يبلغها ملوك «يهوذا» أو بني إسرائيل الآثمين، فهبط من ثنايا الصخور وظلام الكهوف التي كان يقطنها منعزلا فريدا، كي يخزي الظالمين فوق الأرض وهم في معمعان كبريائهم، وذلك بأن ينزل بهم من رب السماء سخطه ونقمته، كما يرسل من السحاب الصواعق يسوقها ينزلها فوق الحصون والقصور، قممها وبروجها. وكان رتشارد - مهما اشتد عناده وصلابته - يحترم الكنيسة ورجالها. ولئن ساءه دخول الناسك سرادقه فلقد حياه - رغم ذلك - باحترام وإجلال، ولكنه أشار إلى سير توماس دي فو في ذات الوقت أن يسارع برسالته.
ولكن الناسك، بالإشارات والنظرات والكلمات، منع البارون من أن يسير في رسالته هذه ذراعا واحدة، ورفع ساعده العارية - وقد سقطت عنها عباءة جلد الماعز، وانطرحت إلى الخلف من عنف حركته - وهز بها إلى أعلى، وهي من قلة الغذاء نحيلة، ومن أثر السياط في تكفيره الشديد جريحة . ثم قال: «باسم الله وأبينا الذي يتقدس في اسماء، وباسم خليفة الكنيسة المسيحية في الأرض، أنا أنهى عن هذا التحدي الدموي الوحشي الدنس بين أميرين مسيحيين، ترتسم على كتفيهما العلامة التي أقسما تحتها ليحافظان على الإخاء. الويل لمن يحنث في هذي اليمين! أي رتشارد ملك إنجلترا، ارجع عن هذه الرسالة التي حملتها هذا البارون، فإنها حرام ما بعده حرام. إن الخطر والموت على كثب منك، والخنجر مصوب نحو حلقك!»
فأجاب الملك شامخا بأنفه وقال: «الخطر والموت زميلان يلعب معهما رتشارد، وكم من ضربة سيف لم يكترث لها، فهو لا يخشى بعد هذا الخناجر.»
فقال الكاهن مجيبا: «الخطر والموت منك قريبان.» ثم انخفضت نغمات صوته، وأصبحت جوفاء كأنها من غير هذه الدنيا وقال: «وبعد الموت الحساب!»
فقال رتشارد: «أيها الأب الصالح المقدس، إني أجل شخصك وطهارتك.»
فعارضه الناسك وقال: «لا تجلني، وإنما أجل من قبلي أدنى حشرة تزحف على شطآن البحر الميت وتطعم على مدرها الكريه، وأجل ذلك الذي أبلغك أمره؛ أجل ذلك الذي أقسمت لتنقذن قبره، وأجل يمين التضامن التي أقسمت، ولا تقطعن خيط الوحدة والإخلاص الفضي الذي ربطت نفسك به مع زملائك الأمراء.»
فقال الملك: «أيها الأب الصالح، إنما أنتم رجال الكنيسة تزعمون لأشخاصكم المقدسة - إن جاز لرجل علماني أن يقول بهذا - شيئا من الكرامة، وإني - دون أن أنازعكم حقكم في السيطرة على ضمائرنا - أرى أنه يجدر بكم أن تتركونا نسهر على شرفنا.»
فكرر الناسك لفظ الملك وقال: «نزعم لأنفسنا! ليس لي أيها الملك رتشارد أن أزعم، وما أنا إلا جرس مطواع في يد خادم الكنيسة؛ ما أنا إلا بوق لا يحس ولا قيمة له، يبلغ صوت ذلك الذي ينفخ فيه. انظر إلي، ها أنا ذا أخر أمامك على ركبتي متضرعا إليك أن ترأف بالعالم المسيحي وبإنجلترا وبنفسك!»
فقال له رتشارد وقد أكرهه على الوقوف: «انهض من مكانك، انهض. لا يليق بركبتيك اللتين جثوت عليهما لله كثيرا أن يمسا الأرض إجلالا لإنسان من البشر. أي خطر ذلك الذي يرتقبنا أيها الأب المبجل؟ ومتى كانت قوة إنجلترا بهذه الذلة بحيث تنزعج، أو يأبه ملكها لهذا الشغب الصاخب يثيره غضب هذا الدوق المحدث؟» «لقد أرسلت النظر من برجي فوق الجبل إلى جيوش النجوم في السماء، وكل واد منها ينبس بالحكمة للآخر وهو يدور دورته في منتصف الليل، وينطق بالعلم للقليل من بني الإنسان الذين يدركون أصوات النجوم. مولاي الملك، إن في «منزل الحياة» عدوا لك يتربص بذكرك وبرفاهيتك، وينبعث من زحل نذير يتهددك بالخطر العاجل الدامي، وإن لم تسلم جبروت إرادتك لحكم الواجب فسيسحقك سريعا، وأنت في عنفوان كبرك وصلفك.»
فقال الملك: «عني، عني، إن هذا إلا علم المشركين، علم لا يمارسه المسيحيون ولا يصدق به الحكماء، وإنما أنت أيها الرجل الهرم تهرف وتقول هراء.»
فأجاب الناسك قائلا: «أنا لا أهرف يا رتشارد، ولست بالرجل السعيد، وإنما أنا أعرف حالي، وأعرف أني ما فتئ لي شعاع من نور العقل أستخدمه لا لنفعي، وإنما لصالح الكنيسة ورفع الصليب. أنا ذلك الرجل الأعمى الذي يحمل النور لغيره ولا يستضيء به. سلني عما يتعلق بخير العالم المسيحي والحرب الصليبية أحدثك كأحكم ناصح ما فارقت لسانه قط الهداية والإرشاد، وحدثني عن حياتي التعسة تجد كلماتي كلمات المعتوه المنبوذ، وما أنا إلا كذلك.»
فقال رتشارد وقد خفض من نغم كلامه وأسلوب حديثه: «لن أفصم عرى الوحدة بين الأمراء الصليبيين، ولكن أية معذرة يقدمون لي للظلم والإهانة التي عانيت؟» «وفي ذلك أنا على أهبة أن أتحدث إليك، وقد فوضني في هذا الشأن المجمع، بعد أن التأم على عجل - بدعوة من فيليب ملك فرنسا - وأصدر في هذا الأمر قراره.»
فأجاب رتشارد: «عجيب أن يتشاور الآخرون في أمر هو من حق جلالة إنجلترا الجريحة!»
وأجاب الناسك بقوله: «هم يريدون أن يتعرفوا مطالبك إن أمكن هذا، وهم جميعا متفقون على أن راية إنجلترا ينبغي أن ترد إلى جبل سنت جورج، ويحبون أن يحكموا بالإدانة والحرمان على ذلك الآثم الجريء، أو أولئك الآثمين الجسورين، الذين انتهكوا حرمتها، وسيعلنون عن ثواب جزيل لمن يفضح جرم الآثم، ثم يقدمون لحمه طعاما للذئاب والغربان.»
فقال رتشارد: «وما الرأي في دوق النمسا الذي تلابسنا أقوى الظنون بأنه هو الذي فعل ذلك الصنيع؟»
فرد عليه الناسك قائلا: «إن دوق النمسا سوف يخضع لما يفرض عليه بطريق بيت المقدس من محن، كي يزيل ما يحيط به من الظن والريبة، وذلك كي لا ينشب في صفوف الجيش خلاف.»
فقال الملك رتشارد: «وهل بالنزال يبرئ نفسه؟»
فأجاب الناسك: «إن اليمين التي أقسم تحرم عليه ذلك، وفضلا عن هذا فإن جميع الأمراء ...»
فعارضه رتشارد وقال: «إن مجمع الأمراء لا يبيح قتال الأعراب ولا قتال أحد من غير الأعراب؛ حسبك هذا أيها الأب، لقد أبنت لي عن الخطأ في متابعة هذا الأمر كما رسمت من قبل. والله لأقرب إليك أن توقد في حمأة الأمطار مشعلك من أن تستخرج من هذا الجبان ذي الدم البارد شرارة من نار. إن النمسا لن تنال شرفا، ولذا فلندعه وشأنه، ولكني - مع ذلك - سوف أجعله يحنث في يمينه، وسوف ألح في امتحانه. والله لسوف يضحكني أن أستمع إلى أصابعه تطقطق حينما يقبض على كرة الحديد المصهورة! أي نعم ولسوف يضحكني أن أرى فمه الكبير يتشقق، وحلقه ينتفخ من الاختناق وهو يحاول أن يبتلع الخبز المقدس!»
1
فقال الناسك: «مهلا، مهلا يا رتشارد، هدئ ثائرة نفسك خجلا إن لم يكن إحسانا! من ذا الذي يمدح أو يكيل الشرف للأمراء الذين يسبون ويثلبون بعضهم بعضا؟ وا أسفاه على مخلوق نبيل مثلك، شب على خواطر الملوك وجسارتهم، وخليق به أن يشرف العالم المسيحي بعمله، وأن يحكمه بحكمته، وهو أهدأ منك الآن مزاجا. وا أسفاه على رجل مثلك يصيبه غضب الأسد الهمجي المتوحش، ممزوجا بالوقار والإقدام وهما من صفات ملك الغاب!»
ولبث لحظة يتدبر ويتأمل وعيناه صوب الأرض، ثم استأنف حديثه وقال: «ولكن الله الذي يعرف عجز طبائعنا، يتقبل منا طاعتنا على نقصها، وقد استأخر نهاية حياتك الجريئة الدامية، ولكنه لم يعدل عنها. لقد وقف ملك الموت ساكنا - كما وقف في قديم الزمان إلى جوار المكان الذي كان يدق فيه «أرونا جبوست» الحنطة - وبيده ظباة مجردة، سوف يكون بها عما قريب رتشارد قلب الأسد وضيعا كأحط فلاح من المزارعين.»
فقال رتشارد: «وهل نهايتي هكذا قريبة جدا! إذن ليكن ذلك. اللهم إن كانت حياتي قصيرة فلتجعلها مضيئة مستنيرة.»
فقال الرجل صاحب الخلوة، وكأن دمعة - وهي له زائر غير معهود - كانت تتجمع في عينه البراقة الجافة: «وا أسفاه أيها الملك النبيل! إن المدى الذي يفصل ما بينك وبين القبر مظلم، عليه سمات الفناء والنكبة والأسر، والقبر فاغر فاه ليبتلعك، وهو قبر سوف توارى فيه دون أن يعقبك خلف، أو يذرف عليك شعبك الدمع رثاء عليك، وقد أنهكته بحروب موصولة غير مقطوعة، ولم تمد في علم رعيتك أو تفعل شيئا يزيد من سعادتها.» «ولكن حياتي لم تخل من بعض الصيت أيها الراهب، ولم تحرم دمعات المرأة التي أحب! وإن في هذا لعزاء لرتشارد حتى مماته، عزاء لا تستطيع أنت أن تعرفه أو تدركه.»
فأجابه الناسك في نبرة كان لها - مدى برهة من الزمن - رنين أشبه ما يكون بنبرة رتشارد نفسه وحميته، وقال: «أنا لا أعرف ذلك، ولا أستطيع أن أدرك قيمة ما يمتدحك به الشعراء، وما لحب غادتك من قدر!» ثم واصل حديثه وقد مد ذراعه الهزيلة وقال: «أي ملك إنجلترا، إن الدم الذي يغلي في عروقك الزرقاء ليس أشد نبلا من ذلك الي يركد في عروقي، ولئن كانت قطرات دمي قليلة فهي من دم «الوزجنان» الملكي، هي من دم «جدفري» البطل المقدس. أنا «ألبريك مرثمار»، أو لقد كان اسمي حينما كنت في هذه الدنيا.»
فقال رتشارد: «أنت ذلك الرجل الذي تتمشدق بذكره الأبواق! أفهذا صحيح؟ وهل يجوز ذلك؟ هل يمكن لضوء كضوئك أن يهبط من أفق الفروسية، ويبقى - مع ذلك - الناس وهم بالمكان الذي استقر فيه هذا الضياء جاهلون؟»
فقال الناسك: «لئن بحثت عن نجم إذا هوى، ما وجدت إلا سديما قاتما كانت له - وهو يشق الأفق - صورة زاهية بهية برهة من الزمن . أي رتشارد، تالله لو كنت بتمزيق الحجاب الدامي، الذي أستر به سرا مفزعا أستطيع أن أطأطئ قلبك الشامخ لنظام الكنيسة، إذن لألفيت في صدري قصة أقصها عليك، وقد أبقيتها حتى الآن تقرض في عروق الحياة في الخفاء، وأنا كالشاب الوثني الذي كرس لدينه قلبه. أصغ إلي إذن يا رتشارد، جعل الله للأسى واليأس - وهما لن يجدياني فتيلا - من القوة ما يجعلها مثلا لكائن مثلك، كائن هو رغم توحشه نبيل شريف؛ نعم، لأكشفن عن جراح لبثت في الخفاء أمدا طويلا، لأكشفن عنها رغم أنها ربما تدمى حتى أموت وأنا في حضرتك!»
ثم أخذ الملك رتشارد يستمع - وكله احترام - إلى موجز قصة فيها ما يكفي للإبانة عن سبب شبه الجنون الذي أصاب ذلك الإنسان الفريد البائس. وقد كان لتاريخ «البريك مورثمار» على رتشارد فيما مضى أثر قوي في سنيه الباكرة، حينما كان المنشدون يملئون قاعات أبيه طربا وسرورا بما يروون من قصص عن الأرض المقدسة.
وقال الناسك: «لست بحاجة إلى أن أخبرك بأني كنت كريم المولد، سعيد الطالع، قوي السلاح، حكيم المشورة، فلقد كنت كذلك، ولكن بينما كان أنبل السيدات في فلسطين يتسابقن: أيهن تضفر الأكاليل لرأسي، كان حبي معقودا بفتاة من مرتبة وضيعة انعقادا لا يحول ولا يلين، هي فتاة أبوها جندي قديم من جنود الصليب، رأى ما بين قلبينا من عاطفة، وعرف ما بيننا من فرق؛ فلم ير لشرف ابنته ملاذا غير أن يسوقها إلى ظل الدير. ولما عدت من حملة بعيدة محملا بغنائم الشرف، ألفيت سعادتي وقد تهدمت إلى أبد الآبدين! فقصدت أنا كذلك إلى الدير، ونفخ الشيطان في قلبي - وكان يظنني من أتباعه - نفسا من روح الكبرياء، وما إخاله إلا منبعثا من أعماق جحيمه، وارتفعت إلى مرتبة عالية في الكنيسة، كما ارتفعت في الدولة من قبل - ولقد كنت حقا رجلا حكيما مستقلا منزها عن الخطأ! - وأنى لي أن أخشى الإغراء؟ يا ويلتي! لقد بت معرفا
2
للراهبات، وبين هاتيك الراهبات ألفيت تلك التي أحببت طويلا، وفقدت من زمن بعيد . بربك إلا أغنيتني عن الاعتراف بأكثر من هذا! إن راهبة ساقطة كفرت عن إثمها بالانتحار ترقد هادئة في لحدها في عين جدة، وفوق قبرها يتمتم ويئن ويزأر مخلوق لم يبق له من العقل إلا ما يكفي لأن يجعله يحس بشقائه كل الإحساس!»
فقال رتشارد: «أتعس بك من رجل! إني لن أعجب لبؤسك بعد هذا. قل لي كيف خلصت من الحكم الذي يقضي به الشرع في مثل جرمك هذا؟»
فقال الناسك: «سل في هذا رجلا ما برح شغوفا بهذه الدنيا المريرة يحدثك عن حياة بقيت لأسباب خاصة ولاعتبار النسب الكريم، ولكن إن سألتني أنا يا رتشارد أقل لك إن العناية الإلهية قد أبقتني كي ترفعني إلى العلا منارا وهدى، وبعدما يحترق مني هذا الوقود الدنيوي تتبدد رفاتي في النار. هذا الجسد الذي تراه ذاويا ضامرا يسري فيه روحان، أحدهما فعال ثاقب نافذ يدفع عن قضية الكنيسة في بيت المقدس، والآخر وضيع حقير بائس، يتذبذب بين الجنون والبؤس، يبكي شقائي ويسهر على الآثار المقدسة، والآثار التي إن أنا رمقتها بعيني كنت آثما جارما. بربك لا تشفق علي! إن هو إلا إثم أن تشفق على ضياع شيء دنيء كهذا. لا تشفق علي وأفد من مثالي. أنت تقف فوق أعلى قمة يشغلها أمير مسيحي، ولذا أنت في أشد المواقف خطرا. أنت متكبر في نفسك، متهاون في حياتك، دام في يدك، أبعد عنك الذنوب التي هي منك بمثابة البنين! انف من صدرك هذا الغضب وذلك الكبرياء والترف والتعطش للدماء، مهما تك هذه العواطف عزيزة على الإنسان الآثم فيك!»
فتحول رتشارد ببصره عن هذا الرجل الناسك، والتفت إلى دي فو، كأنه أحس ببعض الألم من هذا التهكم الذي لم يستطع له ردا، وقال: «إنه يهذي.» ثم التفت إلى الناسك في سكينة وهدوء، وفي شيء من الازدراء والاستخفاف، وقال: «إنك قد وجدت أيها الأب المبجل سربا من حسان البنات
3
لرجل لم يتزوج إلا منذ أشهر قلائل، ولما كان من واجبي أن أبعدهن عن ظل بيتي ، فقد زودتهن بأزواج يليقون بهن، كما يفعل الآباء ببناتهم، فتخليت عن كبريائي لشرف الكنيسة الكريم، وعن ترفي - كما تقول - لرهبان الدير، وعن تعطشي للدماء لفرسان المعبد.»
فأجابه الناسك وقال: «إن لك لقلبا من الصلب، ويدا من الحديد، لا يجديهما نصح أو مثال! - ومع ذلك فلسوف نعطيك فرصة من الزمن، ربما تحولت بعدها وفعلت ما يرضي الله في سمائه - أما أنا فينبغي لي أن أعود إلى مكاني. رحماك اللهم! أنا ذلك الرجل الذي تخترقه أشعة الرحمة الإلهية، كما تخترق أشعة الشمس العدسة الحارقة، ثم تتجمع فوق جسوم أخرى فتشتعل الجسوم وتلتهب، بينما تبقى العدسة باردة ما بها أثر. رحماك اللهم! لقد نبذ الغني المأدبة، فللفقير أن يتقدم. رحماك اللهم!»
ولم يكد يتم حديثه حتى انطلق من السرادق يصيح صياحا عاليا، وهذه الصيحات الجنونية من الناسك محت من ذهن رتشارد شيئا من الأثر الذي تركه تفصيل ماضيه وأرزائه الخاصة، فقال الملك: «تالله إنه لقس معتوه! اتبعه يا دي فو، وراقبه كي لا يصيبه أذى، لأنا وإن كنا صليبيين، إلا أن للمشعوذ بين سوقتنا تقديرا فوق تقدير القس أو القديس، وربما ألحقت به السوقة بعض المهانة.»
فصدع الفارس بالأمر، وأفسح رتشارد لتوه في المجال للخواطر التي أوحت بها نبوءة الراهب الساذجة، فقال محدثا نفسه: «هل أموت عاجلا ولا يخلفني من بعدي ولد، ولا يبكي على باك؟ أثقل به من حكم، والحمد لله على أنه حكم لم يصدر عن قاض كفء قدير. ومع ذلك فالأعراب، الذين بلغوا الذروة في علم الروح، كثيرا ما يقولون إن الله - الذي ليست حكمة الحكماء في تقديره إلا حمقا وجهلا - يوحي بالحكمة والكهانة في ثنايا الخبل البادي على المعتوهين من الرجال. إن ذلك الناسك يقال عنه كذلك إنه يقرأ النجوم، وهو فن كثيرا ما يمارس في هذه البلاد التي كانت فيها جيوش السماء من قديم الزمان موضع العبادة. وددت والله لو أني سألته في شأن ضياع رايتي فليس «تشبيت» المبارك ذاته مؤسس مذهبه بأكثر منه صراحة وسذاجة، أو يتكلم مثله بلسان أشبه ما يكون بلسان نبي.» «والآن ماذا رأيت يا دي فو، وما خبر هذا القس المعتوه؟»
فأجابه دي فو قائلا: «هل تقول عنه يا مولاي إنه قس معتوه؟ والله إني لإخاله أشبه ما يكون ب «العمدان» نفسه حينما خرج من القفر مباشرة، لقد اعتلى آلة من الآلات الحربية، وأخذ من فوقها يعظ الجند موعظة لم ينطق بها منذ بطرس الناسك إنسان، وقد ذعر المعسكر من صياحه، فتجمع الخلق حوله ألوفا ألوفا، وهو بين الحين والآخر يحيد عن مجرى حديثه الأول، ويخاطب الشعوب العديدة كلا بلسانه، ويرميهم بأحسن ما يستفزهم من برهان كي يثابروا على تخليص فلسطين.»
فقال الملك رتشارد: «وحق هذا النور إنه لناسك نبيل! ماذا عسى أن يصدر من دم «جدفري» غير ذلك؟ هل هو من السلامة يائس لأنه عاش بالحب في سالف أيامه؟ لأطلبن إلى البابا أن يبعث إليه بالمغفرة الكاملة، ولن أكون أنا نفسي أقل رغبة من أن أتوسط له، حتى وإن كانت معشوقته الحسناء من الراهبات.»
وإذ هو يتحدث كذلك إذا بأسقف صور يلتمس المثول لديه، كي يرجوه أن يحضر - إن سمحت له صحته - جلسة سرية سوف يعقدها زعماء الصليبيين، وكي يشرح له الحوادث الحربية والسياسية التي وقعت إبان مرضه.
الفصل التاسع عشر
إذن فلنغمد سيوفنا ولما تزل ظافرة،
ولنرجع إلى الوراء بخطانا بعد أن سرنا بها قدما،
ووطأنا بها طريق المجد صعدا،
فوق رقاب الخصوم.
ولننزع من فوق أكتافنا زرد الحديد،
وقد أقسمنا أغلظ الأيمان في بيت الله لنحملنه،
يمينا لم توفى،
كوعد الحاضنات لأطفالهن في القرى،
يهدئنهم به حينا،
ثم من بعد لا يذكرون.
من مأساة «الحروب الصليبية»
كان أسقف صور خير رسول لإبلاغ رتشارد نبأ لو سمعه الملك قلب الأسد من رجل آخر ما أطاق سمعه دون أن ينفجر غاضبا انفجارا لا حد له، وحتى هذا الأسقف الحكيم الجليل لم يكن باليسير عليه أن يغري الملك بالإصغاء إلى ذلك النبأ الذي هدم كل آماله في استرداد القبر المقدس بقوة السلاح، والفوز بتلك الشهرة التي كان صوت العالم المسيحي قاطبة يتأهب لمنحه إياها كبطل الصليب.
ولكن بلاغ الأسقف كان يتبين منه أن صلاح الدين كان يجمع قوى قبائله المائة جميعا، وأن ملوك أوروبا - وقد كانوا من قبل لكثير من بواعث هذه الحملة كارهين، هذه الحملة التي دلت الأيام على أنها مغامرة شديدة، والتي كان خطرها يتفاقم يوما بعد يوم - قد اعتزموا أن يتنحوا عن مقصدهم، وشد من أزرهم فيما قصدوا إليه مثل فيليب ملك فرنسا، الذي أعرب عن عزمه على العودة إلى أوروبا، بعدما قدم البرهان على احترامه لأخيه ملك إنجلترا، وأكد أنه سوف يطمئن على سلامته قبل الرحيل. وبات على مثل هذا العزم تابعه الأكبر أمير شمبانيا، وليس عجيبا أن يرحب ليوبولد أمير النمسا - وقد ألحق به رتشارد الذلة والإهانة - بفرصة تمهد له هجران هذه الحرب التي كان يعد خصمه المتصلف لها زعيما؛ وأعلن الآخرون مثل هذه النية، حتى بات جليا أن ملك إنجلترا إن أحب البقاء فسيخلونه، ولا معين له غير أولئك المتطوعين الذين قد ينضمون إلى الجيش الإنجليزي في مثل هذه الظروف السيئة، وغير معونة غير أكيدة يقدمها كنراد منتسرا والجنود من رجال المعبد ورجال القديس يوحنا، وهؤلاء جميعا - رغم أنهم قد أقسموا ليشهرن حربا على الأعراب - كانوا على الأقل لا يقلون عن سواهم غيرة من أي ملك أوروبي تتم له الغلبة على فلسطين؛ حيث كانوا، من قصر النظر ومن سياسة تقوم على حب الذات، يطمعون في إنشاء ولايات مستقلة لهم.
ولم يحتج الأسقف إلى نقاش طويل كي يبين لرتشارد حقيقة موقفه، وبعدما انفجر الملك ثائرا غاضبا أول الأمر، استوى على مقعده هادئا ساكنا؛ وبنظرات كئيبة ورأس مطأطئ، وذراعاه على صدره منطبقتان، أخذ يصغي للحجج التي أدلى له بها الأسقف على استحالة مواصلة الحرب الصليبية بعد تخلي أقرانه عنه، بل لقد أمسك الملك عن اعتراض الأسقف، حتى حينما بلغت بهذا الرجل الجرأة على أن يلمع في عبارة متزنة إلى أن اندفاع رتشارد كان من الأسباب القوية التي بغضت الأمراء في الحملة .
فنظر رتشارد نظرة كئيبة، وابتسم ابتسامة حزينة، وأجاب قائلا: «إني أقر أيها الأب الوقور، بأنه ينبغي لي في بعض الظروف أن «أعترف بخطئي»، ولكن أليس شديدا علي أن ألقى على ضعف جبلتي مثل هذا الجزاء، وأن يقضى علي، لثورة أو ثورتين انفجرت بهما لانفعال طبيعي في نفسي، بأن أرى مثل هذه الثمار النفيسة، ثمار المجد لله والشرف للفروسية، تتبدد قبل أن تتجمع؟ ولكنها سوف لا تتبدد. أقسمت بروح المنتصر الجبار لأرفعن الصليب فوق بروج بيت المقدس أو ليرفعن فوق قبر رتشارد!»
فقال الأسقف: «لك أن تفعل هذا، ولكن لن تراق بعد اليوم في هذا الصراع قطرة واحدة من دماء المسيحيين.»
فقال رتشارد: «إنك يا سيدي الأسقف تتحدث عن الصلح، ولكن دماء الكلاب المنافقين ينبغي كذلك أن تتوقف عن السريان والتدفق.»
فأجاب الأسقف قائلا: «حسبنا فخارا أن نستخلص من صلاح الدين بقوة السلاح، وبما يوحيه ذكرك من تقدير، شروطا نسترد بمقتضاها القبر المقدس توا، ونفتح للحجاج الأرض المقدسة، ونضمن لهم سلامهم بقوي الحصون، وفوق هذا وذاك نؤكد سلامة المدينة المقدسة بأن يمنح رتشارد لقب ملك بيت المقدس وحاميه.»
فتطاير الشرر من عيني رتشارد بدرجة غير مألوفة وقال: «كيف هذا؟! أنا! أنا! أنا أكون ملك المدينة المقدسة وحاميها؟! إن هذا إلا النصر عينه، ولن نكسب بالظفر في القتال أكثر من هذا، بل وقل أن نبلغ هذا بقوانا المشتتة التي لا إرادة لها. ولكن صلاح الدين ما برحت له مآرب يرمي إلى الاحتفاظ بها في الأرض المقدسة، أليس كذلك؟»
فأجاب الأسقف: «إنما يحتفظ بها كملك شريك وحليف، أقسم ليخلصن لرتشارد العظيم، وإن شئت فقل لصهره بصلة الزواج.»
فدهش لهذا الخبر رتشارد دهشة أقل مما كان يتوقع الأسقف وقال: «بصلة الزواج! ها! أي نعم، أنت تعني أديث بلانتاجنت. هل نما إلي هذا في حلم من الأحلام؟ أم هل نبأني به إنسان؟ والله إن عقلي ما يزال من أثر الحمى مضطربا ثائرا ضعيفا. ترى من ألمع لي بهذه الصفة الهمجية؟ آلاسكتلندي، أم الحكيم ، أم ذلك الناسك المقدس؟»
فقال الأسقف: «الراجح أنه ناسك عين جدة، لأنه جاهد في هذا الأمر كثيرا، ومذ تبين له تبرم الأمراء، وأن تشتت قواهم أمر لا مناص منه، أكثر من الاجتماع بالمسيحيين والمسلمين للتشاور معهم، كي يمهد لهذا الصلح الذي يحقق للعالم المسيحي جانبا على الأقل من أغراض هذه الحرب المقدسة.»
فتطاير الشرر من عيني رتشارد وصاح عاجبا: «إمرأة من دمي لرجل مسلم؟ ها!»
فسارع الأسقف إلى صرفه عن غضبه وقال: «لا ريب أنه ينبغي لنا أن نحصل أول الأمر على رضا البابا، وسوف يفاوض أبانا المقدس في هذا ذلك الناسك القديس المعروف في روما.»
فقال الملك: «كيف يكون هذا قبل أن يصدر منا الرضا والقبول؟»
فقال الأسقف وفي صوته نغمة التهدئة والإيعاز: «كلا لن يكون ذلك إلا بتصديق خاص منك.»
فقال رتشارد: «تريدون رضاي عن زواج فتاة من دمي لرجل من المنافقين؟» ولكنه كان يتكلم بنغمة تلمس فيها الشك أكثر مما تلمس اللائمة الصريحة على هذا المقترح، ثم قال: «والله ما حلمت بمثل هذا التآلف حينما وثبت من مقدم سفينتي ووطأت أرض سوريا كما يثب الليث لفريسته. والآن! ولكن دعني من هذا، وواصل حديثك فسوف أستمع إليك صابرا.»
وقد سر الأسقف حين ألفى مقصده من المليك أشد يسرا مما كان يخشى، فبادر إلى عرض الأمثلة لرتشارد من أشباه هذا التحالف في إسبانيا مما لم تتم بغير رضا السدة البابوية، وإلى سرد المزايا العديدة التي سوف يظفر بها العالم المسيحي من توثيق العرى بين رتشارد وصلاح الدين برباط له كل هذه القداسة. وفضلا عن ذلك كان الأسقف يتكلم بحماسة شديدة وروح ديني عن احتمال اعتناق صلاح الدين للمسيحية لو تم هذا الحلف المقترح.
فقال رتشارد: «وهل أبدى السلطان ميلا إلى اعتناق المسيحية؟ إن كان هذا كذلك، فليس على وجه الأرض ملك أمنحه يد قريبتي، بل أختي، قبل أن أقدمها لصاحبي صلاح الدين النبيل؛ أي والله، حتى وإن جاء الأول يقدم التاج والصولجان تحت قدميها، وجاء صلاح الدين خالي الوفاض لا يملك غير سيفه الكريم وقلبه الطيب!»
فقال الأسقف مراوغا بعض المراوغة: «لقد استمع صلاح الدين إلى معلمينا المسيحيين، وأصغى إلى شخصي الضعيف كما أصغى إلى غيري. ولما كان يصغي صابرا، ويجيب هادئا، فما إخال ذلك إلا لأنه كان ينتزع نفسه كما ينتزع الميسم من النار. ولقد قيل: «ما أعظم الحق وما أشد سلطانه.» وفضلا عن ذلك فإن ناسك عين جدة - وهو ذلك الرجل الذي قلما صدرت عنه كلمات لم تثمر - على يقين تام بأن بين الأعراب ومن إليهم من المشركين رأيا بأن هذا الزواج سوف يكون له أثره. إنه يقرأ مسالك النجوم، ولما كان يقطن، زاهدا في شهوات الجسد، في تلك الأماكن المقدسة التي وطأها القديسون في قديم الزمان، فقد تلبس بروح «أليجا تشبيت» مؤسس مذهبه المبارك، كما تلبس بها من قبل «إليشع» الرسول حينما نشر فوقه عباءته.»
وأصغى الملك رتشارد للحجج التي أدلى بها الأسقف بعين كسيرة، ونظرة كليلة.
ثم قال: «إني لا أستطيع أن أقول ما شأن هذا بي، ولكني أظن أن هذه الآراء الباردة، آراء أمراء العالم المسيحي، قد أصابتني كذلك بفتور روحي؛ لقد انقضى وقت لو أن رجلا علمانيا تقدم لي فيه بمثل هذا الحلف لطرحته أرضا، ولو تقدم لي به رجل من رجال الكنيسة لبصقت في وجهه على أنه كافر ومن قساوسة «بعل»، ولكن هذا الرأي منهم الآن ليس غريبا على مسمعي، وإني لأقول: مالي لا أسعى في إخاء العربي ومحالفته، وهو رجل شجاع عادل كريم، يحب عدوه الفاضل ويجله، كأنه له صديق، بينما يتنحى أمراء العالم المسيحي عن جانب حلفائهم ويهجرون قضية الله والفروسية الطيبة؟ ولكني سوف أتمالك الصبر ولا أفكر بعد فيهم؛ لن أقوم بعد هذا إلا بمحاولة واحدة كي أبقي على تماسك هذه الأخوة السامية إن أمكن ذلك، ولو فشلت فيها يا سيدي الأسقف، فلنتحدث معا في أمر مشورتك، التي لا أقبلها الآن في الظرف الراهن ولا أنبذها كل النبذ. هيا بنا إلى المجمع يا سيدي، إن الوقت ينادينا. إنك تقول إن رتشارد عجول متغطرس، سوف تراه يذل نفسه كذلك العشب الوضيع الذي يشتق منه لقبه.»
ثم خف الملك يساعده رجال غرفته الخاصة، وارتدى صدرة وعباءة سوداء لونها رسمي، ولم يلبس من شارات الأبهة الملكية غير حلقة من ذهب يطوق بها رأسه، ثم سارع وأسقف صور كي يحضر المجمع الذي كان منعقدا ينتظر قدومه كي يبدأ جلسته.
وكان السرادق الذي يلتئم فيه المجمع فسطاطا فسيحا، تنتشر أمامه راية كبيرة عليها شارة الصليب، وأخرى ترتسم عليها امرأة جاثية على ركبتيها، شعرها غير ممشوط، وزيها غير مهندم، قصد بها أن تمثل كنيسة بيت المقدس المقفرة المنكوبة وكانت تحمل هذا الشعار: «لا تنس محنتك.» ووقف لدى هذا الفسطاط جماعة من الحراس عني باختيارهم، واتخذوا جميعا أمكنة بعيدة عن السرادق كي لا يتسرب الجدل - وكان أحيانا يعلو ويعصف - إلى آذان غير تلك التي أريدت به.
وفي هذا المكان اجتمع الأمراء الصليبيون، ولبثوا ينتظرون قدوم رتشارد؛ وحتى هذا التأخير الوجيز الذي اعترض رتشارد، فسره خصومه تفسيرا لا يرضيه، وأخذوا يتداولون فيما بينهم أمثلة عديدة من تكبره واستعلائه عليهم استعلاء لا مبرر له، حتى إن هذا التأخير الراهن القصير، الذي لم يكن للملك مندوحة عنه، قد سيق مثالا لذلك، وأخذ الرجال يجاهدون في تأييد بعضهم بعضا في هذه الآراء السيئة عن ملك إنجلترا، ويبررون الأخطاء التي ارتكبوها من قبل بالمبالغة في أتفه الأمور. وربما كان ذلك كله لأنهم كانوا يحسون بتقدير غريزي لهذا الملك البطل، تقدير يتطلب لمغالبته مجهودا غير عادي.
ولذا فقد قر بينهم الرأي على أن يستقبلوه حين مقدمه بقليل من الرعاية، ولا يولونه احتراما أكثر من مجرد ما ينبغي للمحافظة على حدود الحفاوة الباردة؛ ولكنهم ما إن رأوا تلك الهيئة النبيلة، وتلك الطلعة الملكية وعليها أثر من شحوب المرض الذي انتابه أخيرا، وتلك العين التي أطلق عليها المنشدون اسم النجم اللامع في مواقع القتال والظفر، وما إن هاجمت ذاكرتهم مآثره التي تكاد تفوق شجاعة الإنسان وطاقة البشر، حتى هب مجمع الأمراء جميعا في آن واحد - وحتى ملك فرنسا الغيور، ودوق النمسا المكتئب المستاء هبا راضيين - وانفجر الأمراء الحاشدون جميعا في صوت واحد مهللين هاتفين: «سلام الله على الملك رتشارد ملك إنجلترا! وليحي قلب الأسد الجسور!»
وبجبين واضح جلي كشمس الصيف المشرق، أخذ رتشارد ينثر شكره يمنة ويسرة، وهنأ نفسه على عودته ثانية بين إخوانه أمراء الحرب الصليبية.
ثم خطب الحاشدين وقال: «إنه كان يريد أن يقول كلمة موجزة حتى وإن تكن في أمر - كمثله - تافه زهيد، مخاطرا بتأجيل تشاورهم في صالح العالم المسيحي بضع دقائق، وبإيقاف تقدمهم في مشروعهم المقدس.»
فعاد الأمراء المجتمعون كل إلى مقعده، وسار بينهم جميعا سكون عميق.
واستطرد ملك إنجلترا الخطاب وقال: «اليوم عيد كبير للكنيسة، وما أجدر رجالا مسيحيين - في مثل هذا الظرف - أن يزيلوا ما بينهم وبين إخوانهم من خصومة، وأن يعترف كل منهم بخطئه. أيها الأمراء النبلاء ويا آباء الحملة المقدسة، إن رتشارد إلا جندي، ولقد كانت يده أبدا أخف من لسانه - وقد ألف لسانه خشن اللفظ - ولكني أتوسل إليكم ألا تتنحوا عن الغرض النبيل الذي قصدتم، عن تخليص فلسطين، لما يلقي بلانتاجنت من كلام طائش، ويعمل من فعال تخرج عن اللياقة. بالله لا تنبذوا حسن الذكر في الدنيا والخلاص في الآخرة - ولكم هنا مجال لإحرازهما إن كان لإنسان أن يحرزهما - من أجل جندي قد يكون عجولا في فعاله، شديدا في كلامه كالحديد الذي لبسه منذ نعومة أظفاره. إن كان رتشارد قد قصر في حق أحدكم، فرتشارد سوف يعوض ذلك بالفعل واللفظ. أي أخي ملك فرنسا النبيل، هل كان في سوء طالعي يوما أن أسأت إليك؟»
فأجاب فيليب وعليه جلال الملك: «إن جلالة فرنسا لا تطلب الكفارة من جلالة إنجلترا.» ثم صافح بيده يد رتشارد - وقد مدها إليه - وقال: «ومهما يكن رأيي في شأن مواصلة ما شرعنا فيه، فهو رأي يقوم على أسباب نشأت عن حال مملكتي، ولا ريب في أنه لم يقم على غيرة أو بغض لأخي المليك أشجع الشجعان.»
ثم سار رتشارد نحو دوق النمسا ، وفي نفسه مزيج من الصراحة والوقار، بينما نهض ليوبولد من مقعده، وكأنه كاره، وتحرك كما تتحرك الآلة الميكانيكية يتوقف مسيرها على دافع خارجي. وقال الملك: «إنما دوق النمسا يحسب أن لديه ما يبرر استياءه من ملك إنجلترا، وملك إنجلترا يرى أن لديه من الأسباب ما يدعو إلى الشكاية من النمسا، إذن فليتبادلا العفو حتى يبقى السلم في أوروبا، ويبقى التضامن بين هذه الصفوف سليما لا ثلمة فيه. نحن الآن جميعا نصراء لراية أعلى مجدا من أية راية رفرفت يوما أمام أمير من أمراء هذه الدار الفانية، تلك هي راية الخلاص؛ فلا تجعلوا إذن للإحن سبيلا إلى قلوبكم، من أجل هذا الرمز، رمز شرفنا في الدنيا، وليرد ليوبولد علم إنجلترا إن كان تحت سلطانه، وسيقول رتشارد إنه نادم على طبعه العجول الذي حدا به أن يسيء إلى علم النمسا، ولن يبعثه على هذا القول غير محبته للكنيسة المقدسة.» فوقف الأرشدوق ساكنا مكتئبا غير راض، حاسر الطرف مطأطئ الرأس، يكتم في نفسه الغضب، ويمنعه الوجل وخشية الشذوذ أن ينفس عن نفسه بكلمة.
فسارع بطريق بيت المقدس إلى ثلم هذا السكون وتلك الحيرة، وشهد لأرشدوق النمسا بأنه قد برأ نفسه بيمين غليظة من كل علم مباشر وغير مباشر بالاعتداء الذي لحق براية إنجلترا.
فقال رتشارد: «إذن فلقد أسأنا إلى الأرشدوق النبيل أشد الإساءة، ونحن نطلب إليه العفو عن اتهامنا إياه بالعدوان والجبن، ونمد إليه يدنا إشارة إلى تجديد السلم والمودة بيننا. ما هذا؟ دوق النمسا يرفض يدنا هذه العارية كما رفض من قبل قفازنا الحديدي؟ ماذا؟ ألسنا له أقرانا في السلم ولا أعداء في القتال؟ ليكن ذلك، ولسوف نعد ضعف تقديره لنا وحطه من مكانتنا كفارة لأي صنيع ربما اندفعنا إليه ساعة ونحن في حمية الغضب، وسنعد الأمر بيننا بهذا قد انتهى.»
وبعد أن أتم حديثه، أشاح بوجهه عن الأرشدوق وعليه من علامات الوقار والحشمة أكثر مما عليه من الازدراء والاستخفاف، وترك الدوق - وقد بدا عليه الفرج بعدما صرف الملك عنه بصره - كالتلميذ المكتئب الشارد عن الدرس حينما يصرف عنه معلمه القاسي نظرته. «أي إيرل شمباني النبيل - أي مركيز منتسرا الأمير - أي رئيس الفرسان الأعظم الجسور، اعلموا جميعا أني هنا تائب معترف بخطئي، فهل منكم من له علي إدانة، أو من يطلب مني ترضية؟»
فقال كنراد صاحب اللسان الناعم: «والله إني لا أدري على أي أساس نقيم إدانتك، اللهم إلا إن كان ملك إنجلترا يأخذ من إخوانه في الحرب المساكين كل صيت كانوا يطمعون في إحرازه من هذه الحملة.»
وقال رئيس فرسان المعبد: «لو سألتني أن أدينك فإدانتي إياك أشد وأخطر من إدانة مركيز منتسرا لك، وقد تظنون أنه لا يليق براهب عسكري مثلي أن يرفع صوته حين يبقى العدد العديد من الأمراء صامتين؛ ولكن الأمر يخص صفوفنا جميعا، ويهم ملك إنجلترا هذا النبيل - كما يهم غيره - أن يستمع إلى رجل يدينه علانية في وجهه بتهم هناك الكثير من الناس ممن يكيلونها له كيلا في غيبته. نحن جميعا نمجد ونحمد في ملك إنجلترا شجاعته ورفيع أعماله، ولكنا يسوءنا منه أن يستولي أبدا في كل ظرف على السبق والرفعة علينا جميعا، وليس يليق بالأمراء المستقلين أن يستكينوا لذلك؛ نحن نسلم راضين بالكثير لبسالته وغيرته وثروته وسلطانه، ولكن ذلك الذي يختطف منا كل شيء على أنه حق من حقوقه، ولا يترك لنا شيئا يمنحه إيانا عن رضا وطواعية، يحط بنا من مرتبة الأحلاف إلى مرتبة الخدام والأتباع، ويعتم في أعين جنودنا ورعيتنا بريق نفوذنا؛ إذ يرون أنا لا نباشره مستقلين؛ وحيث إن رتشارد الملك قد سألنا أن نصدقه، فينبغي له ألا يدهش أو يغضب إن سمع رجلا حرمت عليه أبهة الدنيا، وليس للسلطان الدنيوي لديه وزن إلا بمقدار ما يزيد به من نجاح بيوت الله وإذلال الأسد الذي يتجول هنا وهناك يبحث عمن يفترس، أقول يجب ألا يدهش أو يغضب إن استمع إلى رجل مثلي يصدقه القول ردا على سؤاله، وهو ذلك القول الحق، الذي يؤيده بقلبه في هذه الآونة التي أتحدث فيها إلى كل مصغ لي ، مهما كظم صوته احترام المليك.»
وبينما كان رئيس الفرسان الأعظم يهاجم مسلك رتشارد هذه المهاجمة المباشرة، التي لا يسترها من اللفظ طلاء، علا الدم في وجنتي الملك علوا شديدا، وتمتم الحاضرون إثر الخطاب بالرضا، مما كان يدل أوضح دلالة على أنهم يكادون جميعا يؤيدون هذه التهم، وأحنق الملك هذا، بل كاد يقتله كمدا، ولكنه مع ذلك رأى بثاقب بصره أنه إن استسلم لما في قلبه من ضغينة، وأطلق نفسه على سجيتها، أعطى ذلك المدعي الحذر حقا له عليه، وهو أهم ما كان يرمي إليه رئيس فرسان المعبد؛ ولذا فقد لبث رتشارد صامتا - رغم شدة وقع الحديث على نفسه - إلى أن أتم دعاء «أبانا الذي في السماء ...» سرا، وهي الطريقة التي نصح له قسيسه باتباعها كلما أوشك الغضب أن يملك منه زمام نفسه. ولما هدأت ثائرة الملك، شرع يتكلم كلاما لا يخلو من نغم مرير، وبخاصة في مستهل الخطاب، قال: «هل بلغ الأمر هذا المبلغ؟ وهل بلغ من إخواننا ألم النفس حدا يجعلهم يلحظون ضعف مزاجنا الطبعي، وغلظتنا في التعجل والغيرة اللذين قد يدفعاننا أحيانا إلى إصدار الأمر حينما يضيق الوقت عن عقد المجلس للتشاور؟ ما كنت أحسب أن الإساءة - إن كانت عارضة وبغير إصرار سابق - تجد لها في قلوب أحلافي مرتعا خصيبا في هذه القضية المقدسة التي نسعى لها، وأنهم من أجلي يسقطون المحراث من أيديهم، بعدما خط الأخدود حتى قرب نهايته، وأنهم من أجلي يحيدون عن الطريق المستقيمة التي تؤدي إلى بيت المقدس، والتي بسلاحهم شقوها. حقا لقد كنت أخدع نفسي حينما كنت أظن أن خدماتي القليلة ترجح أخطائي الطائشة، وأنكم إن ذكرتم أني خففت إلى الطليعة مهاجما فما نسيتم أني كنت أبدا في ذيل المتقهقرين، وإني إن رفعت رايتي فوق بلد مقهور، فإن في ذلك لكل الجزاء الذي أرجو، تاركا لغيري اقتسام المغانم؛ كنت أستطيع أن أطلق اسمي على المدائن التي تغزو، ولكني أسلمت لغيري البلاد، وإن كنت عنيدا صلب الإرادة، أفرض الرأي بجرأة وإقدام، فما أحسب أني ضننت بدمي ودم قومي في إنفاذ ذلك الرأي بمثل تلك الجرأة وذلك الإقدام، وإن كنت في عجلة المسير أو في ساعة القتال زعمت لنفسي على جنود الآخرين سلطانا، فقد كنت أبدا أنظر إلى هؤلاء الجنود وكأنهم جندي، أشتري لهم بمالي المئونة والدواء إن قصر أربابهم عن إحرازها. وإنه والله ليخجلني أن أذكركم بما يبدو لي أنكم جميعا من دوني قد نسيتموه، ولخير لنا أن ننظر قدما إلى مستقبل أعمالنا، وصدقوني أيها الإخوان ...» وهنا واصل الملك خطابه، وقد اشتعل وجهه حماسة وغيرة، وقال: «صدقوني إنكم لن تجدوا في كبرياء رتشارد أو غضبه أو أطماعه إساءة تقف لكم حجر عثرة في السبيل التي يناديكم إليها الدين والمجد نداء عاليا، كأن الملك الأعلى ينفخ في الصور كلا! كلا! والله إني ما أستطيع العيش لو عرفت أن ضعفي ووهني كانا سببا في التفرقة بين هؤلاء الإخوان الكرام من الأمراء الحاشدين، ووالله لأقطعن بيميني يساري لو كان لديكم دليل ينهض شاهدا ضد إخلاصي، ولسوف أنزل لكم طائعا عن كل حق لي في قيادة الجيوش، بل وفي رعيتي الخاصة من أتباعي، وليسر بهم أي ندبتم من الملوك، ومليكهم - وما كان أحب إليه أبدا من أن يستبدل بعصا القائد رمح المقاتل - وسوف ينضوي تحت لواء «بوسان» يخدم بين أصحاب المعبد، أي والله، بل وتحت لواء النمسا، لو أتت النمسا برجل مقدام يقود جيوشها. أما إن كنتم أنتم أنفسكم قد مللتم هذه الحرب، وتحسون بسلاحكم يعقر بض جلودكم، فما عليكم إلا أن تتركوا رتشارد ونحو عشرة آلاف، أو خمسة عشر ألفا من جنودكم، يعمل لكم على البر بيمينكم.» ثم صاح بهم وقد هز برأسه إلى أعلى كأنه ينشر علم الصليب فوق بيت المقدس وقال: «وإذا ما ظفرنا بصهيون، فسوف لا نكتب على أبوابه اسم رتشارد بلانتاجنت، وإنما أولئك الأمراء الأكرمين الذين عهدوا إليه بوسائل الظفر والانتصار.»
هذه الفصاحة الجاهلية، وذلك القول الباسم الذي ألقاه الملك العسكري، أثار في الصليبيين خائر العزيمة، كما بعث الحياة من جديد في إخلاصهم ، وتنبهت أذهانهم إلى الغرض الأول من حملتهم، فعرا أكثرهم الحياء من تأثرهم بتافه الشكاوى التي غمرتهم أمثالها من قبل، وانتقلت النار من عين إلى عين، وسرت الحمية من صوت إلى صوت، فكرروا - وكأنهم مجمعون - نداء الحرب الذي سبق لهم أن رددوا به ضراعة بطرس الناسك، وصاحوا بصوت مرتفع: «سر بنا قلب الأسد الهمام؛ ليس لأحد أن يتقدم إن تخلف الشجعان؛ سر بنا إلى بيت المقدس! هذه هي إرادة الله! هذه هي مشيئة الرحمن! بارك الله فيمن يقدم لإنجازها سلاحه!»
هذه الصيحة، التي صاحوا جميعا على حين غرة، نمت إلى ما وراء حلقة الحراس القائمين على سرادق المجمع، وانتشرت بين جند الجيش، الذين فت من قواهم المرض والجو حتى باتوا متعطلين خائري العزيمة، وأخذوا كزعمائهم يهن منهم العزم، ولكن ظهور رتشارد ثانية في نشاطه المتجدد، وتلك الصيحة المعروفة التي تردد صداها بين مجمع الأمراء، أثارت فيهم الغيرة بغتة، وأجابت الألوف وعشرات الألوف مرددين الصيحة عينها: «صهيون، صهيون! الحرب، الحرب! هيا توا إلى قتال الكفار! هي إرادة الله! هي مشيئة الرحمن!»
وهذا الهتاف في الخارج ضاعف بدوره الغيرة التي سادت داخل السرادق، وخشي أولئك الذين لم تشتعل النار في قلوبهم فعلا أن يظهروا أقل حرارة من غيرهم، ولم يعد هناك حديث آخر غير حديث الزحف نحو بيت المقدس بأنوف شامخة بعد انقضاء الهدنة، وحيث الوسائل التي تتبع في عين الوقت لإمداد الجيش وإعداده بالرجال، ثم انفض المجمع وظاهرهم جميعا الإيمان التام بغرض واحد؛ غرض سرعان ما ذوى في صدور أكثرهم، وما كان له البتة وجود في صدور الآخرين.
ومن هذه الجماعة الأخيرة كان المركيز كنراد الرئيس الأعلى لفرسان المعبد، فأويا معا إلى كنفيهما على مهل، غير راضيين عما أسفر عنه يومهم هذا.
وقال ثانيهما وعليه سيماء الاستخفاف البارد الذي عرف به: «كم من مرة ذكرت لك أن رتشارد يستطيع أن يشق طريقه وسط الحبائل الرقيقة التي تنشر له، كما يشق الأسد نسيج العنكبوت؛ أفلم تر أنه ما إن تكلم حتى لعبت أنفاسه بأولئك الحمقى المترددين، كما يلعب الإعصار بالهشيم المنثور فيجمعه أو يبدده كيفما شاء؟»
فقال كنراد: «إذا ما انقشع الإعصار استقر الهشيم فوق الأرض ثانية بعد هبوبه على متن الريح.»
فأجابه رئيس المعبد وقال: «لكن هلا علمت فوق ذلك أنه يرجح - إذا ما انتهينا من هذا المقصد الجديد الذي قصدنا بالغزو، وقضي الأمر، وعاد كل أمير جليل يسترشد بما يهديه إليه عقله الضعيف - أن يمسي رتشارد برضا من الأمراء ملكا على بيت المقدس، وأن يقبل حدود المعاهدة مع صلاح الدين، التي ظننت أنت نفسك أن ليس أقرب منه أحد بازدرائها والغض منها!»
فقال كنراد: «والآن بعدما أصبحت الأيمان المسيحية عتيقة بالية، أستحلفك بمحمد وبرب محمد إلا قلت لي إن كنت تحسب أن ملك إنجلترا العاتي سوف يربط دمه بدم السلطان المسلم! لقد كان من سياستي أن أدخل في المعاهدة هذا الشرط، حتى أجعلها بأسرها بغيضة إلى نفسه. وكلا الأمرين شر لنا؛ إن أصبح سيدا علينا بالغلبة والنصر، أو بالاتفاق والرضا.»
فأجاب صاحب المعبد قائلا: «لقد أخطأ دهاؤك مرمى رتشارد، أنا أعلم هوى الملك مما وسوس لي رئيس الأساقفة، ومن ضربتك القاضية التي ضربت بذلك العلم؛ ألم تنقض بتقدير لا يزيد عما يستحق ذراعان من الحرير المزركش؟! أي مركيز منتسرا، لقد خبت منك شعلة ذكائك، وسوف لا أثق بعد اليوم في مكائدك الدقيقة الحبك، ولأعمدن إلى حيلتي. هلا سمعت بأولئك القوم الذين يسميهم الأعراب بالخوارج؟»
فأجاب المركيز بقوله: «لا مراء في أنهم قوم تملك اليأس قلوبهم، وسلبت الغيرة عقولهم؛ وقفوا حياتهم على نصرة الدين - وبينهم وبين أصحاب المعبد في هذا بعض الشبه - إلا أنا ما عرفنا عنهم قط أنهم وقفوا لحظة عن السير في سبيل دعوتهم.»
فأجاب الراهب عابسا مقطب الوجه وقال: «صاح لا تمزح، واعلم أن واحدا من أولئك الرجال قد ذكر - في يمين غليظة أقسمها - اسم عاهل الجزيرة ذاك، وأقسم لينادين به ألد أعداء دين الإسلام.»
فقال كنراد: «أعدل به من أممي مشرك، وما أجدره بجنات الخلد جزاء له!»
فقال الرئيس الأعظم: «لقد هداه إلى المعسكر واحد من أتباعنا، ولما سئل سرا أقر إلي صراحة بمرماه الثابت الذي اعتزم.»
فأجاب كنراد: «اللهم اغفر لأولئك الذين وقفوا في سبيل هذا «الخارجي» العادل!»
فرد عليه صاحب المعبد وقال: «هو الآن سجيني، وأظنك تعلم أنه قد حرم عليه أن يتحدث إلى غيره، ولكن السجون قد هوجمت
1
و...»
فأجاب المركيز: «... وكانت السلاسل مسترخية، فلاذ الأسرى بالفرار. وقديما قيل: ليس من جب أكيد غير القبر.»
ثم استأنف القس العسكري حديثه وقال: «ولما ينفك إساره يواصل مسعاه، فإنه من طبع هذه الطائفة من السفاكين ألا يتخلى الواحد منهم أبدا عن طريق الفريسة بعد أن يشتم رائحتها.»
فقال المركيز: «حسبك هذا، إني ألمس سياستك، إنها لمهيبة، ولكن سبيل الخلاص قريبة.»
فقال صاحب المعبد: «إنما ذكرتها لك حتى تأخذ لنفسك حذرها؛ إذ سوف يكون الضجيج مروعا، ولن تدري على من يصب الإنجليز جام غضبهم! أي والله وإن هناك لخطرا آخر؛ إن حاجبي يعرف ما بدخيلة هذا «الخارجي»، وفضلا عن ذلك فإنه أحمق، سريع الغضب، قوي الإرادة؛ وددت والله لو خلصت منه فهو يعترض سبيلي، ويزعم أنه يرى بعينيه لا بعيني، ولكن طائفتنا المقدسة تخول لي أن أزيل أمثال هذه الحواجز. البث قليلا؛ قد يجد العربي خنجرا طيبا في جبه، وأنا قمين لك أنه سوف يعمد إليه حينما يريد الانطلاق، وهذا أمر لا مرية فيه إذا ما دخل عليه الحاجب بالطعام.»
فقال كنراد: «هذا يلبس الأمر بالشبهات ولكن ...»
فأجاب صاحب المعبد: «إنما «ليت» و«لكن» من كلمات الحمقى الأغبياء، ولكن الحكماء العقلاء لا يترددون ولا يتراجعون؛ إنهم إذا قالوا فعلوا.»
الفصل العشرون
إذا أوقعت الليث في حبائلها الحسناء،
سحرته فلا ينتفض غضبا،
ولن ينشر من مخالبه رعبا.
وقديما جعل من عصاه مغزلا، «السديز العظيم» وبات ل «أمفالي الحسناء»
يغزل كي يسر قلبها.
لشاعر غير معروف
كان رتشارد لا تداخل قلبه الريبة، ولا يعلم بتلك المؤامرة التي كانت تدبر له في الظلام والتي فصلنا في مختتم الفصل السابق ، وقد نجح الآن على الأقل في الظفر بتوحيد الأمراء الصليبيين، معتزما أن يواصل الحرب بعنف وشدة، ولو لم يكن أحب إلى قلبه بعد هذا من أن يقر السكينة بين أهله. والآن، وقد أضحى في حكمه أشد اتزانا، أراد أن يدقق البحث في الظروف التي أدت إلى ضياع رايته، وفي طبيعة العلاقة بين ذات رحمه أديث والمخاطر الاسكتلندي الطريد.
ومن أجل هذا باغت السير توماس دي فو الملكة ووصيفاتها بالزيارة، يطلب مثول السيدة «كالستا منتفوكن» أول رفيقات الملكة في مخدعها، لدى الملك رتشارد.
فقالت كالستا للملكة وهي ترتجف: «ماذا عساي أن أقول يا مولاتي، إنه سوف يقتلنا جميعا.»
فأجابها دي فو وقال: «كلا. لا تخشي يا سيدتي، لقد أبقى جلالته للفارس الاسكتلندي حياته، رغم أنه كان أشد من أساء إليه، وخلعه على الطبيب المغربي فلن يكون جلالته شديدا على سيدة حتى وإن كانت خاطئة.»
وقالت برنجاريا: «ابتكري لك قصة ماكرة أيتها المرأة، فإن زوجي وقته يضيق بالبحث وراء الحقيقة.»
وقالت أديث: «قصي عليه القصة كما وقعت وإلا قصصتها نيابة عنك.»
وقال دي فو: «إني ألتمس من مولاتي المليكة خاضعا أن تأذن لي أن أقول بأن السيدة أديث قد أصابت فيما أشارت به؛ فالملك رتشارد قد يسره أن يعتقد فيما يلذ لجلالتك أن تقصي عليه، إلا أني أشك في أنه يقيم للسيدة كالستا مثل هذا الاحترام، وبخاصة في هذا الأمر الذي نحن به.»
وخطر لكالستا ما سوف يجري من بحث وتدقيق في هذا الشأن، فعراها اضطراب شديد وقالت: «لقد أصاب لورد جلزلاند. وفضلا عن ذلك فإنه لو كان لي من حضور الذهن ما يكفي للخداع بقصة معقولة، فصدقوني إني لأحسب أني سوف لا أجد من نفسي الشجاعة على قصها.»
وبهذا الميل إلى الصراحة في القول سار دي فو بكالستا إلى الملك حيث أقرت - كما اعتزمت - إقرارا صريحا بالخدعة التي أغري بها فارس النمر التعس على أن يهجر مقر واجبه؛ وبذا برأت السيدة أديث، وكانت تعلم أنها لن تقصر في تبرئة نفسها، وألقت بالعبء كله على عاتق الملكة سيدتها، وكانت تعرف حق المعرفة أن حظها في هذا المزاح بالفارس سوف يكون في عيني قلب الأسد أشد ما هو جدير بالعفو. وحقا لقد كان رتشارد زوجا متيما، بل خاضعا لزوجه ذليلا لها. وقد طال الأمد مذ انفجر غاضبا أول الأمر، ولم يعد الآن يميل إلى اللوم الشديد في أمر لا سبيل إلى تقويمه. وكانت السيدة كالستا الخبيثة قد تعودت منذ نعومة أظفارها أن تسبر غور دسائس البلاط، وترقب ما قد يدل على إرادة المليك، فخفت كالطائر مسرعة تحمل أمر الملك إلى زوجه بأن تتأهب لزيارة مباغتة منه، وزادت على هذا الأمر رفيقة الملكة في مخدعها تعليقا من عندها، يقوم على ملاحظاتها الخاصة، أرادت أن تبين به أن رتشارد لم يقصد إلا إلى أن يظهر ببعض الشدة، كي يحمل زوجه المليكة على أن تقر بندمها على مزاحها، ثم يحبوها هي وكل من له يد في الأمر بعفوه الكريم.
وسرى هذا النبأ عن الملكة كثيرا فقالت: «هل هذا كل ما في الأمر أيتها المرأة؛ صدقيني إن رتشارد قائد عظيم، لكنه سوف يتعسر عليه أن يراوغنا في هذا الشأن، وهو في هذا ينطبق عليه قول رعاة «البرانيس» المألوف في وطني «ناڨار»: «ما أكثر من أتى طلبا لصوف الأغنام وعاد بغنمه مجزوزا.»
وبعدما ألمت الملكة برنجاريا بكل ما حدثتها به كالستا من خبر، ارتدت فاخر الثياب، ولبثت هادئة الخاطر، مستقرة النفس، ترقب قدوم رتشارد الجسور.
ولما أن قدم الملك ألفى نفسه وهو في موقف الأمير الذي يدخل إقليما أساء أهله إليه (إلى الأمير)، وهو على ثقة من أن عمله سوف لا يعدو توقيع الملامة وتلقي الخضوع، فإذا به يجد أهل الإقليم - على غير ما كان ينتظر - في أشد حال من المناوأة والعصيان؛ فلقد كانت برنجاريا تعرف حق المعرفة سحر جمالها، ومبلغ حب رتشارد لها، وتحس بالثقة في أنها تستطيع أن تتفق معه على ما يرضيها بعد ما انقشعت عنه ثائرة الغضب المخوفة الأولى دون أن يصدر عنه أذى أو ضرر، وما كان أبعدها عن أن تستمع إلى ما اعتزم الملك من عذل حق عليها لرعونتها في مسلكها، فقد أخذت تلتمس المعاذير عما اتهمت به، بل وتدفع عنه على أنه مزاح لا ضرر منه، وقد أنكرت - وكانت صيغة الإنكار جميلة حقا - أنها بعثت بنكتبانس كي يغري بالفارس إلى أبعد من حافة الجبل الذي وقف حارسا على قمته، وحقا لقد صدقت فيما قالت؛ إذ إنها لم ترد بالسير كنث أن يدخل فسطاطها؛ ولئن كانت الملكة في سياقها لدفعها ذلقة فصيحة، فلقد كانت أفصح وأذلق في اتهامها لرتشارد بالقسوة لضنه عليها بمنحة حقيرة يمنحها إياها، وتلك هي حياة فارس بائس، ساقه إلى خطر القانون العسكري مزاح غير مقصود، ثم بكت ونشجت وبالغت في وصفها لعناد الملك في هذا الأمر، وقالت إن صرامته تهددها بالشقاء في حياتها، كلما فكرت في أنها كانت - على غير قصد منها - الباعث الأول على هذه المأساة، فلسوف ينتابها في أحلامها مرأى الفريسة الصريعة، ولسوف يقف إلى جوار سريرها شبحه بعينه ويحرمها النوم، وما تعرف لهذا من سبب، ولكن هذا هو ما يحدث في غالب الأحيان. ولن تستهدف لهذا الشقاء النفسي إلا من قسوة رجل، بينما هو يزعم أنه يموت هوى في أدنى إشارة منها، لا يتخلى عن نقمته على ذلك الرجل المسكين مهما نجم عن ذلك من شقاء لها.
وصحبت كل هذه الفصاحة النسوية المتدفقة لغة الدموع والحسرات، وكان في حديث الملكة من النغم والحركات ما يدل على أن استياءها لم ينشأ عن كبر أو نزق، وإنما عن شعور انثلم حينما أدركت أن نفوذها على زوجها أضعف مما كانت تظن.
وكان رتشارد الملك الصالح شديد الحيرة والارتباك، وعبثا حاول أن يتفاهم وامرأة أعجزتها غيرتها على محبته عن الإصغاء للحديث, ولم يستطع الملك أن يعمد إلى ما له من نفوذ شرعي يسيطر به على سيدة لها هذا الجمال، وهي في شدة الحزن الذي ليس له ما يبرره، فتراجع إلى حدود الدفاع، وحاول متلطفا أن يعذلها على ريبتها، ويخفف من غلوائها، ويذكرها أن لا حاجة بها إلى ذكر الماضي بالندم أو بالخوف الشديد، ما دام السير كنث ما برح على قيد الحياة وما به من سوء، فقد خلعه الملك على الطبيب النطاسي العربي، وهو رجل - من دون الرجال لا ريب - عرف كيف يحفظ له حياته، ولكن هذه الكلمة الأخيرة كانت أشد كلمات الملك على نفسها وقعا، فتجددت للملكة أحزانها حينما ذكرت أن عربيا طبيبا قد نال هذا العطاء الذي طلبته هي إلى زوجها جاثية على ركبتيها، ورأسها حاسر، ولكن بغير جدوى. وما إن فرغت من هذه التهمة الأخيرة حتى نفد صبر الملك، وقال في نغمة الجد: «أي برنجاريا، اعلمي أن هذا الطبيب قد أنقذ لي حياتي، فإن كان لحياتي في عينيك وزن فلن تضني عليه بجزاء خير من هذا الجزاء الوحيد، الذي استطعت أن أحمله على قبوله.»
وسرت الملكة لبلوغها بر السلامة بعد غضبها ودلالها.
فقالت: «حبيبي رتشارد، لم لم تأت لي بهذا الحكيم، حتى تستطيع ملكة إنجلترا أن تبين له قدره في عينها، وقد أنقذ من الخبو مصباح الفروسية، وفخار إنجلترا، ونور حياة برنجاريا الضعيفة، وأملها ورجاءها؟»
وهكذا انتهى النزاع الزوجي، ولكن الملك والملكة كليهما ارتأيا أن العدالة تتطلب بعض العقاب، واتفقا على صب اللوم بأسره على عاملهما نكتبانس، وكانت الملكة إذ ذاك قد ملت نكات القزم المسكين، فأصدرت مع الملك حكما عليه وعلى حليلته الملكة جنفرا بإبعادهما عن البلاط. وما كان للقزم التعس أن ينجو من الضرب بالسياط، لولا أن الملكة قد أكدت أنه قد نال عقوبته الشخصية من قبل، وكذلك أصدر صاحبا الجلالة إرادتهما بأنه لما كان لا بد من بعث رسول إلى صلاح الدين في وقت قريب لإخطاره باعتزام المجمع على مواصلة العداء بعد انتهاء الهدنة مباشرة. ولما كان رتشارد يفكر في إرسال هدية قيمة للسلطان اعترافا بالجميل الكبير الذي ناله على يدي الحكيم، فإن ذينك الشخصين البائسين ينبغي أن ينضما إلى الهدية طرفتين تصلحان للإهداء من مليك إلى مليك، لما لهما من ظاهر غاية في الغرابة، وعقل موزع شتيت.»
وكان على رتشارد ذلك اليوم أن يكابد مقابلة نسوية أخرى، ولكنه تقدم إليها قليل الاكتراث غير آبه، وذلك لأن أديث وإن كانت جميلة يحلها قريبها الملك محلا رفيعا، بل ولئن كانت قد عانت فعلا من جراء شكوكه الجائرة ذلك الأذى الذي تظاهرت برنجاريا بالشكاية منه، إلا أنها لم تكن لرتشارد زوجا ولا حظية، فكان يخشى عتابها - على ما في عتابها من حق - أقل مما كان يخشى عتاب الملكة، رغم ما فيه من جد وشذوذ. وبعدما طلب الملك أن يتحدث إليها منفردة، سيق إلى غرفتها المتاخمة لحجرة الملكة، وما برح جاريتاها القبطيتان جاثيتين على الركب في أقصى زاوية طوال المقابلة. وكان يستر هذه الفتاة الكريمة النسب حجاب أسود رقيق، تتدلى ثناياه الكثيفة على قدها الفاتن الممشوق، ولم تتحل بأية زينة مما يتجمل به السيدات، وما إن دخل عليها رتشارد حتى نهضت وانحنت إجلالا، ثم عادت إلى مقعدها بعدما أشار إليها بذلك. ولما جلس إلى جوارها لزمت الصمت، ولم تنبس ببنت شفة، حتى يبدأها الحديث بما يريد.
وقد ألف رتشارد مع أديث الصراحة التي تخولها لها صلة الرحم، إلا أنه أحس ببرودة هذا اللقاء، وافتتح الحديث في شيء من الحيرة والارتباك.
وأخيرا قال: «إن ابنة العم الحسناء غاضبة منا. وإنا لنقر بأن ظروفا قاسية قد حدت بنا - لغير ما سبب - إلى أن نعزو إليها مسلكا لا يتفق وما عرفنا من قديم عن سيرتها في حياتها، ولكنا إذ نسير في وادي الإنسانية المظلم نخطئ الأشباح نحسبها جسوما، فهلا صفحت ابنة العم الحسناء عن ابن جلدتها رتشارد، الذي يشوبه شيء من الشدة والعنف!»
فأجابت أديث وقالت: «من ذا الذي يضن بالصفح عن رتشارد، إن كان رتشارد الرجل يأتي بالعفو من رتشارد المليك؟»
فأجابها قلب الأسد قائلا: «تعالي قريبتي، هذا جد صارم، أقسم بالسيدة العذراء إن هذه النظرات الكئيبة، وهذا الحجاب القاتم الطويل، لتحدو بالرجال إلى أن يحسبوك أرملة محدثة، أو على الأقل امرأة فقدت عشيقها وخطيبها، سري عن نفسك . ألم يبلغك أن ليس هناك سبب حق للحزن والأسى؟ فلماذا تظهرين بمظهر الحداد؟» «أظهر به أسى على شرف بلانتاجنت الضائع، وعلى الجلال الذي خلف بيت أبي.»
فقطب رتشارد الجبين، وكرر قولها غاضبا وقال: «الشرف الضائع! والجلال الذي خلف بيتنا؟ ولكن ابنة عمي أديث على حق، فلقد حكمت عليها متعجلا، فمن حقها إذن أن تغلظ علي وتقسو، ولكن لا أقل من أن تخبريني فيم كان خطئي.»
فقالت أديث: «كان على بلانتاجنت إما أن يتسامح في الإساءة أو يجازيها، وما يليق به أن يكبل في قيود الكفار رجالا أحرارا من المسيحيين وبواسل الفرسان، وما ينبغي له أن يفاوض ويساوم، أو أن يمنح الحياة على أن يسلبها حريتها؛ والله لو أنك قضيت على هذا البائس بالموت لكان قسوة منك وغلظة، ولكنها الغلظة في ثياب العدالة. أما أن تحكم عليه بالرق والنفي فهذا ظلم صراح.»
فقال رتشارد: «ما أحسب ابنة عمي الحسناء إلا من أوليائكن الغيد اللاتي يرين بعد العاشق وموته سواء؛ صبرا فتاتي، إن عشرة من خفاف الفوارس يستطيعون أن يتبعوا الرجل ويصلحوا ما أخطأنا، إن كان لدى محبك هذا سر من الأسرار يجعل موته خيرا من نفيه.»
فاشتد احمرار أديث وقالت: «كفاك بذاءة في المزاح، واعلم أنك كي تسترسل في هواك بترت من هذا المشروع العظيم عضوا كريما، وحرمت الصليب دعامة من أقوى دعاماته، وأسلمت خادما من خدام الإله الحق إلى أيدي الكفرة المشركين، وأعطيت كذلك لعقول مرتابة - كعقلك الذي أبديت في هذا الشأن - بعض الحق في القول بأن رتشارد قلب الأسد قد نفى من معسكره أشجع جنوده، خشية أن يباري باسمه في القتال اسمه.»
فصاح بها رتشارد، وقد غلت ثائرته الآن حقا، وقال: «أنا، أنا! أفتحسبينني ممن يغارون من الذكر وبعد الصيت؟ وددت لو كان هنا وأقر بمساواته بي! إذن لنفضت عني شرفي وتاجي، ولاقيته كما يلاقي الرجل الرجل في ساحة النزال، حتى يبدو للعيان إن كان رتشارد بلانتاجنت لديه مجال للحسد أو للخوف من جرأة إنسان فان أيا كان. تعالي أديث، إنك لا تعتقدين بما تقولين؛ لا تكوني لغضبك أو حزنك على غياب عشيقك لقريبك ظالمة، وهو - رغم هياجك وثورتك - يحمل لحسن طويتك تقديرا كبيرا لا يعلوه تقدير لأي امرئ على قيد الحياة.»
فقالت السيدة أديث: «غياب عشيقي؟ أي نعم، تستطيع أن تسميه عشيقي بعد أن دفع لهذا الاسم ثمنا غاليا؛ إني يا مولاي، وإن كنت غير قمينة بولائه هذا، إلا أني كنت له كالضياء أهديه سبيله قدما في طريق الفروسية النبيلة. أما أني قد نسيت مكانتي، وأما أنه قد زعم لنفسه ما ليس له فزور وبهتان، حتى وإن كان ملكا من يقول بهذا.»
فقال رتشارد: «لا تتقولي علي يا ابنة العم الحسناء بما لم أقل، أنا لم أذكر أنك حبوت هذا الرجل بأكثر مما قد يكسب فارس كريم من رضا - حتى من أميرة - مهما يكن منبته. ولكني أقسم لك بالسيدة العذراء أني أعلم شيئا عن هذا الضرب من الحب. إنه يبدأ بالاحترام مع الصمت، والتقدير مع البعد، ولكن ما إن تسنح الفرصة حتى تنمو الألفة، ثم ... ولكن دعينا من هذا، فليس من الكياسة أن أتحدث إلى سيدة ترى نفسها أحكم العالم طرا.»
فقالت أديث: «يسرني أن أصغي عن طيب خاطر لما يشير به قريبي، إن كانت مشورته لا تنطوي على المهانة لمكانتي وخلقي.»
فأجابها رتشارد وقال: «إن الملوك يا ابنة عمي الحسناء لا ينصحون، وإنما هم يأمرون.»
فقالت أديث: «حقا إن السلاطين ليأمرون، وما ذلك إلا لأن لهم رقيقا يحكمون.»
فرد عليها الملك وقال: «هيا أديث، ولا تزدري السلطنة جانبا، ما دمت ترفعين رجلا اسكتلنديا إلى هذه المرتبة العالية. والله إني لأرى صلاح الدين أبر بكلمته من وليم صاحب اسكتلندا، الذي يلقب بالليث؛ لقد أساء إلي إساءة شنعاء بتقصيره في إرسال المدد والمعونة التي وعدني. دعيني أخبرك يا أديث أنك قد تحيين حتى يأتي يوم تؤثرين فيه تركيا صادقا على اسكتلندي كاذب.»
فأجابته أديث قائلة: «كلا، أبدا! إن رتشارد نفسه لن يعتنق الدين الكاذب الذي عبر البحار لإقصائه عن فلسطين.»
فقال رتشارد : «لك الكلمة الأخيرة، وسوف تعطينها، ولتظني بي ما شئت يا أديث الحسناء، فلن أنسى أنا بنو عمومة قريبة وعزيزة.»
وما إن أتم حديثه حتى انصرف في رقة وكياسة، ولكنه قليل الرضا بما انتهت إليه زيارته.
وفي اليوم الرابع مذ أبعد السير كنث عن المعسكر، جلس الملك رتشارد في سرادقه يستمتع بنسيم المساء يهب من الغرب، ويحمل على جناحيه برودة غير معهودة فيه، كأنه يصاعد من إنجلترا الطروبة لإنعاش مليكها المخاطر، وهو يسترد شيئا فشيئا كامل القوى الضرورية لإنفاذ مشروعاته الخطيرة؛ وكان وحيدا لأنه بعث بدي فو إلى عسقلان كي يأتي بالمدد والمئونة من الذخيرة الحربية، وكانت الكثرة الأخرى من حاشيته مشتغلة بمختلف المهام، كلهم يتأهبون لفتح باب العداوة من جديد، ولاستعداد عظيم إعدادي لجيش الصليبيين يقام في اليوم التالي. وجلس الملك منصتا للطنين والضجيج بين الجند، وللطقطقة المنبعثة من الأكوار، حيث كانت الخيل تعد بحوافر من حديد، وللشغب يصدر من صانعي الأسلحة الذين كانوا يصلحون عدة الخيول، وكذلك كانت أصوات الجند - وهم يسيرون جيئة وذهابا - عالية مرحة، في نبراتها ما يؤكد الهمة القعساء والبسالة الثائرة، وما يبشر بالنصر القريب؛ فاهتزت أذنا رتشارد طربا لهذه الأصوات واسترسل لأحلام الظفر والمجد التي أثارها في نفسه هذا الصخب. وبينا هو كذلك إذا برئيس الحجاب يخبره أن رسولا من صلاح الدين ينتظر واقفا بالباب.
فقال الملك: «أدخله توا، وأد له ما يجب من الاحترام يا جوسلين.»
فصدع الفارس الإنجليزي بالأمر، وأقبل ومعه رجل تدل هيئته على أنه لا يعلو على العبد النوبي مرتبة، ولكن ظاهره - رغم ذلك - يسر الناظرين. كان طويل القامة، سمح البزة، ملامحه نافذة حالكة، ولكنها لا تنم عن شيء من سلالة الزنوج؛ وكانت تغطي خصلات شعره الفاحم عمامة ناصعة البياض، وعلى كتفيه وشاح قصير من لون العمامة، منفرج من مقدمه ومن كميه، ويظهر من تحته صدار من جلد النمر المدبوغ، يتدلى إلى ما فوق الركبتين بعرض الكف، وأما ما بقي من أطرافه المفتولة، ساقيه وساعديه، فقد كان عاريا ، اللهم إلا خفين في قدميه؛ وكان يلبس طوقا على رقبته، وسوارا من فضة، ويتدلى من خصره سيف مستقيم عريض النصل، له مقبض من خشب البقس، وغمد يكسوه جلد الأفعوان، وبيمينه نشابة قصيرة، رأسها عريض لامع صلب، طولها شبر، وبيساره يقود كلبا كبيرا نبيلا يجذبه برباط من خيوط الذهب والفضة المفتولة.
وخر الرسول ساجدا، وقد عرى جانبا من كتفيه إشارة إلى خضوعه؛ وما إن لمس الأرض بجبينه حتى نهض جاثيا على ركبتيه، وناول الملك منديلا من الحرير يضم آخر من قماش من صفائح الذهب، بداخله خطاب من صلاح الدين، عربي أصله، ومصحوب بترجمة إلى الإنجليزية النورماندية تعريبها كما يلي:
من صلاح الدين ملك الملوك، إلى الملك رتشارد ليث إنجلترا، نما إلينا من رسالتكم الأخيرة أنكم قد آثرتم الحرب على السلم، وعداوتنا على صداقتنا، وما نحسبك في هذا إلا رجلا أعمى الله بصيرته، وإنا على يقين أنا عما قريب سوف نقنعك بخطئك؛ تعاوننا في ذلك جيوش ألف قبيل لا تقهر، وسيفصل الله فيما بيننا من خصومة. وأما ما خلا ذلك فنحن نعتقد في نبل خلقك، ونقدر الهدايا التي بعثت بها إلينا قدرا كبيرا، كما نقدر القزمين الفريدين في تشويه خلقهما كأن كلا منهما «عيسو»، الطروبين كقيثارة إسحق. ردا على هذه الهدايا التي بعثت من كنوز جودك، نرسل إليك عبدا نوبيا اسمه «زوهاق» لا تحكم عليه ببشرته كما يحكم الأغبياء في هذه الدنيا، فإن الثمر إذا اسودت قشوره حلا مذاقه, واعلم أنه يقوى على تنفيذ إرادة سيده، كما كان «رستم زبلاستن». وإن تعلمت مخاطبته ألفيته حكيما في مشورته، واذكر أن «رب الفصاحة» قد أصابه العي وهو بين جدران قصره العاجية. نحن نسلمه لرعايتك آملين ألا يطول الأمد قبل أن يؤدي لك خدمة طيبة، ونحن مع هذا نقرئك السلام راجين أن يمن عليك نبينا
صلى الله عليه وسلم
بإدراك الحق، ولئن فاتك نور الحق فرجاؤنا لك أن تسترد صحتك العزيزة عاجلا، حتى يحكم الله بيننا وبينك في ساحة الوغى.
وكانت الرسالة مذيلة بتوقيع السلطان وخاتمه.
وحدق رتشارد في النوبي صامتا، والرجل ماثل أمامه، خافض الطرف، وقد أطبع ذراعيه على صدره، يشبه في وقفته تمثالا من المرمر الأسود، دقيق الصنع، ينتظر الحياة من ملمس «بروميتيس».
1
وقد قال هنري الثامن خليفة ملك إنجلترا بصيغة التأكيد عن رتشارد إنه يحب النظر إلى الرجال، وحقا لقد سره كثيرا أن يشهد من ذلك الماثل أمامه عصبه ومفتول عضلاته واتساق جسمه، ووجه إليه السؤال باللغة الفرنجية، وقال له: «هل أنت وثني؟»
فهز العبد برأسه، ورفع إصبعه إلى جبينه، ورسم علامة الصليب على نفسه دليلا على إيمانه بالمسيحية، ثم عاد إلى وقفته خاشعا لا حراك به.
فقال رتشارد: «لا مشاحة في أنه نوبي مسيحي، وقد حرمه القدرة على الكلام هؤلاء الأوغاد المنافقون، أليس كذلك؟»
فهز الرجل الأبكم برأسه ثانية في تؤدة وأناة دلالة النفي، وأشار بسبابته إلى السماء، ثم وضعها على شفتيه.
فقال رتشارد: «إني أدرك ما ترمي إليه، إنك تعاني من الله بلواه، ولا تشكو قسوة الإنسان. هل تستطيع أن تجلو السلاح وتنظف النطاق، وتعقده عند الحاجة؟»
فخفض الأبكم رأسه، ثم سار نحو الزرد الذي كان معلقا - مع درع الملك الفارس وخوذته - بدعامة من دعامات السرادق، وأمسك به بهوادة ورفق، وكان في ذلك دليل كاف على أنه كان يعرف حق المعرفة واجب حامل السلاح.
فقال الملك: «حقا إنك لهذا لكفء، ولا ريب في أنك تصلح خادما نافعا. عليك أن تقف بحجرتي وتقوم على خدمتي، حتى يرى الناس كم ذا أنا أقدر عطية السلطان الملكي. وليس لك لسان، فجلي إذن أنك لا تستطيع رواية ما ترى، ولن تستفزني فأتعجل بجواب غير لائق.»
فخر النوبي ساجدا ثانية حتى مس جبينه الأرض، ثم انتصب قائما بعيدا عن الملك ببضع خطوات، كأنه يرتقب ما يأمر به سيده الجديد.
فقال رتشارد: «أي والله، لتبدأن عملك توا، فإني أرى أثرا من صدأ يسود وجه هذا الدرع، وأنا أوده - إذا ما هززت به في وجه صلاح الدين - أن يكون براقا لا قتام فيه، كشرفي وشرف صلاح الدين .»
وفي تلك الآونة نفخ في البوق نافخ خارج السرادق، ودخل في الحال السير هنري نفيل ومعه ثلة من الرسائل، قال وهو يقدمها: «هذه الرسائل من إنجلترا يا مولاي.»
فكرر رتشارد قوله بنغمة المتلهف الحزين وقال: «من إنجلترا! من بلادي العزيزة! وا أسفاه! إنهم لا يفكرون إلا قليلا كيف حاق بمليكهم المرض العضال والأسى الشديد، ما أوهى صداقتهم وما أجرأ عداوتهم!» ثم فض الرسائل، وقال عاجلا: «ها! ليست هذه الرسائل من بلد آمن، إن أسباب الشحناء بينهم كذلك. اغرب عني يا نفيل ينبغي أن أطالع هذه الأخبار وحيدا وعلى مهل.»
فانسحب نفيل على إثر ذلك، وسرعان ما انهمك رتشارد في تفصيل الأمر الأليم الذي جاءه نبؤه من إنجلترا، وهو يتعلق بالخصومات الحزبية التي كانت تمزق وطنه إربا إربا من جراء الخلاف بين أخويه «جون» و«جوفري»، والنزاع الذي نشب بينهما من ناحية، وبين كبير القضاة «لنجتشامب» أسقف «إيلي» من ناحية أخرى، كما يتعلق بالمظالم التي يفرضها النبلاء على أهل القرى، وثورة هؤلاء على أولي الأمر منهم ثورة نجمت عنها ضروب من الخصومة في كل مكان وإراقة الدماء هنا وهناك، ووردت إليه في الرسائل أنباء مفصلة عن حوادث قاتلة لكبريائه، ومحطة بنفوذه، يصحبها النصح الشديد من أحكم مستشاريه وأقربهم إليه، يشيرون عليه بالعودة إلى إنجلترا عاجلا؛ إذ إن في وجوده يبنهم الأمل الوحيد في إنقاذ المملكة من مخاوف الخصومة الأهلية جميعا، تلك الخصومة التي يرجح أن تفيد منها فرنسا واسكتلندا. وجزع رتشارد لهذه الأنباء أشد الجزع، فقرأ تلك الرسائل المشئومة مرة تلو الأخرى، ووازن بين ما يحتويه بعضها من خبر وبين الحقائق عينها كما سيقت في بعضها الآخر سياقا آخر، وسرعان ما أضحى وهو لا يحس بما كان يدور حوله، رغم أنه كان يجلس قريبا من مدخل فسطاطه قصد الانتعاش بالهواء البارد، وقد أمر برفع السجف حتى يمكنه أن يرى الحراس وغيرهم من الواقفين في الخارج ويرونه.
وفي ظل السرادق كان العبد النوبي يجلس مستغرقا في عمله، مشتغلا بالواجب الذي فرضه عليه سيده، موليا ظهره شطر المليك، وكان قد فرغ من إعداد الزرد والدرع وتنظيفهما، وشرع يشتغل بدرقة عريضة كبيرة الحجم مكسوة بصفائح الصلب، كثيرا ما يستخدمها رتشارد، حينما يخرج لاستطلاع الأماكن الحصينة أو لضربها فعلا، حماية له وذريعة تقيه قذائف الأسلحة أكثر مما يقيه الدرع الضيق الثلاثي الذي كان يستخدمه وهو على ظهر الجواد. ولم تتسم هذه الدرقة، لا بأسد إنجلترا، رمز سلطانها، ولا بأي رسم آخر فتجتذب أنظار الذائدين عن الجدر التي كانت الدرقة تنطلق صوبها؛ فكانت إذن عناية خادم السلاح مقصورة على إجلاء وجهها حتى يضيء ضياء البلور اللامع، وقد نجح الخادم في هذا العمل غاية النجاح. وإلى ما وراء النوبي كان يرقد الكلب الكبير، وتكاد لا تراه العين من الخارج، وتستطيع أن تقول عن هذا الكلب إنه صنو النوبي في رقه واستعباده، وكان كأنه يحس بالخوف من الانتقال إلى حيازة الملك، فاستلقى ملاصقا لجوار الرجل الأبكم، ورأسه وأذناه إلى الأرض، وذيله وأطرافه متجمعة قريبا بعضها من بعض تحته وحواليه.
وبينما كان الملك وخادمه الجديد مشتغلين بما هما فيه، انضم إلى هذا المنظر الذي وصفنا رجل آخر، واختلط بجماعة العامة من الإنجليز، وكان نحو العشرين منهم يقومون بالحراسة أمام سرادق الملك صامتين - خلافا لما عهد فيهم - نظرا لهيئة التأمل والتفكير العميق والانهماك الشديد الذي استرسل فيه مليكهم استرسالا لم يألفوه فيه من قبل، ولكنهم - رغم هذا - لم يكونوا في حراستهم أشد يقظة منهم في أي وقت آخر، فكان بعضهم يلعب بالحصى الصغير مقامرا، وبعضهم يتهامسون عن يوم القتال القريب، وكثيرون منهم قد استلقوا وأغرقوا في النعاس، وأطرافهم الجسمية منطوية في برودهم الخضر.
تسلل وسط هؤلاء الحراس الغافلين رجل تركي هرم، صغير الجسم، زري الهيئة، حقير اللباس، يشبه بزيه وليا أو شيخا من شيوخ الصحراء المتحمسين للدين، الذين كانوا أحيانا يقتحمون معسكر الصليبيين، رغم ما كانوا يلاقون دائما من سخرية، بل ومن قسوة وشدة في غالب الأحيان. وحقا لقد كان الترف والانغماس في الملاذ الذي يسرف فيه زعماء المسيحيين يأتي إلى خيامهم بحشد خليط من المطربين والعاهرات والتجار واليهود والأقباط والترك ومختلف الرجال من أمم الشرق، وجميعهم من سقط المتاع، حتى باتت العمامة والقفطان شيئا مألوفا في معسكر الصليبيين، رغم ما كان يسود بينهم من أن الحملة إنما ترمي إلى إقصائهما من الأرض المقدسة. ولما دنا هذا الرجل الصغير الحجم، الزري الهيئة، الذي وصفنا، وبات على مقربة من الحراس، حتى وقفوا في سبيله، طرح عمامته الداكنة الخضراء عن رأسه، وظهر للرائي أنه حليق الذقن والحاجبين كأنه مهرج محترف، وأن سيماء ملامحه الملتوية العجيبة، وعينيه الصغيرتين السوداوين اللتين كانتا تتألقان كالكهرمان الأسود، تنم عن خيال شارد مخبول.
وكان الجند يعرفون أساليب هؤلاء المعتوهين المتجولين، فصاحوا بالرجل: «ارقص لنا أيها الشيخ، ارقص وإلا ضربناك بحبال نبالنا حتى يدور جسمك كما يدور الخذروف يحركه الصبي بسوطه.» وهكذا علا صياح الحراس الطائشين، فرحين جذلين لأنهم وجدوا بينهم رجلا يغيظونه، كما يفرح الطفل حينما يمسك بالفراشة، أو التلميذ إذا كشف عن عش طائر.
وكأن الشيخ قد سره أن يصدع بما أمر فقفز من الأرض واستدار بجسمه المائد أمامهم بخفة ما بعدها خفة، إذا قرنت بها جسده النحيل الهزيل، ومظهره الضئيل، ألفيته شبيها بورقة ذاوية من أوراق الشجر، تترنح على هوى ريح الشتاء العاصف، وله ذؤابة من الشعر تمتد من رأسه الأصلع الحليق إلى أعلى، كأن عفريتا من الجن يعلقه بها. ويظهر أن فنا سماويا كان يلزمه للقيام بهذا الرقص الهمجي الدائر، الذي توشك معه ألا ترى أطراف قدمي الراقص وهي تمس الأرض. وبينا كان الرجل يرقص هذا الرقص العجيب، كنت تراه يتمايل يمنة ويسرة، وينتقل من مكان إلى آخر، متقربا شيئا فشيئا من مدخل السرادق الملكي، بحيث لا يكاد الرائي يدرك منه ذلك، حتى إنه لما خر على الأرض أخيرا منهوك القوى، بعدما قفز قفزتين أو ثلاثا أعلى من كل وثبة وثبها من قبل، لم يكن بينه وبين شخص الملك ما ينيف على ثلاثين ذراعا.
فقال أحد العامة: «أعطه ماء. إنهم جميعا يتشوقون إلى الشراب بعد الرقص والطرب .»
فأجابه نبال آخر بصيغة التأكد والازدراء بهذا الشراب الحقير وقال: «آه! أتقول ماء يا «لنج ألن» وكيف تحب أنت شرابا كهذا بعد رقص مغربي كذلك الذي رأيته.»
وقال ثالث: «لن نعطي الوغد قطرة ماء، ولسوف نعلم هذا المنافق الهرم الخفيف القدم أن يكون مسيحيا صالحا ويحتسي نبيذ قبرص.»
وقال رابع: «أي والله، ولئن كان شموسا فلتأت بكأس «دك هنتر» التي يسقي بها فرسه.»
وسرعان ما أحاط ب «الدرويش» - وهو منهوك طريح الأرض - حشد من الرجال، ورفع واحد منهم طويل القامة جسم الرجل الهزيل عن الأرض، بينما قدم له الآخر قدحا كبيرا من النبيذ، ولكن الرجل الهرم، وقد عيي عن الكلام، هز رأسه وأبعد بيده الشراب الذي حرمه عليه النبي، ولكن القوم الذين أرادوا به العذاب ما كانوا بهذا يرجعون.
فصاح أحدهم: «الكأس، الكأس! ما أشبه الرجل التركي بالجواد التركي، ولسوف نعامله معاملة الخيول.»
وقال «لنج ألن»: «أقسم بالقديس جورج إنكم لتخنقنه! وإنه لإثم أن ترموا وغدا وثنيا بمقدار من النبيذ يغني رجلا مسيحيا عن ثلاثة أضعاف ما يحرز من سكرة النوم.»
فرد عليه «هنري ودستول» وقال: «إنك لا تعرف طباع هؤلاء الأتراك الملحدين يا «لنج ألن»؛ اعلم أيها الرجل أن قدحا من نبيذ قبرص تلعب برأسه وتديره في اتجاه غير الاتجاه الذي تدحرج إليه وهو يرقص، فيثوب إلى رشده، ويعود كما بدأ. الخمر تخنقه؟ إنها لا تخنقه إلا كما يخنق رطل من الزبد كلب «بن» الأسود».
فقال «تمالين بلاكليز»: «وهل تضنون على هذا الشيطان المسلم المسكين بقطرة من شراب في هذه الدار، وأنتم تعلمون أنه لن ينال قطرة يرطب بها طرف لسانه في دار البقاء؟»
فأجاب «لنج ألن» يقول: «تالله إن هذه لشريعة صارمة، أفكل هذا لأنه تركي كما كان أبوه من قبله؛ إني أؤكد لكم أن أشد الأرجاء حرارة لتكونن عليه بردا وسلاما لو أنه كان مسيحيا مرتدا.»
فقال «هنري ودستول»: «الزم الصمت يا «لنج ألن»، وصدقني أن لسانك ليس بأقصر جوارحك، وإني أتنبأ لك أنه ليسوقنك إلى الخزي من أبينا «فرنسيس» كما حدث مرة للمرأة السورية الحوراء، ولكن دعنا من هذا فها هي ذي الكأس قادمة. انشط قليلا أيها الرجل، وافتح فمه عنوة بنصاب خنجرك.»
فقال «تومالين»: «ارجعوا عن هذا. إنه طيع غير عصي، انظروا تجدوه يشير إلى القدح. أفسحوا له أيها الرجال. أي والله، إنهم قوم إن شرعوا يشربون ما تركوا الخمر حتى ثملوا؛ إن هذا التركي لا يسعل في الكأس، ولا يتريث في الشراب.»
وحقا لقد شرب ذلك «الدرويش» - أو سمه ما شئت - القدح الكبير حتى ثمالته في جرعة واحدة، أو تظاهر بذلك على الأقل. ولما رفع الكأس عن شفتيه، بعدما غاض كل ما به، تنهد تنهدا عميقا وتمتم قائلا: «الله كريم.» فسرى الضحك بين العامة الذين شهدوا الرجل وهو يجترع الكأس في شربه، وكانت ضحكاتهم عجاجة صخابة حتى هب الملك من نومه مضطربا، ورفع إصبعه وقال غاضبا: «ما هذا أيها اللئام، أما لديكم لغيركم احترام، وهل لا ترعون لنا حرمة؟»
فسكت الجميع ولزموا الصمت؛ إذ كانوا يعرفون مزاج رتشارد، الذي كان يسمح بالكثير من الألفة الحربية أحيانا، وأحيانا أخرى يتطلب أجل الاحترام، وقلما كان هذا المزاج الأخير يملك عليه نفسه. وبعدئذ سارع الرجال إلى مكان قصي عن شخص الملك حتى يبقى له جلاله، وحاولوا أن يجذبوا معهم الشيخ الولي، الذي بدا عليه الإنهاك من المشقة السابقة، أو غلبته الجرعة القوية التي غبها غبا منذ حين، فقاوم إبعاده عن هذا المكان تارة بالنضال وطورا بالأنين.
فهمس «لنج ألن» لزملائه قائلا: «خلوا سبيله أيها الغافلون؛ ناشدتكم القديس «كرستوفر» لتخلفن الرجل وإلا طاح منه خنجره، وشق رءوسنا عاجلا، خلوا سبيله، فإنه سوف ينام كالسنجاب بعد دقيقة.»
وفي تلك الآونة رمى الملك بسهم آخر من سهام نظراته إلى مكان الزحام، فكروا جميعا قافلين، مخلفين الشيخ فوق الأرض عاجزا - كما يبدو - عن أن يحرك عضوا أو مفصلا من جسمه. وما انقضت لحظة حتى ساد الهدوء والسكينة، وعادت الأمور كما كانت قبل قدوم الشيخ.
الفصل الحادي والعشرون
أنا القاتل الواهن،
وهذا الذئب يعوي كأنه يرقبني؛
بخطى خفيفة الوطء كخطى «تاركوين»
1
أسير نحو الفريسة كما تسير الأشباح.
من «ماكبث» لشكسبير
ما انقضى ربع ساعة أو ما يزيد بعد الحادث الذي روينا حتى ساد السكون التام أمام مسكن المليك، وجلس الملك لدى مدخل السرادق بين القراءة والتأمل، وكان العبد النوبي ما يزال يجلو الدرقة الضخمة، موليا ظهره باب الفسطاط. وأمام هذا المشهد - على بعد نحو مائة خطوة - وقف بعض من عامة الحراس، وجلس بعضهم الآخر أو رقدوا مستلقين فوق العشب، لا يحفلون بغير قصفهم وطربهم، ويتبعهم في صمت وسكون ذلك الشيخ لا يحس به أحد، وما فتئ في الرحبة التي تمتد بين الحراس والسرادق، ما تكاد تميزه عن حزمة من الخرق البالية.
وكان النوبي يستخدم الدرقة كالمرآة، إذ كان لوجهيها بريق وهاج تنعكس عليه المرئيات انعكاسا واضحا. ولشد ما كانت دهشته وذعره حينما رأى فيها أن الشيخ قد رفع رأسه قليلا عن الأرض حتى يرى كل ما كان يدور حواليه، وأخذ يتحرك بحذر وإحكام لا يتفقان البتة وما كان عليه من ثمل، ثم نكس رأسه في الحال، وكأنه اطمأن إلى أن أحدا لم يكن يرقبه، وشرع يزحف وما يكاد الرائي يلمس في حركته جهدا تلقائيا، كأنه يتقدم عفوا نحو الملك شيئا فشيئا، ولكنه بين الحين والحين يقف ويلبث ساكنا، كالعنكبوت يسير نحو غايته ثم تراه وكأن معين الحياة قد نضب منه؛ إذ ظن أنه بات محط النظر، فارتاب النوبي في هذا الضرب من الحركة، وتأهب من جانبه - مسرعا على قدر ما يستطيع - حتى يتدخل في اللحظة التي يمسي تدخله فيها أمرا لا مندوحة عنه.
وواصل الشيخ الزحف شيئا فشيئا كالأفعى أو القوقعة، وما يكاد الرائي يحس به، حتى بات على بعد عشر أذرعة من شخص رتشارد، ثم نهض على قدميه، ووثب قدما كما يثب النمر، ووقف إلى ظهر الملك في أسرع من لمح البصر، ولوح بخنجره في الهواء، وكان قد أخفاه في كمه، وما كان جيش رتشارد بأسره حينئذ بمستطيع أن ينقذ مليكه البطل، ولكن النوبي كان - كذلك الشيخ المتهوس - يسير بقدر، فما إن هم الثاني بالطعن حتى أمسك الأول بذراعه المرفوعة، فحول «الخارجي» - وظاهره كالأولياء - ثورة غضبه نحو ذلك الذي اعترض ما بينه وبين مرماه فجاءة وبغير انتظار، وطعن النوبي بخنجره طعنة سحجت ذراعه، بينما انقض عليه النوبي وطرحه أرضا، وما أيسر ما هشمه بقوته التي ترجح قوة الشيخ أضعافا مضاعفة. وحينئذ أدرك رتشارد ما دار بين الرجلين، فنهض، وما عراه من الدهشة والغضب، أو ارتسم على محياه انفعال ما، غير ما يبدي الرجل العادي حينما يبعد عن نفسه زنبورا دخيلا أو يسحقه. ثم أمسك بالمقعد الذي كان يستوي عليه، وما زاد على أن صاح قائلا: «ها! وغد دنيء!» ثم هشم رأس القاتل تهشيما، وصاح الرجل وقال: «الله أكبر، الله أكبر.» مرتين، مرة بنغم عال، ومرة بصوت متهدج، ثم أسلم الروح عند قدمي المليك.
هذا الشغب الذي صحب ما وقع، نبه النبالين من أتباع رتشارد، فاندفعوا إلى السرادق مرتاعين صاخبين، فصاح بهم رتشارد في صوت فيه نغم العتاب والتهكم وقال: «حقا إنكم لحفظة ساهرون، وحراس نابهون، فلقد تركتموني أقوم بعمل الجلاد بيدي لا بيد عمرو. أنصتوا جميعا، وأوقفوا ضجيجكم هذا الذي لا ينطوي على شيء! هلا رأيتم أبدا من قبل رجلا تركيا قتيلا؟ هو ذا. انبذوا هذه الجيفة من المعسكر، وافصلوا الرأس عن جذعه، وعلقوه فوق رمح، وولوا وجهه شطر مكة، حتى يتيسر له أن يقول لذلك المدعي الدنس، الذي أوحى له أن يأتي إلى هنا، كيف بلغ الرسول رسالته.» ثم قال وقد التفت نحو الأتيوبي: «أما أنت يا صاحبي الأسود الصامت ... ولكن ما هذا؟ إنك جريح، وبسلاح في ظباته السم لا ريب؛ إذ إن حيوانا ضعيفا كهذا لا يستطيع بقوة الطعن وحدها أكثر من أن يصيب إهاب الليث. ليمتص السم من جرحه أحدكم؛ إن السم قاتل إذا اختلط بالدماء، ولكنه لا يؤذي الشفاه إن مسته.»
فأخذ عامة الحراس يتبادلون النظر مضطربين مترددين، وغلب الرعب من هذا الخطر الداهم أولئك الرجال الذين ما كانت الخشية تتطرق إلى قلوبهم.
ثم واصل الملك حديثه وقال: «ثم ماذا أيها الرجال؟ هل أنتم ذوو شفاه رقيقة، أم هل تخشون الموت فتتأخرون ولا تتقدمون؟»
فقال «لنج ألن» وكان الملك ينظر إليه وهو يتكلم: «نحن لا نخشى موت الرجال، ولكني لا أحب أن أموت كما تموت الفأر المسمومة في سبيل تلك الكتلة السوداء الملقاة هناك، التي تباع وتشترى في السوق كثور «مارتلماس».»
فتمتم رجل آخر وقال: «إن جلالة الملك يطلب إلينا مص السم وكأنه يقول لنا هيا احتسوا من هذه الخمر!»
فقال رتشارد: «كلا، والله ما سألت يوما رجلا أن يعمل ما لم أعمل.»
ثم وضع الملك شفتيه على جرح العبد الأسود، غير آبه ولا مكترث بأصوات الاحتجاج ممن أحاط به، ولا بمعارضة النوبي نفسه الذي كان يجل سيده، فلقد هزأ رتشارد بكل عتاب وغلب كل مقاومة، وما إن توقف لحظة عن هذا العمل الفريد الذي أقدم عليه، حتى املس منه النوبي، ورمى فوق ساعده وشاحا، وألمع - بشارات تنم عن الحزم كما تنم عن إجلاله لمليكه - إلى عزمه على ألا يسمح للملك أن يعود إلى هذه الخدمة المحطة به؛ وتعرض «لنج ألن» كذلك وقال: إن كان لا بد من إبعاد الملك عن الاشتغال بمثل ذلك العلاج فإنه يقدم شفتيه ولسانه وأسنانه لخدمة العبد (وكان يسمى الأتيوبي كذلك)، وإنه ليلتهم جسده التهاما قبل أن يلمسه الملك رتشارد بفمه.
ثم دخل نفيل مع ثلة من الضباط، وضم صوت احتجاجه إلى أصوات الآخرين.
فقال الملك «كلا، كلا، لا تصيحوا صياحا لا طائل منه بعد أن يفلت الظبي من كلاب الصيد، أو بعدما يقبل الخطر ثم ينقضي. سوف يكون الجرح طفيفا لأني لم أكد أمتص من الدماء قطرة. والله لو كان قطا غاضبا لكان خدشه أشد وأعمق. أما أنا فحسبي أن أتناول حبة من بلسم شاف أتقي بها، وإن تكن لا حاجة لي بها.»
وهكذا كان يتكلم رتشارد غير مستح من تنازله من عليائه، بل لقد كساه جلالا حنوه واعترافه بالجميل، ولما واصل نفيل اللوم والعتاب على تعريض الملك ذاته الكريمة للخطر، فرض عليه الملك أن يلزم السكون.
وقال: «أرجوك الصمت وألا تذكر هذا الأمر بعد هذا؛ إنما فعلت ذلك كي أبين لهؤلاء السفلة الجهلة المتحاملين كيف يستطيعون أن يعاون بعضهم بعضا إذا ما هاجمنا أولئك الأدنياء الأنذال بحبالهم ونبالهم المسمومة.» ثم قال: «خذ هذا النوبي إلى مسكنك يا نفيل، لقد عدلت عن رأيي في أمره، وأسبغ عليه رعاية كافية، ولكن اسمع مني هذا في أذنك - تنبه كي لا يفر منك - إن مخبره خير من مظهره. أعطه الحرية كاملة كي لا يترك المعسكر. وأما أنتم أيها الأوغاد الإنجليز أكلة اللحوم ونهلة الخمر، فعودوا إلى أماكن حراستكم ثانية، واستوثقوا من زيادة الحذر في رقابتكم. لا تحسبوا أنكم الآن في بلادكم حيث الصراحة في المعاملة، وحيث يتكلم الرجل قبل أن يضرب، ويصافح قبل أن يحز الرقاب. إنما الخطر في بلادنا يسير صراحا وظباته مسنونة مسلولة يتحدى العدو الذي يريد به الهجوم، وأما هنا فخصمك يستنهدك وعلى يديه قفاز من الحرير لا من الحديد، ويحز رقبتك بريش اليمام، ويطعنك بطرف دبوس القس، أو يخنقك برباط ثياب الغيد. اذهبوا وافتحوا أعينكم وأغلقوا أفواهكم، وأقلوا من شرابكم، وأحدوا من أبصاركم، واشهدوا ما حواليكم، وإلا قصرت في إطعام بطونكم الكبيرة حتى يشكو الجوع أشد الاسكتلنديين صبرا.»
فخجل الحراس وخارت نفوسهم، ثم عادوا إلى أماكنهم، وبدأ نفيل يعتب على سيده مخاطرته بتهاونه في إهمال الحراس لواجبهم، وضربهم لغيرهم مثلا سيئا في أمر بالغ الخطر كسماحهم لرجل مريب كالشيخ أن يدنو حتى يصير من شخص الملك قاب قوسين. وهنا عارض الملك نفيل وقال: «لا تذكر هذا الأمر يا نفيل، أفكنت تريدني على أن أنتقم لنفسي من خطر زري كهذا بأشد من نقمتي على ضياع راية إنجلترا؟ لقد انتزعت وسرقها لص، أو اختطفها خائن ثم أسلمها، ولم ترق في سبيلها قطرة من دم. أي صاحبي الأسود، يقول السلطان المجيد إنك تدرك من الأمور خفيها، والآن لو استخدمت رجلا أشد منك حلوكة ، أو أي وسيط آخر أردت، كي تكشف لي عن اللص الذي ألحق بشرفي الإساءة، أعطيتك وزنك ذهبا، ماذا تقول في هذا؟ ها!»
وبدت على الرجل الأبكم الرغبة في الكلام، ولكنه تمتم بصوت خافض متقطع، صادر عن نفس حزينة كئيبة، ثم أطبق ذراعا فوق الأخرى، ونظر إلى الملك بعين فيها لمحة الأريب، ونكس رأسه إجابة على ما سئل.
فقال رتشارد جازعا متلهفا: «ماذا تقول! هل تأخذ على نفسك أن تكشف عن هذا الأمر؟»
فكرر العبد النوبي الإيماءة الأولى.
وقال الملك: «كيف لنا أن نتفاهم؟ هل تستطيع الكتابة أيها الرجل الكريم؟»
فنكس العبد رأسه ثانية إيجابا.
فقال الملك: «أعطوه ما يكتب به، لقد كانت أداة الكتابة أبدا في فسطاط أبي أقرب منالا منها في فسطاطي، ولكن إن بحثتم وجدتموها هنا أو هناك، اللهم إلا إن كان هذا الجو المحرق قد جفف المداد. والله يا نفيل إن هذا الرجل لجوهرة، بل لؤلؤة سوداء.»
فقال نفيل: «هل لا يأذن لي مولاي أن أقول ما أرى؟ والله يا سيدي ما أحسب هذا الأمر إلا صفقة خاسرة، وما أحسب هذا الرجل إلا ساحرا، والسحرة ينضمون إلى الخصوم الذين يريدون أن يدسوا لنا السم في الدسم، وأن يبثوا الشقاق في صفوف مجامعنا و...»
فقال رتشارد: «صه يا نفيل، إذا ما دنا كلبك الشمالي من ردف الغزال فصح به وارج تلبيته، ولكن إذا ما كان بلانتاجنت يأمل أن يسترد شرفه فلا تحاول أن تقف في سبيله.»
وفي غضون ذلك الحديث كان العبد يكتب وكأنه قد حذق فن الكتابة، ثم نهض ورفع ما سطر إلى جبينه، وخر ساجدا - كعادته - قبل أن يسلم المكتوب إلى يدي رتشارد. وكان المخطوط بالفرنسية، رغم أن رتشارد كان يتكلم بالفرنجية حتى ذلك الحين. «إلى رتشارد الملك الظافر الذي لا يقهر، ملك إنجلترا، يقدم هذا أشد رقيقه خضوعا. إنما الأسرار الخفية صناديق السماء المغلقة، ولكن الحكمة قد تفتق الوسيلة لفض ما أوصد. لو كان لعبدك أن يقف حيث زعماء الجيش المسيحي يسيرون أمامه واحدا تلو الآخر، فكن على يقين أنه إن كان بين جموعهم من صدرت عنه الإساءة التي يشكوها الملك، فسوف يبدو للعيان إثمه، حتى وإن كان مستورا وراء حجب سبعة.»
فقال الملك رتشارد: «أقسم بالقديس جورج لقد تحدثت بأحسن تحديث، نفيل! أنت تعرف أنا سوف نحشد جندنا غدا، وقد اتفق الأمراء أن يسير الزعماء برايتنا الجديدة وهي ترفرف فوق قمة سنت جورج، ثم يحيونها بما يليق من إجلال، تكفيرا عن الهوان الذي لحق بإنجلترا من ضياع العلم. صدقني إن الخائن المتستر لن يجرؤ على التغيب عن هذا المشهد الرائع الذي تمحي به الإهانة، خشية أن يكون غيابه موضعا للريبة. هنالك سوف نقيم هذا الرجل الأسود صاحب الرأي السديد، وإذا استطاع بفنه أن يكشف عن الوغد الدنيء، فدعني أفعل به ما أريد.»
فقال نفيل في صراحة البارون الإنجليزي: «مولاي، احذر ما أنت شارع فيه، لقد تجدد الوئام بين أفراد عصبتنا المقدسة، وهو أمر لم يكن في الحسبان، فهل تريد على أساس واه من الريبة، يبعثها عبد أسود، أن تثلم جراحا ما اندملت إلا منذ عهد قريب، أم هل تريد أن تجعل من الموكب المهيب - الذي سوف يحتشد لاسترداد شرفك وتأسيس الوحدة بين الأمراء المتنافرين - وسيلة جديدة لإيجاد سبب آخر للأذى، أو إحياء إحن قديمة في النفوس؟ وما كان أغناني عن هذا القول، فما هو إلا لمحة من البيان الذي أدلى به جلالتكم لمجمع الصليبيين الحاشد.»
فعبس الملك واعترض نفيل وقال: «أي نفيل، لقد جعلتك غيرتك وقحا لا خلاق لك، إني ما وعدت قط أن أحجم عن السير في أية سبيل تؤدي إلى الكشف عن ذلك الرجل الممقوت الذي ابتعث تهجم على شرفي. والله ما كان أجدرني أن أنزل عن ملكي - بل عن حياتي - قبل أن أفعل ذلك. إن كان بيان أدليت به كان لا يخلو من هذا الشرط الضروري الحاسم، وما كنت لأعفو عن دوق النمسا من أجل العالم المسيحي إلا إن تقدم وأقر بإثمه إقرار الرجال.»
ثم استأنف البارون حديثه جازعا والها وقال : «ولكن أي أمل لنا في أن هذا العبد المحتال لن يخدع جلالتكم؟»
فقال الملك: «صمتا نفيل، إنك تحسب نفسك حكيما قديرا، وما أنت إلا أحمق جاهل. فإن ذكرت أمري مع هذا الرجل فحاذر، واعلم أنه أسحق غورا من أن تدرك كنهه بفطنتك وذكائك، ذكاء «وستمورلاند». وأما أنت أيها الأسود الصامت، فأعد عدتك لتنجز العمل الذي وعدت، وخذها كلمة من ملك أنك سوف تختار لنفسك جزاءها. صه، صه! لقد عاود الكتابة.»
وخط الرجل الصامت إذ ذاك وريقة أخرى، قدمها إلى الملك ماثلا كما فعل أول مرة، وجاء في مكتوبه هذه الكلمات: «إن إرادة الملك شريعة عبده، ولا يليق للعبد أن يطلب الجزاء على أداء واجبه.»
فتوقف الملك عن القراءه وقال متعجبا: «الجزاء، والواجب!» ثم وجه الخطاب إلى نفيل، وكلمه باللسان الإنجليزي وبصيغة التأكيد قائلا: «سوف يفيد أهل الشرق هؤلاء من الصليبيين؛ إنهم يتعلمون منهم لغة الفروسية! انظر يا نفيل إلى هذا الرجل كيف هو مضطرب جازع، ولولا لونه الأسود لبدا الاحمرار على وجنتيه. والله ما عجبت لو أنه أدرك ما أقول، فهم في حذق اللغات بارعون.»
فقال نفيل: «ليس في الأمر إلا أن هذا العبد المسكين لا قبل له بنظرة جلالتك.»
ثم واصل الملك كلامه، وضرب على الورقة بإصبعه وهو يقول: «ولكن هذا المكتوب الجريء يذكر أن رجلنا هذا الصامت، الذي وثقنا فيه، يحمل رسالة من صلاح الدين إلى السيدة أديث بلانتاجنت، وهو الآن يرجو الوسيلة والفرصة لإبلاغ ما حمل، فماذا ترى يا نفيل في هذا المطلب المتواضع؟»
فقال نفيل: «إني لا أدري كيف تستسيغ جلالتكم مثل هذه الحرية، ولكني ما أشك في أنك لو بعثت من لدنك رسولا يحمل إلى السلطان مثل هذا المطلب ما استقام على كتفي رسولك رأسه طويلا.»
فقال رتشارد: «الحمد لله على أني لا أشتهي واحدة من حسانه اللائي لفحتهن الشمس، وأما أني أجازي هذا الرجل على أداء رسالة سيده، وأن أجازيه بعدما أنقذ حياتي بزمن وجيز، فما أحسب إلا أن هذا عمل جائر. سوف أبوح لك بسر يا نفيل؛ ولئن كان خادمنا الأسود الصامت واقفا إلا أنه لا يستطيع - كما تعلم - أن يعيد الكلام، حتى وإن أدرك ما نقول. اعلم يا نفيل أني في الأسبوعين الماضيين كنت تحت تأثير تعويذة عجيبة، وكم وددت لو خلصت من سحرها، وما تقدم لي رجل بخدمة طيبة حتى محا ما عمل من خير بأذى بالغ، وما استحق الموت على يدي لخيانة أو إهانة إلا رجل - من بين الرجال جميعا - صنع بي جميلا يرجح كل ما به من مثالب وأصبح له - رغم ما يستحق من جزاء - دين على شرفي؛ وهكذا ترى أني حرمت خير جانب من جوانب وظيفتي، فأنا لا أستطيع أن أجزى خيرا ولا شرا؛ والله إلى أن يبدل الله الأرض غير الأرض، لن أقول عن مطلب خادمنا هذا الأسود إلا أنه مطلب جريء جرأة ما بعدها جرأة، وإن خير فرصة له لكسب عفونا ورضانا، هي أن يحاول أن يكشف لنا عن الجارم كما عرض، وحتى آنئذ أوله رعايتك يا نفيل واسع في العناية به عناية لائقة.» ثم قال الملك في صوت خافت: «واستمع إلي مرة أخرى، اذهب في طلب ناسك عين جدة وتعال به إلي توا، قديسا كان أو همجيا، عاقلا أو مجنونا، ودعني أكلمه خفية وسرا.»
ففصل نفيل عن السرادق الملكي، وأشار إلى النوبي أن يتبعه، وهو شديد العجب مما رأى وسمع، وبخاصة من مسلك الملك مسلكا غير معهود. ولم يكن على الجملة هناك أيسر على المرء من أن يكشف عن مشاعر رتشارد وإحساساته المباشرة العاجلة - وإن يكن عسيرا في بعض الأحيان أن تعرف كم ذا يطول بقاؤها، فلقد كان الملك لعواصف انفعاله أطوع من الريشة في مهب الريح القلب - ولكن طبعه في هذا الظرف كان - على غير المعهود - هادئا غامضا، ولم يكن من اليسير أن تحكم أيها غلب عليه في معاملته لهذا الرجل الذي انضم إلى حاشيته أخيرا: الغضب أم الشفقة، أو أن تعرف بأي عين كان ينظر إلى الرجل الفينة بعد الفينة ؛ ولقد كان في الخدمة العاجلة، التي أداها الملك للنوبي كي يقيه ما قد ينجم عن جرحه من سيء الأثر، كفاء للجميل الذي صنعه العبد فيه، حينما تعرض لضربة القاتل المغتال، ولكن يظهر أن حسابا طويلا ما برح بينهما رهن التصفية، وكان الملك في شك هل سيخرج من هذه التصفية على الجملة دائنا أو مدينا، ولذا فقد اتخذ في ذلك الحين طريقا وسطا تليق به إن كان هذا أو ذاك. أما عن النوبي وأنى تعلم فن كتابة اللغات الأوروبية، فقد كان كالملك يعتقد أنه لم يحذق اللسان الإنجليزي على الأقل، لأنه راقبه عن كثب خلال ما دار أخيرا، ورأى أنه يستحيل على رجل يفقه حديثا يدور بشأنه أن يظهر وكأنه لا يأبه البتة بالحديث.
الفصل الثاني والعشرون
من هناك؟ هيا اقترب. إنه فضل منك.
هو طبيبي الحكيم، وصديقي الحميم.
السير يوستاس جري
والآن نعود بروايتنا إلى الفترة التي سبقت ما ذكرنا أخيرا من حوادث بمدة وجيزة، وذلك حينما أبعد فارس النمر البائس عن معسكر الصليبيين، وقد تميز بين صفوفه امتيازا كبيرا؛ ووهبه الملك رتشارد الطبيب العربي - كما يذكر القارئ - وهو إلى مرتبة الرقيق أقرب منه إلى أي شيء آخر. تبع الفارس سيده الجديد - كما يصح لنا الآن أن نسمي الحكيم - وقصدوا خيام المغاربة التي كانت تضم حاشيته وأملاكه، وشعوره فاقد الرشد كرجل سقط من قمة جبل ونجا بحياته على غير انتظار، وهو لا يقوى إلا على أن يسير متخاذلا من المكان الذي صرع فيه، ولكنه لا يستطيع أن يسبر مدى ما لحق به من أذى وضرر. وما إن بلغ الفسطاط حتى ارتمى دون أن ينبس ببنت شفة فوق فراش من جلد الجاموس المدبوغ، دله عليه مرشده، ثم أخفى وجهه بين يديه، وأخذ يئن أنينا عاليا وكأن قلبه يوشك أن يتفطر، وقد سمعه الطبيب - وهو يلقي بأوامره على خدمه العديدين كي يستعدوا للرحيل صبيحة اليوم التالي قبل منبثق النهار - فتحركت في نفسه الشفقة، وتوقف عما كان مشتغلا به، ثم جلس ملقيا ساقا فوق الأخرى إلى جانب سريره، وأخذ يواسي الرجل كما يفعل أهل الشرق عادة.
وقال: «أي صديقي، هون على نفسك، فلقد قال الشاعر ما معناه: «خير للرجل أن يكون خادما لسيد شفيق من أن يكون عبدا لشهواته القوية الخاصة، وتشجع، فإن يوسف بن يعقوب قد باعه إخوته إلى فرعون ملك مصر، ولكن مليكك وهبك رجلا سوف يكون لك كالأخ الشقيق.»
وجاهد السير كنث أن يشكر الحكيم، ولكن قلبه كان مفعما، فصدرت عنه أصوات غامضة وهو يحاول دون جدوى أن يجيب، فدفعت هذه الأصوات الطبيب الشفيق إلى أن يكف عن محاولاته المبتسرة لتعزية الفارس، وخلف خادمه هذا الجديد - أو قل ضيفه هذا - وادعا ساكنا يسترسل في أحزانه. وبعدما أمر بكل ما يلزم من إعداد للرحيل صبيحة الغد، جلس على بساط الفسطاط، وتناول وجبة وسطا بين بين، ولما انتعش بالطعام قليلا، قدم للفارس الاسكتلندي قوتا كقوته. ورغم أن العبيد قد أفهموا السير كنث أنهم لن يقفوا في اليوم التالي للطعام إلا بعد أن تتقدم من اليوم ساعات عديدة، فإن الرجل لم يستطع أن يتغلب على النفور الذي كان يحس به من تناول القوت، وعبثا ألحفوا عليه أن يتذوق شيئا اللهم إلا جرعة من الماء البارد.
واستيقظ السير كنث بعدما أدى مضيفه فريضة الصباح ثم أوى «المضيف» إلى فراشه بزمن طويل. ولم يزر الكرى جفني العربي حتى انتصف الليل، وسرت بين خدمه حركة لم يصحبها حديث ولا ضجيج كثير، ولكنه علم منها - رغم ذلك - أنهم كانوا يحملون البعير ويتأهبون للرحيل، وبينا هذا الإعداد قائم على قدم وساق، كان فارس اسكتلندا آخر من هب من رقاده إذا استثنينا الطبيب. ولما كانت الثالثة صباحا أو ما إلى ذلك، قال له رئيس الخدم إنه ينبغي له أن ينهض، ففعل دون أن يحير جوابا، وتبعه في ضياء القمر حيث الجمال قائمة، وأكثرها يحمل على ظهره عبئه، ولم يبق منها غير واحد أناخ حتى يتم تحميله.
وعلى كثب من النوق وقف عدد من الخيل ملجمة مسرجة، ثم أقبل الحكيم نفسه وامتطى واحدا منها برشاقة تتفق ورزانة مركزه، وأشار إلى آخر كي يساق إلى السير كنث، وكان بانتظارهم ضابط إنجليزي كي يخفرهم خلال معسكر الصليبيين ويتثبت من رحيلهم آمنين. وكان كل شيء على أهبة للسفر، ثم اقتلع السرادق الذي خلفوه بخفة عجيبة، وكان حمل الناقة الأخيرة يتألف من أغطية الفسطاط وقوائمه العشرة، ثم كرر الطبيب هذه العبارة في مهابة وخشوع «الله يهدينا ومحمد يقينا في البر والبحر.» ثم فصلت القافلة بأسرها في الحال.
واعترض سبيلهم - وهم يشقون المعسكر - الخفراء العديدون الساهرون على الحراسة هناك، وإذا ما مرت القافلة بحي من أحياء الصليبيين الغيورين، سار رجالها اضطرارا في سكينة وهدوء، أو استمعوا إلى اللعنات تنصب على نبيهم تمتمة فغضوا عنها الطرف كارهين. وأخيرا تخطوا آخر العقبات، والتأمت جماعتهم وهي تسير سيرا عسكريا حذرا، وتقدمهم اثنان أو ثلاثة من الركبان طليعة لهم، يتبعهم واحد أو اثنان على قيد رمح، وكلما تهيأت الظروف انفصل بعض منهم ليرقب الجناحين، وهكذا سار الجميع قدما، ونظر السير كنث وراءه إلى المعسكر يفضضه ضياء القمر، فأحس إحساسا قويا بحرمانه من الشرف والحرية، وبإقصائه عن الأعلام الخفاقة التي كان يأمل أن يحظى تحت ظلها ببعد الصيت، وأحس كذلك ببعده عن خيام الفروسية والمسيحية و... عن أديث بلانتاجنت.
وكان الحكيم راكبا جواده إلى جواره، فأخذ بنغمه المألوف يسري عن السير كنث بسديد الحكم وقال: «إن كان السفر أمامك فليس من الحكمة أن تتطلع وراءك.» وبينما هو يتكلم زل جواد الفارس في مشيته زلة خطرة كأنها درس خلقي عملي يتمم قصة العربي.
وقد اضطر الفارس من هذه العثرة أن يشتد في امتلاك زمام الجواد، واضطر أكثر من مرة أن يلجأ إلى العنان ويستعين به، وأما فيما عدا ذلك فلم يكن ثمة أسلس قيادا ولا أخف حركة من هذه الفرس وهي تسير وخدا بخطى متزنة.
وقال الطبيب صاحب الأمثال: «ما أشبه جوادك هذا بحظ الإنسان. لا بد للراكب - والجواد يخف به بخطى هينة لينة - أن يحذر من السقوط، وكذلك الأمر إن بلغ بنا الجد ذروته، ينبغي لحكمتنا أن تتيقظ وتتنبه كي ننجو من سوء الطالع.»
ولكنا إذا ما امتلأت منا البطون، نفرنا حتى من أقراص الشهد؛ فليس عجيبا إذن أن يضيق بالفارس الصبر - وقد أذله نكد الطالع، وخارت عزيمته مما لحقه من الهوان - فلا يستمع إلى شقوته وقد باتت في كل مناسبة مضربا للحكمة والمثل، مهما صدق المثل وأصاب.
فقال متبرما: «ما أحسبني بحاجة إلى زيادة الإيضاح عن تذبذب الجد، ولأشكرنك يا سيدي الحكيم على حسن انتقائك لجوادي لو أنه زل زلة قاضية تنكسر فيها رقبتي ورقبته.»
فأجاب الحكيم العربي مهيبا رزينا رابط الجأش وقال: «أخي! إنما أنت تتكلم كما يتكلم الحمقى؛ أنت تقول في سريرتك إن الحكيم كان ينبغي له أن يعطيك - كضيف له - خير الجوادين وأصغرهما، وأن يحتفظ بالفرس العجوز لنفسه، ولكن اعلم أن مثالب الفرس العجوز يقابلها نشاط الراكب الشاب، وأن شدة الجواد الفتي يكسر من حدتها طبع الشيخ البارد.»
هكذا تكلم الحكيم، ولكن السير كنث لم يحر لهذا الخاطر جوابا مما قد يؤدي إلى مواصلة الحديث بينهما. ولعل الطبيب قد كل من التعزية يتقدم بها إلى رجل لا يقبل التعزية، فأشار إلى واحد من حاشيته.
وقال: «أليس لديك، يا حسن، شيء نقتل به ملل الطريق؟»
وحسن هذا قصاص شاعر ومحترف، دفعه هذا السؤال إلى أن يجيب إلى ما سئل، فقال محدثا الطبيب: «أي مولاي، يا سيد دار الفناء، أنت ذلك الذي إن رآه الملك عزرائيل نشر جناحيه وطار، أنت أحكم من سليمان بن داود الذي انطبع على خاتمه «اسم الجلالة»، هذا الاسم الذي يسيطر على الأرواح في هذه الدنيا؛ أنت تسير على جادة الخير تحمل حيث تحل الشفاء والأمل، فحاشا لله أن تكتئب حياتك من قلة القصص أو الغناء. استمع إلي! ما دام خادمك إلى جوارك، فسوف تتدفق كنوز ذاكرته كما يتدفق من النبع في الدرب تيار الماء ينتعش به كل من سار على الطريق.»
وبعد هذه الديباجة، رفع حسن صوته، وشرع يقص قصة حب وسحر، تتخللها مآثر الظفر والقتال ، وتحليها المقتبسات من شعر الفرس، والمحدث بأقوالهم عليم، وإذ ذاك احتشدت حول القصاص حاشية الطبيب كلها، ما خلا أولئك الذين كان لا بد لهم من التخلف لرعاية البعير، وتزاحموا - على قدر ما يسمح لهم احترامهم لسيدهم - كي ينعموا بتلك اللذة التي يجدها أبدا أهل الشرق في هذا الضرب من الرواية.
ولربما لذ للسير كنث في ظرف غير هذا أن يستمع إلى هذه الرواية، التي كانت شديدة الشبه بقصص الفروسية الخيالية الذائعة في أوروبا في ذلك الحين، وذلك رغم عجزه عن فهم اللسان العربي فهما صحيحا، ورغم أن هذه القصص كانت من إملاء خيال أشد إسرافا، ومسوقة في لغة أكثر مبالغة، ومليئة بالاستعارة والكناية، لكنه - في هذا الظرف - لم يكد يحس حتى بأن رجلا قد توسط القافة وأخذ ينشد ويغني في نغم خافت نحوا من ساعتين، مترنما بصوته ترنما يقابل به شتيت العواطف وألوانها المختلفة التي ساقها في قصته. وهو يستمع لقاء ذلك مرة إلى الإعجاب به في دمدمة خافتة، ومرة إلى استحسانه في تمتمة خافضة، وحينا إلى النحيب والبكاء، وحينا إلى إثابته بالبسمات، بل وبعالي الضحكات - والضحك على قلوب سامعيه ثقيل.
ومهما بلغ بالرجل الطريد من شرود الذهن والاسترسال في الأحزان، فقد كان يوقظ انتباهه الفينة بعد الفينة خلال هذا القصص نباح خافت يصدر عن كلب وضع في صندوق من الصفصاف يتدلى من إحدى النوق. وفارسنا - كالحاطب المحنك - لم يتردد في معرفة الكلب، فلقد كان كلبه الأمين بعينه، ولم يشك من نباح الكلب وأنينه أن الكلب كان يدرك قرب سيده ويناشده - بطريقته - العون على إنقاذه وتحريره.
فقال: «وا أسفاه يا «رزوال» المسكين، أنت تطلب النجدة والعطف من رجل مكبل في أصفاد أضيق مما أنت فيه. سوف أتظاهر بعدم الاكتراث لك، ولن أجاوبك المحبة، ما دام ذلك لن يؤدي إلا إلى اشتداد المرارة عند الفراق.»
وهكذا انقضت ساعات الليل، وانقشع الفجر المعتم القاتل الذي يسبق تباشير الصباح في سوريا، ولكن ما إن أشرق الخيط الأول من قرص الشمس وعلا فوق الأفق ، وما إن اندلع الشعاع الأول وتألق في قطرات الندى - التي كانت تنتثر فوق القفر الذي بلغه الركب إذ ذاك - حتى علا صوت الحكيم الجهوري على صوت القصاص، وقطع عليه روايته، وأخذ يردد فوق الرمال ذلك النداء المهيب الذي يدوي به المؤذنون في المساجد فوق المنائر كل صباح، ويقول: «حي على الصلاة، حي على الصلاة، لا إله إلا الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة، محمد رسول الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة، هذه الدار إلى الفناء. حي على الصلاة، حي على الصلاة، إن يوم الحساب قريب.»
1
وفي أسرع من لمح البصر، نزل المسلمون جميعا من فوق الجياد، وولوا وجوههم شطر مكة، وتيمموا بالرمال عوضا عن الوضوء بالماء، ودعا كل منهم ربه ونبيه - في عبارة موجزة حارة - أن يشملاه بالرعاية ويغفرا له ذنوبه وآثامه.
ولما رأى السير كنث أقرانه يقومون بعمل لا يحسبه إلا الوثنية بعينها، تألم في قلبه وفي نفسه، ولكنه رغم ذلك لم يسعه إلا أن يجل فيهم إخلاصهم وحماستهم هذه، وإن يكن في طريق الضلال. واستحثته حرارة إيمانهم على أن يضرع إلى الله هو ذاته بدعاء أطهر من دعائهم، ولكنه عجب - مع ذلك - من هذا الإحساس الجديد الذي دفع به إلى مشاركة أولئك الأعراب في الصلاة - حتى وإن يكن بابتهال غير ابتهالهم - أولئك الأعراب الذين رأى في صلاتهم إجراما مشينا بالأرض التي قامت فيها عجائب المعجزات، وأشرق فيها نجم الخلاص.
2
هذا الابتهال - الذي تضرع به السير كنث في هذه البيئة الغريبة - كان يتفجر من شعور طبعي خالص بالواجب الديني، وكان له الأثر المعهود في تهدئة الخواطر التي اضطربت طويلا من هذه النكبات التي توالت عليه واحدة إثر الأخرى. وتقرب المسيحي إلى عرش الواحد القهار مخلصا جادا يعلمه خير درس في الصبر تحت الأرزاء، لأنا إن كنا نبرم بحكم الله فنحن إذن نسيء إليه، وإن كنا نسيء إليه فكيف لنا أن نتظاهر بالضراعة إليه؟ أو إن كنا في صلواتنا نقر في كل عبارة بعبث هذه الدار الفانية وهبائها إذا قيست بما في دار الخلود والبقاء، فكيف لنا أن نأمل في خداع علام الغيوب ونسمح للدنيا وللشهوات الدنيوية أن تتملكنا في كل حين، بل وبعد الدعاء الخاشع لله توا؟ ولكن السير كنث لم يكن من هؤلاء؛ فلقد أحس بالراحة والقوة، وشعر بأنه أكثر استعدادا للخنوع أو للقيام بما تتطلبه الظروف من العمل والعناء.
وكان جماعة الأعراب إذ ذاك قد عادت إلى ظهور الجمال، واستأنفت المسير، وواصل حسن القصاص حبل روايته، ولكن سامعيه لم يعودوا - كما كانوا - مصغين منصتين؛ كان أحد الخيالة قد صعد على نشز من الأرض إلى يمين الصف القصير، والآن عاد يهرول مسرعا إلى الحكيم وأخذ يحادثه، وعلى إثر ذلك بعث بأربعة أو خمسة من الفرسان، وشرعت القافلة الصغيرة - وعدتها نحو من عشرين أو ثلاثين رجلا - تتبعهم بالنظرات، كأنهم قوم في شاراتهم أو تقدمهم أو تقهقرهم ما يبشر بالخير أو ينذر بالشر. ولما رأى حسن أن سامعيه غير منصتين، أو قل لما صرفته هو نفسه هذه المظاهر المريبة في جناح القافلة، وقف عن الغناء، وسار الركب في صمت لا يضطرب إلا حينما يحدو البعير الصابر راكب من الركبان، أو حينما يتحدث رجل قلق من أتباع الحكيم إلى جاره في همس خافت وعلى عجل.
وبقوا على هذا الركود حتى أتوا سفح رابية من الرمال أخفت عن قافلتهم ما كان قد حدا بطلائعهم إلى الذعر، واستطاع السير كنث إذ ذاك أن يرى على بعد ميل أو ما ينيف، شيئا أسود يتحرك في قلب الصحراء سريعا، نظر إليه بعين المحنك فأدرك أنه قافلة من الفرسان أوفر من قافلتهم عديدا، وكان الوميض الكثيف المتلاحق الذي يعكس الأشعة الأفقية من الشمس المشرقة يدل على أن تلك الجماعة كانت ثلة من الأوروبيين في كامل عدتهم وسلاحهم.
فألقى فرسان الحكيم على زعيمهم نظرات جازعة قلقة تنم عن خوف في النفوس شديد، أما الحكيم فلبث رزينا رابط الجأش كما كان حينما دعا قومه للصلاة، ثم بعث باثنين من خيار فرسانه الركبان وأمرهما أن يدنوا - ما سمح لهما الحذر - من أولئك المسافرين في الصحراء، وأن يرقبا عديدهم على وجه دقيق، وأن يتعرفا صفاتهم ومراميهم إن استطاعا إلى ذلك سبيلا؛ وهذا الخطر - أو شبه الخطر - كان وهو يقبل على القافلة حافزا يحث كل غافل، فتنبه السير كنث إلى نفسه وإلى موقفه.
وقال للحكيم: «ما إخال أولئك الرجال إلا فرسانا مسيحيين، فإن كانوا كذلك، فمم أنت خائف؟»
فرد عليه الحكيم قائلا: «خائف!» مرددا لفظ السير كنث باستخفاف وازدراء، ثم قال: «إن الحكيم لا يخشى غير الله، ولكنه أبدا يرتقب من أشرار الرجال أسوأ ما يفعلون.»
فقال السير كنث: «إنهم مسيحيون، ونحن في وقت الهدنة، فلماذا تخشى الحنث في العهود؟»
فقال الحكيم: «هم جنود المعبد من القساوسة الذين تحظر عليهم عهودهم أن يعرفوا مهادنة المسلمين أو الثقة فيهم؛ أصبهم بالوباء يا رسول الله جذورا وفروعا وأغصانا! سلمهم حرب، وعهودهم بهتان وزور. إن غيرهم من غزاة فلسطين لهم فترات وأحوال تشرب فيها قلوبهم بالشفقة والرحمة؛ فرتشارد الأسد إذا ظفر عفا، والنسر فيليب يخفض جناحه إذا أصاب الفريسة، وحتى دب النمسا إذا امتلأت بطنه أوى إلى النوم، ولكن هذه العشيرة من الذئاب الجياع لا تعرف السكون ولا الشبع فيما تسلب وتغتصب؛ أما ترى أنهم قد فصلوا عددا من جماعتهم، وأنهم يسيرون شرقا؟ هنالك ترى غلمانهم وأتباعهم الذين ينشئونهم على مبادئهم الخفية اللعينة، والذين بعثوا بهم - لخفتهم - كي يحولوا بيننا وبين الماء، ولكن والله ليبوءن بالخيبة والفشل؛ أنا أعلم منهم بحرب الصحراء.»
ثم وجه إلى كبير ضباطه بضع كلمات، وتبدل مسلكه ومحياه في الحال من الاسترخاء والوقار - وهما في الشرق من صفات الحكماء الذين تعودوا التأمل أكثر مما تعودوا الحركة - إلى الظهور بالهمة والكبرياء - وهما من صفات الجندي الباسل يستفز نشاطه دنو الخطر يلمحه من بعيد ويستخف به.
ولكن هذا الخطر المقبل كان له في عيني السير كنث وجه آخر، فلما أن قال له «أدنبك»: «عليك أن تتمهل وتلزم أبدا جواري.» أجابه بالنفي مطمئنا رابط الجأش.
وقال: «هنالك أرى صحابي بالسلاح مدججين ، هنالك أرى رجالا أخذت على نفسي أمامهم أن أقاتل أو أموت - وعلى رايتهم تتألق علامة خلاصنا المبارك. إني لا أستطيع أن أفر من الصليب إلى صحبة الهلال.»
فقال الحكيم: «أحمق بك من جاهل! والله لو استطاعوا إخفاء الحنث في شروط الهدنة، لكان أول ما يقطعون به من عمل هو أن ينزلوا بك الموت.»
فأجاب السير كنث قائلا: «علي أن آخذ لنفسي حذرها من ذلك، ولكني إن استطعت أن أنزع عني قيود الكفار فلن أتكبل بها لحظة واحدة بعد ذلك.»
فقال الحكيم: «إذن فأنا آمرك أن تتبعني.»
فأجابه السير كنث غاضبا وقال: «تأمرني! والله لولا جميل صنعت بي، ولولا أنك أردت بي خيرا، ولولا أني مدين لثقتك بحرية هاتين اليدين اللتين كان بوسعك أن تكبلهما بالأصفاد، لولا ذلك لأريتك أن إرغامي - وإن كنت من السلاح أعزل - ليس بالأمر الهين أو اليسير.»
فأجاب الطبيب العربي وقال: «حسبك هذا وكفى، إننا نضيع الوقت وهو نفيس.»
وما إن أتم حديثه حتى لوح بساعده في الفضاء، وصاح صياحا عاليا أجش، نذيرا لمن كان في حاشيته، فتفرقوا على الفور جميعا على صدر البادية، وكأنهم عقد انقطع حبله، وانتثرت حباته كل منها في ناحية. ولم يكن لدى السير كنث من الوقت ما يمكنه من أن يرقب ما جرى بعد ذلك، لأن الحكيم في تلك اللحظة عينها أمسك بزمام فرسه وأطلق لجواده العنان، وانطلقا معا كالبرق الخاطف، وبسرعة كادت أن تسلب الفارس الاسكتلندي القدرة على الشهيق، ولئن أراد أن يوقف قائده عن المسير لعجز كل العجز؛ والسير كنث مدرب على الفروسية منذ نعومة أظفاره، ولكن أخف ما امتطى من جياد - رغم ذلك - لم يكن إلا كالسلحفاة إذا قيس بخيول الحكيم العربي. وأثار الجوادان وراءهما النقع، وكأنهما ينهبان الفلاة نهبا، ويطويان الفراسخ في لحظات، ومع ذلك فإن قوتيهما لم تفترا، وبقيت أنفاسهما خالصة كما كانت حينما بدآ هذا العدو العجيب. والحركة كلها بيسرها وخفتها كانت بالتحليق في الهواء أشبه منها بالركض على الأديم، ولم يصحبها شعور أليم اللهم إلا ذلك الرعب الذي يحس به المرء بطبيعته وهو يتحرك بسرعة فائقة، وعسر التنفس الذي ينشأ عن شق الفضاء بسرعة الريح.
ومضى ما ينيف على الساعة بعد هذا الركض الرائع، الذي يقصر مجهود البشرية بأسرها عن اللحاق به، ثم أرخى الحكيم من سيره وأبطأ من خطى الخيل، حتى بات عدوها محتملا، وشرع يحدث الاسكتلندي حديثا طويلا عن جدارة خيوله في صوت هادئ مطمئن، كأنه إنما كان يمشي على قدميه في الساعة التي انقضت، والاسكتلندي مقطوع الأنفاس، أعشى البصر، قليل السمع، وجسمه كله في دوار شديد من سرعة هذا العدو الشديد، فلم يكد يفهم الكلمات التي كانت تتدفق من صاحبه تدفقا.
قال العربي: «هذه الخيول من سلالة تعرف ب «ذات الجناح» تباري بسرعتها كل شيء عدا براق النبي، وهي تطعم شعير اليمن الذهبي ممزوجا بالتوابل، وقليلا من لحم الضأن المجفف. وكم من ملك بذل ما يملك ليظفر بها، وهي في شيبها نشيطة كما في شبابها، وأنت أيها النصراني - إذا استثنينا المسلمين - أول من علا بمتنه جوادا من هذه الفصيلة الكريمة، وهي من هدايا النبي لعلي كرم الله وجهه، وهو قريبه وخليفته ويسمى بحق «أسد الله». هلا عرفت أن الزمن لا يمس هذه الخيول الكرام إلا مسا خفيفا، وأن الفرس التي تمتطي صهوتها الآن قد عمرت خمسة وعشرين عاما وما تزال تحتفظ بقوتها وبسرعتها الفطرية، ولو كان عنانها في يد أكثر حنكة من يدك، ما احتاجت في مسيرها إلى أكثر من أن يمسك الراكب بزمامها؛ صلى الله على نبينا الكريم الذي خلع على المؤمنين وسائل يتقدمون بها ويتأخرون؛ وسائل تجعل خصومهم المتشحين بالحديد ينهكون من ثقل ما يحملون! كم ذا نفخت خيول أولئك الأوغاد أصحاب المعبد، وتصاعدت منها الأنفاس، بعدما جاهدت وضربت بحوافرها في رمال الصحراء كي تطوى عشر معشار ما نهبت بخطاها هذه الجياد الفوارس دون أن تتنهد مرة أو تعلو ظهورها الناعمة الملساء قطرة واحدة من عرق!»
والآن حينما بدأ الفارس الاسكتلندي يسترد أنفاسه، ويستجمع قوة انتباهه، لم يسعه إلا أن يعترف في نفسه بالميزة التي يتميز بها هؤلاء المقاتلون من أهل الشرق في الركض بالخيول مهاجمين أو متراجعين، وهي ميزة تلتئم كل الملاءمة والصحاري الرملية المستوية في بلاد العرب وسوريا، ولكنه لم يرد إلى أن يزيد من كبرياء ذلك المسلم بأن يقر له بما كان يزعم لنفسه من فضل، ولذا فقد توقف عن مواصلة الحديث، وتلفت حواليه، واستطاع حينئذ - بعدما أبطأ وصاحبه في المسير - أن يحس بأنه إنما يشق بلادا ليست غريبة عنه.
فتخوم البحر الميت الجرداء، ومياهه الكئيبة، وسلسلة الجبال الشاهقة المعقدة التي كانت ترتفع إلى يساره، والنخيل المتلاصقة التي يتألف منها المكان الوحيد الأخضر على صدر القفار الجرداء - وهي مشاهد إن وقعت عليها العين مرة لن تغيب عن الذكر أبدا - كل ذلك دل للسير كنث على أنه وصاحبه كانا يقتربان من العين المعروفة باسم «درة الصحراء»، التي التقى لديها فيما مضى بالأمير العربي شيركوه أو «الضريم». وبعد قليل من اللحظات أوقف الرجلان جواديهما إلى جوار العين، ودعا الحكيم السير كنث أن ينزل عن ظهر الحصان، وأن يأوي إلى الراحة كأنه في دار مطمئنة، وجردا جواديهما من زماميهما، ورأى الحكيم في ذلك ما يكفيهما من عناية، لأن بعضا من خيار الفرسان من عبيده سوف يقدم عما قريب ويقوم بما تقتضيه الضرورة بعد ذلك.
ثم قال وقد طرح فوق العشب قليلا من طعام: «الآن اطعم واشرب يا صاح ولا تيأس، فالمرء قد يعلو نجمه وقد يأفل، ولكن عقل الحكيم والجندي ينبغي أن يعلو سلطان النجم.»
وحاول الفارس الاسكتلندي أن يبين عن شكره بوداعته ولين عريكته، وجاهد أن يأكل شيئا تأدبا ومجاملة، إلا أن البون الشاسع بين موقفه حينذاك، وموقفه حينما كان بهذا المكان من قبل رسولا من الأمراء، وظافرا في النزال، مر بخاطره مر السحاب، واسترخت قواه البدنية من أثر الصوم والإعياء والكلال، ففحص الحكيم نبضه السريع، وعينه الملتهبة الحمراء، ويده الحارة، وأنفاسه المتلاحقة.
وقال: «كلما سهر العقل زادت حكمته، ولكن الجسد - وهو صنو العقل وأخشن منه مادة - يحتاج إلى معونة الراحة؛ فلتنم يا صاح، ولكي يصح نومك خذ جرعة من ماء ممزوجة بهذا الإكسير.»
ثم أخرج من صدره قارورة صغيرة من البلور في صندوق من الفضة المخرمة وصب قليلا من سائل قاتم أسود في قدح صغير من الذهب.
ثم قال: «هذا مما أنبت الله لنا في الأرض من خيرات، ولكن الإنسان بضعفه وبما ركب فيه من سوء كثيرا ما أحاله إلى الشر؛ هذا الشراب قوي كنبيذ النصراني، يسدل على العين الساهرة حجاب النوم، ويخفف العبء عن الصدر المؤود، ولكنه إن استخدم في أغراض الاستهتار والتهتك، فهو يفتت الأعصاب، ويهد القوى، ويضعف العقل، ويقوض الحياة من أساسها، ولكن لا تخش أن تستغل فضائل هذا الشراب إذا دعتك الحاجة، فالرجل الحكيم يدفئ نفسه بعين الجذوة التي يحرق بها الأحمق خيمته.»
3
فقال السير كنث: «لقد شهدت كثيرا من حذقك أيها الحكيم العاقل، وإني لا أجادل في نصحك.» وابتلع المخدر ممزوجا بماء من العين، ثم التف في برده وكان موثوقا برمانة سرجه، واستلقى وفقا لإرشاد الطبيب مسترخيا في الظل يترقب الراحة المرجوة. ولم يزر عينيه الكرى أول الأمر، وتوالت عليه سلسلة من الإحساسات اللذيذة، لا هي إلى اليقظة ولا هي إلى النهوض، ثم عرته بعد ذلك حال شعر فيها - ولما يزل يحس بوجوده وما صار إليه - بأنه يستطيع أن يتأمل ما مر به بغير ذعر أو أسف، بل وبطمأنينة كأنه يشهد قصة نوائبه ممثلة على المسرح، أو كأنه روح بغير جسم ينظر إلى ما عمل في ماضي حياته. ثم انتقل بخواطره من هذا الهجوع، الذي كاد أن يفقد فيه الشعور بالماضي، إلى المستقبل الذي كان - رغم كل ما يخيم عليه من سحب معتمة ليس وراءها من رجاء - يتألق بألوان زاهية ما كان لخياله الضيق المحدود - وهو في ظرف خير من هذا الظرف - أن يبدع خيرا منها، حتى حينما يكون الخيال في أشد حالاته إرهافا؛ فإن هذا الطريد الأسير، هذا الفارس المهين، بل هذا المحب اليائس، الذي عقد رجاء سعادته على مدى بعيد عن مجال الأمل، في أيدي القدر القاسي الذي لا يشد أزره فيما يريد، كان يرجو رجاء أكيدا أن يظفر في وقت غير بعيد بالحرية وبعد الذكر والحب الموصول. ثم أخذت هذه الصورة الذهنية تظلم شيئا فشيئا، وأصبحت هذه الأحلام المرحة مبهمة غامضة كأشعة الشمس تذوي ساعة الغروب، حتى هوت أخيرا في وهدة النسيان السحيق؛ وبقي السير كنث مستلقيا لدى قدمي الحكيم، ولولا أنفاسه العميقة لحسبه الرائي جسدا بغير روح، كأن الحياة فعلا قد فارقته.
الفصل الثالث والعشرون
وسط هذه المشاهد الموحشة
مد السحر يديه،
يغير وجه هذه الأرض ذات السر العجيب،
حتى تبدى ما حوالينا من فيافي القفار
عبثا أبدعته ترهات الأحلام.
من روايات خيالية لأستلفو
لما هب فارس النمر من هذا السبات الطويل العميق، ألفى نفسه في بيئة تخالف تلك التي نام في أحضانها، ولم يدر هل هو ما فتئ مستغرقا في الأحلام، أم هل بدل السحر من بيئته، فقد رأى نفسه بعد العشب الرطب ملقى على فراش دونه فرش الشرق الوثيرة، وقد امتدت إليه خلال نعاسه يد رحيمة، ونزعت عنه ثوب الجلد الذي كان يرتدي تحت درعه، وألبسته عوضا عنه رداء للنوم من الكتان الرقيق وثوبا فضفاضا من الحرير. وما كان من قبل يظلله غير نخيل الصحراء، أما الآن فهو يرقد في سرادق من الحرير، يتألق بأزهى ألوان نسيج الصين. وقد انتشر حول سريره ستار خفيف من الحرير الرقيق يقي نعاسه من الحشرات التي وقع لها - مذ حل في هذه الأقاليم - فريسة دائمة لا حول له ولا طول. وتلفت الفارس حواليه كأنه يريد أن يثبت لنفسه أنه يقظ حقا، فكان كل ما وقع تحت بصره ينم عن سناء مخدعه وجلاله، فقد أعد طست من السدر فضض داخله، خفيف المحمل، يفوح منه عبق العطور التي ألقيت فيه، وإلى جوار السرير على قائم صغير من الأبنوس وضع إناء من الفضة يحوي شرابا من أفخر الأصناف، باردا كالثلج، مذاقه بعد الظمأ الذي عقب تناول المخدر القوي شهي فائق اللذة ؛ ولكي ينفض الفارس كل أثر من آثار الثمل الذي خلفه الدواء، اعتزم أن يستخدم الحمام، وكانت له في ذلك لذة وانتعاش، وبعدما جفف جسده بقطيلة من صوف الهند، لم يكن أحب إلى نفسه من أن يعود إلى ارتداء ملبسه الخشن، حتى يستطيع أن يخرج ويرى إن كان العالم في الخارج قد بدل وجها غير وجهه، كما تبدل مقر نومه، ولكنه لم يعثر على هذا اللباس، بل وجد في مكانه رداء عربيا من النسيج النفيس، ومعه حسام وخنجر، وكلها مما يليق بأمير جليل، ولم يستطع أن يتخرص بالباعث على هذه العناية الفارطة، ولشد ما كان يخشى أن يكون القصد من هذه الرعاية أن يتزحزح عن دينه وعقيدته، فلقد كان يعرف حقا عن السلطان أنه يقدر العلم الأوروبي والبسالة الأوروبية قدرا عاليا، فكان يكيل العطايا بغير حساب لأسراه ويغريهم بلبس العمامة، ولذا فقد رسم السير كنث علامة الصليب على نفسه متورعا خاشعا، واعتزم أن يتحدى كل هذه الشباك والأحابيل، ولكي يتم له ذلك تماما عقد النية عامدا على أن يفيد مما كيل له بسخاء من أسباب الترف والرفاهية بقدر يسير، ولكنه كان يحس بدوار في رأسه، وثقل في جفونه، وكان يدرك أنه لا يليق به أن يظهر خارج الفسطاط وهو عار، فاستلقى على الفراش، وطوقه الكرى بذراعيه مرة أخرى.
ولكن نعاسه هذه المرة لم يكن متصلا، فقد أيقظه صوت الطبيب وهو لدى مدخل الفسطاط يستفسر عن صحته، ويسأل هل أخذ بقسط وافر من الراحة، ثم ختم كلامه بقوله: «إني أرى الستار مسدولا على الباب، فهل لي أن أدخل خيمتك؟»
واعتزم السير كنث أن يظهر له أن الدهشة لم تبلغ به حدا ينسيه مركزه فأجاب قائلا: «ليس السيد بحاجة إلى أن يطلق الإذن كي يلج فسطاط العبد.»
فأجاب الحكيم دون أن يدخل وقال: «وهب أني ما أتيتك سيدا؟»
فقال الفارس: «للطبيب أن يدخل إلى سرير مريضه بغير قيد.»
وقال الحكيم: «وما أتيتك الآن طبيبا؛ ولذا فإني ما زلت أطلب إليك الإذن قبل أن أدخل تحت خباء خيمتك.»
فأجاب السير كنث، وقال: «بيت الصديق مفتوح على مصراعيه لمن جاء صديقا، ولقد أريتني حتى الآن أنك لي صديق.»
فقال الحكيم الشرقي بأسلوب الكناية المألوفة بين بني قومه: «وهب أني ما أتيتك صديقا؟»
ولما نفد صبر الفارس الاسكتلندي من هذه المراوغة قال: «تعال كما شئت، وكن من شئت؛ فإنك تعرف أني لا أستطيع، بل ولا أحب، أن أمنعك من الدخول.»
فقال الحكيم: «فإني آتيك إذن بصفتي عدوك القديم، ولكني الآن عدل كريم.»
ثم دخل وهو يتكلم، ولما وقف إلى جوار سرير السير كنث بقي في صوته «أدنبك» الطبيب العربي، ولكن هيئته زرية وملامحه كلها كانت تدل على أنه «الضريم» الكردستاني المعروف باسم «شيركوه»، فحدق فيه السير كنث وكأنه ينتظر من هذا الشبح أن يختفي كما تختفي الصورة التي يخلقها الخيال.
فقال «الضريم»: «هل يدهشك - وأنت مقاتل معروف - أن ترى جنديا عرف شيئا من فن الشفاء؟ اعلم أيها النصراني أن الفارس الكامل ينبغي له أن يعرف كيف يضمد جراح جواده كما يعرف كيف يمتطي صهوته، وأن يعرف كيف يرهف سيفه في كور الحداد كما يعرف كيف يستخدمه في ساحة الوغى، وأن يعرف كيف يجلو السلاح كما يعرف كيف يمتشقه؛ وفوق كل ذلك يجب أن يعرف كيف يشفي الجراح كما يعرف كيف يثخنها.»
وكان الفارس المسيحي يغلق عينيه بين الآونة والأخرى والعربي يتكلم، ثم أغمض جفنيه، وتمثل في مخيلته صورة الحكيم في ثيابه الطويلة الفضفاضة السود، وعمامته التترية المرتفعة، ومحياه الثابت الرصين. وما إن فتح عينيه حتى عرف من العمامة الرشيقة المرصعة بالجواهر، والقميص المصنوع من حلق الحديد المجدول بالفضة، الذي كان يتألق ويلمع كلما ترنح الرجل بجسمه، ومن الطلعة التي لم يعد بها أثر من وقار العلم، ومن الوجه المشرق الذي لم يعد يظلله الشعر الكث (ولم يبق منه الآن سوى لحية مشذبة جميلة) عرف أن الماثل أمامه هو الجندي لا الحكيم.
وقال الأمير: «أفما فتئت ذاهلا؟ عجبا! كيف سرت في هذه الدنيا ولم تلحظ أن الرجال ليسوا دائما كما يدل عليهم ظاهرهم! انظر إلى نفسك؛ هل أنت كما ينم عنك ظاهرك؟»
فصاح الفارس قائلا: «كلا، وحق القديس أندراوس. إن ظاهري في معسكر المسيحيين بأسره ظاهر الجندي الخائن، وأنا أعرف أني رجل مخلص رغم ذنوبي.»
فأجابه «الضريم» وقال: «والله لقد عرفتك كذلك، ولما كنا قد تناولنا من ملح الطعام معا فقد رأيت أن في ذمتي أن أنقذك من الموت والعار، ولكن هلا خبرتني لماذا أنت ما تزال على فراشك، أفما تعلم أن الشمس قد ضربت في كبد السماء؟ أم هل الثياب التي بعثت إليك على ظهر ناقتي لا تليق بملبسك؟»
فأجابه الفارس وقال: «كلا إنها تليق بي، ولكني لست به خليقا. أعطني ثياب الرق أيها «الضريم» النبيل أرتدها جذلا مسرورا، ولكني لا أطيق ارتداء زي المقاتل الشرقي الحر، ولبس عمامة المسلمين.»
فأجاب الأمير قائلا: «أيها النصراني؛ إنكم أمة اتخذتم الريبة ديدنكم حتى حق لنا أن نرتاب فيكم؛ ألم أقل لك إن صلاح الدين لا يحب أن يدخل في حظيرة الإسلام سوى أولئك الذين يهديهم النبي الكريم لأن يدينوا بشريعته؟ إنما الشدة واللين كلاهما ليسا من سياسته في نشر الدين الحنيف. استمع إلي يا صاح! لما ارتد للأعمى بصره بمعجزة من ربه سقطت عن عينيه الغشاوة بإرادة الله؛ أفتظن أن طبيبا من هذه الدار كان قادرا على أن يزيل الحجاب عن عيني الرجل؟ كلا. ما كان لمثل هذا الطبيب إلا أن يعذب المريض بعدته وآلاته، أو أن يخفف عنه ببلسمه ومنبهاته، ولكن الضرير سوف يبقى ضريرا، وما أعمى البصيرة إلا كذلك، إن كان بين الفرنجة من لبس العمامة واتبع شريعة الإسلام، كي يجني المال الحرام فهو آثم لا ضمير له، وهو الذي سلك طريق الغواية، وما شقها له السلطان. وإذا ما لاقى في الدار الآخرة جزاء نفاقه وزج به في أسفل سافلين، في جحيم تحت جحيم النصارى واليهود والسحرة وعبدة الأوثان، وقضى عليه أن يأكل من شجرة الزقوم، وهي شجرة طلعها رءوس الشياطين، فإثمه وجزاؤه في عنقه لا في عنق السلطان . وإذن فلترتد ما أعد لك من لباس، ولا تداخلك ريبة أو شك، لأنك إن سرت إلى معسكر صلاح الدين فإن زيك الوطني يعرضك للمشقة والرقابة، بل وللمذلة والمهانة.»
فقال السير كنث مرددا ألفاظ الأمير: «إن سرت إلى معسكر صلاح الدين؟ واحسرتاه! خبرني هل أنا رجل طليق، وهل لي ألا أذهب حيثما شئت؟»
فقال الأمير: «سر أنى شئت، وانطلق حرا كالريح التي تلعب بالرمال في الصحراء وتثيرها حيثما أرادت؛ ما كان للعدو النبيل الذي تلقى مهندي، وكاد أن ينزعه من كفي، أن يكون لي عبدا كمن خر تحت ظباته. والله لو كان المال والسلطان يحضانك على أن تنضم إلى أمتنا لكفلتهما لك، ولكني أخشى أن الرجل الذي أبى على نفسه هبات السلطان، والسيف مشهور على رأسه، أن لن يقبلها الآن، وأنا أقول له إنه حر فيما يريد.»
فقال السير كنث: «أتمم علي نعمتك أيها الأمير النبيل، واجتنب أن تريني طريقا للمثوبة يأبى علي ضميري أن أسلكها، واسمح لي أن أعبر لك - وقد طوقتني برفقك - عن عرفاني لهذا السخاء الكريم، وهذا الجد الذي لست به قمينا.»
فأجابه الأمير «الضريم» قائلا: «لا تقل إنك لست به قمينا، ألم يكن حديثك معي، وما رويت لي عن الحسان اللائي يجملن بلاط الملك رتشارد هو ما دفع بي أن أسير متخفيا إلى هناك، وأظفر بمنظر هو أروع ما رأيت، وما سوف أرى، إلى أن تكتحل عيناي بجلال الجنان؟»
فتناوبت وجه السير كنث الحمرة مرة والشحوب أخرى، وكأنه أحس بأن الحديث قد أخذ يضرب على وتر حساس أليم، ثم قال: «إني لا أفهمك.»
فصاح به الأمير: «لا تفهمني! إن كان المنظر الذي شاهدت في سرادق الملك رتشارد قد فاتك أن تراه، إذن فبصرك أكل من حد العضب الخشبي في يد المهرج. نعم إنك كنت إذ ذاك تحت حكم الموت، أما أنا فوالله لو كان رأسي يسقط عن جذعي لصوبت من مقلتي لمحاتهما الأخيرة الكليلة على تلك الصور الحسناء وكلي حبور، ولتدحرج رأسي صوب أولئك الحور البارعات جمالا ، يلثم بشفتيه المرتعدتين أهداب أرديتهن - هنالك شهدت ملكة إنجلترا، وهي بحسنها الفاتن جديرة بأن تكون ملكة على العالم بأسره - أي رقة تلك التي تشع من عينها الزرقاء! وأي بريق ذلك الذي يتألق في فرعها الذهبي المتهدل! أقسمت بالرحمن ما أحسب الحوراء التي سوف تقدم لي كأس الخلود اللؤلئي بأحق من هذي بأحر العناق.»
فقال السير كنث عابسا مقطب الجبين: «أيها العربي، إنك تتحدث عن زوج رتشارد ملك إنجلترا، وهي امرأة ليس للرجال أن يفكروا فيها أو يذكروها كما تذكر النساء اللواتي تجوز حيازتهن، وإنما يذكرونها كملكة احترامها واجب.»
فقال العربي: «ناشدتك الرحمة، والله لقد نسيت إجلالكم الخرافي الذي تحملون للنساء اللائي تحسبونهن بالإعجاب والعبادة أقمن منهن بالعشق والمواتاة، وإني على يقين أنك إن كنت تكن هذا الإجلال الرفيع لتلك المخلوقة الرقيقة الضعيفة، التي تنم كل حركة وكل خطوة من خطاها، وكل نظرة تنظر، على أنها امرأة حتى الصميم، فإن ذات الجدائل السود، والعين التي تنم عن النبل والشرف، جديرة منك بما لا يقل عن العبادة الخالصة؛ وإني لأقر حقا أن لها في قدها وسيماها الجليل شيئا من العفة والثبات، ولكن صدقني أن المرأة لو أقدم عليها محب جريء، وضاقت بها الحيلة، لشكرت من أعماقها ذلك المحب الذي يعاملها كمخلوق فان لا إله باق.»
فقال السير كنث في نغمة بينة الغضب: «احترم قريبة قلب الأسد.»
فأجاب الأمير هازئا: «أحترمها! وحق الكعبة لو احترمتها لجعلتها عروسا لصلاح الدين.»
فصاح المسيحي وقد هب من مرقده وقال: «إن هذا السلطان الكافر ليس قمينا بأن يلثم الأرض التي تطؤها أديث بلانتاجنت بقدميها!»
فصاح به الأمير وقال: «ها! ماذا تقول يا منافق؟» ووضع يده على مقبض خنجره، وتألق جبينه كما يتألق النحاس البراق، وارتجفت شفتاه وخداه حتى لكأن كل خضلة من خضلات لحيته قد أخذت تهتز وتلتوي كأنها أحست بالغضب الفطري، ولكن الفارس الاسكتلندي، الذي وقف في وجه الليث الغاضب رتشارد، لم يرتع لهذا العربي الهائج، وما هو في ثورته إلا كالنمر الحانق .
ثم واصل السير كنث حديثه وذراعاه مطبوقتان، ولا أثر للجبن في عينيه وقال: «والله طالما كانت يداي طليقتين لأقفن مدافعا عما قلت - راجلا أو راكبا - في وجه الأحياء جميعا، وليس كثيرا على سيفي هذا العريض الكريم أن يحطم عشرين من هذه المناجل والمثاقب.» مشيرا إلى سيف الأمير المعقوف، وخنجره الصغير.
فهدأت ثائرة العربي والمسيحي يتكلم، ورفع يده عن سلاحه كأن حركته الأولى لم يكن لها معنى، ولكنه ما فتئ في وطيس ثورته.
وقال: «وحق سيف النبي يا صاح، وهو مفتاح الجنة والنار، إن من يقول بقولك هذا لا يقيم لحياته وزنا! صدقني أن لو كانت يداك طليقتين - على حد تعبيرك - فإن مسلما واحدا مؤمنا قد يشغلهما طويلا حتى لتود لو تكبلتا في أصفاد الحديد من جديد.»
فأجاب السير كنث قائلا: «والله لأن أبترهما بعظام اللوح خير لي من هذا.»
فقال له العربي في نغم أكثر توددا: «إذن فهذه العاطفة الرقيقة تغل يديك الآن، وليس في عزمي أن أطلق سراحهما؛ لقد كنا قبل الآن متكافئين قوة وبسالة، وربما نلتقي ثانية في ساحة النزال العادلة، ويا لعار من يفصل من خصمه قبل أخيه! أما الآن فنحن صديقان، وإني لأنتظر منك العون لا شديد العبارة والتحدي.»
فأجابه الفارس مرددا عبارته: «أجل نحن صديقان.» ثم كانت بينهما فترة من السكون، أخذ العربي المتقد يجوب فيها الفسطاط بخطاه، كالليث يشتد هياجه ثم يثوب إلى إطفاء حرارة دمه قبل أن يستلقي للراحة في عرينه. أما الأوروبي - وهو أكثر من صاحبه برودة - فقد لبث في وقفته وهيئته لا يبدل منهما، ولكنه كان - لا ريب - رغم ذلك يكابد إطفاء مشاعره وقد توقدت غضبا واشتعلت على غير انتظار.
ثم قال العربي: «دعنا نفكر في هذا الأمر هادئين. إني كما تعلم طبيب، ومن أراد لجرحه التئاما ينبغي له ألا ينقبض إذا جاءه الطبيب يسبر جرحه ويضع فيه الفتيل. أما ترى أني أوشك أن أضع إصبعي على مكمن الداء؛ أنت تحب هذه المرأة قريبة الملك رتشارد؛ فلتمزقن ذلك الحجاب الذي يستر خواطرك، أو إن شئت فلا تمزقه، فإن عيني تنفذان إلى ما وراء الحجاب.»
فسكت السير كنث هنيهة ثم قال: «لقد أحببتها كما يحب الرجل رحمة ربه، وطلبت رضاها كما يطلب الجاني غفران السماء.»
فقال العربي: «أوما تحبها بعد؟»
فأجاب السير كنث قائلا: «وا حسرتاه! إني لم أعد بحبها قمينا. بربك إلا قطعت هذا الحديث؛ إن كلماتك على فؤادي كالخناجر.»
ثم استأنف «الضريم» حديثه وقال: «عفوك لحظة، وقل لي أفلم ترج أن يثمر لك هذا الحب حينما جسرت - وأنت جندي مسكين مجهول - على أن تعقد حبك بهذه الفتاة الكريمة.»
فقال الفارس: «ليس هناك حب بغير أمل، ولكن حبي كاد أن يكون حليف اليأس، ومثلي في ذلك مثل الملاح الذي يريد لنفسه الحياة فيسبح ويسبح ويطوي موجا إثر موج، وأمام بصره شعاع من ضوء ناء يراه الفينة بعد الأخرى فيعلم أن في الأفق مرسى، ولكن قلبه الواهن وأطرافه المنهوكة تؤكد له أنه لن يبلغه.»
فقال «الضريم»: «والآن غاص الأمل وانطفأ ذلك الضوء الفريد إلى الأبد؟»
فأجاب السير كنث بنغم كالصدى يصدر عن جوف أطلال القبور وقال: «أجل إلى الأبد.»
فقال العربي: «أحسب إن كان ما ينقصك لمحة من السعادة خاطفة بعيدة كتلك التي كانت لك من قبل، فإن الضوء الذي عقدت به الرجاء قد يتقد ثانية، والأمل الذي غاص منك في لجج الأمواج قد يطفو، وتعود أيها الفارس الكريم إلى الاستمتاع بتغذية عواطفك الخيالية بغذاء كضياء القمر شفوفا ورقة؛ فلئن بقيت إلى الغد طيب الأحدوثة - كما كنت أبدا - فسوف ترى معشوقتك في مكانة لا تقل عن مكانة بنات الأمراء؛ سوف تراها عروس صلاح الدين المنتقاة.»
فقال الاسكتلندي: «وددت لو تم ذلك، وإذن فوالله إن لم ...»
ثم سكت عن الكلام كرجل يخشى المفاخرة في ظروف لا تسمح له بأن يثبت بالفعل صدق ما يقول، فابتسم العربي وعقب قائلا: «هل أنت تتحدى السلطان للسجال؟»
فأجاب السير كنث شامخا بأنفه وقال: «ولئن تحديته فما عمامة صلاح الدين بأولى العمائم ولا خير ما طعنت برمحي.»
فقال الأمير: «أجل، ولكني أحسب أن السلطان قد يرى هذه وسيلة غير عادلة، يستهدف فيها للخطر حظه في العروس الملكية ونهاية الحرب الضروس.»
فتألقت عينا الفارس بالخواطر التي أوحى بها إليه هذا الرأي وقال: «قد ألاقيه في طليعة معركة من المعارك.»
فقال «الضريم»: «لقد كان أبدا في الطليعة، وما كان من سجيته أن ينصرف بجواده عن منازل جريء. ولكني ما كنت أريد أن أتحدث عن السلطان. وموجز القول إن كان يرضيك أن تنال من الذكر ما يستحق من يكشف عن اللص الذي سرق راية إنجلترا، فإني أستطيع أن أرشدك إلى خير سبيل تؤدي بك إلى القيام بهذا العمل. أعني إن أردت أن تنساق لي؟ ولقد قال لقمان: «إن أراد الصبي أن يسير فليسترشد بمربيته، وإن أراد الجاهل أن يفهم، على العاقل أن يعلمه.»
فأجابه الاسكتلندي بقوله: «وإنك لعاقل أيها الضريم، عاقل رغم عروبتك، وكريم رغم كفرك، ولقد شهدت فيك الخلتين، إذن فلتكن في هذا الأمر رائدي. وما دمت لا تسألني شيئا يتنافى وإخلاصي أو يناقض مسيحيتي فلأصدعن بأمرك في حينه. افعل كما قلت ثم خذ مني حياتي بعد ذلك.»
فقال العربي: «إذن فاستمع لي، لقد عوفي كلبك الكريم ببركة ذلك الدواء السماوي الذي يشفي الإنسان والحيوان، ولسوف يكشف لك بحكمته عمن هاجموه.»
فضحك الفارس وقال: «والله لقد أدركت ما تعني، وما كان أغباني ألا أفكر في ذلك!»
فأردف الأمير وقال: «ولكن خبرني، هل لك في المعسكر من الأتباع أو الخدم من يعرف الكلب؟»
فقال السير كنث: «لقد عزلت خادمي العجوز مريضك الذي باشرت، والصبي الذي كان يرعاه حينما كنت أتوقع أن الموت سوف ينالني، وأعطيته رسائل يبلغها أصدقائي في اسكتلندا؛ ولا يألف الكلب غير هذين، ولكني إن ذهبت بنفسي فأنا جد معروف، وسيفضحني كلامي في معسكر لعبت فيه دورا شريفا عدة شهور.»
فقال العربي: «سوف تتخفيان كلاكما، ولن يعرفكما أحد حتى وإن أمعن فيكما عن كثب، وصدقني أن زملائك في السلاح، بل وإخوتك الذين هم من لحمك ودمك، لن يكشفوا أمرك لو استمعت لنصحي . ولقد شهدتني أقوم بأمور أشد من هذه عسرا؛ إن من يخرج الميت من ظلام ظلال الموت يسير عليه أن يسدل حجابا من الظلمة على أعين الأحياء، ولكن استمع إلي، إن هناك شرطا يرتبط بهذه الخدمة، وذلك أن تحمل من صلاح الدين رسالة إلى قريبة الملك رك (رتشارد)، واسمه على لساننا وشفاهنا الشرقية عسير، كما أن جمالها في أعيننا بهيج.»
فسكت السير كنث هنيهة قبل أن يجيب، ولحظ العربي تردده، فسأله إن كان يخشى أن يؤدي هذه الرسالة.
فقال السير كنث: «كلا، حتى وإن كان في أدائها الهلاك؛ إنما سكت كي أفكر إن كان يليق بشرفي أن أحمل رسالة صلاح الدين، أو يليق بشرف السيدة أديث أن تتسلمها من أمير مشرك.»
فقال الأمير: «بحق محمد، وبشرف الجندية وبحرم الكعبة، وبروح أبي أقسم لك إن الرسالة لا تحمل بين سطورها إلا الشرف الرفيع، والاحترام السامي، ووالله لتغريد البلبل أقرب إلى إفساد العش الوردي الذي يعشق من أن تسيء كلمات السلطان إلى أذني قريبة ملك إنجلترا الحسناء.»
فرد عليه الفارس وقال: «إذن فسوف أحمل خطاب السلطان مخلصا كأني ولدت له عبدا. ولتعلم أنني، فيما عدا هذا العمل الساذج وهذه الخدمة التي سوف أقوم بها صادقا أمينا، أبعد الرجال قاطبة عن أن يرتقب مني السلطان وساطة أو نصحا في أمر هذا العشق الغريب.»
فأجابه الأمير قائلا: إن صلاح الدين رجل نبيل، ولن يحفز جوادا كريما على أن يثب وثبة لا قبل له بها.»
ثم قال: «تعال معي إلى فسطاطي، وسوف أعدك في الحال بزي تتنكر به، وكأنه ظلام الليل الدامس لا ينفذ إلى ما وراءه أحد، وبعدئذ تستطيع أن تسير في معسكر النصارى وكأن على إصبعك خاتم جيوجي.»
1
الفصل الرابع والعشرون
إن خالطت كئوسنا ذرة من تراب،
لفظنا الشراب عيافة
وقد كنا لريه ظمأى.
وإذا ما جانب المسمار الصدئ
إبرة الملاح - وهي دقيقة -
أمالها عن الحق، وتحطم السفين.
وهكذا أدنى باعث للغضب والنفور
يقطع بين الأمراء حبل المودة
ويحطم فيهم أنبل الأغراض.
من «الحرب الصليبية»
لا يشك القارئ بعد هذا إلا قليلا في من كان ذلك العبد الأتيوبي في حقيقته، ولأي غرض سعى إلى معسكر رتشارد، ولماذا وبأي رجاء وقف على كثب من شخص ذلك الملك الذي أحاط به أمراؤه الشجعان من الإنجليز والنورمان؛ على كثب من قلب الأسد وهو على قمة جبل سنت جورج، وإلى جواره راية إنجلترا يرفعها خير رجال الجيش جميعا، أخوه الطبعي، وليم صاحب السيف الطويل إيرل سالزبري سليل هنري الثاني من محبوبته «روزامند» الشهيرة ابنة «ودستك».
وقد دار بين الملك ونفيل في اليوم السابق حديث تبين للنوبي من خلال الكثير من عبارته ما أدخل في نفسه الشك والقلق على أن تنكره قد انكشف، وبخاصة حينما بدا على الملك أنه يدرك الأسلوب الذي سوف يكشف به الكلب الوسيط عن اللص الذي سرق الراية، وذلك رغم أن الظروف التي أدت إلى جرح الكلب في حادث العلم لم يكد يرد لها ذكر في حضرة رتشارد، ولكن الملك لبث - رغما عن كل هذا - يعامل الرجل المعاملة التي يتطلبها مظهره، فبقي النوبي في شك من اكتشاف أمره، واعتزم ألا يطرح زي التنكر عنه طوعا.
وإذ ذاك توالت على سفح الجبل الصغير جيوش الأمراء الصليبيين المتعددين في خط طويل، مصطفين خلف زعمائهم من الملوك والأمراء. وبينما كانت جنود الدول المختلفة تسير متتابعة، تقدم زعماؤهم خطوة أو خطوتين إلى أعلى التل، وقدموا دلائل المجاملة لرتشارد وللراية الإنجليزية «إشارة إلى الاحترام والمحبة.» كما جاء النص صريحا في الاتفاق الذي عقد بشأن هذا الحفل «لا إلى الخضوع أو التبعية.» أما رجال الدين الروحانيون - وكانوا في تلك الأيام لا يطأطئون الرءوس لمخلوق كائن - فقد خلعوا على رتشارد وعلى شارة زعامته بركاتهم بدلا من أن يقدموا له ولاءهم وطاعتهم.
وهكذا أخذت الصفوف الطويلة تسير، ورغم تناقص عديدها لأسباب عدة، كان ظاهرها ظاهر الجيش المسلح الذي ليس غزو فلسطين له إلا عملا يسيرا. وكانت تسري بين الجند روح الإحساس بوحدة القوى، فيجلسون منتصبي القامة على سروجهم الصلبة، وينفخون في الأبواق بأنغام طروبة. أما الخيول فبعد أن انتعشت بالراحة والعلف، أخذت تفرك أزمتها، وتضرب في الأرض مرحا؛ وسار الجميع فيلقا إثر فيلق، والأعلام تخفق والرماح تتألق، والريش يرقص وهم يسيرون صفا صفا، وكان جيشا يتألف من أمم مختلفة وبشرات متباينة ولغات عديدة وأسلحة متنوعة ومظاهر متلونة، ولكنهم كانوا جميعا إذ ذاك يشتعلون حماسة لذلك الغرض المقدس الخيالي، وهو إنقاذ ابنة صهيون المنكوبة من ذل الاستعباد، وتخليص الأرض المقدسة، التي وطأتها أقدام الأنبياء، من نير الوثنيين المنافقين. وينبغي لنا هنا أن نذكر أنه إن كان في الطاعة يقدمها إلى ملك إنجلترا - في ظرف غير هذا الظرف - مثل هذا العدد العديد من المحاربين الذين ما كان له عليهم حق الخضوع الطبعي، نقول إنه إن كان في طاعتهم له شيء من الذلة والخنوع، فإن طبيعة الحرب التي هم فيها وبواعثها كانت تلائم صفة الفروسية الممتازة فيه، كما تتفق ومآثره المعروفة في القتال، حتى إنه لو كان لأحد في وقت غير هذا أن ينازعه أو يدينه فما كان له إذ ذاك إلا أن يتناسى أسباب الإدانة والنزاع؛ فتقدم الشجاع طوعا بالولاء إلى من هو أشجع منه في حملة يتطلب نجاحها إقداما لا يفتر ولا يلين.
وكان الملك الصالح على صهوة الجواد في منتصف الطريق إلى قمة الجبل، وعلى رأسه خوذة مفتوحة يعلوها تاج، وملامح الرجولة فيه بادية لعين الرائي، وهو بنظرة، فيها استهانة وفيها إمعان، يطالع صفوف الجيش وهي تمر به، ويرد للقواد التحية؛ وقميصه من المخمل، لونه لون السماء، تغطيه صفائح الفضة، وجواربه من الحرير القرمزي المحلى بالذهب، وإلى جواره يقف الرجل الذي كان ظاهره ظاهر العبد الأتيوبي ممسكا الكلب النبيل بمقود، كذلك الذي كان يستخدم وفقا لقواعد الصيد في تلك العصور. ولم يكن في وجود هذا الرجل ما يلفت النظر، إذ إن كثيرا من الأمراء الصليبيين كان يستخدم الرقيق الأسود في حاشيته محاكاة لأبهة العرب الوحشية.
وكانت ثنايا العلم الكبير ترفرف فوق هامة الملك، وهو ينظر إليها الفينة بعد الفينة وكأنه يرى في خفقاتها احتفاء لم يوجه إليه، ولكنه ذو خطر لأنه كان بمثابة التكفير عن المهانة التي لحقت بالمملكة التي يسود عليها. ووراء هذا كله، على رأس الجبل وفوق قمته، أقيم برج من الخشب لهذا الظرف كي تأوي إليه الملكة برنجاريا وكبريات سيدات البلاط، وكان الملك يتطلع إلى هذا البرج حينا بعد الآخر، ثم يوجه بصره من وقت لآخر صوب النوبي والكلب كلما دنا قائد، ممن عرف فيهم من قبل سوء الطوية فارتاب في مساهمتهم في سرقة العلم، أو رأى فيهم القدرة على مثل هذا الجرم الوضيع.
وعلى ذلك لم يرفع بصره إلى قمة الجبل حينما دنا فيليب أغسطس ملك فرنسا على رأس جنده الباهر من فرسان الغال، كلا، بل لقد كان يرتقب مجيء ملك فرنسا فهبط من الجبل وفيليب يصعده، حتى التقيا في منتصف الطريق، وتبادلا التحية بلطف، حتى إن الرائي ليحسب أن في المقابلة مساواة الإخاء. وهذا المنظر، منظر أعظم أميرين في أوروبا مرتبة وسطوة وهما يعلنان للملأ الوئام بينهما، دفع بالجيوش الصليبية على بعد أميال إلى أن تنفجر بهتاف كهزيم الرعد، كما جعل كشافة الصحراء من العرب الجوالة تسارع إلى معسكر صلاح الدين تنذره بزحف جيوش المسيحيين، ولكن من غير ملك الملوك يستطيع أن يعلم ما تخفي أفئدة الملوك؟ وتحت هذا المظهر الرقيق من الملاطفة كان رتشارد يكن لفيليب السخط والريبة، وفيليب يفكر في الانسحاب بجنوده من جيش الصليب، مخلفا بعده رتشارد كي يتم المشروع أو يفشل فيه بجيوشه وحدها من غير معين.
وتغيرت ملامح رتشارد حينما دنا رجال المعبد ذوو الأسلحة السوداء من فرسان وأتباع، وهم رجال اسمارت بشرتهم حتى باتوا بسواد أهل آسيا على شبه عظيم، وذلك من أثر الشمس في فلسطين، وخيولهم الباهرة وأزياؤهم الفاخرة تفوق كثيرا ما لخيار الجنود الفرنسية والإنجليزية. وحينئذ رنا الملك جانبا بنظرة عجلى، ولكن النوبي لبث صامتا، وقبع كلبه الأمين لدى قدميه، يرقب بعين مستبشرة حكيمة، تلك الصفوف التي كانت تسير تحت بصره، ثم عرج الملك ببصره ثانية صوب رجال المعبد الفرسان حينما مر به كبيرهم واستغل صفته المزدوجة - الدينية والحربية - وحبا رتشارد ببركاته كقس بدلا من أن يقدم له الولاء كقائد من قواد الحرب.
فقال رتشارد إلى إيرل سولزبري: «إن هذا الوغد المتصلب، هذا الرجل المتلون يقابلني راهبا، ولكن دعها تذهب يا «لنجسورد»؛ لا ينبغي لنا أن نضيع على المسيحية من أجل هذه التقاليد خدمات هؤلاء المقاتلين المدربين الذين أدخل الظفر في قلوبهم الغرور. صه يا صاح! ها هو ذا قد أقبل خصمنا الباسل دوق النمسا، انظر إلى صورته وهيئته يا «لنجسورد»، وأنت أيها النوبي دع الكلب يملأ ناظريه، وحق السماء لقد أتى نديمه معه!»
وحقا لقد أقبل ليوبولد يتبعه المحدث والمهرج؛ إما لأنه تعود صحبتهما، أو لأنه - على الأرجح - أراد أن يلمع إلى استخفافه بالحفل الذي أوشك أن ينضم إليه، ثم تقدم إلى رتشارد وأخذ يصفر صفيرا أراد أن يدل به على قلة اكتراثه، ولكن رزانة ملامحه كانت تنم عن اكتئاب في نفسه يمازجه خوف كخوف الصبي الهارب من المدرسة وهو يقترب من أستاذه.
أقبل الدوق في حشمة ووقار، وأدى التحية وهو كاره، وفي عينيه التجهم والعبوس، فهز المحدث بعصاه، وأعلن كما يعلن الرائد أن أرشدوق النمسا، وهو يقدم لرتشارد الخضوع والولاء، لا ينزل عن امتيازه ومرتبته؛ مرتبة الملك الأمير، فأجابه المهرج بصوت جهوري وقال: «اللهم آمين!» فأثار الضحك بين الواقفين.
وتطلع الملك رتشارد إلى النوبي وإلى كلبه أكثر من مرة، ولكن النوبي لم يبد حراكا، ولم يجذب الكلب مقوده، حتى إن رتشارد قال للعبد في شيء من السخرية والازدراء: «إني لأخشى أن نجاحك في هذا المشروع يا صاحبي الأسود - وقد أتيت بكلبك يؤيدك بحكمته - لن يرفعك إلى مرتبتك بين السحرة، ولن يزيد من حقك علينا.»
فلم يجب النوبي كعادته بأكثر من انحناء قليل.
ثم سارت بعد ذلك أمام ملك إنجلترا جنود المركيز منتسرا متتابعين حسب مراكزهم، ولكي يعرض هذا البارون القوي الماكر صفوف جيشه عرضا يبهر الأبصار، قسمهم كتيبتين، ووضع أخاه «إنجراند» على رأس أولاها، وهي تتألف من أنصاره وأتباعه الذين جمعهم من أملاكه في سوريا، ثم جاء بنفسه يتبع أخاه على رأس فرقة باسلة من مائتين وألف مقاتل من خفاف الفرسان الذين جمعهم أهل البندقية من أملاكهم في دلماشيا وأسلموا قيادتهم للمركيز، وهو يرتبط بالجمهورية بروابط عدة. وكان هؤلاء المقاتلون يرتدون أزياء نصف أوروبية، عليها كثير من سمات اللباس الشرقي؛ كانوا يلبسون الزرد ويغطونه بجلباب من فاخر الثياب بهيج اللون، ويلبسون السراويل الفضفاضة والأحذية القصيرة، وعلى رءوسهم قلنسوات مستقيمة معتدلة تشبه قلنسوات الإغريق، ويحملون تروسا صغيرة مستديرة، وسهاما وقسيا وخناجر وسيوفا، وكانوا يمتطون جيادا عني بانتقائها وأعدت كامل الإعداد على حساب دولة البندقية، وسيوفهم وعددهم تشبه ما يستخدمه الأتراك، وكانوا كذلك - كهؤلاء - يضعون أقدامهم على ركابات قصيرة ويجلسون على مقاعد مرتفعة. وكان هؤلاء الجند ذوي نفع عظيم في مناوءة الأعراب، ولكنهم ما كانوا يقدرون على الحرب السجال، مثلهم في ذلك مثل رجال الحرب في غرب أوروبا وشمالها المدججين بالسلاح.
وفي طليعة هذه الفرقة الرائعة أقبل كنراد في زي كأزياء الجند، ولكنه أفخر ثيابا، حتى لقد بدا للرائي وكأنه يتألق ذهبا وفضة، وقد علق بقلنسوته ريشة ناصعة البياض، ووثقها بمشبك من الماس، وهي تكاد بطولها تناطح السحاب، وكان الجواد النبيل الذي يمسك بعنانه يقفز ويدور يمنة ويسرة، مبديا خفته ورشاقته على صورة ربما كل منها فارس أقل مهارة من المركيز الذي ملك زمامه برشاقة بإحدى يديه، ورفع بالأخرى عصاة لها من مطلق النفوذ على صفوف جيشه ما للمركيز على جواده، ولكن سلطان المركيز على محاربيه - رغم هذا - كان ظاهرا أكثر منه حقيقة، إذ كان يسير الهوينى إلى جواره رجل ضئيل الجسم، يستر جسمه كله بالسواد، أجرد اللحية والشارب، ومظهره على الجملة وضيع زري إذا قيس بالأبهة والعظمة التي تحيط به، ولكن هذا الرجل المسن الزري الهيئة كان أحد أولئك المندوبين الذين كانت حكومة البندقية تبعث بهم إلى المعسكرات كي يرقبوا مسلك الزعماء الذين وكلت إليهم القيادة، ولكي يبقوا على الغيرة ويحافظوا على نظام التجسس والرقابة اللذين تميزت بهما سياسة الجمهورية زمنا طويلا.
وكان كنراد قد أخذ عن رتشارد روح الفكاهة فأحرز شيئا من رضاه، وما إن اقترب من رتشارد حتى هبط ملك إنجلترا خطوة أو خطوتين كي يقابله، وصاح به في الوقت ذاته قائلا: «ها، أفقد أتيت أيها اللورد مركيز على رأس جندك، وظلك - كعادته - يتبعك سواء أشرقت الشمس أو لم تشرق! هل لي أن أسألك إن كانت إمرة الجند بيدك أم بيد ظلك؟»
فهم كنراد بالجواب وعلى شفتيه ابتسامة، حينما أخذ رزوال ذلك الكلب النبيل ينبح نباح الهائج المستشري، ثم قفز إلى الأمام، وأفلت النوبي زمام الكلب من يده، فانطلق الكلب ووثب على جواد كنراد النبيل، وأمسك بالمركيز من حلقه وأنزله عن صهوة الجواد، فأخذ الراكب ذو الريشة يتدحرج فوق الرمال، وفر الحصان - وهو يرتعد - يعدو عدوا ثائرا خلال المعسكر.»
فقال الملك للنوبي: «أشهد لقد أصاب كلبك الفريسة الحق فيمن أنزل، وإني لأقسم بالقديس جورج إنه لحيوان نبيل! أبعده خشية أن يخنق الرجل.»
فباعد النوبي ما بين الكلب وكنراد، ولم يتم له ذلك دون مشقة، ووثق الكلب وما برح في حمى هياجه يناضل كيف يفلت من مقوده؛ وإذ ذاك احتشد لدى لمكان جم غفير، وبخاصة من أتباع كنراد وضباط جيشه الذين ما إن رأوا قائدهم مستلقيا يحدق في السماء وهو ثائر مهتاج، حتى رفعوه وهم يضجون صاخبين، ويقولون: «بالعبد وكلبه ومزقوهما إربا إربا.»
ولكن صوت رتشارد علا إذ ذاك ورن رنينه وتميز واضحا جهوريا فوق كل صياح وهتاف، واستمع إليه الجميع وهو يقول: «من أصاب الكلب بأذى فجزاؤه الموت الزؤام! إنما قام الحيوان الجسور بواجبه ورائده الحكمة التي حباه بها الله والطبيعة. أي كنراد مركيز منتسرا، تقدم، إنك مخاتل خداع، وإني أتهمك بالغدر والخيانة.»
وحينئذ أقبل كثير من القواد السوريين، فصاح كنراد - والغضب والفضيحة والارتباك تصارع حدة العاطفة في صوته وأسلوب كلامه - وقال: «ما معنى هذا؟ بم تدينونني؟ وفيم هذه المعاملة الوضيعة، وهذه الألفاظ التي تنطوي على اللوم والتأنيب؟ هل هذا هو عهد الوفاق الذي جددته إنجلترا منذ زمن غير بعيد؟»
فقال كبير رجال المعبد في صوت كأنه ينبعث عن القبور: «هل انقلب الأمراء الصليبيون في عيني الملك رتشارد أرانب أو غزلانا يرسل الكلاب في طلب صيدها؟»
وقال فيليب ملك فرنسا، وقد أقبل إذ ذاك راكبا: «لا بد أن يكون حادثا فريدا أو إثما مميتا.»
وقال رئيس أساقفة صور: «خدعة من العدو.»
وقال هنري أمير شمبانيا: «إنها مكيدة من الأعراب، ما أجدر هذا الكلب بالإعدام وذلك العبد بالعذاب.»
فقال رتشارد: «لا يمدد أحدكم عليه يده فهو يحب الحياة! أي كنراد، تقدم إن جرؤت، وأنكر التهمة التي رماك بها هذا الأبكم بغريزته النبيلة؛ تهمة الأذى أصبته به، والمهانة الدنيئة ألصقتها ببلاد الإنجليز؟»
فقال كنراد متعجلا: «إني ما مسست الراية قط.»
فقال رتشارد: «إن كلماتك تفضحك يا كنراد! إذ أنى لك أن تعرف أن الأمر يتعلق برايتنا؟ اللهم إلا إن كنت بالجريمة تحس!»
فأجاب كنراد قائلا: «أفمن أجل هذا الباعث وحسب أثرت في المعسكر هذا الاضطراب؟ وهل أنت تعزو إلى أمير وحليف جرما ربما ارتكبه آثم دنيء طمعا في الخيط الذهبي؟
1
أم هل أنت الآن تتهم أخا لك على شهادة كلب؟»
وحينئذ عم بين الحشد الذعر وذاع، حتى تدخل فيليب ملك فرنسا في الأمر.
وقال: «أيها الأمراء النبلاء، إنكم تتكلمون على مسمع من رجال سوف يسارعون إلى المقارعة بالسيوف إذا هم أنصتوا إلى زعمائهم وقد توترت بينهم العلائق؛ فبالله ناشدتكم أن تصرفوا جندكم إلى ثكناتهم، ثم نلتقي نحن جميعا بعد ساعة في سرادق المجمع كي نتخذ قرارا في هذه الحال الجديدة المضطربة.»
فقال الملك رتشارد: «إني بهذا راض، وإن كنت أحب أن أسائل هذا الوغد وهو في ثوبه الزاهي يتمرغ في الرمال، ولكن لتكن إرادة فرنسا في ذلك إرادتنا.»
ثم تفرق الزعماء كما أشار فيليب، كل أمير في رأس جنده، وعلا الهتاف بالحرب من كل جانب، ونفخ في الأبواق، وتردد صداها نداء لكل هائم وكل شارد كي ينطوي تحت راية أميره. وسرعان ما اضطرب الجند وسلك كل منهم سبيله نحو ثكناته خلال المعسكر. وهكذا امتنع كل عمل عنيف مباشر، إلا أن الحادث الذي وقع ترك - رغم ذلك - أثره في كل ذهن، وعاد الآن إلى التحامل على كبرياء رتشارد وشدته أولئك القوم الأغراب الذين هتفوا صباحا لرتشارد على أنه أجدر من يقود الجيوش. أما الإنجليز فلما كانوا يرون أن شرف بلادهم يتعلق بالنزاع الذي ذاع أمره بين الناس، فقد كانوا يرمون أهل البلاد الأخرى بالغيرة من صيت إنجلترا واسم مليكها، وبالميل إلى إحاطتهما بأحط ضروب الدسائس؛ وما أكثر الإشاعات التي انتشرت في هذا الظرف وما أشدها اختلافا، وكانت منها واحدة تجزم بأن الملكة وصاحباتها قد أصابهن من الضجيج ذعر شديد، وأن واحدة منهن قد سقطت مغشيا عليها.
وفي الساعة المضروبة التأم الجمع، وكان كنراد قد نزع عن نفسه رداءه الذي انتهكت حرمته، وخلص بخلعه من خزيه وبلبلته اللذين غلبا عليه - رغم ذكائه وسرعة خاطره - نظرا لغرابة الحادث ومفاجأة الاتهام، وكان الآن يرتدي ثياب الإمارة، ودخل غرفة الاجتماع وفي ذيله أرشدوق النمسا، وكبير رجال المعبد ورهبان القديس يوحنا، وكثير غيرهما من ذوي النفوذ الذين تظاهروا بتأييده والدفاع عن قضيته، وكان أشد ما حفزهم إلى هذا باعث سياسي، أو أنهم هم أنفسهم يكنون لرتشارد عداوة شخصية.
هذا المظهر - مظهر الاتحاد في صف كنراد - كان أبعد ما يكون عن أن يؤثر في ملك الإنجليز؛ فلقد دخل إلى المجمع وعليه سيماء الاستخفاف الذي ألف، وهو بزيه الذي نزل به عن ظهر جواده منذ حين، ثم رنا بنظرة فيها عدم المبالاة وشيء من الازدراء، رمى بها الزعماء الذين اصطفوا حول كنراد يؤيدونه في كثير من التكلف والتصنع، وفي صريح العبارة رمى كنراد منتسرا بسرقة الراية الإنجليزية وجرح الكلب الأمين الذي وقف للدفاع عنها.
فنهض كنراد للجواب بشجاعة، وأعلن براءته من الجريمة التي رمي بها متحديا في ذلك - على حد قوله - الإنس والوحش والملوك والكلاب.
وتطوع فيليب لأن يقف في المجمع موقف التوسط والاعتدال وقال: «أي أخي ملك إنجلترا! إن هذه التهمة شنعاء؛ إنا لا نسمعك تتحدث بما تعرف أنت نفسك في هذا الشأن، وإنما عقيدتك تستند إلى مسلك هذا الكلب نحو مركيز منتسرا، ولا مراء في أن كلمة الفارس والأمير ينبغي أن تنصره على نباح الكلب.»
فرد عليه رتشارد وقال: «أخي المليك، أذكر أن الله القدير الذي خلق الكلاب لتكون لنا رفاقا في السراء والضراء، قد حباها بطبع نبيل لا يحتمل الخداع؛ إن الكلب لا ينسى صديقه ولا عدوه، وإنه ليذكر النفع والضر أدق الذكر، إنه يشارك الإنسان في ذكائه دون أن يكون له في نفاقه نصيب، وإنك لتستطيع أن ترشو الجندي ليقتل بسيفه امرأ، أو الشاهد ليغتصب الحياة بباطل التهم، ولكنك لا تستطيع أن تحث الكلب على أن يسيء إلى من أحسن إليه؛ إنه صديق الإنسان، إلا إن جلب الإنسان على نفسه عداوته، ولا تثريب على الكلب في هذا. استر المركيز بما شئت من زاهي الثياب. احجب عن العين ظاهره. بدل من لون بشرته المساحيق والأصباغ. خبئه وسط مئين من الرجال. فوالله - رغم ذلك - إني لأطرحن عني صولجاني إن لم يميزه الكلب ويعبر عن استيائه كما شهدت اليوم. وليس هذا الحادث بجديد، وإن يكن غريبا في بابه، فلقد أدين من قبل القتلة واللصوص وكابدوا الموت على مثل هذا البرهان، وقال الناس إن ليد الله في الأمر نصيب، وجرى مثل ذلك في بلادك ذاتها يا أخي المليك، وفي مثل هذا الظرف، وقضي في الأمر بمبارزة الرجل والكلب، كأنهما مدع ومدافع في قضية قتل، وانتصر الكلب وجوزي الرجل، واعترف بالجرم. صدقني يا أخي الملك إن خفي الجرائم كثيرا ما يبرزها إلى الضياء والنور شهادة حتى من الجماد، بله الحيوان الذي هو أدنى في حكمته الغريزية من الكلب صديق الإنسان وزميله.»
فأجابه فيليب قائلا: «أجل، لقد وقعت هذه المبارزة يا أخي الملك، وكان ذلك في عهد أحد أسلافنا عليهم رحمة الله، ولكن ذلك كان في قديم الزمان، ولا نستطيع أن نتخذه سابقة نقيس عليها هذا الحادث. وكان المتهم في ذلك الحادث رجلا من عامة الناس وضيع المرتبة، قليل الهيبة، ولم يكن من أسباب الاعتداء إلا عصا، ومن أسباب الدفاع إلا سترة قصيرة من الجلد، ولكن لا يسعنا أن نحط من قدر أمير ونشينه باستخدام مثل هذا السلاح الساذج، أو نسوقه إلى عار مثل هذا النزال.»
فقال الملك رتشارد: «إنني ما فكرت في ذلك قط، وإنها لصفقة خاسرة أن نخاطر بحياة الكلب العزيز في سبيل خائن ذي وجهين - كما برهن كنراد على أنه كذلك - ولكن ها هو ذا قفازي، وإني أدعوه للنزال بناء على التهمة التي وجهناها إليه، ولا أقل من أن يكون الملك خيرا من صنو المركيز.»
ولكن كنراد لم يخف إلى مجاوبة هذا التحدي الذي قذف به رتشارد وسط الجماعة، فتوفر الوقت للملك فيليب لأن يجيب قبل أن يتحرك المركيز لرفع القفاز.
فقال صاحب فرنسا: «الملك أكبر من أن يكون ندا للمركيز كنراد، كما أن الكلب أقل من أن يكون له قرينا. أي رتشارد يا صاحب الملك، إن هذا لا يجوز؛ أنت قائد حملتنا، أنت درع المسيحية وسيفها.»
فقال الضابط البندقي: «إني أحتج على مثل هذا النزال إلى أن يرد ملك إنجلترا الخمسين ألف بيزنط التي يدين بها للجمهورية؛ حسبنا أنا في خطر من خسران ديننا لو أن مديننا وقع في أيدي المنافقين، فكيف نزيد الطين بلة ونعرضه للموت في هذه المنازعات تقوم بين المسيحيين من أجل الكلاب والأعلام.»
فقال وليم صاحب السيف الطويل إيرل سولزبري: «وأنا بدوري احتج على أخي المليك يخاطر بحياته في مثل هذا الأمر، وحياته ملك لأهل إنجلترا. أي أخي النبيل، فهذا قفازك فخذه ثانية، وسأرمي بقفازي بديلا عنه؛ إن ابن الملك - حتى وإن كان في درعه ما يدل على أنه ليس ابنا شرعيا - ند على الأقل لهذا المركيز القرد.»
وقال كنراد: «أيها الأمراء النبلاء، إني لا أقبل من الملك رتشارد التحدي، لقد انتخبناه قائدا لنا في وجه الأعراب، وإن كان ضميره يستطيع أن يجيب على تهمة التحرش بحليف، واستفزازه إلى ساحة النزال على نزاع طفيف كهذا، فإن ضميري أنا ، على الأقل، لا يسعه أن يحتمل التأنيب على قبولها. أما فيما يخص أخاه ابن الزنا، وليم أف ودستك، أو أيا غيره ممن يحتضن هذه التهمة الباطلة أو يجسر على مؤازرتها، فإني سوف أدفع عن شرفي، وأثبت أن من يكيلها إن هو إلا كذاب أشر.
وقال رئيس أساقفة صور: «لقد تكلم مركيز منتسرا كما يتكلم الرجل الكريم العاقل العادل، وإني أرى أن هذا الجدل قد يقف عند هذا الحد دون أن يصيب أحد الطرفين خزي أو عار.»
فقال ملك فرنسا: «أرى أن ينتهي الجدل عند هذا على شريطة أن يسحب الملك رتشارد تهمته على أنها بنيت على أساس واه.»
فأجاب قلب الأسد: «أي فيليب ملك فرنسا. إن كلماتي لن تسيء إلى ضميري إلى هذا الحد؛ لقد اتهمت كنراد هذا كلص استتر تحت جنح الليل، وسرق شارة الشرف الإنجليزي من مكانها، وإني ما زلت أعتقد فيه ذلك وأتهمه بهذا، وإذا ما حددنا للنزال يوما فلا تشكن يا صاح في أني سوف أجد بطلا يؤدي دعواي ما دام كنراد لا يحب أن يلقاني. أما أنت يا وليم فلا ينبغي أن تزج بسيفك الطويل في هذا النضال دون إذن خاص منا.»
فقال فيليب ملك فرنسا: «إن مرتبتي تجعل مني حكما في هذا الأمر الأليم ولذا فإني أحدد لكم اليوم الخامس بعد اليوم لحسم النزاع بالنزال وفقا لتقاليد الفروسية، وعلى رتشارد ملك إنجلترا أن يأتي وبطله كمدع، وكنراد مركيز منتسرا بشخصه كمدافع، ولكني لا أعرف أنى أجد أرضا محايدة بين بين يقوم عليها هذا الصراع، فهي لا تنبغي أن تكون إلى جوار هذا المعسكر، حيث يختصم الجند وينضم كل فريق إلى حزب.»
فقال رتشارد: «ما أجدرنا أن نعمد إلى كرم السلطان صلاح الدين، فهو وإن يكن وثنيا إلا أني لم أعرف فارسا مثله يتوفر فيه النبل. ونستطيع أن نكل إلى عدله وكرمه أمرنا يقطع فيه، وإني إنما أقول بهذا لأولئك الذين قد يرتابون في سوء العواقب. أما أنا فإني حيثما لقيت عدوي كان موضع اللقاء ساحة نزالي.»
فقال فيليب: «ليكن ذلك، سوف نخطر بهذا الأمر صلاح الدين، وإن يكن في ذلك ما يكشف للعدو عن الروح السيئ، روح التفرقة الذي نود أن نستره حتى عن أنفسنا إن استطعنا. وأنا الآن أفض هذا الاجتماع، وأكلفكم جميعا - بصفتكم رجالا مسيحيين وفرسانا نبلاء - ألا تولدوا من هذه الخصومة الأليمة شغبا جديدا في المعسكر، ولتتركوا الأمر لعدالة الخالق خاشعين، وتضرعوا لله أن يجعل النصر في النزال حليف الحق في أسباب الخصومة. ولتكن مشيئة الله!»
فرددت الأصوات من كل جانب: «آمين، آمين!» ووسوس كبير رجال المعبد للمركيز وقال: «كنراد، هلا طلبت إليهم أن تخلص من سلطان الكلب كما جاء في «المزامير»؟»
فأجاب المركيز: «أنصت يا ... إن بظاهر الفسطاط عفريتا من الجن أماط عن نفسه اللثام، وقد يأتينا بنبأ من الأنباء ويخبرنا إلى أي حد أنت تؤمن بشعار هيئتكم الذي يقول: «لا تخش الأسد.»
فقال كبير رجال المعبد: «وهل تستطيع أن تقف في معمعان النزال؟»
فأجابه كنراد وقال: «لا ترتب في أمري، حقا إني ما كنت لألقى - طائعا - الحديد من رتشارد. وإني لا أستحي أن أقر بأني قد اغتبطت لخلاصي من لقائه، أما أخوه ابن الزنا ومن دونه جميعا من صفوف الجيش، فليس من بينهم رجل يتنفس أخشى لقاءه.»
فعاود كبير رجال المعبد حديثه وقال: «ما أحسن هذه الثقة في نفسك، وإذن فقد عملت مخالب هذا الكلب على تفكيك عرى عصبة الأمراء أكثر مما عمل مكرك ودهاؤك، وأكثر مما عمل خنجر العربي «الخارجي». ألا ترى كيف أن فيليب - رغم السحابة القاتمة التي يتكلف إظهارها فوق جبينه - لا يستطع أن يخفي ما يحس به من رضا لما لاح له من الأمل في التحلل من الحلف الذي كان على نفسه ثقيلا؟ انظر كيف أن هنري صاحب شمبانيا يبسم لنفسه كقدحه الوهاج الذي يحتسي فيه النبيذ، وانظر إلى دوق النمسا تره يكتم الضحك والسرور وهو يظن أن خصومته توشك أن تنال ثأرها دون أن يتعرض لخطر أو مشقة؛ أنصتوا، إنه يقترب. أي دوق النمسا الملكي! ما أسوأ الظرف الذي تكون فيه هذه الشقوق في جدر صهيون.»
فأجاب الدوق قائلا: «إن كنت تعني هذه الحرب الصليبية، فوالله كم وددت لو تشتت إجماعها وآب كل منا إلى وطنه آمنا مطمئنا! وإني لأقول بذلك واثقا.»
فقال مركيز منتسرا: «ولكن ما أشد على النفس أن تتم هذه التفرقة على يدي الملك رتشارد، وما رضينا أن نكابد كل ما كابدنا إلا في سبيله، وما خضعنا له خضوع العبد لسيده إلا ليستخدم بسالته ضد خصومنا، ولا يوجهها إلى أصدقائنا!»
فقال الأرشدوق: «إني لا أرى أنه أكثر من غيره شجاعة بكل هذا، وإني على يقين أن المركيز النبيل لو التقى وإياه في ساحة النزال لغلبه على أمره، فلئن كان رجل الجزيرة يضرب بفأسه ضربا شديدا فهو لا يحذق الطعن بالرماح، والله ما كان أخف على نفسي من أن ألقاه بنفسي - على ما بيننا من خصومة قديمة - لو كان خير العالم المسيحي يسمح للأمراء الملوك أن ينفسوا عن أنفسهم بالنزال. وإن شئت، أيها المركيز النبيل، نبت عنك في هذا النزال.»
وقال كبير رجال المعبد: «وأنا كذلك.»
فقال الدوق: «إذن فلتأتيا سيدي إلى فسطاطي، وتقضيا لدي قيلولة هذا النهار، حيث نستطيع أن نتحدث في هذا الشأن على مائدة الشراب الرحيق.»
فدخلا إثر قوله فسطاطه.
وكان المحدث قد استغل حريته ودنا من سيده بعد ما افرنقع الجميع، ووقف المهرج «جوناس شوانكر» على بعد احتراما لسيده، وقال لصاحبه المحدث: «ماذا كان بين مولانا وهذه الجموع الغفيرة؟»
فقال المحدث: «خفف من تشوفك يا ابن التهريج؛ لا يليق بي أن أخبرك بمشورة مولانا.»
فقال جوناس: «لقد أخطأت يا رجل الحكمة؛ إنما نحن كلانا خادمان ملازمان لولي أمرنا، ويهم اثنانينا سواء أن نعرف أينا أكثر به اهتماما من أخيه، أصاحب الحكمة أم رجل التهريج؟»
فقال المحدث: «لقد قال للمركيز ولرئيس رجال المعبد إنه كل من هذه الحروب وكم يسره أن يعود إلى وطنه آمنا.»
وقال المهرج: «ما هذا بالأمر الهام وما به من خطر، ومن الحكمة أن يخطر له هذا الرأي ، ولكن من الحمق الشديد أن يخبر به الآخرين. أتمم حديثك.»
فقال المحدث: «ها، ثم قال لهما بعد ذلك إن رتشارد ليس بأشد من غيره شجاعة أو أكثر حذقا في الطعان.»
فقال شوانكر: «أشدد بهذا من حمق يا قرة عيني، ثم ماذا؟»
فأجابه رجل الحكمة قائلا: «قاتل الله النسيان؛ لقد دعاهما كذلك إلى كأس من النبيذ.»
وقال جوناس: «في هذا ظاهر من الحكمة، وهو من فضل مشورتك، ولكنه إن أكثر من الشراب - وهو الراجح - فسوف يكون ذلك من فضلي أنا. ثم ماذا؟»
قال الخطيب: «ليس بعد هذا ما يستحق الذكر إلا أنه ود لو أن حظي بلقاء رتشارد في ساحة النزال.»
فقال جوناس: «مرحى، مرحى! إن هذا إلا هراء من الباطل، وإني لأستحي أن أظفر عن هذه السبيل، ولكنا رغم حمقه سوف نتبعه أيها المحدث الحكيم، وسوف نأخذ بنصيبنا من شراب النبيذ.»
الفصل الخامس والعشرون
هذا حيود عنك تجلينه قرة عيني،
فما أحببتك وأفرطت فيك حبا،
إلا لأني للشرف أشد حبا وأقوى.
من شعر منتروز
لما عاد الملك رتشارد إلى سرادقه أمر أن يؤتى له بالنوبي، فدخل الرجل يقدم آيات الاحترام التي ألف، وانكب على وجهه، ثم لبث ماثلا أمام الملك كما يقف العبد يرتقب ما يأمر به سيده، وربما كان من حسن طالعه أن القيام بواجبه كان يتطلب منه أن يغض الطرف، فلو أنه تلقى كل ما رمقه به رتشارد من نظرات حادة صوبها نحوه فترة وهو صامت، لما كان له قبل باحتمالها.
وبعد هنيهة قال الملك: «إنك تعرف قواعد الصيد حق المعرفة، وقد شرعت في مطاردة الفريسة حتى أوقفتها عند حدها بجدارة كأن «ترسترم» نفسه قد علمك هذا؛
1
ولكن ليس هذا كل ما في الأمر. إنما ينبغي أن تسحق الصيد سحقا، ما كان أحب إلى نفسي من أن أصوب رمح صيدي نحوه، ولكن يظهر أن هناك أسبابا تحول دون ذلك؛ إنك توشك أن تعود إلى معسكر السلطان برسالة تطلب فيها إلى عظمته أن يعين مكانا على الحياد تقوم عليه أعمال الفروسية، وأن يجمع معنا على مشاهدتها إن شاء. والآن ما أحسب - رجما بالغيب - إلا أنك واجد في ذلك المعسكر فارسا يقبل نزال هذا الخائن «منتسرا» حبا في الحق ورغبة في الزيادة من شرفه.»
فرفع النوبي بصره، وصوبه نحو الملك وهو ينظر نظرة فيها حرارة وغيرة، ثم رفع عينيه إلى السماء يحمد الله من الأعماق حتى تألق الدمع في مقلتيه، ثم طأطأ رأسه تأييدا لإرادة رتشارد، وعاد إلى وقفته الأولى، وقفة الخادم الخاضع.
وقال الملك: نعم هذا؛ إني أراك راغبا في التكرم علي في هذا الشأن، وينبغي لي أن أقول إن في هذا فضل خادم مثلك ليس له لسان يجادل به أغراضنا، أو يطلب شرحا لما اعتزمنا. لو كان مكانك خادم إنجليزي لنصح لي وأصر على أن أكل بالنزال إلى رماح متين من أتباعي، وهم جميعا من أخي «لنجسورد» فنازلا يتحرقون للقتال في صفي. ولو كان فرنسيا ثرثارا لحاول ألف مرة أن يعرف لماذا أنا أبحث عن بطل في معسكر المسلمين. أما أنت أيها الوسيط الصامت، فتستطيع أن تؤدي رسالتي دون أن تجادل فيها أو تفهمها، السمع لديك طاعة.»
فكان الجواب اللائق من الأتيوبي على هذا التعليق أن انحنى بجسمه وجثا إجلالا واحتراما.
وقال الملك وقد تكلم مفاجئا ومسارعا: «والآن لنتكلم في شأن آخر، هل رأيت أديث بلانتاجنت؟»
فرفع الصامت بصره كأنه يوشك أن ينبس بكلمة - بل انفرجت شفتاه عن نفي صريح - ولكن هذه المحاولة العقيمة (محاولة الكلام) تلاشت في تمتمة الأبكم تمتمة ملتوية.
وقال الملك: «ما هذا! والله لكأن رنين اسم العذراء الملكية ذات الجمال البارع، ابنة عمنا الحسناء، له من السلطان ما يكفي لأن ينطق الأبكم؛ أي المعجزات إذن تصنع عيناها بمثل هذا الرجل! لأقومن بالتجربة يا صاحبي العبد، ولسوف ترى هذا الجمال المصطفى من بلاطنا، ثم تؤدي للسلطان المليك الرسالة.»
هذا والنوبي تارة ينظر نظرة فيها النشوة والسرور، وطورا يجثو إجلالا؛ وما إن نهض حتى وضع الملك يده ثقيلة على كتفه، وفي رزانة رصينة استأنف الكلام وقال : «دعني أحذرك يا رسولي الأسود من أمر واحد: لو أحسست بأن لتلك التي ستراها عما قريب أثرا على نفسك شفيقا يحل عقدة لسانك - وهو، على حد تعبير السلطان الكريم، ينحبس الآن في قلعة جدرانها من العاج
2 - لو أحسست بهذا، فاحذر أن تبدل من نفسك هذه الكتومة نفسا أخرى، وحذار أن تنبس في حضرتها ببنت شفة، حتى وإن استعدت قوة منطقك استعادة تدعو إلى الإعجاب؛ إذن فصدقني لأخرجن لسانك من جذوره ولأحطمن جدره العاجية - وما أحسبها إلا صفوف أسنانك - واحدا بعد الآخر، وإذن فلتلزم الصمت والحكمة.»
وما إن رفع الملك قبضته القوية عن كتف النوبي، حتى طأطأ الرجل رأسه، ووضع يده على شفتيه إشارة صامته إلى طاعته.
ولكن رتشارد وضع يده فوقه ثانية ثم قال: «هذا الأمر نكلفك به بصفتك مولى، ولو أنك كنت فارسا ورجلا كريما لطلبنا إليك أن تعدنا بالصمت، وهو من أسباب ثقتنا فيك الآن.»
فانتصب النوبي بصلف وكبرياء، وحدق في الملك، ووضع يمناه على قلبه.
ودعا بعد ذلك رتشارد كبير حجابه وقال: «اذهب وهذا العبد يا نفيل إلى فسطاط زوجنا الملكة، وقل إنا نريد به أن يمثل وحيدا أمام ابنة عمنا أديث، فإن لديه رسالة لها، وتستطيع كذلك أن تدله إلى الطريق إن احتاج إلى إرشادك، وإن يكن - كما رأيت - قد بات يعرف كل ما جاور معسكرنا معرفة تدعو إلى الإعجاب.» ثم واصل الملك الحديث وقال: «وأنت كذلك يا صاحبي الأتيوبي اصنع ما أنت صانع على عجل، وعد إلى هنا بعد نصف ساعة.»
ولعب الشك في نفس النوبي المزعوم، وظن أن الملك قد كشف أمره، وتبع خطى نفيل العاجلة نحو فسطاط الملكة برنجاريا وهو مطرق البصر، مطبق الذراعين وقال محدثا نفسه: «لا مرية في أن الملك رتشارد قد كشف أمري، وعرف حقيقتي ولكني لا أرى رغم ذلك أن بغضه لي شديد؛ إن كنت لم أخطئ فهم كلماته - ومحال أني فعلت - فلقد أعطاني فرصة سعيدة أسترد بها شرفي على رأس هذا المركيز الخداع، الذي قرأت إثمه في عينيه الواهنتين، وشفتيه المرتجفتين، حينما وجهت إليه التهمة. أي «رزوال»، لقد خدمت صاحبك مخلصا، ولسوف يدفع الثمن غاليا ثأرا لك! ولكن ماذا عسى أن يكون الغرض من الإذن لي بأن أنظر إلى من يئست من رؤيتها ثانية حياتي؟ ولماذا وكيف يرضى بلانتاجنت المليك بأن أشهد قريبته الإلهية، سواء كنت رسولا من صلاح الدين المشرك أو آثما طريدا أقصاه عن معسكره أخيرا، وقد كان اعترافه الجريء بحبه الذي يفخر به هو أشد ما يدعو إلى العجب من جرمه؟ أما أن رتشارد يرضى لها بأن تتسلم مكتوبا من محب منافق، ومن يد رجل مثلي وضيع المرتبة، فكلاهما أمران تصديقهما عسير، ويناقض أحدهما الآخر. ولكن رتشارد، إذا كان لا يندفع بثائرة نفسه، رجل سمح كريم ونبيل حقا، ولسوف أجازيه على صفاته هذه وأعمل وفقا لما يأمر به تصريحا أو تلميحا، ولن أسعى في أن أعرف أكثر مما ينكشف لي شيئا فشيئا دون أن أستعلم بالفضول عن شيء! وإني حقا لمدين له بالطاعة والخضوع، إذ أعطاني هذه الفرصة الباسلة أبرئ بها شرفي الملوث، ومهما يكن عسيرا على النفس فلسوف أرد الدين.» ثم انتفض قلبه انتفاضة الكبرياء، وخطر له ما يأتي، وقال محدثا نفسه: «إن قلب الأسد - كما يدعونه - ربما كان يقيس مشاعر الآخرين بمشاعره. كيف لي هذا وأنا لم أوجه إليها كلمة حينما ناولتني بيدها الهبة الملكية، حينما كنت لا أعد من أدنى الرجال في أعمال الفروسية بين حماة الصليب! كيف لي أن أدنو منها وأنا في تنكر وضيع وفي لباس خسيس! يا ويلتي! إن حالي حقا لحال العبد، يلطخ العار شرفي، وقد كان يوما درعي وحماي! كيف لي أن أفعل ذلك؟ إنه لا يعرف عني إلا القليل، ولكني أشكره على هذه الفرصة التي قد تقرب بين قلبينا.»
وما إن استقر به الرأي على هذا، حتى كان وصاحبه بباب سرادق الملكة، فأدخلهما الحراس، بطبيعة الحال، وخلف نفيل النوبي في غرفة صغيرة للانتظار كان يذكرها تمام الذكر، ثم انسل إلى الغرفة التي كانت تستقبل الملكة فيها زائريها، وبلغها إرادة مولاه المليك في صوت خافت النغم يرن بالإجلال، ويخالف أشد المخالفة إقدام توماس دي فو، الذي كان له رتشارد كل شيء، وبقية البلاط (وفيه برنجاريا ذاتها) لا شيء، وما إن أتم إبلاغ رسالته حتى علت الأصوات بالضحك.
وارتفع صوت قوي، سرعان ما أدرك أنه صوت برنجاريا، وقال: «وما هيئة هذا الرقيق النوبي الذي أتانا سفيرا في مثل هذه الرسالة من السلطان؟ أليس يا نفيل عبدا أسود الجلد، شعره مجعد كشعر الكبش، وأنفه أفطس، وشفتاه غليظتان؟ أليس كذلك يا سير هنري، يا أيها الرجل الكريم؟»
وقال صوت آخر: «ولا تنس جلالتك منه عظم الساق المنحني إلى الأمام كظباة الأحدب العربي.»
فقالت الملكة: «بل كسهم «كيوبد» إذ قد أتانا في رسالة محب عاشق. أي نفيل يا كريم النفس! إنك أبدا متأهب لأن تدخل السرور على قلوبنا نحن السيدات المسكينات، اللائي ليس لديهن إلا القليل من أسباب المرح نصرف بها ساعات الخمول؛ ينبغي أن نرى رسول الحب هذا، فلقد شهدت كثيرا من الأتراك والمغاربة، ولكني ما رأيت عبدا أسود قط.»
فقال الفارس الظريف: «إنما خلقت لأن أطيع أمر جلالتك، وإنك سوف تنيلينني الحظوة لدى سيدي إن سمحت لي أن أفعل ذلك، ودعيني أؤكد لجلالتك أنك سوف ترين رجلا يخالف ما تتوقعين.» «خير لنا هذا! هل هو أقبح مما يتصور خيالنا، وهو مع ذلك رسول الحب المصطفى من هذا السلطان الباسل المجيد!»
وقالت السيدة كالستا: «مولاتي صاحبة الجلالة، هل لي أن أتوسل إليك أن تسمحي للفارس الكريم أن يذهب وهذا الرسول رأسا إلى السيدة أديث التي ينبغي له أن يوجه إليها الخطاب؛ إننا ما كدنا ننجو من مثل هذا المزاح.»
فكررت الملكة كلمتها هازئة وقالت: «ننجو؟ أي والله، وقد تكونين مصيبة في حذرك يا كالستا؛ ليؤد هذا النوبي - كما تسمينه - رسالته أولا إلى ابنة عمنا. وفضلا عن ذلك فهو أبكم، أليس كذلك؟»
فأجاب الفارس قائلا: «أجل مولاتي الملكة.»
فقالت برنجاريا: «إنه للهو ملكي تتلهى به نساء الشرق، إذ يقوم بخدمتهن رجال يستطعن أن يقلن بحضرتهم ما شئن، وما يقدرون على رواية شيء منه. أما في معسكرنا، فالطيور في سمائها تحمل الأخبار، كما يقول أسقف سنت جود.»
فقال دي نفيل: «ذلك لأن جلالتك قد نسيت أنك تتكلمين داخل جدران من الوبر.»
وما إن قال كلمته هذه حتى خفتت الأصوات، وبعد قليل من الهمس عاد الفارس الإنجليزي ثانية إلى الأتيوبي، وأشار له أن يتبعه، ففعل، وسار به نفيل إلى سرادق ضرب على بعد من سرادق الملكة، وأعد - كما يبدو - لإيواء السيدة أديث وحاشيتها، وقد تسلمت إحدى وصيفاتها القبطيات الرسالة التي حملها هنري نفيل، وبعد بضع دقائق سيق النوبي إلى حضرة أديث، وبقي نفيل خارج الفسطاط، وأشارت السيدة إلى المملوكة التي قدمت الرجل بالانسحاب، ثم جثا الفارس البائس - وهو في هذا التنكر العجيب - على إحدى ركبتيه خاضعا خاشعا لا بوقفته فحسب، بل ومن صميم قلبه وفؤاده، ورنا ببصره نحو الأرض، وأطبق ذراعيه فوق صدره كأنه جارم يرتقب قضاءه وقدره. وكانت أديث ترتدي الرداء عينه الذي استقبله به الملك رتشارد، وحجابها الطويل الشفاف يتدلى حواليها كالظل في ليل من ليالي الصيف على أرض جميلة المنظر، والحجاب يخفي بعض جمالها ويعتم بعضه الآخر الذي لا يخفيه، وكانت تمسك بيدها مصباحا من الفضة يتقد بسائل عبق يتلألأ حين يحترق تلألؤا غير معهود.
وما إن دنت أديث من العبد الساكن الجاثي، وأصبحت منه على قيد خطوة، حتى صوبت الضوء على وجهه كأنها تريد أن تستشف ملامحه بدقة، ثم أشاحت بوجهها عنه، ووضعت مصباحها بحيث يرتمي ظل وجه العبد من أحد جانبيه على سجاف يتدلى جانبا، وأخيرا تكلمت بصوت فيه الطمأنينة، ولكن رنين الأسى فيه شديد.
وقالت: «أفهذا حقا أنت فارس النمر الباسل؛ السير كنث الاسكتلندي الشهم؟ أفهذا أنت حقا؟ تنكرت هذا التنكر المشين، وأحاطت بك مئين المخاطر؟»
وما إن سمع الفارس نبرات صوت معشوقته، وقد وجهت إليه الخطاب على غير انتظار، وبنغم فيه من العطف ما يوشك أن يكون خفة ورقة، حتى استبق الجواب إلى شفتيه، وكاد أن يرد ويخرج على ما أمره به رتشارد وما وعد من صمت؛ فلقد كان المنظر الذي رأى، والصوت الذي سمع، يكفيانه عوضا عن رق مدى الحياة، وأخطار يستهدف لها في كل حين، ولكنه استجمع قواه، ولم يزد جوابه على سؤال أديث ابنة البيت الكريم عن تنهد عميق شديد الانفعال.
واستأنفت أديث حديثها وقالت: «أجل لقد أصاب حدسي، إني عرفتك مذ ظهرت أول الأمر قريبا من المنصة التي وقفت عليها مع الملكة، وعرفت كذلك كلبك الجسور؛ إن كان تنكر الزي أو تغير اللون يخفي عن فتاتك خادما مخلصا أمينا، فهي ليست سيدة مخلصة، وليست قمينة بخدمات أمثالك من الفوارس. تكلم إذن ولا تخش أديث بلانتاجنت، فهي تعرف كيف ترفق بالفارس الكريم وهو في محنته، ترفق بالفارس الذي أدى واجبه وأحرز الشرف وأصاب المرمى من أجل اسمها حينما كان الخطر له حليفا. أفما زلت صامتا؟! أمن الخوف أو العار أنت لا تنطق؟ ينبغي لك أن تعرف الخوف، أما العار فليصب أولئك الذين أساءوا إليك.»
فيئس الفارس من الإبقاء على الصمت في مثل هذا اللقاء الممتع، ولكنه لم يستطع أن يعبر عن خزيه بغير النهد العميق، ووضع إصبعه على شفتيه، فتراجعت أديث كأنها مستاءة.
ثم قالت: «ما هذا! هل أنت أبكم آسيوي في فعالك، كما أنت في ردائك؟ إني ما كنت أرتقب هذا. ولربما ازدريتني لأني اعترفت لك صراحة بأني لحظت ولاءك لي واكترثت له، ولكن ناشدتك السماء ألا تسيء الظن بأديث من أجل هذا! إنها تعرف جد المعرفة الحدود التي تنحصر فيها بنات البيوت الكريمة، والخفر الذي يحق عليهن، وهي تعرف متى وإلى أي حد ينبغي لتلك الحدود وذلك الخفر أن يفسحا في المجال للاعتراف بالجميل؛ لرغبتها الصادقة في أن تتمكن من إثابتك على خدماتك، وأن تخفف من آلامك التي نالتك من جراء الإخلاص الذي حملته لها، كما يفعل الفارس الكريم. لماذا تطبق ذراعيك وتضغط عليهما بكل هذا الانفعال؟» ثم قالت وقد خطر لها خاطر اقشعر بدنها منه: «أفحقا بلغت بهم القسوة حدا يحرمك فعلا من نعمة الكلام؟ إنك تهز رأسك! لئن كان هذا سحرا أو عنادا، فلن أسألك بعد هذا، وسوف أتركك تؤدي رسالتك كما تحب، فإني أستطيع كذلك أن ألزم الصمت.»
فتحرك الفارس المتنكر حركة تدل على أنه يندب حاله ويستعيذ من غضبها، وقدم لها في نفس الوقت رسالة صلاح الدين مطوية كالعادة في حرير رقيق وقماش من ذهب، فتسلمتها وتصفحتها بغير اكتراث، ثم طرحتها جانبا وصوبت بصرها بعدها ثانية نحو الفارس، وقالت بنغم خافت: «أفما تقول ولو كلمة واحدة وأنت تؤدي الرسالة لي؟»
فضغط الفارس بكلتا يديه على جبينه، كأنه يشير إلى الألم الذي أحس به لأنه لا يستطيع أن يصدع بأمرها، ولكنها انصرفت عنه غاضبة.
وقالت: «اغرب عني، لقد تكلمت كثيرا - بل وكثيرا جدا - إلى رجل لا يريد أن يصرف في سبيل كلمة واحدة جوابا علي. اغرب عني! وقل إن كنت قد أسأت إليك من قبل، فقد كفرت الآن عن إثمي؛ فلئن كنت أنا ذلك السبب التعس الذي هوى بك من منزلة الشرف، فلقد نسيت في هذه المقابلة مكانتي، وحططت من قدر نفسي في عينيك وفي عيني.»
ثم سترت عينيها بيديها، وبدا عليها الارتباك الشديد، وكاد السير كنث أن يدنو منها، ولكنها أشارت إليه أن يعود وقالت: «قف بعيدا! لقد أعدت السماء روحك لأمر جديد! لو كنت أقل غباء ورعبا من عبد أبكم لنطقت بكلمة شكر تواسيني بها في حطتي وعاري. لماذا تتريث؟ اغرب عني!»
وكأن الفارس المتنكر قد وقع بصره على الرسالة عفوا إذ ذاك، فحدق فيها معتذرا بها عن إطالة بقائه، فاختطفت الفتاة الرسالة، وقالت بلهجة التهكم والازدراء: «أجل لقد نسيت؛ إن العبد الطائع ينتظر ردا على رسالته - ما هذا - أهي رسالة من السلطان!»
وتصفحت فحوى الرسالة على عجل، وكانت مكتوبة بالعربية والفرنسية، وما إن فرغت من قراءتها حتى ضحكت ضحك الغضب المرير.
ثم قالت: «إن هذا لفوق ما يبلغ الخيال، ما أظن أن هناك مشعوذا يستطيع أن يرينا مثل هذه الألاعيب الحاذقة! قد يستطيع بحيلته أن يحيل نقد تركيا وبيزنطة إلى نقد هولندا وإسبانيا، ولكنه لا يستطيع بفنه أن يقلب الفارس المسيحي - الذي كان أبدا موضع التقدير بين أشجع الشجعان في الحرب الصليبية المقدسة - إلى عبد يلثم الأديم للسلطان المشرك، وإلى رجل يحمل الخطبة من مسلم وقح إلى فتاة مسيحية، كلا بل وينسى قواعد الفروسية الشريفة وقواعد الدين! ولكن ماذا عسى أن يجدي الحديث مع عبد مخلص لكلب مشرك؟ قل لمولاك، حينما يحل بسوطه عقدة لسانك، ما رأيتني أفعل.» وما إن أتمت حديثها حتى رمت برسالة السلطان فوق الأرض، وداستها بقدميها ثم قالت: «وقل له إن أديث بلانتاجنت تزدري ولاء مسلم لم يعتنق دين المسيح.»
وأوشكت بعد هذه الكلمات أن تنطلق من الفارس، ولكنه جثا لدى قدميها، وهو يعاني مرارة الألم، ثم استجمع جرأته، ووضع يده على ثوبها معترضا رحيلها عنه.
فقالت: وقد التفتت إليه التفاتة يسيرة، وتكلمت بلهجة التأكيد «أفلم تسمع ما قلت لك أيها العبد الغبي؟ قل للسلطان المنافق مولاك إني أزدري خطبته، كما أحتقر انكباب رجل زري خرج على الدين والفروسية؛ ارتد عن الله وعن حبيبة قلبه!»
وما إن فرغت من كلامها حتى فصلت عنه وتمزق ثوبها من قبضته، ثم خلفت الفسطاط.
وآنئذ علا صوت نفيل من الخارج يستدعي صاحبه، فخرج الفارس البائس وتبع البارون الإنجليزي، وهو يتعثر في مشيته منهوكا مسترخيا من المحنة التي كابد عناءها خلال المقابلة التي ما خلص منها إلا بعد أن حنث في العهد الذي أخذ على نفسه أمام الملك رتشارد، وهكذا سار الرجلان معا حتى بلغا السرادق الملكي، وكانت أمامه جماعة من الخيالة نزلت عن ظهور الجياد، وكان داخل الفسطاط ضياء وحركة. ولما دخل نفيل وتابعه المتنكر ألفيا الملك وكثيرا من النبلاء مشتغلين بالترحيب بالقادمين.
الفصل السادس والعشرون
«لأذرفن الدمع دهر الداهرين،
فإني ما أبكي عاشقا غائبا؛
فقد يعيد الزمن ساعات الهناء،
ويلتقي بعد الفراق العاشقان.
وما أبكي الموتى الصامتين؛
فقد انقضت آلامهم، وانتهت أحزانهم،
وسوف يتبعهم من أحب خطاهم،
ويجمعهم الموت، وما بعده من فراق.»
ولكنها بكت شرا من الفراق وشرا من الموت،
بكت في حبيبها ذكرا ملطخا،
وبكت في الجندي اسمه الجريح،
وكرم أرومتها يشعلها نارا موقدة.
من أغنية شعبية
علا صوت رتشارد الجهوري الصريح وهو يحيي القادمين مستبشرا مسرورا، ويقول: «أي توماس دي فو! يا توم جلز البدين! أقسم برأس الملك هنري إنك لرغيب إلى نفسي كقدح النبيذ إلى مدمن الخمر المرح! والله ما كان لي أن أعرف كيف أرتدي زي القتال إلا إن كان جسمك البدين ماثلا أمام عيني أسترشد به في تنسيق هندامي. وسوف نقتتل عما قريب يا توماس إن حبانا القديسون بالرضا، ولن يتم القتال في غيبتك إلا إن كنت معلقا بشجر السيسبان.»
فقال توماس دي فو: «إذن لاحتملت الفشل بجلد المسيحي أكثر مما أحتمل لو أني مت ميتة المارق عن دينه، ولكني أشكر جلالتك على ترحيبك بي، وقد أسرفت فيه إكراما لأني أتيتك بشأن النزال، وأنت متأهب أبدا لأن تأخذ فيه بأكبر نصيب. ولكني أتيتك برجل أعرف أن جلالتك سوف توليه ترحيبا أحر مما أوليتني.»
وتقدم للخضوع إلى رتشارد رجل صغير السن، قصير القامة نحيل القوام، متواضع في زيه، لا تؤثر في الرائي بزته، ولكنه يلبس على قلنسوته مشبكا من الذهب، وجوهرة لا يباريها بريقا إلا تألق العين التي كانت تظللها القلنسوة، وتلك العين كانت الملمح الوحيد الذي يلفت النظر في طلعته. وما إن رآها الناظر مرة حتى أثرت فيه تأثيرا قويا متواصلا. وكان يتعلق برقبته وشاح من الحرير في زرقة السماء، عليه مفتاح من الذهب الخالص لإحكام النغم على القيثار.
وكاد الرجل أن يجثو على ركبتيه إجلالا لرتشارد لولا أن رفعه الملك بعجلة وبشر، وضمه إلى صدره بحرارة وقبله في وجنتيه.
وصاح مسرورا: «مرحبا ب «بلندل دي نزل» الذي أتانا من قبرص، مرحبا بملك المنشدين! على الرحب والسعة عند ملك إنجلترا الذي لا يرفع كرامته الشخصية فوق كرامتك. لقد أصابني المرض يا رجل، وبروحي ما كان مرضي إلا افتقادك؛ فوالله لو أني كنت في منتصف الطرق إلى أبواب السماء ، لردتني إلى الأرض أصوات أنغامك. والآن ما وراءك من بلد القيثار يا سيدي الكريم؟ هل من جديد عن منشدي بروفنس؟ هل من نبأ عن المغنين في بلد النورماندي الطروب؟ وفوق هذا وذاك، خبرني هل كان وراءك ما يشغلك؟ ولكن لا حاجة بي إلى سؤالك؛ إنك لا تستطيع أن تلبث خاملا حتى إن أردت. إن صفاتك النبيلة كالنار، تحترق في أحشائك وتكرهك على أن تخرجها من بين جنبيك غناء وموسيقى.»
فأجاب بلندل الشهير قائلا: «هذا شيء تعلمته فقلته أيها الملك النبيل.» وتراجع تواضعا ولم يستطع رتشارد بكل حماسته وإعجابه بحذقه، أن يزيل عنه الحياء.
وقال الملك: «سوف نستمع إليك أيها الرجل؛ لنصغين إليك الآن.» ثم لمس كتف بلندل برفق وقال: «ذلك إن لم تكن متعبا من السفر، وإلا فوالله إنه لأحب إلى نفسي أن أمتطي صهوة جوادي وأسير نحو الموت من أن أؤذي نغمة من نغمات صوتك.»
فرد عليه بلندل وقال: «صوتي - كما كان أبدا يا مولاي المليك - في خدمتك.» ثم لمح بضعة أوراق على المائدة وقال: «ولكن يبدو لي أن جلالتك مشتغل بما هو أهم، ونحن في ساعة متأخرة من النهار.» «كلا يا رجل، كلا يا عزيز بلندل؛ إنما كنت أرسم زيا للقتال أرتديه حين ألاقي الأعراب، ولن يشغلني هذا أكثر من لحظة قصيرة، وسوف لا يستغرق أكثر مما تستغرق هزيمتهم.»
وقال توماس دي فو: «ولكني أظن أنه كان من اللائق بجلالتك أن تستعلم كذلك عن الجند الذي سوف تعدهم معك، لقد أتيت بنبأ في هذا الشأن من عسقلان.»
فقال الملك: «والله يا توماس إنك لحمار، حمار في غبائك وعنادك! تعالوا أيها النبلاء، افسحوا جميعا، افسحوا! التفوا حوله، أعطوا بلندل هذا المقعد. أين حامل القيثارة! أو - مهلا - أعيروه قيثارتي، فلربما أتلف السفر قيثارته.»
وقال توماس دي فو: «وددت لو أن جلالتك استمعت إلى نبئي؛ لقد سافرت على مطيتي طويلا، وأنا الآن إلى الفراش أشوق مني إلى العبث بأذني.»
قال الملك: العبث بأذنيك! إن هذا إنما يكون بريش الدجاج لا بحلو النغم. استمع إلي يا توماس، هل تفرق أذناك بين غناء بلندل ونهيق الحمار؟»
فأجابه توماس قائلا: «حقا مولاي إني لا أستطيع الجواب، ولكنا إن أبعدنا عن دائرة الحديث بلندل، وهو رجل كريم المولد وذو صفات عالية بغير مراء، فإني من أجل صالح جلالتك لن أنظر إلى منشد إلا وكأني أنظر إلى حمار.»
فقال رتشارد: «أفما كان من أدب اللياقة أن تستثنيني، وأنا رجل كريم المولد كبلندل، وزميل مثله في نقابة المطربين؟»
فأجاب دي فو باسما وقال: «لتذكر جلالتك أنه من العبث أن تتطلب آداب اللياقة من حمار.»
فقال الملك: «لقد أصبت القول، وإنك لحيوان زري الهيئة. ولكن تعال هنا يا سيدي الحمار، واطرح عنك عبئك حتى تستطيع أن تأوي إلى مخدعك دون أن نضيع في سبيلك شيئا من الموسيقى. وأنت، أخي صاحب سولزبري، إلى أن ينتهي دي فو من ذلك، اذهب إلى فسطاط مليكتنا وقل لها إن بلندل قد أتانا وجعبته مفعمة بأحدث الأغاني، ومرها أن تأتي توا إلى هنا، وقم على حراستها، ولاحظ أن ابنة عمنا أديث بلانتاجنت لا تتخلف عن الحضور.»
ثم رنا النوبي هنيهة بنظره، وفي محياه معنى الشك والارتياب، الذي يبدو على ملامحه عادة حينما يرمقه.
وقال: «أوقد عاد رسولنا الصامت الكتوم؟ قف أيها العبد وراء ظهر دي نفيل، وسوف تطرق أذنيك عما قريب أنغام تحمد الله من أجلها على أنه قد أصابك بالبكم لا بالصمم.»
وما إن أتم حديثه حتى أشاح عن بقية الجماعة، وقصد دي فو، واسترسل معه في الحين عن دقائق الشئون العسكرية التي عرضها عليه هذا البارون.
وحينما أوشك اللورد جلزلاند أن ينتهي من حديثه، دخل رسول يعلن أن الملكة ووصيفاتها دانيات من السرادق الملكي، فقال الملك: «هيا، وأتوني بقدح من النبيذ! ائتوني بقدح الملك إسحق القديم، ملك قبرص، الذي عاش طويلا في أمن وطمأنينة، ذلك القدح الذي غنمناه حين اقتحمنا «فجمستا». املئوا الكأس للورد جلزلاند البدين يا كرام الرجال؛ تالله ما أحرز أمير خادما مثله أشد عناية وأكثر إخلاصا.»
وقال توماس دي فو: «يسرني أن جلالتك قد ألفيت في الحمار عبدا نافعا، وإن يكن صوته أقل في موسيقاه من أنغام الأسلاك وشعر الخيل.»
فقال رتشارد: «ماذا تقول؟ أفلم تقبل هذه النكتة عن الحمار؟ إذن فلتمحها يا رجل بكأس مفعمة حتى حافتها، وإلا غصصت بها. عجبا! أجل، لقد أجدت الاحتساء! والآن استمع إلي، إنك جندي مثلي، وينبغي لنا أن نطيع ما بيننا من نكات في الإيوان كما نطيق الضراب في المباراة، وأن نوثق ما بين قلبينا من محبة كلما احتدم النزال؛ تالله إن لم ترد على نكاتي بمثل الشدة التي ضربتك بها حينما التقينا أخيرا، إذن فلقد أسلمت كل ما بك من فطنة للطعان، ولكن هنا الفارق بينك وبين بلندل، ما أنت إلا زميلي - بل تلميذي - في فن القتال، أما بلندل فأستاذي في فنون الغناء والموسيقى؛ فلك أسمح بحرية الإخاء الحميم، أما له فعلي الاحترام، لأنه أرفع مني منزلة في فنه. تعال يا رجل، ولا تكن ضجورا، والبث واستمع إلى جذلنا وحبورنا.»
فقال لورد جلزلاند: «إن كان لا بد أن أشهد جلالتك وأنت في نشوتك، فوالله لألبثن حتى يسرد بلندل قصة الملك آرثر الخيالية بأسرها، وهي تستغرق ثلاثة أيام.»
فقال الملك: «كلا، إنا لن نحملك ما لا تطيق عليه صبرا، ولكن انظر، هنالك ترى وميض المشاعل خارج السرادق إيذانا بمقدم مليكتنا. اخرج أيها الرجل واستقبلها، وأصب لنفسك الرضا في أشد العيون بريقا في العالم المسيحي طرا. كلا، لا تتريث حتى تحكم عباءتك؛ انظر! لقد سمحت لنفيل أن يحول بينك وبين أداء واجبك!»
ولم يرق لدي فو أن يسبقه كبير الحجاب - وهو «نفيل» أوفر منه نشاطا - فقال: «إنه لم يسبقني قط في ميدان القتال.»
فقال الملك: «كلا، هنالك لم يسبقك لا هو ولا أحد غيره يا أخي العزيز توم جلز، اللهم إلا أنا بين الحين والآخر.»
فأجاب دي فو وقال: «أجل مولاي، ودعنا لا نغمط التعساء حقهم؛ لقد سبقني كذلك مرة فارس النمر الشقي، لأنه خفيف على ظهر الجواد، ولذا ...»
فعارضه الملك بصيغة الجزم وقال: «صه! لا تذكره بكلمة واحدة!» ثم تقدم في الحال لتحية زوجه الملكة، وبعدما فعل ذلك، قدم إليها «بلندل» باعتباره ملك الغناء وأستاذه في فن اللهو والمرح، وكانت برنجاريا تعلم جيدا أن عشق زوجها الملك للشعر والموسيقى يكاد يوازي حبه للشهرة الحربية، وأن بلندل هو عزيزه الحميم، فعنيت واهتمت بلقائه لقاء فيه من الملق والإطراء ما يليق برجل يسر الملك أن يعلو شأنه، ورد بلندل بما يليق على ما أمطرته به صاحبة الجمال الملكي من وابل الثناء، ولكنه لا مراء في أنه تلقى التحية الساذجة النبيلة من أديث بإجلال من الأعماق، وبالشكر والامتثال، وبدا له أن ترحيبها الرقيق ربما كان خالصا رغم إيجازه وبساطته.
وكانت الملكة وزوجها الملك كلاهما يعلمان بهذه التفرقة. ولما رأى رتشارد أن زوجه قد أغضبها ما خصت به ابنة عمه من فضل، لم يرض عنه هو نفسه كثيرا قال على مسمع منهما: «نحن المنشدين، يا برنجاريا، كما ترين من مسلك أستاذنا بلندل، نحترم الحكم الصارم كقريبتنا هذه أكثر مما نحترم صديقا متميزا رقيقا مثلك، يطيب له أن يسلم بقدرنا جدلا.»
فثارت نفس أديث لهذا التهكم من قريبها الملك، وترددت في الجواب، ولكنها قالت: «ما حكمي الصارم الجازم بالصفة التي أتصف بها وحدي من بين أبناء بلانتاجنت جميعا.»
وأديث فتاة عليها مسحة من مزاج ذلك الليث الذي يشتق اسمه وشعاره من عشب وضيع
1
زعموا أنه شارة الذلة والخضوع، ولكنه من البيوتات الشديدة الأنفة، الشامخة، التي حكمت إنجلترا، ولذا فلربما تفوهت بأكثر مما قالت، لولا أن عينيها - وهي تتقد في جوابها - التقتا بغتة بعيني النوبي رغم محاولته التخفي وراء النبلاء الحاضرين، فارتمت على مقعد، وشحب لونها شحوبا اضطر الملكة أن تطلب الماء والعطور، وأن تقوم بغير ذلك من الشعائر التي تليق بسيدة سقطت مغشيا عليها. أما رتشارد، فكان يقدر قوى أديث العقلية خيرا من ذلك، فأومأ إلى بلندل أن يعود إلى مقعده ويشرع في النشيد، معلنا أن الغناء خير من كل دواء آخر لإعادة الرجل أو المرأة من بيت بلانتاجنت إلى الحياة. ثم قال: «غننا أنشودة «الثوب الدامي» التي حدثتني عنها مرة قبل أن أغادر قبرص، ولا بد وأن تكون الآن قد بلغت بها حد الإتقان، أو انكسرت قوسك - كما يقول العامة.»
ولكن عيني المنشد الشفيقتين اتجهتا نحو أديث، ولم يطع أوامر الملك المتكررة إلا بعد أن رآها تسترد احمرار خديها، فأخذ حينئذ يتغنى - وكأنه يتلو قصة محفوظة - بإحدى مغامرات الحب والفروسية القديمة التي كانت أبدا في قديم الزمان تملك على الناس قلوبهم، وصحب صوته بالضرب على القيثارة ضربا يحلو معه معنى النشيد ولا يغيض الصوت. وما إن شرع في الديباجة حتى اختفى عن الرائي ظاهره الزري، وتألقت ملامحه بالنشاط والوحي، وأطرب الآذان والقلوب بصوته العريض المسترجل اللين الذي كان مشبعا كل التشبع بالذوق الرفيع، فابتهج رتشارد وتهلل كما يتهلل بعد النصر، ونادى بالصمت نداء يليق بالمقام وقال: «أنصتوا يا كرام القوم في المخادع والأبهاء.»
وبحماس الحامي للفن المتتلمذ فيه صف الحاضرين في دائرة، وألزمهم الصمت وأسكتهم، وجلس هو نفسه وعلى محياه أمارات التسمع واللذة ممزوجة بعض الشيء برزانة الناقد الفني، وحول رجال البلاط أبصارهم نحو الملك حتى يكونوا على استعداد لتقفي ما قد يبدو على ملامحه من عواطف ثم محاكاته، وتثاءب توماس دي فو طويلا كأنه يستسلم - كارها - لكفارة شاقة، وكانت أنشودة بلندل بطبيعة الحال باللسان النورماندي، ولكنا فيما يلي نعربها معنى وأسلوبا.
الثوب الدامي
على مقربة من مدينة، «بنفنت» الجميلة،
والشمس تغيب فوق الأغصان والثنايا،
والفوارس تتأهب في المخادع والخيام
ليلة الاستباق إلى العماد،
حينما أرسلت الأميرة غلاما فتيا
يلبس حرير «لنكلن» الأخضر اللامع،
ويحكي بزيه الحاجب،
فجاس خلال الخيام
باحثا أنى سار عن الإنجليزي «توماس بن كنت». •••
فأمعن في الرحيل، وسيمعن ويمعن،
حتى يجد سرادقه، وما هو بذي أبهة أو سناء.
وما هناك سوى الصلب والحديد إلا القليل،
والفارس الكريم لا يملك المال يستأجر به صانع السلاح
كي يعنى له بسلاحه؛
فبساعدين مفتولين، إلى الكتفين عاريتين،
انكب يصلح بالمطرقة والمسحل
زردا سوف يراه الغد وهو يرتديه
إجلالا «لسنت جون» ولمحبوبته الحسناء. •••
قال الرسول، وأحنى له الفارس رأسه وركبته، «هذا ما تقول سيدتي: هي أميرة بنفنت عالية المقام،
وأنت وضيع كأوضع الفرسان؛
من يتسلق مثل هذه الشجرة العالية،
أو يثب فوق مثل هذا الحاجز يفصل ما بينها وبينك،
ينبغي أن يخاطر بعمل جليل
حتى يرى أطماعه الناس جميعا
تؤيدها الفروسية العلياء. •••
وقال الحاجب، والفارس خافض الرأس واليدين، «ولذا هذا ما تقول سيدتي:
ألق عنك السلاح الكريم الذي ترتدي،
والبس هذا العشب من ردائها بديلا عنه،
واستعض بثوبها الخيطي زرد الحديد،
واخرج بهذا الزي إلى فزع السجال.
وقاتل كما ألفت حيث تري أكثر الدماء،
وعد بالشرف أو البث مع الموتى.» •••
فما بدا على الفارس في محياه الجزع،
وما لعب في صدره القلق،
والعشب استلم، وبإجلال لثم: «بارك الله في ذا الزمن، وبارك الله في ذا الرسول!
ما أراني إن صدعت بأمر سيدتي العالي إلا عظيم الشرف؛
قل لسيدتي إني بهذا اللباس العزيز
لن أضن بشجاعتي على خير الأبطال المسلحين؛
ولكني إن حييت، وأجدت القتال،
فعليها تدور الدائرة وتؤدي الاختبار.»
وهنا، كرام الرجال، ينتهي من أنشودة الثوب الدامي نصفها الأول.
فقال الملك: «لقد غيرت لنا وزن النشيد في البيت الأخير يا عزيز بلندل ونحن غافلون!»
فقال بلندل: «حقا مولاي، فلقد نقلت الأبيات عن الإيطالية، وكنت سمعتها من رجل هرم يضرب على القيثارة لاقيته في قبرص. ولما كنت لا أجد من الوقت ما يكفي لنقلها نقلا صحيحا، أو لحفظها عن ظهر قلب، فإني أكتفي بأن أسد ما في الموسيقى والنظم من عجز بداهة على قدر ما أستطيع، كما ترى أهل الريف وهم يصلحون بالحطب السياج على عجل.»
فقال الملك: «كلا وربي، إني لأحب هذه الأبيات الطويلة ذات الرنين، وأرى أنها أكثر ائتلافا مع نغم الموسيقى من الأبيات القصيرة.»
فأجابه بلندل قائلا: «لنا في كليهما حرية الوزن كما تعرف جلالتك جيدا.»
فقال رتشارد: «أجل إنهما لكذلك يا بلندل، ولكني أظن رغم هذا أن المنظر - إذا كان فيه احتمال القتال - يتسق خير اتساق مع البحر الطويل والأبيات الرنانة التي لها جرس كانطلاق الفرسان. أما الوزن الآخر فليس إلا كسير خيول الآنسات لينا وانحرافا.»
فرد عليه بلندل وقال: «لتكن إرادة جلالتك.» وشرع يقدم للنشيد من جديد.
وقال الملك: «أجل، ولكن هلا أرهفت خيالك أولا بقدح من نبيذ «كيوس». أصغ إلي، إني أريدك أن تطرح عنك هذه القيود الجديدة التي كبلت بها نفسك، وهي انتهاؤك بقواف متشابهة محكمة، فما هي إلا قيود لخيالك المتدفق تجعلك أشبه برجل يرقص في الأصفاد.»
فقال بلندل: «إن الأصفاد يتيسر على الأقل نزعها.» وشرع يجيل أصابعه ثانية بين الأوتار كأن العزف أحب إليه من النقد.
وواصل الملك كلامه وقال: «لم تكبل نفسك بها يا رجل؟ لم ترمي بنبوغك في سوار من حديد؟ إني لأعجب لك كيف تقدمت، وإني على يقين أني ما كنت بمستطيع أن أنشد بيتا واحدا في هذا البحر المقيد.»
فحسر بلندل بصره، واشتغل بأوتار قيثارته كي يخفي بسمة ارتسمت على طلعته رغما عنه، ولكنها لم تغب عن عين رتشارد.
فقال: «أقسم يا بلندل أنك لتضحك مني، وحقا إن كل من يزعم أنه أستاذ - وهو لم يزل تلميذا - لقمين بالسخرية. ولكنا نحن الملوك نكتسب حسن الظن بالنفس، وهي عادة ذميمة. هيا، وشنف آذاننا بغنائك يا عزيزي بلندل، وغننا كما شئت، فإنه لخير مما نقترح، وإن يكن لا بد لنا من التعليق.»
فعاود بلندل الغناء، ولما كان يألف ارتجال النشيد فإنه لم يعجز عن أن ينصاع لما أشار به الملك، وربما سره أن يبين السهولة التي يستطيع أن يكيف بها القصيد من جديد حتى وهو يلقيه.
الثوب الدامي النصف الثاني
شهد صباح العماد الجميل جليل الفعال؛
فكان اكتساب للشرف، وكان ضياع للمنازل،
وكان ضرب بالسيوف، وكان قرع بالعصي،
وأحرز الظافرون مجدا، وفاز بالقبور المنهزم
كم من فارس استبسل وأجاد القتال،
ولكن واحدا من بين أقرانه برز وبرع،
وذلك من لم يكن على جسمه وصدره درع
سوى قميص فتاة ترتديه حين تأوي إلى الفراش . •••
وكان من أصابه بمر الجراح ورامي الكلوم،
وأشفق لحاله الآخرون فكروا راجعين،
وقالوا: «إنها يمين الشرف أقسمها،
ومن النذالة أن نقتله وهو يبر باليمين.»
ثم من أجله أوقف الأمير النزال
ورمى بحارسه، ونفخوا في البوق بالسلم مؤذنين،
وكان للقضاة الحكم، وعلى المبارين التسليم؛
وكان الفارس، وترسه القميص، في الحلبة المجلى. •••
ودنت ساعة المأدبة واحتشد الجميع،
وأمام الأميرة الحسناء انحنى الوصيف خاشعا،
وأسلمها قميصا تعافه العيون
مزقته السيوف، ووخزته الرماح، وكله خروق وكله ثقوب،
مهلهلا مشققا، بالدماء ملطخا،
عليه زبد الخيول وأثر الوحل والأديم،
لو لمسته السيدة بطرف خنصرها
ما وقع الطرف على مكان نقي لم يلوث. «سيدي سير توماس كنت»
إلى أميرة بنفت الحسناء يرد هذا الشعار؛
من يصعد عالي الشجر ينل حقا منه الثمر؛
من يثب فوق الحواجز ينجح فيما سعى؛
استهدفت حياتي لأشد المخاطر فنلت الجزاء،
والآن على سيدتي بيان الولاء.
من تحفز الفرسان لمثل هذا الخطر،
تقر لهم بخالص الفعال أمام الشمس. •••
يقول سيدي: «إني أرد القميص الذي ارتديت،
وإلى الأميرة أطلب ارتداءه بدورها،
وليعل في عينها قدره لما به من خروق،
فعار إن لم يلوث أو يصطبغ قرمزا ولو بخاثر الدماء.»
فاحمرت الأميرة خجلا،
ولثمت الثوب وقد تلطخ بالدماء،
وعلى شفتيها وإلى صدرها ضمته.
اذهب وقل لفارسي الأمين لتظهرن الدولة والكنيسة
إن كنت أقدر أو لا أقدر ما على هذا القميص من دماء. •••
وحان الحين للنبلاء أن يسيروا
في موكب موقر إلى القس والقداس
وسارت في المقدمة الأميرة في بساط الرحمة والأرجوان،
وفوقها تلفعت برداء الليل الملطخ بالدماء؛
بل وفي الردهة حيث التأم الجمع للغداء،
وعلى ركبتيها جثت لأبيها وقدمت النبيذ،
وفوق كل غالي الثياب وثمين الجواهر
لبست ذاك الوشاح المعيب المخضب بالدماء. •••
وحقا لقد همس للسيدات كرام الرجال،
وبالإيماء والبسمات وغمزات العيون أجاب السيدات؛
وأطرق الأمير غضبا وخزيا،
ثم التفت إلى ابنته أخيرا وكلمها مقطب الجبين: «الآن وقد صدرت عنك الحماقة والذنوب،
فلتكفري بيدك عما أرقت من دماء؛
ولتندمان كلاكما على القحة أشد الندم،
وتهيمان من بنفنت الجميلة شريدين.» •••
وفي الردهة وقف توماس البدين،
منهوكا مخذولا ولكن قلبه جسور مقدام،
وبأعلى صوته صاح: «إن ما أرقت من دماء في سبيل ابنتك
قذفت به راغبا، كما يلفظ الوعاء النبيذ؛
ولئن عانت من قبلي عقوبة أو عذلا،
فثق أني لأنجينها من العناء والعار،
ولن تأبه بالإمارة أو ريعها إلا قليلا،
فلسوف أنادين بها في إنجلترا أميرة كنت!»
فسرت بين الحاضرين دمدمة الاستحسان، متابعين في ذلك رتشارد نفسه الذي أخذ يكيل لمنشده المحبوب الثناء كيلا، واختتم بتقديم خاتم عظيم القيمة إليه، وسارعت الملكة إلى التعطف على هذا المغني العزيز بسوار نفيس، وتبع كثير من النبلاء الحاضرين هذه السابقة الملكية.
وقال الملك: «هل باتت ابنة عمنا أديث لا تستسيغ نغم القيثار الذي عشقته يوما؟»
فأجابت أديث قائلة: «إنها تشكر بلندل على أغنيته، وتضاعف الشكر لرقة قريبها الذي أشار إليها.»
وقال الملك: «إنك لغاضبة يا ابنة عمي، غاضبة لأنك سمعت بامرأة أشد منك عنادا، ولكنك لن تفلتي مني، سوف أسير معك بضع خطوات نحو مبيتك من سرادق الملكة؛ ينبغي أن نتشاور معا قبل أن يشحب ظلام الليل ويسطع نور النهار.»
وكانت الملكة ووصيفاتها إذ ذاك قد نهضن على أقدامهن، وانسحب الضيوف الآخرون من فسطاط الملك، وكان ينتظر برنجاريا خارج السرادق رتل من الناس يحملون المشاعل الوهاجة، وحرس من رماة السهام، وسرعان ما كانت في طريقها إلى بيتها. وسار رتشارد إلى جوار قريبته كما اقترح وأكرهها على أن تقبل ذراعه متكأ لها حتى يستطيعا أن يتحادثا دون أن يسمعهما أحد.
وقال رتشارد: «أي جواب إذن أرد به على السلطان النبيل؟ إن الملوك والأمراء ينصرفون عني يا أديث, وهذا النزاع الجديد قد باعدهم عني ثانية، إني قد أستطيع أن أقوم ببعض الواجب نحو القبر المقدس بالاتفاق إن لم يكن بالظفر، وتتوقف - واحسرتاه! - فرصة قيامي بهذا على امرأة. والله لخير لي أن أنازل بحربة واحدة عشرة من خيرة الرماحين في العالم المسيحي من أن أجادل امرأة عنيدة لا تعرف صالح نفسها. أي جواب يا ابنة العم أرد به على السلطان؟ ينبغي أن يكون الجواب حاسما.»
فقالت أديث: «قل له إن أفقر بنات بلانتاجنت خير لها أن تتزوج من البؤس والشقاء من أن تقترن بالشرك والكفران.»
فقال الملك: «أو«بالرق» يا أديث، والله ما أظن إلا أن هذا أقرب إلى ذهنك.»
فأجابت أديث قائلة: «ليس هذا مجال الشك الذي تشير إليه بهذه الغلظة؛ إن استرقاق الجسم قد يدعو إلى الإشفاق، ولكن استرقاق الروح يستثير التحقير والازدراء. عار عليك يا ملك إنجلترا الطروبة! لقد استعبدت فارسا جسما وروحا، وكان يوما يكاد لا يقل عنك صيتا وذكرا.»
فرد عليها الملك وقال: «هلا ينبغي لي أن أمنع قريبتي عن شرب السم، فألوث الإناء الذي يحتويه، إن لم أر وسيلة أخرى تقززها من الشراب القاتل؟»
فأجابت أديث وقالت: «إنما هو أنت الذي تدفع بي إلى شرب السم لأنه يقدم إلي في كأس من الذهب.»
وقال رتشارد: «أي أديث، إني لا أستطيع أن أقسرك على البت قسرا، ولكن حذار من إغلاق الباب الذي تفتحه السماء؛ إن ناسك عين جدة، الذي يعتبره البابا وتعتبره المجامع رسولا، قد استطلع النجم، ورأى أن قرانك سوف يصلح ما بيني وبين خصم قوي، وأن زوجك سوف يكون مسيحيا، ولذا فالأمل قوي في أن زواجك من السلطان سوف يؤدي إلى اعتناقه المسيحية والإتيان بأبناء إسماعيل إلى حظيرة الكنيسة. هيا، هيا، إنما ينبغي أن تقدمي بعض الفداء، ولا تقفي في سبيل مثل هذا المطمح السعيد.»
فقالت أديث: «قد يضحي الرجال بالأكباش والماعز، لا بالشرف والضمير. وقد نما إلي أن الأعراب ما دخلوا إسبانيا إلا عن سبيل عار فتاة مسيحية، وليس عار الأخرى بالسبيل التي يرجى منها إخراجهم من فلسطين.»
فقال الملك: «هل ترين من العار أن تبيتي عاهلة؟» «إنما عار وخزي أن ننتهك حرمة السر المسيحي المقدس بأن ندخل فيه مشركا لا يرتبط به, وأقول إنه عار وشنار أن أبيت راضية - وأنا سليلة أميرة مسيحية - على رأس حريم من الإماء المشركات.»
فسكت الملك قليلا ثم قال : «إذن ينبغي لي يا قريبتي ألا أشتبك معك في الجدل، وإن كنت أظن أن اعتمادك علي كان ينبغي أن يملي عليك الطاعة أكثر من ذلك.»
فأجابت أديث قائلة: «مولاي، إن جلالتك قد ورثت بحق كل ما كان لبيت بلانتاجنت من ثروة وجاه وملك، فلا تضنن على قريبتك المسكينة بنصيب زهيد من عزهم وفخارهم.»
فأجابها الملك وقال: «أقسم أيتها المرأة لقد أنزلتني من عليائي بهذه الكلمة! إذن فلنتصافح وليقبل أحدنا الآخر؛ سوف أبعث بجوابك قريبا إلى صلاح الدين. ولكن بعد هذا كله، ألم يكن خيرا يا ابنة العم أن تعلقي جوابك حتى ترينه؟ فإن الرجال يقولون عنه إنه فائق الملاحة والظرف.»
فقالت أديث: «ليست هناك يا مولاي فرصة للقائنا.»
وقال الملك: «وحق القديس جورج إن اللقاء لا بد منه، فإن صلاح الدين لا مراء في أنه سوف يعطينا ميدانا طلقا نقوم فيه بهذه المعركة الجديدة، معركة العلم، وسوف يشهدها بنفسه، وإن برنجاريا لتتحرق شوقا لرؤياها؛ وأقسم أنكن، رفيقاتها ووصيفاتها، سوف لا تتخلف منكن ريشة. أنت في مقدمتهن جميعا يا ابنة العم الحسناء؛ ولكن دعينا من هذا وهيا بنا، لقد بلغنا السرادق وينبغي أن نفترق، بل وأن نفترق على غير عداء. كلا بل يجب أن تؤيدي يا أديث، يا ذات الحسن، مودتنا بشفتيك وبكلتا يديك؛ إنه من حقي كملك أن أقبل أتباعي من ذوات الحسن.»
وعانقها بإقبال ومحبة، وعاد خلال المعسكر والقمر يسطع، وهو يهمهم لنفسه بضع فقرات مما يذكر من أنشودة بلندل.
ولما بلغ السرادق خف إلى إنشاء رسائله إلى صلاح الدين، وأسلمها إلى النوبي، وأمره أن يرحل عند منبثق النهار عائدا إلى السلطان.
الفصل السابع والعشرون
طرق التكبير منا الآذان -
والتكبير ما يطلقه الأعراب على نداء الهجوم،
حينما يهللون بصوت عال
يدعون الله أن ينصرهم.
حصار دمشق
وفي صباح اليوم التالي دعا فيليب ملك فرنسا رتشارد إلى لقائه، ولما التقيا أبلغ فيليب رتشارد بعد ديباجة طويلة من التقدير السامي لأخيه ملك إنجلترا، وفي عبارة غاية في الرقة، ولكنها جد صريحة لا يخطئ معناها السامع، أبلغه بعزمه المؤكد على عودته إلى أوروبا، وإلى شئون مملكته، لأنه يئس كل اليأس من النجاح في الغاية مما شرعوا فيه بعدما تضعضعت قواهم ودب النزاع بين صفوفهم، وعارضه رتشارد ولكن دون جدوى. ولما انتهيا من المقابلة، تلقى رتشارد بغير دهشة إخطارا من دوق النمسا وكثير غيره من الأمراء، يعلنون فيه عزما كعزم فيليب، وبعبارة ليس فيها شيء من التهوين، وقد عزوا ارتدادهم عن قضية الصليب، إلى أطماع رتشارد المفرطة وسيطرته وتحكمه؛ فضاع بعد هذا كل رجاء في متابعة القتال مع الأمل في الفوز بالنصر آخر الأمر، وتحدر الدمع المرير من رتشارد على خيبة آماله في الظفر والمجد، ولكنه تعزى قليلا حينما ذكر أن الفشل يرجع بعضه إلى المزايا التي منحها خصومه بسجيته المتعجلة وقلة رويته.
فقال لدي فو وهو في مرارة غضبه وحنقه: «إنهم ما كانوا ليجسروا على هجران أبي هكذا، وما كان العالم المسيحي يصدق أنهم يلفظون هذا القذف في وجه ملك حكيم مثله. أما الآن - وما أشد غفلتي! - فإني لم أيسر لهم الحجة لهجراني فحسب، بل لقد أعطيتهم كذلك سببا لإسناد الملامة على هذا الشقاق إلى نقائصي وعيوبي.»
وكانت هذه الخواطر شديدة الإيلام على نفس الملك حتى أن دي فو استبشر حينما وصل من صلاح الدين سفير حول تفكيره إلى مجرى آخر.
هذا الرسول الجديد كان أميرا له لدى السلطان احترام كبير، واسمه عبد الله الحاج، وهو ينتسب إلى أسرة كريمة، وكان يلبس عمامة كبيرة خضراء إشارة إلى نسبه، وقد أدى الحج إلى مكة ثلاث مرات فاتصف ب «الحاج»، ولكن عبد الله - رغم هذه المظاهر التي تدل على قداسته - كان في نظر الأعراب نديما يحب القصص المرح، وينزع عن نفسه الرزانة إلى حد يجترع معه كأس الخمر - وهو يطفح بشرا - إذا ما تخفى تخفيا يكفل له كتمان الفضيحة. وكان إلى ذلك سياسيا أفاد صلاح الدين من كفاءته في مفاوضات عدة مع الأمراء المسيحيين، وبخاصة مع رتشارد الذي كان يعرف «الحاج» معرفة شخصية ويستظرفه . وما إن علم رتشارد من رسول السلطان بإذعانه عن طيب خاطر لتقديم ميدان للنزال على أرض محايدة، ولقيادته كل من أراد أن يشهد المبارزة آمنا إلى هناك، مقدما نفسه ضمانا لصدقه، حتى امتلأ بالحياة، ونسي آماله المحطمة، وإيذان العصبة المسيحية بالانحلال، واسترسل في البحث الممتع الذي يسبق النزال في ميدان المبارزة.
وضرب المكان الذي يعرف ب «درة الصحراء» ملتقى للنضال، لأنه يكاد يتوسط بين معسكر المسيحيين ومعسكر الأعراب، واتفق على أن يظهر كنراد منتسرا المتهم ومؤيداه أرشدوق النمسا وكبير رجال المعبد هناك في اليوم الذي حدد للمبارزة، ومعهم مائة من الأتباع المسلحين ليس غير، وأن يحضر رتشارد ملك إنجلترا وأخوه سولزبري الذي يؤيد الاتهام ومعهما هذا العدد عينه من الرجال لحماية بطل الملك، وأن يأتي السلطان ومعه حرس من خمسمائة من خيار الأتباع، وهي فرقة لا ترجح - رغم عديدها - المائتي مسيحي من رماة الرماح. أما ذوو المكانة من الرجال الذين يختارهم أي الفريقين للدعوة لمشاهدة النزال، فكان عليهم ألا يصطحبوا سلاحا غير سيوفهم، وأن يأتوا بغير دروع للدفاع. وتعهد السلطان بإعداد الأماكن وشهي الطعام من كل لون لكل من يحضر هذا الحفل المهيب، وقد عبر في رسائله بكل رقة عن السرور الذي يرتقبه من الأمل في مقابلة الملك رتشارد مقابلة شخصية سلمية، وعن رغبته الشديدة في أن يجعل استقباله لائقا بقدر ما يستطيع.
وبعدما تم التمهيد، وعلم بذلك المتهم وأعوانه، دخل عبد الله الحاج في مقابلة خاصة استمع فيها لأغاني بلندل وانشرح لها صدره، وقد أخفى عن الأبصار أول الأمر عمامته الخضراء بكل عناية، واستبدلها بتقية إغريقية، ثم رد على موسيقى المنشد النورماندية بأغنية شراب فارسية، واجترع كأسا من نبيذ قبرص حتى ثمالتها كي يثبت أن فعاله تتفق ومبادئه. وفي اليوم التالي ظهر بمظهر الرصانة والصحو كأنه «مرجلب» الذي لم يشرب سوى الماء، وانحنى بجبينه إلى الأرض لدى موطئ قدمي صلاح الدين وسرد للسلطان بيانا عن سفارته.
وفي اليوم الذي كان يسبق اليوم المحدد للنزال فصل كنراد وصحابه عند مطلع النهار يقصدون المكان المعين، وترك رتشارد المعسكر في ذات الوقت ولنفس الغرض، ولكنه سلك في رحيله طريقا أخرى كما اتفق من قبل، وهي حيطة رؤيت ضرورتها لمنع إمكان شبوب النزاع بين أتباعهم المسلحين.
ولم يكن الملك الصالح نفسه على أهبة للقتال مع أي كان، وما كان ليزيد من سروره وتطلعه إلى المبارزة الدامية المستقتلة في ساحة النزال إلا أن يكون بشخصه الملكي أحد المتبارزين. واسترد بعض رضا النفس ثانية، وهدأت ثائرته حتى نحو كنراد منتسرا، وسار يترنح يمينا ويسارا، خفيف السلاح، نفيس اللباس، منشرحا كالعريس ليلة زفافه، إلى جوار محفة الملكة برنجاريا، مشيرا لها إلى المناظر العديدة التي كانا يتخللانها، ومدخلا بالقصص والغناء بعض البهجة على صدر القفر المجدب القاحل, وكانت الطريق التي سلكت الملكة من قبل في حجها إلى عين جدة على الجانب الآخر من سلسلة الجبال، فكان السيدات غريبات على هذا الجانب البادي من الصحراء، وكانت برنجاريا تعلم ميل زوجها حق الميل، وتحاول أن تظهر حبها لما كان يسره من قول أو غناء، إلا أنها - رغم ذلك - لم يسعها إلا أن تسترسل في بعض مخاوف نسوية، حينما ألفت نفسها في قفر بلقع مع قليل من الخفراء كانوا يبدون كذرة متحركة على صدر السهل، وحينما أدركت كذلك أنهم على مقربة من معسكر صلاح الدين، وأن هذا الوثني قد تبلغ به الخيانة أن ينتهز هذه الفرصة فيبعث بجيش قوي من فرسانه خفاف الحركة يباغتهم ويسحقهم في لحظة واحدة. ولكنها ما إن ألمعت إلى رتشارد بهذه الريب حتى درأها غاضبا مزدريا وقال: «إنه لشر من نكران الجميل أن نرتاب في صدق نية السلطان الكريم.»
ولكن هذه المخاوف والشكوك عادت أكثر من مرة لا إلى عقل الملكة الهيوب وحده، ولكن إلى نفس أديث بلانتاجنت كذلك، وهي أشد ثباتا وأكثر صراحة، ولم تبلغ بها الثقة في إخلاص المسلمين مبلغا تطمئن معه إلى هذا الحد، إن هي باتت في قبضتهم، ولو كان ما حواليها من أرض يباب يردد صدى النداء «بالله» على حين غرة ، ثم تنقض عليهم عصابة من فرسان العرب كما تنقض النسور على الفريسة، لكانت دهشتها من ذلك أقل من رعبها بكثير. ولم تفتر هذه الشكوك حينما أقبل المساء، ورأوا فارسا عربيا - يتميز بعمامته ورمحه الطويل - يحوم على حافة جبل ناتئ كالصقر يحلق في الهواء، وقد انطلق في الحال عندما ظهر الملك وأتباعه انطلاق الطائر حينما يشق الريح ويختفي وراء الأفق.
فقال الملك رتشارد: «لا بد وأن نكون قد اقتربنا من المكان، وذلك الفارس أحد طلائع صلاح الدين. يخيل لي أني أسمع أصوات الأبواق والصنوج المغربية؛ رتبوا صفوفكم يا أحباء قلبي، واصطفوا حول السيدات واثبتوا ثبات الجنود.»
وفي خلال كلامه خف كل فارس وتابع ونبال على عجل إلى مكانه المعين، وساروا في صفوف متلاصقة أشد التلاصق حتى بدا عديدهم قليلا. وحقا إن لم يسر بينهم الخوف، فقد تملكهم الجزع وحب التطلع وهم يتسمعون منصتين إلى أنغام الموسيقى المغربية وهي تصدح، وتبلغهم الحين بعد الآخر واضحة من الجهة التي اختفى فيها الخيال العربي.
وقال دي فو همسا: «أما كان خيرا لنا يا مولاي أن نبعث برسول إلى قمة هذه الرابية الرملية؟ أم هل تريدني أن أسبق إلى الأمام؟ يخيل لي من كل هذا الضجيج وذاك الظنين أنه إن لم يكن هناك ما يربو على خمسمائة رجل وراء الكثبان الرملية، فلا بد وأن يكون نصف حاشية السلطان من الطبالين واللاعبين بالصنوج. هل لي أن أسبق؟»
وشد البارون على جواده بزمامه، وأوشك أن يحفزه بمهمازه، لولا أن صاح به الملك «كلا، لو أعطيت ملك الدنيا؛ إن مثل هذا الحذر يدل على الريبة ولن يحول دون انقضاضهم علينا، وهو أمر لا أخشاه.»
وتقدم الجمع بعد هذا في نظام محكم متقاربين، حتى تخطوا الكثبان الرملية المنخفضه، وباتوا على مرأى من المكان المقصود، فإذا بانتظارهم مشهد رائع جليل، ولكنه يثير الرعب في النفوس.
كانت «درة الصحراء» على عهد قريب عينا منعزلة لا يميزها وسط القفار سوى عدد من أشجار النخيل المتباعدة، ولكنها الآن محط لخيام عديدة مضروبة، وعليها أعلام مزركشة وزينات من الذهب تتألق تألقا شديدا وتعكس ألوفا من الألوان الزاهية، والشمس تسطع عليها وهي ماثلة للغروب. وكانت السرادقات الضخمة مغطاة بأزهى الألوان، من قرمزي إلى أصفر فاقع، إلى أزرق شاحب، وغير ذلك من الأصباغ ذات الرونق والسناء، وأعالي عمدها - أو قوائم الخيام - كانت محلاة برمان من الذهب، وأعلام صغيرة من الحرير, ولكن إلى هذه السرادقات المتميزة كان هناك، على ما رأى توماس دي فو، عدد كبير من خيام العرب المألوفة السوداء، تكفي - على ظنه - لإيواء جيش من خمسة آلاف رجل على الطريقة الشرقية, وكان هناك عدد من الأعراب والكرد يتناسب واتساع المخيم، يتجمعون على عجل، وكل منهم يقود جواده بيده، ويصحب حشدهم ضجيج يكاد يصم الآذان، يصدر عن آلاتهم الصخابة التي كانوا يضربون عليها موسيقاهم العسكرية، والتي أشعلت في العرب طوال العصور حماس الحرب والقتال.
وسرعان ما تجمعوا أمام خيامهم في حشد مضطرب شديد الزحام من الفرسان المترجلين، وما إن أشير إليهم بصيحة عالية تعلو رنين الموسيقى، حتى خف كل فارس إلى ظهر جواده، وثار النقع سحبا حينما قاموا بهذه الحركة العسكرية، فاختفى عن ناظر رتشارد وأتباعه المعسكر والنخيل وحافة الجبل البعيدة، كما اختفى الجند الذين أثاروا سحب التراب بحركتهم المباغتة. وارتفع الغبار فوق رءوسهم، واتخذ أشكالا عجيبة من عمد ملتوية وقباب ومآذن، وارتفعت صيحة عالية أخرى منبعثة عن صدر هذا الهيكل المنشأ من سحب التراب، وكانت هذه الصيحة إشارة للفرسان بأن يتقدموا؛ وقد فعلوا، راكضين بأقصى سرعة. وكلما ساروا إلى الأمام اصطفوا محيطين بالمقدمة والجناحين والمؤخرة من حراس رتشارد القليلين، وقد باتوا محاصرين، ويكادون يختنقون بسحب التراب الكثيفة التي تغشتهم من كل جانب، والتي كانت تتبين من خلالها حينا وتختفي حينا آخر جسوم الأعراب الكالحة، ووجوههم البربرية، وهم يلوحون برماحهم، ويهزون بها في كل متجه مهللين هاتفين، ولا يمسكون بزمام خيولهم إلا غرارا، وذلك حينما يبيتون على قيد رمح من المسيحيين، بينما كانت مؤخرتهم تمطر على رءوس الفريقين وابلا من السهام، وقد أصاب أحدهم المحفة التي كانت تجلس فيها الملكة، فعلا صياحها واحمر جبين رتشارد في لمح البصر.
فصاح مذعورا: «وحق القديس جورج ليكونن لنا مع هذه الطغمة من الكفار شأن!»
أما أديث التي كانت محفتها على كثب، فقد أطلت برأسها، وأمسكت بإحدى يديها نبلة وصاحت: «أي رتشارد المليك، حذار مما أنت فاعل! انظر، إن هذه السهام بغير رءوس!»
فصاح بها رتشارد: «ما أنبلك وأحكمك من امرأة! والله إنك لتخجليننا جميعا بسرعة خاطرك ونفاذ بصرك.» وصاح بأتباعه: «لا تتحركوا يا أعزاء قلبي من الإنجليز، إن سهومهم ليس لها رءوس، وإن رماحهم كذلك تنقصها أطراف الحديد. إنما جاءونا مرحبين ترحيبا وحشيا على طريقتهم البربرية، ولكنهم رغم هذا - لا مراء - يبتهجون إذا رأونا مرتاعين أو مضطربين. سيروا إلى الأمام بتؤدة وثبات.»
فسارت الكتيبة الصغيرة قدما، يصحبها الأعراب من كل جانب، وهم يصيحون صياحا نافذا أجش، وحملة القسي يعرضون حذقهم وخفتهم فيرمون بسهامهم على قيد شعرة من رءوس المسيحيين دون أن يصيبوهم بأذى، والرماحون يتقارعون بغلظة بأسلحتهم الكليلة، حتى كثر منهم من فقد سرجه وكاد يفقد حياته في هذا اللعب الهمجي. وقد أرادوا بهذا كله إلى التعبير عن ترحابهم، ولكن ظاهر الأمر كان مريبا في أعين أبناء أوروبا.
وما إن بلغوا منتصف الطريق نحو المعسكر، والملك رتشارد وأتباعه يؤلفون النواة التي تجمع حولها هذا العدد الصخاب من الخيالة، مهللين هاتفين، ومناوشين ومهطعين، وهم على صورة من الاضطراب لا يحيط بها وصف، حتى انبعثت صيحة عالية أخرى، كر لمسمعها الجنود المختلون، الذين كانوا بالمقدمة وعند الجناحين من الكتيبة الأوروبية الصغيرة، وألفوا من أنفسهم صفا طويلا عريضا، وساروا في مؤخرة عسكر رتشارد، وهم أكثر نظاما وألزم صمتا، وبدأ التراب الآن ينقشع أمامهم حينما تقدم للقائهم خلال ذلك الحجاب القاتم جماعة من الفرسان يختلفون عنهم هيئة ويفوقونهم نظاما، مسلحين إلى الأطراف بأسلحة الدفاع والهجوم، يليق بهم أن يكونوا حراسا لأكثر ملوك الشرق صلفا وكبرا. وهذه الفرقة الفاخرة كانت تتألف من خمسمائة رجل، وكل جواد من جيادهم يليق فداء لرجل شريف، والركبان رقيق من أهل جورجيا أو جراكسة في ريعان الشباب، وخوذاتهم وقمصانهم المصنوعة من الزرد كلها من حلق الحديد، شديدة البريق، تتألق كالفضة، ونطقهم مجدولة بالحرير والذهب، وعمائمهم الغالية مرصعة بالريش والجواهر، وسيوفهم وخناجرهم من الصلب المحلى بالفضة، مزينة بالذهب واللآلئ على مقابضها وأغمدتها.
تقدم هؤلاء الجند ذوو الأزياء الفاخرة على أنغام الموسيقى العسكرية، ولما التقوا بفرقة المسيحيين فتحوا صفوفهم يمينا ويسارا، وأدخلوهم بينهم، واتخذ رتشارد الآن مكانة في طليعة جنده، وهو يعلم أن صلاح الدين نفسه يدنو. ولم يمض زمن طويل حتى أقبل السلطان وسط حرسه، وكأنه بملامحه وهيئته رجل كتبت الطبيعة على جبينه «هذا ملك»، وأحاط به خدمه من الضباط وأولئك الزنوج الدميمين الذين يخفرون الحريم في الشرق، والذين زاد قبح أشكالهم رعبا نفاسة ملبسهم. وصلاح الدين بعمامته الناصعة البياض، وصداره وسراويله الشرقية الفضفاضة، ونطاقه الحريري القرمزي، دون أية زينة أخرى، ربما كان أكثر من حرسه سذاجة في لباسه؛ ولكنك إن دنوت منه وأمعنت فيه، رأيت في عمامته تلك الجوهرة التي لا تقدر، والتي سماها الشعراء «بحر النور»، واللؤلؤة المنقوشة باسمه، والتي كان يلبسها في خاتمه، ربما كانت تساوي في قيمتها كل ما بالتاج الإنجليزي من جواهر، والياقوت الذي ينتهي به مقبض سيفه لا يقل عنها في قيمتها كثيرا؛ وفوق ذلك كان السلطان يلبس نوعا من القناع يتصل بعمامته، ويحجب عن الأنظار جانبا من ملامحه النبيلة، وذلك إما وقاية له من التراب الذي يشبه في جوار البحر الميت أدق الرمال، أو ربما كان ضربا من الكبرياء الشرقي. وكان يمتطي حصانا عربيا ناصع البياض، يحمله وكأنه يحس ويفخر براكبه النبيل.
ولم تكن هناك حاجة إلى تقدمة جديدة، فلقد نزل الملكان الشهمان - وحقا لقد كانا كذلك - عن ظهري جواديهما توا، ووقف الجند، وسكتت الموسيقى بغتة، وتقدما للقاء في صمت رهيب، وبعدما انحنى كل منهما مجاملة تعانقا كأخوين وندين، ولم تعد الأبهة والمظهر لدى أيهما لتجتذب النظر، إذ لم ير أحد شيئا غير رتشارد وصلاح الدين، ولم ير أحدهما غير الآخر، ولكن النظرة التي كان يرمق بها رتشارد صلاح الدين كانت أكثر إمعانا وتطلعا من نظرات السلطان التي صوبها نحوه. وكان السلطان كذلك أول من شق ما كان يسود من سكون.
وقال: «إن صلاح الدين يرحب بالملك رتشارد كما يرحب بالماء لهذه الصحراء! وإني على يقين من أنه لا يرتاب في هذا العدد العديد من الجنود، فإذا استثنيت العبيد المسلحين من حاشيتي، فإن أولئك الذين يحيطونك بنظرات من العجب والترحاب هم جميعا - حتى أكثرهم خضوعا - من النبلاء ذوي المكانة في القبائل الألف التي تتبعني؛ إذ من ذا الذي يكون له حق المثول ويلبث في بيته، والأمير القادم رتشارد، وهو الذي بمخاوف اسمه - حتى فوق رمال اليمن - تدلل المرضعة الوليد ويخضع العربي جواده الجموح!»
فأجاب رتشارد وقال: «وكل هؤلاء نبلاء من الأعراب؟» وتلفت حواليه، ووقع بصره على جسوم خشنة، ورجال متلفعين بالثياب، اسودت من حرارة الشمس ملامحهم، وأسنانهم بيضاء كالعاج، وعيونهم السود يتألق فيها بريق نافذ غير طبيعي تحت ظلال عمائمهم، ولباسهم على الجملة ساذج بل وضيع.
فقال السلطان: «أجل إن لهم لهذه المرتبة، وهم وإن يكونوا عديدين إلا أنهم يخضعون لشروط المعاهدة، ولا يحملون سلاحا غير السيوف، وحتى حديد رماحهم قد خلفوه وراءهم.»
فتمتم دي فو بالإنجليزية قائلا: «إني أخشى أن يكونوا قد خلفوه حيث يتيسر لهم إن أرادوه سريعا. إني أقر بأنهم مجلس من الشيوخ جليل، وربما ضاقت بهم قاعة وستمنستر.»
وقال رتشارد: «صه يا دي فو؛ إني آمرك بالصمت.» ثم قال: «أيها السلطان، إنك والشك لا توجدان على أرض واحدة.» وأشار إلى المحفات وقال: «ألا ترى أني كذلك قد أتيت معي ببعض الأبطال، ولكنهم مسلحين. ولربما كان في ذلك إخلال بالاتفاق؛ ولكن العيون النجل، والملامح الفاتنة، أسلحة لا نستطيع أن نخلفها وراءنا.»
فالتفت السلطان نحو المحفات، وطأطأ رأسه إجلالا كأنه يولي وجهه شطر مكة، ولثم الرمال إشارة على الاحترام والتبجيل.
وقال رتشارد: «كلا، إنهن يا أخي لا يخشين لقاء أقرب من هذا. هلا ركبت صوب محفاتهن، وسترفع الستر بعد زمن وجيز ؟»
فقال صلاح الدين : «حرام علي هذا! وليس للعربي أن ينظر إلى النساء، وعار على السيدات النبيلات أن يبدين وجوههن بغير قناع.»
فأجاب رتشارد: «إذن لتراهن في خلوة يا أخي المليك.»
فأجابه صلاح الدين محزونا وقال: «لم أراهن؟ لقد كانت رسالتك الأخيرة لآمالي التي أشدت كالماء للنار، فما لي بعد هذا أشعل لهيبا قد يحرق قلبي ولا يدخل السرور على نفسي؟ ولكن هلا سار أخي إلى الفسطاط الذي أعده له خادمه؟ إن عبدي الأسود الخاص قد تلقى الأمر للقاء الأميرات، وسوف يستقبل الضباط من حاشيتي تابعيك، وسأقف بنفسي على خدمة رتشارد المليك.»
وعلى إثر هذا شق طريقه إلى سرادق فخم أعد به كل طريف من ترف الملوك، وكان دي فو حاضرا فأزال عباءة الركوب الطويلة التي كان يلبسها رتشارد، ووقف الملك أمام صلاح الدين في لباسه الضيق الذي أبان عن متانة قوته وجمال اتساق جسمه، وهو يباين كل التباين الثياب الفضفاضة التي كانت تستر جسم الملك الشرقي النحيل. وكان أشد ما استرعى انتباه الملك العربي سيف رتشارد الطويل ذو المقبضين، وظباته العريضة المستقيمة الي يمتد طولها الفارط من كتف حامله إلى عقبه.
فقال السلطان: «والله لولا أني رأيت هذا المهند يتألق في طليعة المعركة كسيف عزرائيل لما كدت أصدق أن ذراعا بشرية تستطيع أن تهز به، وهل لي أن ألتمس رؤية الملك رتشارد وهو يضرب ضربة واحدة سلمية لمحض امتحان قوته؟»
فأجابه رتشارد: «لك هذا مني راغبا أيها السلطان النبيل.» وتلفت حواليه يبحث عن شيء يختبر به قوته، فوقعت عينه على صولجان من الصلب يمسك به أحد الواقفين، له مقبض كذلك من الصلب، قطره نحو بوصة ونصف البوصة، فأخذه ووضعه على كتلة من الخشب.
وأدى بدي فو جزعه على شرف سيده أن يهمس بالإنجليزية قائلا: «وحق العذراء البتول، حذار مولاي مما أنت مقدم عليه! إنك لم تسترد بعد كامل قواك. لا تشمت فيك هذا الكافر.»
فقال رتشارد وقد ثبت في مكانه ورنا حواليه بنظرة حادة: «أنصت أيها الغافل، أفتظن أني أحبط في حضرته؟»
وأمسك مهنده العريض البراق بكلتا يديه، ورفعه عاليا إلى كتفه اليسرى، وأداره حول رأسه، وهوى بقوة كأنه قوة آلة مروعة، فتدحرج القضيب الصلب فوق الأديم وقد قصمه نصفين كما يبتر الحاطب الشجيرة بفأسه.
فأخذ السلطان القضيب الصلب الذي انكسر شطرين، وفحصه بدقة وإمعان، وقال: «والله إنها لضربة عجيبة!» وكانت ظباة السيف من اللين بحيث لم يبد عليها أقل إشارة إلى تأثرها بالعمل الجليل الذي أنجزته. ثم تناول يد الملك وحدق في حجمها وقواها العضلية التي بدت عليها، وضحك حينما وضعها بجانب يده الضامرة الهزيلة التي لا تدانيها قوة ولا عصبا.
وقال دي فو بالإنجليزية: «أجل، انظر وأمعن في النظر، إن أصابعك التي تشبه أصابع القرد لن تستطيع أن تقوم بمثل هذا العمل الباهر بسيفك هذا الرقيق المموه بالذهب.»
فقال رتشارد: «الزم الصمت يا دي فو، أقسم بالعذراء إنه قد يدرك أو يتخرص بما تعني، وإني أرجوك ألا تكون فظا كذلك.»
وحقا لقد أسرع السلطان بقوله: «إني أريد أن أحاول أمرا، ورغم أن الضعيف ليس له أن يظهر ضعفه أمام القوي، إلا أن لكل بلد ما ألف من مران، وقد يكون هذا جديدا على الملك رتشارد.» وبعدما أتم حديثه رفع عن الأديم وسادة من الحرير والزغب، ووضعها مستقيمة على أحد أطرافها، وقال للملك رتشارد: «هل تستطيع بسلاحك يا أخي أن تقصم هذه الوسادة؟»
فأجابه الملك: «كلا، وايم الحق، وما على الأرض سيف - حتى ولا حسام الملك أرثر - يستطيع أن يقطع شيئا لا يثبت لوقع الضربة الراسخة.»
فقال صلاح الدين: «إذن فانظر إلي.» وشمر عن ساعده، فبدت منه ذراع نحيلة، هزيلة حقا، ولكنها من أثر المران تصلبت وباتت كتلة ليس بها غير العظام والعضلات والأعصاب؛ ثم جرد سيفه الأحدب من غمده، وهو نصل منحن ضيق ليس له بريق سيوف الفرنجة، وأما لونه فأزرق قاتم، عليه عشرة ملايين من الخطوط الملتوية، مما يدل على أن صانعه أحمى المعدن بالنار وطرقه بكل عناية. ووقف السلطان مرتكزا بثقله على قدمه اليسرى، وقد قدمها إلى الأمام قليلا ، وهز بسلاحه وظاهره الضعف إذا قيس بمهند رتشارد، واتزن السلطان قليلا كأنه يريد أن يتثبت من هدفه، ثم خطا إلى الأمام بغتة وجذب الأحدب فوق الوسادة مطبقا شفرته عليها بحذق وبقليل من الجهد، حتى لكأن الوسادة قد انقصمت من تلقائها شطرين ولم يمزقها العنف والقوة.
فانطلق دي فو إلى الأمام، واختطف نصف الوسادة التي انفصمت كأنه يريد أن يتثبت من صدق ما وقع، وقال: «إن هذه إلا حيلة مشعوذ، وإن في هذا لسحرا.»
ويظهر أن السلطان قد أدرك قوله، لأنه أزال ذلك الضرب من اللثام الذي كان يتلثم به حتى آنئذ، ونزعه عن وجهه، وعلقه بطرف سيفه، ومد حسامه في الجو مستعرض الشفرتين، وجذبه بغتة من خلال اللثام رغم تعلقه بالظباة مرسلا غير موثوق، فمزق اللثام كذلك نصفين، وتطاير في ناحيتين مختلفتين في الفسطاط، مبينا كذلك عن لين السلاح وحدته الفائقة، ومهارة حامله مهارة رائعة.
وقال رتشارد: «والآن وايم الحق يا أخي إنك في حيل السيف لا تبارى، وإنك لجد خطر لمن يلاقيك! ولكني ما زلت رغم هذا أثق بعض الثقة في الضربة الإنجليزية القاصمة، فإن ما لم نستطعه بالدهاء ندبره بالقوة، وعلى ذلك فحقا إنك في ثلم الجروح لحاذق حذق حكيمي النطاسي في ضمدها؛ إني أعتقد أني سوف أرى الطبيب العالم. إن علي له لشكرا جزيلا، وقد أتيت له بهدية صغيرة.»
وبينما هو يتكلم، استبدل صلاح الدين عمامته بتقية تترية، وما إن فعل ذلك حتى فغر دي فو في الحال فمه العريض وعينيه الكبيرتين المستديرتين، وحملق رتشارد بما لا يقل عن ذلك دهشة، بينما أخذ السلطان يتكلم بصوت رزين متغير ويقول: «يقول الشاعر ما معناه: إن المريض ما دام عليلا يعرف طبيبه بخطاه، ولكنه إن عوفي لا يعرف منه حتى وجهه حينما ينظر إليه.»
فصاح رتشارد: «إنها لمعجزة! إنها لمعجزة!»
وقال توماس دي فو: «معجزة من فعل محمد ولا مراء.»
وقال رتشارد: «كيف لي أن أفتقد حكيمي النطاسي لمجرد غياب تقيته وثوبه، ثم أجده ثانية في شخص أخي المليك صلاح الدين!»
فأجابه السلطان: «هذه حال الدنيا في كثير من الأحيان؛ إن الثياب البالية لا تنم عن الدرويش في كل حين.»
فقال رتشارد: «وإذن لقد كنت الوسيط في نجاة فارس النمر من الموت، وبحيلتك كانت عودته إلى المعسكر متنكرا؟»
قال صلاح الدين: «أجل، لقد كان ذلك، وقد علمني طبي أن جراح شرفه الدامي، إن لم تلتئم، فإن أيام حياته سوف لا تطول. ولقد كان كشف تنكره أيسر مما توقعت لنجاح تنكري.»
فقال الملك رتشارد: «إن حادثا قد وقع حدا بي أول الأمر إلى أن أدرك أن بشرته كانت ملونة بلون مصطنع (وربما يشير بهذا إلى الظرف الذي دفعه إلى أن يطبق شفتيه على جرح النوبي المزعوم)، وما إن أدركت هذه الإشارة حتى أصبح كشف الأمر سهلا ميسورا، فإن هيئته وجسمه لا يغيبان عن الذكر، وإني على ثقة من أنه سوف يتقدم للنزال في الغد.»
فقال السلطان: «إنه على تمام الأهبة وعلى أمل عظيم، فلقد أعددته بالسلاح والحصان لأني أحسن به الظن مما رأيت وأنا متخف في مختلف الأزياء.»
فقال رتشارد: «وهل يعرف هو الآن لمن هو مدين؟»
فأجاب العربي: «أجل فلقد اضطررت إلى الاعتراف له بشخصي حينما كشفت له عن غرضي.»
فقال ملك إنجلترا: «وهل أقر لك بشيء ما؟»
فأجاب السلطان: «لم يقر بشيء صراحا، ولكن من كثير مما دار بيننا، أدركت أن حبه معقود بفتاة من بيت كريم أرفع من أن ينتهي وإياها إلى السعادة والرفاهية.»
فقال رتشارد: «وهل تعلم أن حبه هذا الوقح الجريء يتعارض ورغبتك؟»
فقال صلاح الدين: «قد يبلغ بي الظن إلى هذا الحد، ولكن حبه قد ظهر إلى حيز الوجود قبل أن تنشأ في الرغبة، وينبغي أن أقول إن حبه أبقى على الزمن من حبي، وإن شرفي لا يسمح لي بأن أنتقم لخيبتي ممن لم تكن له يد فيها، ولئن كانت هذه الكريمة النسب تحبه أكثر مما تحبني فمن ذا الذي يقول إنها لم تنصف فارسا من دينها كله شرف ونبل؟»
فقال رتشارد شامخا بأنفه : «ولكنه من ذرية أوضع من أن تختلط بدم بلانتاجنت.»
فأجابه السلطان: «ربما كانت هذه مبادئكم في بلاد الفرنجة، أما نحن فشعراؤنا من أهل الشرق يقولون بأن الحادي المقدام جدير بتقبيل ثغر الملكة الحسناء، أما الأمير النذل فليس قمينا بأن يحيي أهداب ثيابها. ولكني أستأذنك أخي النبيل في أن أفارقك الآن، كي أستقبل دوق النمسا وذلك الفارس النصراني، وهما أقل منك حقا بالإكرام، ولكنا ينبغي لنا أن نحسن لقاءهم، لا إجلالا لهم، ولكن احتفاظا بشرفي. ولقد قال في ذلك الحكيم لقمان: «إن الطعام الذي تقدمه للغريب لا يضيع، فإن اشتد به جسمه وقوي، ارتفع اسمك عزة وشهرة.»
ثم فصل الملك العربي عن سرادق الملك رتشارد، وبعد أن أومأ إليه بالإشارة لا بالكلام عن المكان الذي ضرب به سرادق الملكة ووصيفاتها، ذهب للقاء مركيز منتسرا وحاشيته الذين أعد لهم السلطان كذلك أماكن يستقرون فيها، توازي ما أعد لغيرهما أبهة وعظمة، ولكن بقلب أقل ترحيبا. وقدم الطعام الوفير على الطريقة الشرقية وعلى النمط الغربي لضيوف صلاح الدين من الملوك والأمراء، كل في سرادقه الخاص. وكان السلطان شديد التنبه لعادات زائريه وأذواقهم، فأوقف رقيقا من اليونان يقدمون لهم كئوس الخمر، وهي حرام على المسلمين، وقبل أن يفرغ رتشارد من طعامه دخل «عبد الله» الذي كان قد حمل رسالة صلاح الدين إلى معسكر المسيحيين، ومعه خطة الطقوس والرسوم التي سوف تتبع في اليوم الذي يلي يوم النزال؛ وكان رتشارد يعرف هوى صاحبه القديم، فدعاه لأن يشاركه في قدح من نبيذ «شيراز»، ولكن «عبد الله» أومأ إليه - وعلى وجهه سيماء الحزن والأسى - بأن إنكار الذات في الظرف الراهن أمر يتعلق بحياته، لأن صلاح الدين - رغم تسامحه في كثير من الشئون - كان يرعى شريعة النبي وينفذها بالعقوبة القاسية.
فقال رتشارد: «إذن إن كان لا يحب الخمر - وهي ذلك الشراب الذي يخفف عن قلب الإنسان - فإن اعتناق المسيحية لا أمل فيه، ولسوف تذهبن نبوءة كاهن عين جدة المجنون أدراج الرياح.»
ثم شرع الملك يعد أدوات المبارزة، واستغرق في ذلك وقتا طويلا؛ إذ كان لزاما عليه أن يتشاور في بعض الأمور مع الفريق المنازل ومع السلطان.
وأخيرا تم بينهم الاتفاق في كل شيء، وسووا ما بينهم في ميثاق بالفرنسية والعربية، وقع عليه صلاح الدين كحكم في ميدان القتال، ورتشارد وليوبولد كضامنين للمتبارزين؛ ودخل دي فو و«عبد الله» يستأذن من الملك رتشارد بالانصراف نهائيا ذلك المساء.
وقال دي فو: «إن الفارس الكريم الذي سوف يشترك في النزال غدا يرجو أن يعرف إن كان يجوز له هذه الليلة أن يقدم ولاءه لمتبوعه المليك.»
فقال الملك باسما: «وهل رأيته يا دي فو؟ وهل عرفت فيه صديقا قديما؟»
فأجابه دي فو «أقسم بسيدة «لانركست» إن بهذه البلاد من المفاجآت والتغييرات الكثيرة ما يضطرب له عقلي الضعيف. والله ما كدت أن أعرف السير كنث الاسكتلندي حتى جاءني كلبه الصالح، الذي لبث تحت رعايتي زمنا قصيرا، وتمسح بي، وحتى حينئذ ما عرفت الكلب إلا باتساع صدره واستدارة قدمه وأسلوب نباحه، فلقد كان الكلب المسكين مصطبغا بالألوان كعاهرات البندقية.»
فقال الملك: «إنك في معرفة الحيوان أحذق منك في معرفة الرجال يا دي فو.»
فقال دي فو: «لا أنكر. كثيرا ما ألفيتهم أكثر الفريقين أمانة وإخلاصا، وفوق ذلك فإن جلالتك قد يسرك أحيانا أن تدعوني بالوحش، وفضلا عن هذا فإني أخدم الأسد الذي يعترف له الرجال جميعا بأنه ملك الوحوش.»
فقال الملك: «أقسم بالقديس جورج إنك حقا هنا قد كسرت رمحك على جبيني (أي غلبتني)، لقد كنت أبدا أقول إن لديك شيئا من الفطنة يا دي فو. ولكن ينبغي للمرء أن يضربك بالمطرقة قبل أن يتطاير منها الشرر، أما هذا الترس ... قل لي هل الفارس الكريم كامل التسليح والعدة؟»
فأجابه دي فو: «أجل، مولاي، وإنه لكامل النبل كذلك. إني أعرف الدرقة جيدا، إنها تلك التي قدمها إلى جلالتك رسول البندقية قبل مرضك بقليل نظير خمسمائة بيزنطة.» «ويقينا لقد باعها السلطان المشرك وربح فيها بضع دنانير وتسلم الثمن فورا؛ والله إن أهل البندقية هؤلاء ليبيعن القبر المقدس ذاته!»
فقال دي فو «إن الدرقة لن تحمل في أمر أنبل من هذا.»
وقال الملك: «والفضل في هذا لنبل العربي لا لجشع البندقي.»
فقال دي فو وهو قلق: «إني لأرجو الله أن تكون جلالتك أشد حذرا، وها نحن وقد هجرنا أحلافنا لإساءة لحقت بهذا أو بذاك؛ إنا لا أمل لنا في النجاح برا، وإذا اشتبكنا مع الجمهورية البرية البحرية فسوف نفقد سبيل التراجع بحرا.»
فأجاب رتشارد جازعا وقال: «سوف أحذر، ولكن لا تقف مني موقف المعلم بعد هذا، وإنما قل لي هل لدى الفارس قسيس؟ فإن هذا الأمر يهمني.»
فأجاب دي فو قائلا: «أجل، وذلك هو ناسك عين جدة الذي قام له بهذه الخدمة من قبل وهو يتأهب للموت، وهو يقف بجانبه في هذا الظرف، وقد أتت به إلى هنا شهرة المبارزة.»
فقال رتشارد: «نعم الخبر، والآن ماذا يطلب الفارس؟ قل له إن رتشارد سوف يقابله بعدما يقوم بواجبه بجانب «درة الصحراء» تكفيرا عن إثمه بجانب جبل القديس جورج. وإذا ما مررت بالمعسكر فقل للملكة إني سوف أزور سرادقها، وقل لبلندل أن يلقاني هناك.»
وفصل دي فو، وبعد نصف ساعة تلفع رتشارد بعباءته، وأخذ بيده حسامه، وسار في طريقه إلى سرادق الملكة، ومر به كثير من الأعراب، ولكنهم كانوا دائما ينصرفون عنه بوجوههم، ويعقدون بالأديم أبصارهم، ومع ذلك فقد استطاع أن يرى أنهم جميعا يتبعونه بالنظر متطلعين، بعدما ينأى عنهم, وقد حدا به هذا إلى الظن حقا بأن شخصه كان معروفا لهم، ولكنهم تحاشوا أن يبدو عليهم أنهم يراقبون ملكا أراد أن يتنكر، إما لأمر من صلاح الدين أو لآدابهم الشرقية.
ولما بلغ الملك سرادق الملكة، ألفاه مخفورا بأولئك الضباط الأشقياء الذين توقفهم الغيرة الشرقية على حراسة الحريم، وكان بلندل يسير لدى المدخل، ويتغنى بين الفينة والأخرى بأسلوب يجعل هؤلاء الإفريقيين يبرزون أسنانهم العاجية، ويقومون بحركاتهم الغريبة مهللين بأصواتهم المجلجلة العجيبة.»
فقال الملك: «ماذا تريد من هذا القطيع من الماشية السوداء يا بلندل؟ ولماذا لا تدخل السرادق ؟»
فأجابه بلندل وقال : «لأن صناعتي لا تغنيني عن رأسي ولا عن أصابعي، وهؤلاء المغاربة السود الأمناء هددوني بتقطيعي إربا إربا إن أنا تقدمت إلى الأمام.»
فقال الملك: «إذن فلتدخل معي وسوف أكون لك حارسا.»
ثم نكس هؤلاء السود حرابهم وسيوفهم إجلالا للملك رتشارد، وطأطئوا رءوسهم كأنهم لا يليق بهم أن ينظروا إليه. وفي داخل السرادق ألفى الملك توماس دي فو قائما على خدمة الملكة. وبينا برنجاريا ترحب ببلندل، انتحى رتشارد وقريبته الحسناء ناحية، وأخذ يحادثها سرا فترة من الزمن.
وقال لها همسا «أوما زلنا بعد هذا خصوما يا أديث الحسناء؟»
فقالت أديث بصوت خافت لا يعارض الموسيقى: «كلا يا سيدي، إن أحدا لن يسعه أن يحمل في نفسه العدواة للملك رتشارد، وهو يتعطف علينا بالكرم والنبل، وهما من شيمته حقا، كما أنه رجل شهم كريم.»
وما إن فرغت من حديثها حتى مدت يدها إليه، فلثمها الملك إيماء إلى التئام القلوب ثم قال: «إنك تحسبين يا ابنة عمي الحسناء أني كنت أتكلف الغضب في هذا الأمر؛ كلا، لقد خدعتك نفسك؛ إن العقوبة التي وقعت على هذا الفارس كانت عادلة، ومهما بلغ به الإغراء يا ابنة عمي الفاتنة فلقد خدعنا فيما وكلنا إليه من ثقة، ولكن سروري كسرورك عظيم بأنا الغد سوف يهيئ له الفرصة ليكسب المعركة ويرد العار - الذي التصق به زمنا - إلى السارق والخائن الحق. كلا! إن المستقبل قد يعذل رتشارد على تهوره وحمقه، ولكنهم سوف يقولون إنه في حكمه كان يعدل حين تجب العدالة، ويرحم حينما يجد إلى الرحمة سبيلا.»
فقالت أديث: «لا تسبح بحمد نفسك يا ابن عمي، فلربما رأوا في عدالتك القسوة، وفي رحمتك الهوى.»
فقال لها الملك: «وأنت لا تفخري بنفسك، كأن فارسك الذي لما يمتشق سلاحه قد أخذ ينزعه بعد الظفر والانتصار؛ إن كنراد منتسرا معروف بمهارته في الضرب بالرماح، فماذا لو خسر الاسكتلندي في النزال؟»
فأجابت أديث مؤكدة متثبتة وقالت: «هذا محال! لقد شهدت بعيني رأسي كنراد هذا وهو يرتعد ويتغير لونه كاللص الدنيء . إنه آثم، وامتحانه بالمبارزة احتكام إلى عدالة السماء، لو كان لي أنا نفسي أن أنازله في مثل هذا الأمر لنازلته بغير وجل.»
فقال الملك: «وحق القداس إني لأظنك تستطيعين ذلك أيتها المرأة، ثم توقعين به الهزيمة؛ فما تنفس من أبناء بلانتاجنت من هو أصدق منك قولا.»
وسكت قليلا ثم قال في نغمة الجد الصارم: «ولكني أوصيك أن تذكري أبدا ما يجب لكرم منبتك.»
فقالت أديث: «وماذا تعني بهذا النصح الذي تنصحني به في هذه اللحظة جادا؟ هل أنا من خفة الطبع بحيث أنسى اسمي، وحالي؟»
فأجابها الملك قائلا: «سوف أكلمك صريحا يا أديث، وكما يكلم الصديق الصديق؛ ما شأن هذا الفارس بك لو أنه خرج من هذه المبارزة ظافرا؟»
فاشتد احمرار أديث خجلا وغضبا وقالت: «شأنه بي؟ ماذا عساه أن يكون لي أكثر من فارس كريم، قمين بما قد توليه الملكة برنجاريا من رضا وعطف، لو أنه اختارها سيدة له بدلا من انتقائه من هي أقل منها قدرا؟» ثم قالت وهي تفخر: «إن أدنى فارس قد يكرس نفسه لخدمة العاهلة، ويكفيه منها عظمتها جزاء.»
فقال الملك: «ولكنه قد قام بخدمتك وعانى من أجلك كثيرا.»
فأجابته أديث بقولها: «ولقد جازيته على خدماته شرفا وثناء، وعلى آلامه دموعا وبكاء؛ فلئن كان يطمح إلى غير هذا من ثواب فمن الحكمة أن يعقد حبه بفتاة من مرتبته.»
فقال لها الملك رتشارد: «إنك إذن لا تلبسين قميص الليل الدامي من أجله؟»
فأجابته أديث قائلة: «كلا، وما كان لي أن أطلب إليه أن يستهدف بحياته للخطر بعمل فيه من الجنون أكثر مما فيه من الشرف.»
فقال الملك: «هكذا أبدا تتكلم العذارى, وإذا ما تقدم العشيق المحبوب يطلب يد فتاته تنهدت وقالت له إن نجمها يحكم بغير هذا.»
فأجابت أديث عزيزة النفس وقالت: «إن جلالتك الآن تهددني للمرة الثانية بتأثير طالعي؛ صدقني، مولاي، إنه مهما يكن من سلطان النجوم، فإن قريبتك المسكينة لن تقترن بكافر أو مغامر مجهول. اسمح لي أن أصغي إلى موسيقى بلندل، لأن نغم تخديرك الملكي لا يشنف الآذان.»
ولم يحدث بقية المساء ما يستحق الذكر.
الفصل الثامن والعشرون
هل سمعت ضجيج المعركة وضوضاءها
حينما يتكسر النصال على النصال، ويلتقي بالجواد الجواد؟
جراي
ورؤي نظرا لحرارة الجو أن تتم المبارزة الحاسمة التي بعثت على اجتماع هذا الحشد من الأمم العديدة عند «درة الصحراء» بعد مشرق الشمس بساعة، وكانت أرض النزال الفسيحة التي تم إعدادها تحت إشراف فارس النمر تضم مساحة من الرمل الصلب، طولها مائة وعشرون ذراعا وعرضها أربعون، وكانت تمتد طولا من الشمال إلى الجنوب حتى تهيئ للفريقين الانتفاع بإشراق الشمس على السواء. وأقيم الكرسي الملكي لصلاح الدين في الجهة الغربية من الحظيرة في قلب المكان، حيث كان ينتظر من المتبارزين أن يلتقيا في منتصف العراك، وأقيم تجاه هذا رواق من حجرات مغلقة أنشئ بحيث تستطيع السيدات اللائي أقيم لإيوائهن أن يرين القتال دون أن يتعرضن للنظر. وفي نهايتي أرض النزال أقيمت الحواجز التي يمكن فتحها أو إغلاقها حسبما يريد المرء، وأقيمت كذلك العروش، ولكن لما رأى الأرشدوق أن عرشه أسفل من عرش رتشارد أبى أن يشغله، أما قلب الأسد الذي كان على أهبة لأن يسلم بالكثير حتى لا تقف الرسوم في سبيل النزال فقد رضي لساعته أن يبقى الكفيلان - كما كان يطلق عليهما - على ظهري جواديهما أثناء القتال. وفي طرف من أطراف الميدان وقف أتباع رتشارد تقابلهم صحبة كنراد؛ وحول العرش الذي أعد للسلطان اصطف حرسه الفاخر من أهل جورجيا، وشغل بقية الساحة النظارة من المسيحيين والمسلمين.
وقبل منبثق النهار بوقت طويل أحاط بساحة النزال عدد من الأعراب أكثر مما رأى رتشارد في المساء السالف، ولما أشرقت فوق الصحراء من قرص الشمس البهي خيوط الشعاع الأولى، قام السلطان نفسه ينادي: «حي على الصلاة، حي على الصلاة!» بصوته الجهوري، فأجابه الآخرون الذين تخول لهم مرتبتهم وتدفعهم حماستهم إلى النداء مؤذنين، وكان مشهدا رائعا أن تراهم جميعا وقد خروا على الأرض سجدا يكررون دعواتهم مولين شطر مكة، ولكنهم ما إن نهضوا من السجود حتى بدت أشعة الشمس - وسرعان ما اشتد اتقادها - وكأنها تؤيد ما زعم اللورد جلزلاند في الليلة السابقة؛ فلقد انعكس ضياؤها من رءوس الحراب العديدة؛ ولا مرية في أن رماح الأمس الجرداء لم تعد كما كانت بغير سنان، فأشار دي فو لسيده إلى هذا، فأجابه الملك جازعا إنه يثق كل الثقة في إخلاص السلطان ونزاهته، ولئن كان دي فو يرتاع لجسمه الضخم فلينسحب.
وسرعان ما علا بعد هذا صوت الدق على المزاهر، وما إن طرق هزيمها أسماع الفرسان حتى نزلوا جميعا عن ظهور خيولهم، واستلقوا على وجوههم كأنهم يصلون الصبح ثانية، وإنما كان ذلك لتهيئة الفرصة للملكة وأديث ووصيفاتها كي يخرجن من السرادق إلى الرواق الذي أعد لهن، وقد خفرهن خمسون حارسا من سراي صلاح الدين شاهرو السلاح، وقد أمروا أن يمزقوا إربا إربا كل من يجرؤ - أميرا كان أو حقيرا - على النظر إلى السيدات وهن سائرات، أو يحاول أن يرفع رأسه، حتى يعلن «سكوت» الموسيقى للرجال جميعا أنهن قد أوين إلى رواقهن حيث لا تراهن العيون المتطلعة.
هذه الرعاية الشرقية لاحترام الجنس اللطيف رعاية لا يتصورها العقل، حدت بالملكة برنجاريا أن تتفوه ببعض النقد والقدح الشديد في صلاح الدين وبلده، ولكن عرينهن - كما أطلقت على الرواق الملكة الحسناء - كان مغلقا في أمن، ووقف على حراسته أتباعهن السود، فاضطرت إلى القناعة بأن ترى وتناست إلى حين حبها لأن ترى، وهو إلى نفسها أشهى.»
وحينئذ ذهب كفيلا البطلين - كما يحتم عليهما الواجب - ليطمئنا على تمام تسليح رجليهما واستعدادهما للنزال, ولم يسارع أرشدوق النمسا إلى تأدية هذا الجانب من طقوس الحفل إذ إنه كان قد أدمن في شراب نبيذ شيراز في الليلة السالفة إدمانا شديدا لم يألفه، ولكن كبير رجال المعبد، وقد كان أكثر منه اهتماما بنتيجة النزال، بكر إلى خيمة كنراد منتسرا، ولشد ما كانت دهشته حينما أنكر عليه الأتباع الدخول
فقال لهم كبير رجال المعبد وقد اشتد به الحنق: «ألا تعرفوني أيها الأوغاد؟»
فأجاب خادم كنراد وقال: «إنا نعرفك أيها الرجل الشجاع المبجل، ولكن حتى أنت لا يجوز لك الدخول الآن؛ إن المركيز قد أوشك أن يقر بما في نفسه.»
فصاح رجل المعبد في نغم اختلط فيه الذعر بالدهشة والازدراء وقال: «كيف يقر بما في نفسه؟ ولمن؟ ناشدتكم الله إلا خبرتموني.»
فقال الخادم: «لقد أمرني سيدي أن أكتم السر.» وما إن سمع كبير رجال المعبد هذا حتى دفعه وخلفه وراءه ودخل الفسطاط عنوة.
فألفى مركيز منتسرا جاثيا لدى قدمي ناسك عين جدة وهو يوشك أن يعترف.
فقال كبير رجال المعبد: «ماذا تعني بهذا أيها المركيز، هيا وانهض واستح وإلا فإن كان لا بد لك من الاعتراف، فها أنا ذا.»
فأجاب كنراد بوجه شاحب وصوت متهدج وقال: «لقد اعترفت لك كثيرا قبل الآن، فناشدتك الله أيها الرئيس الأعظم أن تعزب، ودعني أكشف عن مكنون نفسي لهذا الرجل الطاهر.»
فأجابه رئيس الفرسان وقال: «فيم هو أطهر مني؟ أيها الناسك، أيها المجنون، قل لي إن كنت تجسر على القول، فيم أنت تفضلني؟»
فأجابه الناسك قائلا: «أيها الرجل الوقح الدنيء، اعلم أني كالنافذة الشبكية، ينفذ النور الإلهي خلالي لصالح الآخرين وليس لي - وا حسرتاه - فيه خير، وما أنت إلا كالدعامة الصلبة لا تتلقى لنفسها النور ولا تبلغه غيرها.»
فقال كبير رجال المعبد: «لا تهذر لي بهذا، إن المركيز لن يعترف هذا الصباح إلا إن كان الاعتراف لي لأني لن أفارق جانبه.»
فقال الناسك لكنراد: «هل هذه مشيئتك؟ ولا تظنن أني سوف أصدع بأمر هذا الرجل المتكبر إن كنت ما زلت ترغب في معونتي.»
فقال كنراد مترددا: «يا ويلتي! ماذا تريدني أن أقول؟ استودعتك الله الآن، فسوف نتحدث في هذا الشأن بعد حين.»
فصاح الناسك: «قاتل الله التسويف! إنه يقتل النفس! وداعا أيها الرجل التعس، وداعا، لا إلى حين، ولكن إلى أن يلتقي كلانا حينما كان.» ثم التفت إلى كبير رجال المعبد وقال: «أما أنت «فلترتجف»!»
فأجابه صاحب المعبد مزدريا وقال: ««أرتجف!» والله إن أردت هذا ما استطعته.»
ولكن الناسك كان قد فصل عن الفسطاط فلم يستمع إلى جوابه.
وقال الرئيس الأعظم: «تعال إلى هذا الترس على عجل، وما دمت تريد أن تؤدي هذا العمل الطائش فاستمع إلي. أظنني أعرف أكثر مواطن الضعف في نفسك عن ظهر قلب، وإذن فلنغض الطرف عن التفصيل فقد يطول، ولنبدأ بالغفران؛ لا طائل من سرد الآثام الدنسة ونحن نقدم على إزالتها من أيدينا.»
فقال كنراد: «إنك تعرف من أنت، فمن الكفر بالله أن تتحدث عن مغفرة الآخرين.»
فقال صاحب المعبد: «إن هذا لا يتفق ونصف الكتاب يا سيدي المركيز؛ إنك أكثر وسوسة من الأرثوذكس؛ إن غفران القس اللئيم له من الأثر كما لو كان قديسا، وإلا فاللهم ارحم التائب المسكين! من هذا الجريح الذي يسأل إن كان الجراح الذي يضمد جراحه طاهر اليدين؟ تعال وهيا بنا إلى هذا العبث.»
فقال كنراد: «كلا، والله لخير لي أن أموت بغير اعتراف من أن أهزأ بالسر المقدس.»
فقال صاحب المعبد: «تعال أيها المركيز النبيل، استنهض شجاعتك، ولا تقل بهذا القول، إنك سوف تقف بعد ساعة ظافرا في ساحة النزال، أو تعترف وأنت في خوذتك كما يعترف الفارس المقدام.»
فأجاب كنراد قائلا: «يا للويل أيها الرئيس الأعظم؛ إن كل شيء في هذا الشأن كان مشئوما، وما اكتشاف الكلب بغريزته عن الأمر هذا الكشف العجيب، وإعادة الفارس الاسكتلندي إلى الحياة، ومجيئه إلى ساحة النزال كالطيف، ما هذا إلا من علائم الشر.»
فقال صاحب المعبد: «ما هذا الهراء! لقد رأيتك وأنت تصوب رمحك نحوه جسورا وأنتما تلهوان، وقد تعادلتما في الظفر؛ فاحسب أنك في مباراة. ومن ذا الذي يقف في ميدان الطعان خيرا من وقفتك؟ تعالوا أيها الحشم وخدام السلاح؛ إن سيدكم ينبغي أن يتأهب لميدان القتال.»
فدخل الخدم على إثر ذلك وشرعوا في تسليح المركيز.
وقال كنراد: «كيف جو الصباح في الخارج؟»
فأجابه أحد الخدم قائلا: «لقد أشرقت الشمس معتمة.»
فقال كنراد: «ها أنت ذا ترى أيها الرئيس الأعظم أن لا شيء يبسم لي.»
فأجابه صاحب المعبد وقال: «لسوف يكونن قتالك أكثر جرأة يا بني، واحمد الله الذي خفف من حدة شمس فلسطين كي توائم ما أنت مقبل عليه.»
وهكذا كان يمزح الرئيس الأعظم، ولكن نكاته فقدت تأثيرها على عقل المركيز المضطرب، ورغم أنه حاول أن يظهر بالابتهاج، إلا أن صاحب المعبد قد أدرك كآبته.
ففكر في نفسه: «إن هذا النذل سوف يخسر المعركة لمحض وهنه، وخور قلبه الذي يسميه رقة الضمير. كان ينبغي لي أنا - وأنا لا يهزني خيال ولا طيرة، ثابت في مرماي ثبوت الصخر - أن أقاتل في المعركة بنفسي. وددت والله لو أن الاسكتلندي ضربه الضربة القاضية وقضى عليه في حينه؛ فما بعد فوزه بالنصر ما هو خير من هذا، ولكن مهما يكن من شيء، فينبغي ألا يكون له قس غيري يعترف له، فإن إثمي شديد الاشتباك بإثمه، وقد يقر بذنبي في إثر ذنبه.»
وبينا هذه الخواطر تلعب برأسه، كان يواصل معونة المركيز على التسليح وهو صامت.
وأخيرا حانت الساعة ونفخ في الأبواق، ونزل الفارسان في ساحة النزال راكبين مسلحين إلى الأطراف، وكانا على ظهري جواديهما أشبه برجلين أوشكا أن يشتبكا في معركة في سبيل شرف أمة بأسرها، ورفعا خوذتيهما وطوفا بالميدان ثلاثا عرضا للناظرين، وكان كلاهما جميل المحيا، ولكن الاسكتلندي كانت على جبينه مسحة من ثقة الرجولة؛ أمل مشرق تكاد تبتهج له النفس. بينما كانت تخيم على جبين كنراد سحابة من اليأس المشئوم، رغم أن كبرياءه وتكلفه قد أعادا إليه كثيرا من شجاعته الطبيعية، وحتى جواده كان يسير على صوت البوق وهو أقل نشوة وسرورا من الحصان العربي النبيل الذي كان يمتطي صهوته السير كنث. وهز المحدث برأسه حينما رأى أن المدعي يطوف بميدان النزال مع مسير الشمس - أي من اليمين إلى اليسار - بينما كان المتهم يدور الدورة نفسها ولكن من اليسار إلى اليمين؛ وهو مسير مشئوم في عقيدة كثير من البلدان.
وأقيم تحت الرواق الذي تشغله الملكة مباشرة محراب مؤقت، وقف الناسك إلى جانبه في زي طائفته كقس من كرمل، وكان بين الحاضرين كذلك غيره من رجال الكنيسة؛ وإلى هذا المحراب سيق المدعي والمتهم كلاهما، متتابعين، يتقدم كل منهما كفيله. ولما بلغا المحراب ترجلا، وأقر كل منهما بعدالة قضيته، وأقسم بأصحاب الإنجيل يمينا مغلظة، ودعا ربه أن يصيب من النجاح بمقدار ما في قسمه من حق أو باطل، وأقسما كذلك أنهما أتيا للقتال في لباس الفروسية وبالأسلحة المعتادة، وأنكر كل منهما استخدام الرقى والتمائم والحيل السحرية لاستمالة النصر إلى جانبه، ونطق المدعي اليمين بصوت ثابت مسترجل، وطلعته عليها سيماء الجرأة والبهجة. ولما فرغا من هذه الطقوس، تطلع الفارس الاسكتلندي إلى الرواق، وطأطأ رأسه نحو الأرض إجلالا لذلك الجمال المستتر الذي كان محتجبا في الداخل، ثم وثب وهو مثقل بالسلاح على ظهر جواده دون أن يستخدم الركاب، واستحث الحصان على أن يسير به تارة عن يمين وطورا عن شمال، حتى يبلغ به موقفه في الطرف الشرقي من الميدان, وتقدم كنراد كذلك نحو المحراب وفيه من الإقدام الكفاية، ولكن صوته وهو يقسم اليمين كان أجوف كأنه يسيخ في خوذته، ودعا الله أن يحكم بالنصر للقضية العادلة بشفتين أخذتا تشحبان وهما تلفظان بهذه السخرية الكافرة. ولما أن عطف على جواده يركبه، دنا منه الرئيس الأعظم واقترب كأنه يريد أن يصلح شيئا في وضع درعه وهمس في أذنه: «ما أنذلك وما أغفلك! استجمع حواسك وأد لي هذه المبارزة بشجاعة، وإلا فوالله لو نجوت منه لما نجوت مني!»
وربما كان في النغمة القاسية التي همس بها الرئيس في أذن المركيز تتمة اضطراب أعصابه، إذ إنه زل وهو يمتطي الحصان. وحقا لقد أعاد قدميه إلى الثبوت، ووثب على ظهر الجواد برشاقته المعهودة، وأبدى حذقه في ركوب الخيل وهو يتخذ مكانه أمام المدعي، إلا أن الزلة لم تغب عن أعين أولئك الذين وقفوا يترقبون الطيرة التي قد تتكهن بقضاء ذلك اليوم.
ودعا القساوسة ربهم خاشعين أن يحصحص الحق في النزاع، ثم فصلوا عن الميدان. ونفخ في بوق المهاجم عاليا، ونادى مناد مدجج بالسلاح في الطرف الشرقي من الحلبة وقال: «هنا يقف فارس كريم، هو السير كنث الاسكتلندي، بطل نائب عن الملك العظيم رتشارد ملك إنجلترا، الذي يتهم كنراد مركيز منتسرا بالخيانة الشنعاء وبجرح عزته.»
ولما ذكر النداء «كنث الاسكتلندي» فأعلن بذلك اسم البطل وصفته - وما كانت العامة تعرفهما حتى ذاك - انبعث عن أتباع الملك رتشارد هتاف عال مرح، وما كادوا يطيقون سماع جواب المتهم رغم الأوامر المتكررة بالتزام الصمت. أما المتهم فقد أعلن بطبيعة الحال براءته وتقدم للقتال، ثم دنا أتباع المتبارزين وقدم كل فريق لسيده درعه ورمحه، معينا إياه على تعليق الدرع برقبته بحيث تبقى كلتا يديه طليقتين، إحداهما لتمسك بالزمام، والأخرى لتضرب بالرمح.
وكان يظهر على درع الاسكتلندي «النمر» شعاره القديم، مزيد عليه طوق وسلسلة محطمة إشارة إلى أسره في الأيام الأخيرة. أما درع المركيز فكان يحمل صورة جبل صخري ناتئ إيماء إلى لقبه [منت = جبل، سرا = ناتئ]، وهز كل منهما برمحه فوق رأسه كأنه يريد أن يتثبت من وزن السلاح الضخم وصلابته، ثم أقره في غمده ثانية، وتراجع الكفيلان والمنادون والأتباع بعدئذ إلى الحواجز، وجلس المتضاربان متقابلين وجها لوجه برماح منكسة وخوذات مسترخية، وجسداهما مستتران كل التستر، حتى لقد كانا إلى تمثالين من الحديد المسبوك أقرب منهما إلى مخلوقين من اللحم والدم، وساد بين الحشد صمت الانتظار، وغلظت أنفاس الرجال، وباتت أرواحهم وكأنها في عيونهم جاثمة، ولم يعل صوت غير نفخ الجوادين الكريمين بالمنخرين ونبشهما بالحوافر، وقد أحس الجوادان بما أوشك أن يقع، فكانا على قلق لأن يندفعا إلى العراك، ووقفا كذلك نحوا من ثلاث دقائق إلى أن صدرت عن صلاح الدين إشارة ما، فشق الهواء مئين الآلات بجلبتها النحاسية، وحفز كل بطل حصانه بالمهماز وأرخى الزمام، وعدا الجوادان عدوا سريعا، والتقى الفارسان وسط الميدان يهزان الأرض كالرعد القاصف، وما كان في الظفر ريبة! كلا، ولم يكن ثمة لحظة من شك، فلقد كان يبدو على كنراد حقا أنه مقاتل مدرب، إذ إنه ضرب خصمه ضربة الفارس وسط درعه، وهو يحمل رمحه مستقيما مسددا، حتى لقد سقط الرمح محطما من رأسه الصلب إلى طرف القفاز، وكر حصان السير كنث متراجعا ذراعين أو ثلاثا، وسقط على عجزيه، ولكن راكبه خف إلى إنهاضه بيده وعنانه. أما كنراد فنزل ولم ينهض، لأن السير كنث طعنه برمحه فاخترق الدرع ثم زردا مموها من صلب «ميلان» ثم سترة من حلق الحديد تحت الزرد، وجرحه في صدره جرحا بليغا، ثم رفعه عن ظهر جواده تاركا قناة الرمح في الجرح راسخة. وحينئذ احتشد حول الجريح الكفيلان والمنادون وصلاح الدين نفسه بعد أن نزل عن عرشه. أما السير كنث فقد جرد سيفه، قبل أن يدرك أن خصمه قد بات عاجزا كل العجز، وأمره حينئذ أن يقر بإثمه، فرفع الرجل الجريح خوذته على عجل، وحدق ببصره في السماء وأجاب: «ماذا تريد مني أكثر من ذلك؟ لقد حكم الله بالعدل. أنا آثم، ولكن بالمعسكر من هم شر مني خيانة. ائتوني بالقس إشفاقا على روحي!»
وعادت إليه الحياة وهو ينبس بهذه الكلمات.
فقال الملك رتشارد لصلاح الدين: «بالتميمة؛ بذلك العلاج الناجع يا أخي المليك!»
فأجاب السلطان قائلا: «إنما أخلق بالخائن أن يجذب من عقبه ويبعد عن الميدان إلى المقصلة، لا أن ينتفع بمزاياها.» ثم قال بعدما حدق ببصره في الرجل الجريح: «وإن في نظرته لمثل هذا القضاء، لأن جرمه قد يشفى، ولكن عزرائيل قد ختم على جبين اللئيم.»
فقال رتشارد: «ورغم هذا، فإني أتوسل إليك أن تقوم له بما تستطيع، حتى يتسع له الوقت للاعتراف على الأقل؛ لا تقتل فيه الروح والجسد! إن نصف ساعة من الزمن قد تعادل حياة أكبر البطارقة سنا عشرة آلاف مرة.»
فقال صلاح الدين: «سأطيع إرادة أخي المليك. أيها العبيد، احملوا هذا الرجل الجريح إلى سرادقنا.»
وكان صاحب المعبد حتى آنئذ واقفا مكتئبا ينظر في صمت فقال: «لا تفعلوا ذلك، إني ودوق النمسا الملكي لا نقبل أن يأخذ العرب هذا الأمير المسيحي التعس، ويختبروا فيه تمائمهم؛ نحن المتكفلين به نطلب إيداعه تحت رعايتنا.»
فقال رتشارد: «أي أنكما تأبيان هذه الوسيلة بعينها التي تقدم لشفائه؟»
فقال الرئيس الأعظم وقد استجمع نفسه: «كلا، ليس الأمر كذلك. إذا كان السلطان يستخدم أدوية شرعية فإنه يستطيع أن يعنى بالمريض في خيمتي.»
فقال رتشارد للسلطان: «أتوسل إليك يا أخي الكريم أن تفعل ذلك، وإن يكن الإذن قد صدر بفظاظة وخشونة. والآن هلم بنا إلى عمل أجل من هذا؛ انفخوا في الأبواق، واهتفوا يا أبناء الإنجليز؛ إجلالا لبطل إنجلترا!»
فدقت الطبول ونفخ في الأبواق، وضربت الصنوج في الحال، وعلت الأصوات بالهتاف المتواصل، وهو طريقة التهليل الإنجليزية التي ألفوها دهورا، وذلك وسط صياح الأعراب المجلجل الذي لا يسير على ترتيب، كما ترن أنغام الأرغن وسط عويل العواصف، وأخيرا ساد الصمت بين الحاشدين.
وواصل قلب الأسد حديثه وقال: «أي فارس النمر الشجاع، لقد بينت لنا أن الأتيوبي قد يبدل جلدا غير جلده، والنمر الأرقط سمات غير سماته، وذلك رغم أن الكهنة لا يعرفون من المستحيلات إلا ما جاء في الكتاب المقدس، ولكني أريد أن أحدثك حديثا آخر حينما أسير بك إلى حضرة السيدات وهن خير حكم وخير من يجازي أعمال الفروسية.»
فانحنى فارس النمر انحناء القبول. «وأنت أيها الأمير صلاح الدين سوف تمثل لديهن كذلك، وإني أؤكد لك أن ملكتنا لن تحسب أنها على الرحب إلا إذا تهيأت لها الفرصة لتشكر مضيفها المليك لاستقبالها هذا الاستقبال الفاخر.»
فطأطأ صلاح الدين رأسه برشاقة ولكنه رفض الدعوة.
وقال: «إنما يجب أن أعنى بالرجل الجريح، إن الطبيب لا يترك مريضه إلا كما يترك البطل ساحة الوغى، حتى وإن دعي إلى مخدع كمخادع الفردوس. وفوق هذا، أيها الملك رتشارد، لتعلمن أن دم الشرق لا يتدفق هادئا في حضرة الجمال كدم أبناء بلادكم، ولقد قيل: «إن عيني المرأة كظباة السيف، فمن ذا الذي يستطيع أن يحدق فيهما؟» من أراد ألا يحترق، فليتجنب أن يسير على النار الحامية. إن عقلاء الرجال لا ينشرون الكتان أمام اللهيب المتقد، ويقول الحكماء: «من أضاع كنزا، فليس من الحكمة أن يتطلع إلى الخلف كي يملأ منه ناظريه».»
ونعتقد أن رتشارد قدر هذه الدوافع الرقيقة التي انبعثت عن خلق يختلف عن خلقه، ولم يلح في مطلبه بعد ذلك.
وهم السلطان بالرحيل وهو يقول: «أملي أن تقبلوا جميعا دعوتي إياكم إلى الطعام في منتصف النهار تحت الخيمة السوداء المصنوعة من جلد الجمل، وهي خيمة زعيم من زعماء كردستان.»
وأذيعت هذه الدعوة بين المسيحيين، وشملت كل من كان له من المكانة ما يكفيه لأن يجلس على مائدة أعدت للأمراء.
وقال رتشارد: «أنصتوا! إن المزاهر تعلن أن ملكتنا ووصيفاتها خارجات من رواقهن، وانظر إلى العمائم ترها وقد غاصت في الأرض كأن ملكا من ملائكة الهلاك قد ضرب فوقها. لقد انكبوا جميعا على وجوههم كأن نظرة واحدة من عين العربي تطفئ بريق خدود السيدات! هيا بنا إلى السرادق، وسيروا برجلنا الظافر إلى هناك منتصرا. والله إني لأشفق على هذا السلطان النبيل الذي لا يعرف عن الحب إلا كما يعرف من هم أدنأ منه طبعا!»
وضرب «بلندل» على قيثارته أعلى أنغامها ترحيبا بمقدم الظافر إلى سرادق الملكة برنجاريا، وقد دخل مستندا يمينا ويسارا على ضامنيه رتشارد وتوماس لنجسورد، ثم جثا خاشعا أمام الملكة، ولكن أكثر من نصف الولاء كان موجها في صمت إلى أديث التي كانت تجلس إلى يمينها.
وطفحت نفس الملك بشرا، وأراد أن يقوم بتقاليد الفروسية فقال: «جردوه عن سلاحه، سيداتي، وليشرف الجمال الشهامة! انزعي عنه مهمازيه يا برنجاريا؛ إنك ملكة، ولكنك تدينين له بكل شارة من شارات الرضا بوسعك أن تمنحيها إياه. حلي رباط خوذته يا أديث؛ حليها بيدك حتى وإن كنت أشد ذرية بلانتاجنت كبرا، وكان هو أفقر فارس على وجه البسيطة!»
وصدع السيدتان بالأمر الملكي، وشرعت برنجاريا تعمل بمثابرة واهتمام، حريصة على أن تشبع رغبات زوجها، وأديث تنتابها حمرة الحياء حينا والشحوب المتزايد حينا آخر، وهي تفك بتؤدة واضطراب - يعاونها لنجسورد - الروابط التي كانت توثق الخوذة بالزرد.
ولما نزعت الخوذة عن السير كنث بدت للعيان طلعته، ووجهه ينبض بالجهد الذي بذل حديثا، كما ينبض - بما لا يقل عن ذلك شدة - بالعاطفة الثائرة في نفسه إذ ذاك. فقال رتشارد: «ماذا تنتظرون من وراء هذا الرداء الحديدي؟ ماذا ترون فيه أيها الشجعان وأيتها الحسان؟» ثم قال: «هل هو يشبه العبد الأتيوبي، أم هل يبدي وجه مغامر مجهول غير ذائع الصيت؟ كلا ومهندي الكريم! هنا نهاية تنكره على ضروبه المختلفة، لقد جثا أمامك وما تعرفين عنه غير فضله، ولينهض كذلك مميزا بكرم أرومته وبحسن طالعه، لينهض الفارس الجريء «كنث» باسم «دافيد إيرل هنتنجدن» أمير اسكتلندا الملكي!»
فساد بين الجميع العجب والدهشة، وسقطت من يد أديث الخوذة التي أمسكت بها منذ حين.
وقال الملك: «أجل سادتي، إنه لكذلك. إنكم تعرفون كيف أن اسكتلندا قد خدعتنا حينما ارتأت أن تبعث إلينا بهذا «الإيرل» الجسور يصحبه جماعة من الشجعان من خيار أبنائها ونبلائهم ليعاونوا جيوشنا في هذه الحملة على فلسطين، ثم أخلت بوعدها, ولكن هذا الشاب النبيل، الذي كان على الصليبيين الاسكتلنديين أن يسيروا تحت لوائه، أدرك أن من فحش العار أن يمسك سلاحه عن الحرب المقدسة، فانضم إلينا في صقلية ومع ثلة صغيرة من الأتباع الغيورين المخلصين، انضم إليها الكثير من مواطنيه، الذين كانوا يجهلون مرتبة قائدهم. وقد حصد الموت كل من يثق فيهم الأمير الملكي سوى تابع واحد مسن، في وقت كاد سره المختبئ في طي الكتمان أن يدفعني إلى أن أقطع - في شخص مغامر اسكتلندي - أملا من أنبل آمال أوروبا. لم لم تذكر مرتبتك يا هنتنجدن النبيل، وأنت محفوف بخطر أحكامي العاجلة الشديدة الانفعال؟ هل كنت تحسب رتشارد بمستطيع أن يسيء استخدام ما له من فضل على وريث ملك كثيرا ما ألفاه معاديا له!»
فأجاب «إيرل هنتنجدن» وقال: «إني لم أصمك بهذا العسف أيها الملك رتشارد، ولكني لم أطق أن أقر بأني أمير اسكتلندا كي أنجو بحياتي - وقد استهدفت للخطر لتقصيري في واجب في الولاء - وفوق ذلك فإني كنت قد أقسمت أن أبقي مرتبتي مجهولة حتى تنتهي الحرب الصليبية، وما ذكرتها إلا وأنا أتأهب للموت وأعترف لهذا الناسك الواقف هناك.»
فقال رتشارد: «إذن فلقد كانت معرفة هذا السر هي التي حدت بالرجل الكريم أن يتعجلني في الرجوع عن حكمي الشديد الذي حكمت؟ ما كان أجدره أن يقول لي إن هذا الفارس الكريم لو سقط جراء حكمي لوددت فيما بعد لو أن الحادث لم يقع حتى وإن كلفني ذلك شلوا من أشلائي - شلوا! كلا بل لوددت أن لم يقع حتى وإن كلفني حياتي - ما دام العالم لا بد قائل إن رتشارد قد أساء إلى مآل وريث اسكتلندا، وقد وثق الرجل في كرمه.»
فقالت الملكة برنجاريا: «ومع ذلك فهل لنا أن نعرف من جلالتك بأية صدفة عجيبة سعيدة انحل هذا اللغز بعد لأي؟»
فقال الملك: «وردت إلينا الرسائل من إنجلترا، وعلمنا منها من خلال ما حملت من أبناء أخرى غير سارة أن ملك اسكتلندا قد ألقى القبض على ثلاثة أو أربعة من نبلائنا وهم يحجون إلى القديس «ننيان»، وذريعته في ذلك أن وريثه الذي ظن الناس أنه يقاتل في صفوف الفرسان التيوتون ضد المنافقين في «بروسة» هو في الحقيقة في معسكرنا وتحت سلطاننا؛ ولذا فقد رأى وليم أن يقبض على هؤلاء النبلاء رهنا لسلامته، فرمى لي هذا الحادث الشعاع الأول على مرتبة فارس النمر الحق، وأيد شكوكي دي فو، الذي عاد عن عسقلان ومعه خادم إيرل هنتنجدن الأوحد، وهو رقيق صلب الرأي، سار مع دي فو ثلاثين ميلا كي يفشو له سرا كان ينبغي له أن يبوح لي به.»
فقال لورد جلزلاند: «التمسوا المعذرة «لستروخان» العجوز، فلقد علمته التجارب أن قلبي أشد لينا من قلوب بلانتاجنت.»
فصاح به رتشارد: «قلبك لين! كيف هذا وأنت سلعة من الصلب العتيق، أو حجر من صوان «كمبرلاند»؟» ثم التفت إلى ابنة عمه وتكلم بأسلوب صعد منه الدم في وجنتيها، وقال: «إنما نحن، يا أديث، أبناء بلانتاجنت، الذين نفخر بالقلوب اللينة الحساسة. هات يدك يا ابنة عمي الحسناء، وأعطني يدك يا أمير اسكتلندا.»
فتراجعت أديث وجاهدت أن تخفي اضطرابها، وهي تزعم أنها تحاول المزاح بسلامة طوية قريبها المليك، وقالت: «أقلع عن هذا مولاي؛ ألا تذكر أن يدي قد كتب عليها أن تهدي صلاح الدين المسلم العربي - وكل جيوشه من ذوي العمائم - إلى الدين المسيحي؟»
فأجابها رتشارد قائلا: «أجل، ولكن ريح التنبؤ قد انقلبت، وهي الآن تهب من ركن آخر.»
فتقدم الناسك وقال: «لا تسخر وإلا اشتد إثمك؛ إن ملائكة السماء لا تكتب غير الحق في سجلها المنير؛ إنما هو بصر الإنسان الذي بلغ الوهن ألا يقرأ ما سطروا صوابا. اعلم أني حينما هجع صلاح الدين العربي وكنث في مغارتي، طالعت النجم وعلمت أن تحت سقيفتي أميرا، هو عدو رتشارد الطبيعي، وأن حياة أديث بلانتاجنت معقودة بحياته، فما كان لي أن أشك في أن ذلك هو صلاح الدين الذي كنت بمكانته عليما، لأنه كثيرا ما أتى لزيارتي بالكهف يحادثني في دورات الأجسام السماوية، ثم هدتني بعد ذلك أنوار الكون إلى أن الأمير، زوج أديث بلانتاجنت، سوف يكون مسيحيا، وأنا في تأويل النجوم ضعيف ساذج، فاستنبطت إذ ذاك اعتناق السلطان النبيل للمسيحية، وهو رجل كثيرا ما مالت به صفاته الكريمة نحو الحق. إن إحساسي بضعفي قد أذل أنفي إلى الرغام، ولكني في الرغام وجدت راحة الضمير! إني لم أصب مطالعة أقدار الآخرين. ومن يدريني لعلي كنت أخطئ حساب نجمي أنا نفسي؟ إن الله لا يريدنا أن نسطو على حقوق الملائكة أو نستطلع أسراره الخفية. إنما واجبنا أن ننتظر يوم الدين ساهرين خاشعين يعمر قلوبنا الخوف والأمل. لقد أتيت إلى هنا رسولا متقشفا، ونبيا شامخا، أجيد - حسب ظني - إرشاد الأمراء، وقد وهبني الله قوى غير طبيعية، وأثقلني بحمل حسبت ألا يطيقه غير عاتقي، ولكن مواثيقي قد تقطعت! فلأعودن من هنا متواضعا في جهالتي، نادما، ولكني لست قانطا بغير أمل.»
وبعدما أتم هذا الحديث انسحب من الجمع. ويسجل التاريخ أن نوبات الجنون قل أن عاودته من منذ ذلك الحين، وأن كفارته باتت من الضرب الخفيف، مصحوبة بأمل في المستقبل خير من أمله السالف. وكان لديه من الاعتداد بالرأي - حتى في جنونه - الشيء الكثير، حتى إنه لما أيقن أنه كان يرحب بنبوءة لا أساس لها - بل ويبشر بها بحماسة شديدة - كان لذلك على نفسه أثر كأثر الدم يغيض من جسم الإنسان فيلطف من حرارة الذهن ويخفف عنها.
ولا حاجة بنا إلى أن نتتبع بالبيان المفصل مؤتمرات السرادق الملكي، أو أن نعرف هل «دافيد إيرل هنتنجدن» كان في حضرة أديث بلانتاجنت صامتا صمته حينما كان مضطرا إلى العمل وهو متنكر في شخص مغامر مجهول لا اسم له. ويجوز لنا أن نعتقد صوابا أنه كان في هذا المقام يعبر بالحماسة اللائقة عن عاطفته التي كثيرا ما تعسر عليه من قبل أن يلبسها ثوب الكلام.
واقتربت الظهيرة، ولبث صلاح الدين ينتظر أمراء العالم المسيحي في خيمة لا تختلف كثيرا عن الخيام المألوفة بين عامة الكرد والعرب، اللهم إلا في ضخامة حجمها، ومع ذلك فقد أعدت تحت طرفها الأسود الفسيح مأدبة على أفخر طراز في الشرق، ومدت على بسط من أنفس الأنواع، نثرت عليها الوسائد للزائرين، ولكنا لا نستطيع أن نقف بالقارئ ونصف له صحائف الذهب والفضة، والتفويف الفاخر بالنقوش العربية، وشملات الكشمير، وحرير الهند، التي كانت منشورة هناك بكل جلالها وجمالها، كما أنا لا نستطيع البتة أن نتحدث عن أصناف الحلوى العديدة، والطعام المحفوف بالأرز الملون على أشكال عدة، وكل ما لذ وطاب من غير ذلك من ألوان الطهي الشرقي، من خراف مشوية بأسرها، وصيد وطير وطهي بالأرز واللحم والتوابل، مكدسا في أوان من ذهب ومن فضة وخزف، ومختلطا بأقداح من حلو الشراب المبرد بالثلج والجليد من كهوف جبل لبنان. وكان على رأس المأدبة كدس عظيم من الوسائد كأنه أعد لصاحب الوليمة، ولمن يدعوهم من أصحاب المقام الرفيع لأن يتخذوا مكانهم في ذلك الموضع المميز. وكم من راية وعلم، وكم من شارة من شارات الظفر في الحروب وقهر الممالك والدول كانت ترفرف فوق الخيمة في كل ناحية، وبخاصة فوق هذا المقعد الرفيع الشأن. ولكن بين هذا كله، وفوق هذا كله، كان هناك رمح طويل يتعلق به كفن، هو علم الموت، وقد كتبت عليه هذه العبارة القوية: «صلاح الدين ملك الملوك. صلاح الدين قاهر القاهرين. صلاح الدين يجب أن يموت.» ووسط هذا الإعداد، وقف العبيد - الذين أعدوا ألوان الطعام - برءوس منكسة وسواعد مطبوقة، صامتين لا حراك بهم كأنهم تماثيل للذكرى، أو شخوص آلية تنتظر مس الفنان لتتحرك.
وكان السلطان يعتقد - كغيره - في الكثير من خرافات زمانه، فوقف - وهو ينتظر اقتراب زائريه الأمراء - يستطلع بروج السماء وبيده كتاب مسطور بعث به إليه ناسك عين جدة حينما فصل عن المعسكر.
وتمتم لنفسه قائلا: «ما أعجب هذا العلم وما أغمضه! إنه يزعم أنه يكشف عن المستقبل الحجاب، ولكنه يضل أولئك الذين يتظاهر بإرشادهم، ويظلم المنظر الذي يزعم إضاءته، من ذا الذي كان لا يقول أني كنت ألد خصوم رتشارد وأشدهم عليه خطرا، وأن عداوته سوف تنتهي بالزواج من قريبته؟ ولكن الآن يظهر أن اقتران ذلك «الإيرل» الشهم بالسيدة، سوف يؤدي إلى الصداقة بين رتشارد واسكتلندا، وهي بلد أشد مني عداوة وخطرا، فهي كالقط الوحشي في الغرفة يخشى بأسه أكثر من الليث في الصحراء النائية ...» ثم وسوس لنفسه قائلا: «ولكن النجم كان يشير إلى أن هذا الزوج سوف يكون مسيحيا.» وسكت قليلا وكرر الكلمة وقال: «أجل، مسيحيا؛ ولقد بعث ذلك في المنجم المتهوس المجنون الأمل في احتمال ارتدادي عن ديني! ولكن ما كان هذا ليخدعني أنا، أنا ذلك التابع المخلص للنبي.» ثم رمى بالمكتوب تحت أكداس الوسائد وقال: «البث هنا أيها المكتوب الخفي الغامض، ما أعجب ما نبأت به، وما أشده على النفوس وقعا، ما دمت - حتى إن صدقت فيما جاء بك - لن تصيب من يحاول حل رموز معانيك إلا بكل أثر من آثار الباطل. ماذا يقصد هذا القادم؟»
وقد وجه عبارته الأخيرة هذه إلى القزم نكتبانس الذي اندفع إلى داخل الخيمة وهو يرتعد اضطرابا، وكل لمحة من ملامحه العجيبة، التي لا نسق فيها، قد التوت فزعا ورعبا، حتى صار شديد القبح، فارط الكآبة، وفمه فاغر، وعيناه محملقتان، ويداه ممددتان ذعرا، وأصابعه ممسوخة مجعدة.
فقال السلطان عابسا: «ما وراءك؟»
فأجابه القزم متأوها وقال: «خذ هذه.»
فقال صلاح الدين: «ماذا تقول؟»
فأجابه هذا المخلوق المذعور قائلا: «خذ هذه.» وربما كان لا يدرك أنه إنما يكرر اللفظ بعينه.
فقال العاهل: «عني، إن أعصابي الآن لا تحتمل الهزل.»
فقال القزم: «وما أنا الآن بهازل، إلا إن كان هزلي يعاون فطنتي على كسب القوت، وأنا ذلك اليائس البائس! استمع إلي، وأصغ لي أيها السلطان الأعظم!»
فقال صلاح الدين: «إن كان لديك مظلمة عادلة تشكوها - جادا كنت أم هازلا - فلك الحق في بثها إلى أذني مليك؛ تراجع معي إلى هنا.» وسار به إلى الفسطاط الداخلي.
ومهما يكن الأمر الذي تباحثا فيه، فلقد ارفض اجتماعهما على عجل حينما نمت إليهما أصوات الأبواق التي أعلنت مقدم الأمراء المسيحيين العديدين، الذين رحب بهم صلاح الدين إلى فسطاطه بملاطفة ملكية تليق بمكانتهم ومكانته، ولكنه حيا «إيرل هنتنجدن» الشاب تحية خاصة وأسرف له في التهنئة بالأماني التي أحرزها، والتي تقف في سبيل آماله السالفة وتخيم عليها.
وقال السلطان: «ولكن لا تحسبن أيها الشاب النبيل أن أمير اسكتلندا أكثر قبولا لدى صلاح الدين من «كنث» لدى «الضريم» حينما التقيا في الصحراء، أو من الأتيوبي المنكود لدى الحكيم «أدنبك»؛ إن طبيعة سمحة مقدامة - كطبيعتك - لها قيمة مستقلة عن الحسب والنسب، كما أن هذا الشراب البارد الذي أقدم إليك الآن لذيذ المذاق من قدح الخزف كما هو من كأس الذهب.»
فأجابه «إيرل هنتنجدن» بما يليق، واعترف شاكرا بالخدمات العديدة التي أداها له السلطان الكريم، ولكنه لما تناول كأس الشراب السائغ التي قدم إليه السلطان، وهم بأن يشرب نخبه، لم يسعه إلا أن يقول مبتسما: «إن الفارس الشجاع «الضريم» لم يعرف كيف يتكون الجليد، ولكن السلطان السخي يبرد رحيقه بالثلج.»
فقال السلطان: «أفتريد أن يكون العربي أو الكردي عاقلا كالحكيم؟ من يعمل متنكرا ينبغي له أن يوفق بين ما في قلبه من هوى وما في عقله من علم، وبين الزي الذي يرتدي؛ لقد أردت أن أعرف ماذا يصنع الفارس الفرنجي الجسور الخالص الطوية في الجدل مع زعيم من الزعماء، كما كان يدل ظاهري؛ وقد أثرت الشك في صدق حقيقة ذائعة معروفة، كي أعرف بأي الحجج أنت تؤيد مزاعمك.»
وبينما هما يتحادثان سمع أرشدوق النمسا - وكان قريبا منهما - ذكر الشراب السائغ المثلج، فدهش لذلك، وتناول الكأس المترعة مغتبطا مقبلا وإيرل هنتنجدن يوشك أن يردها إلى مكانها.
وبعدما احتسى جرعة كبيرة، ضاعفت من لذة مذاقها حرارة الجو والحمى التي عقبت دعارة اليوم السابق، صاح قائلا: «ما ألذها؟» وتنهد وهو يناول الكأس رئيس رجال المعبد الأعظم، وأشار صلاح الدين إلى القزم، فتقدم وقال بصوت أجش: «خذ هذه.» ففزع صاحب المعبد، كالحصان يرى ليثا تحت شجيرة على جانب الطريق، ولكن سرعان ما ثاب إلى ثباته، وربما أراد أن يخفي اضطرابه فرفع الكأس إلى شفتيه - ولكنهما لم يمسا حافة الكأس، وجرد صلاح الدين سيفه عن غمده وسله كما يسل البرق من السحاب، وهز به في الهواء - ثم تطوح رأس الرئيس الأعظم إلى أقصى الخيمة، بينما بقي الجذع مكانه لحظة، والكأس ما تزال مثبتة في قبضته، ثم سقطت الكأس، واختلط الشراب بالدماء التي كانت تتدفق من العروق.
فعم الصياح بالخيانة والغدر، وتقهقر دوق النمسا، وكان صلاح الدين يقف على مقربة منه، والسيف في يده يقطر دما، وكأن الدوق كان يخشى أن تدور عليه الدائرة، ووضع رتشارد والآخرون أيديهم على سيوفهم.
وقال السلطان مطمئنا كأن لم يحدث شيء: «لا تخف شيئا يا دوق النمسا النبيل، ولا تغضب يا ملك الإنجليز مما شهدت؛ ما لتكرار الخيانة منه، ولا من أجل المؤامرة التي دبر للقضاء على حياة الملك رتشارد - كما يقر بذلك خادمه الخاص - ولا لأنه طاردني وأمير اسكتلندا في الصحراء، وما أبقى لنا من سبيل للنجاة بحياتنا إلا خفة جوادينا، ولا لأنه حث «المارونيين» على مهاجمتنا في هذا الظرف عينه، لولا أني أتيت عفوا بكثير من الأعراب حتى ماتت الحيلة في مهدها. ما من إحدى هذه الجرائم ولا من أجلها جميعا ترونه هناك مجندلا، وإن تكن كل واحدة منها تستحق هذا القضاء، وإنما لأنه منذ أقل من نصف ساعة - قبل أن يفسد علينا حفلنا بمقدمه كما تسمم السموم الجو - طعن بخنجره زميله وصاحبه كنراد منتسرا خشية أن يعترف بالمؤامرات التي اشتغلا بها معا.»
فصاح رتشارد. «كيف هذا! أفقتل كنراد؟ وبيد الرئيس الأعظم، وليه وصديقه! أيها السلطان النبيل، إني لا أشك فيما تقول، ولكن هذا الخبر يجب إثباته، وإلا ...»
فقال صلاح الدين وقد أشار إلى القزم المذعور: «هنالك يقف الشاهد والدليل، إن الله الذي يرسل الحباحب كي تضيء بالليل، يستطيع أن يكشف عن خفي الجرائم بأحقر الوسائل وأدناها.»
ثم أخذ السلطان يقص قصة القزم ومؤداها ما يلي: اشتد بنكتبانس حب الاستطلاع الطائش أو - كما أقر تنويها - فكر في النهب والاختلاس، فتسلل إلى خيمة كنراد بعد أن هجرها أتباعه، وقد خلف بعضهم المعسكر ليحملوا خبر انكساره إلى أخيه، وأخذ بعضهم الآخر يغتنم ما أعد صلاح الدين للقصف والمرح، واستغرق الرجل الجريح في النوم تحت تأثير تميمة صلاح الدين العجيبة، فسنحت للقزم الفرصة أن يتجسس كما يشاء، حتى سمع خطى ثقيلة فارتاع واختفى، وتوارى خلف ستار بحيث يستطيع أن يرقب حركات الرئيس الأعظم ويتسمع إلى كلماته، وقد دخل الرئيس وأسدل غطاء السرادق خلفه بحرص وحذر، فهبت من النوم فريسته، ويظهر أن الرجل ارتاب في الحال في أغراض صاحبه القديم، فسأله وفي صوته نغمة الذعر لماذا جاء يزعجه؟
فأجابه الرئيس الأعظم قائلا: «جئت لتعترف لي وأنجيك.»
ولم يذكر القزم الخائف من حديثهم بعد هذا كثيرا، سوى أن كنراد توسل إلى الرئيس الأعظم ألا يقضي على رجل جريح، وأن صاحب المعبد طعنه في قبله بخنجر تركي وقال له: «خذ هذه» وهما كلمتان أخذتا بعد هذا مدة تنتابان الخيال المرتاع، خيال الشاهد المتواري.
ثم قال صلاح الدين: «ولقد أمرت بفحص الجثة، وتحققت من صدق القصة، وجعلت هذا المخلوق البائس، الذي بعثه الله ليكشف عن الجريمة، يكرر في حضرتكم الكلمات التي لفظها القاتل، ولقد شهدتم بأنفسكم الأثر الذي تركت على فؤاده.»
وسكت السلطان قليلا ثم شق ملك إنجلترا الصمت السائد وقال: «إن كان هذا صدقا - وهو ما لا أشك فيه - فلقد شهدنا عملا جليلا من أعمال العدل، وإن يكن إلى الموت لا إلى الحياة، ولكن لم كان ذلك في هذا الحفل ولم كان بيدك؟»
فقال صلاح الدين: «كنت رسمت لنفسي خطة أخرى، ولكن لو أنني ما سارعت إلى قتله لانقلبت نهايته كل منقلب، لأني لو كنت سمحت له بارتشاف كأسي - كما أوشك أن يفعل - فكيف كان يسعني، دون أن أصم نفسي بوصمة الخيانة للضيف في إقرائه، أن أنزل به الموت الذي يستحق؟ لو أنه قتل أبي ثم شاركني بعد ذلك في طعامي وشرابي، ما كان لي أن أؤذي شعرة من شعرات رأسه. ولكن دعونا منه، ولنبعد من بيننا جثته وذكراه.»
فنقلت جثته ومحيت علامات القتل أو ووريت بحذق وعلى عجل، مما كان يدل على أن أمثال هذا الحادث كانت مألوفة معهودة، حتى إن أعوان صلاح الدين والضباط من حاشيته لم يصعق منهم أحد.
ولكن الأمراء المسيحيين أحسوا بأن المنظر الذي شهدوا كان شديد الوقع على نفوسهم، وقد اتخذوا مقاعدهم في المأدبة نزولا عند دعوة السلطان ومجاملته لهم، إلا أن ذلك قد تم في صمت الشك والدهشة. ولم تعل على كل أسباب الريبة والارتباك نفس غير نفس رتشارد وحده، ومع ذلك فقد بدا عليه كأن خاطرا طرأ له يجب أن يسوقه في أسلوب مقبول شديد الإيحاء على قدر ما يستطيع، وأخيرا احتسى قدحا كبيرا من النبيذ حتى ثمالته، ووجه الخطاب إلى السلطان، وأراد أن يعرف إن كان حقا أن «إيرل هنتنجدن» قد تشرف بمنازلته.
فأجاب صلاح الدين باسما وقال: إنه امتحن حصانه وسلاحه مع وريث اسكتلندا، كما يفعل الفرسان عادة فيما بينهم حينما يلاقي في الصحراء بعضهم بعضا. ثم قال متواضعا إن الضراب لم يكن حاسما قاطعا، إلا أنه من ناحية ليس لديه سبب قوي يحمله على أن يفخر بنفسه في هذا الحادث. وأنكر الاسكتلندي من ناحية أخرى هذا الفضل الذي نسب إليه، وأراد أن يعزوه إلى السلطان.
فقال رتشارد: «حسبك ما نلت من شرف في هذا النزال، وإني لأحسدك على هذا أكثر مما أحسدك على بسمات أديث بلانتاجنت، وإن كان أحد الأمرين يكفي جزاء على جهد يوم دام. ولكن ماذا أنتم قائلون أيها الأمراء الأشراف؛ هل يليق بحلقة ملكية من الفرسان كهذه أن تنفض دون أن تعمل شيئا لمستقبل الأيام تتحدث به؟ ما نبذ خائن، وما قتله، لهذه الجماعة الشريفة النبيلة الحاشدة في هذا المكان، والتي ينبغي ألا تتفرق دون أن تشهد شيئا جديرا باعتبارها؟ ماذا تقول أيها السلطان المليك؟ ماذا لو فصلنا الآن أمام هذه الجماعة الطيبة في الإشكال الذي طال عليه النزاع، إشكال هذه الأرض، أرض فلسطين، فنختم في الحال هذه الحروب الشاقة؟ ها هي ذي الرحبة على استعداد، ولن يطمح الإسلام إلى بطل خير منك، ولسوف أرمين بقفازي نيابة عن العالم المسيحي، إلا إن تقدم من هو أجدر مني، وفي محبة الشرف نعترك عراكا فاصلا لحيازة بيت المقدس.»
وساد صمت عميق ارتقابا لجواب السلطان، وعلت الحمرة الشديدة جبينه وخديه، وظن الكثير من الحاضرين أنه تردد في قبول المبارزة، وأخيرا قال: «إن أنا قاتلت في سبيل المدينة المقدسة، في وجه من نراهم من الوثنيين وعبدة الأخشاب والحجارة والتماثيل المنحوتة - وإني على يقين من أن الله سوف يشد أزري - ولئن سقطت تحت حسام الملك رتشارد، فإني لن أنتقل إلى الفردوس بميتة أشرف من هذه، ولكن الله قد أعطى بيت المقدس للمسلمين المؤمنين؛ وإنه لمن الكفر برب النبي أن أسوق إلى المخاطر - رهنا بقوتي وحذقي - ما أملك مطمئنا بتفوق جيوشي.»
فقال رتشارد بنغمة من يطلب الرضا من صديق حميم: «إن لم يكن من أجل بيت المقدس، إذن فلنتبارز حبا للشرف ثلاث مرات على الأقل برماح مسنونة.»
فابتسم صلاح الدين قليلا لهذا الشغف القوي بالنزال عند قلب الأسد وقال: «وحتى هذا ليس لي شرعا أن أفعله؛ إن السيد يضع الراعي على رأس القطيع، لا من أجل الراعي، ولكن من أجل الغنم؛ لو كان لي ابن يحمل الصولجان بعد سقوطي لكانت لي الحرية - كما أن لي الإرادة - في مجابهة هذا النزال الجريء، ولكن لقد جاء في إنجيلكم ذاته أنه إذا ضرب الراعي تشتتت الرعية.»
فالتفت رتشارد إلى «إيرل هنتنجدن» وتنهد وقال: «لقد فزت بكل توفيق، والله إني لأعطي خير سني حياتي لنصف ساعة بجوار «درة الصحراء»!»
وحرك فرط الفروسية في رتشارد نفوس الحافلين. ولما نهض أخيرا للرحيل تقدم صلاح الدين، وأمسك قلب الأسد من يده.
وقال: «أي ملك إنجلترا النبيل، إنا نفترق الآن على غير لقاء، وإني أعرف جيدا - كما تعرف أنت - أن عصابتك قد تفككت عراها ولن تلتئم، وأن جيوش بلدك قليل عديدها، ولا تمكنك من مواصلة ما شرعت فيه؛ إني لا أستطيع أن أسلم لك بيت المقدس هذا الذي تتحرق شوقا إلى حيازته، فهو لنا - كما هو لكم - بلد مقدس، ولكن أية شروط أخرى يطلب رتشارد إلى صلاح الدين أسلم لك فيها راغبا كما تتدفق المياه من تلك العين. أجل، ولسوف يهب صلاح الدين كما تهب العين، بغير مواربة، حتى وإن وقف رتشارد في الصحراء، وما يتبعه غير اثنين من رماة السهام!» •••
وشهد اليوم الثاني عودة رتشارد إلى معسكره، وبعد فترة وجيزة تزوج «إيرل هنتنجدن» الشاب من «أديث بلانتاجنت»، وبعث السلطان ب «الطلسم» الشهير هدية بمناسبة القران. ولقد تم به شفاء الكثيرين في أوروبا، غير أنه لم ينجح في أيهم، ولم يشتهر أمره، نجاحه وشهرته فيما أنجز صلاح الدين. وهو ما يزال على قيد البقاء، فلقد ورثه «إيرل هنتنجدن» فارسا شجاعا من أبناء اسكتلندا، هو «السير سيمن لي»، وما تزال أسرته العريقة، صاحبة الشرف الرفيع، تحتفظ به، ورغم أن الحجارة المسحورة قد نبذت من علم الصيدلة الحديث، إلا أن فضائل هذا الطلسم ما زالت تستخدم في إيقاف الدم، وفي حالات الجنون الكلبي.
وهنا تنتهي قصتنا؛ إذ إن الشروط التي كف من أجلها رتشارد عن غزواته مبسوطة في كل كتاب من كتب التاريخ عن ذلك العهد.
Bog aan la aqoon