ـ[التبيان في إعراب القرآن]ـ
المؤلف: أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري (المتوفى: ٦١٦هـ)
المحقق: علي محمد البجاوي
الناشر: عيسى البابي الحلبي وشركاه
عدد الأجزاء: ٢ (في ترقيم مسلسل واحد)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مشكول، وضمن خدمة مقارنة التفاسير]
Bog aan la aqoon
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَبِه عونى وثقتى
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم محب الدَّين أَبُو الْبَقَاء عبد الله بن الْحُسَيْن بن عبد الله العكبرى رَحمَه الله تَعَالَى ورحم أسلافه بِمُحَمد واله وَأَصْحَابه وأنصاره
الْحَمد لله الذى وفقنا لحفظ كِتَابه ووقفنا على الْجَلِيل من حكمه وَأَحْكَامه وادابه وألهمنا تدبر مَعَانِيه ووجوه إعرابه وعرفنا تفنن أساليبه من حَقِيقَته ومجازه وإيجازه وإسهابه أَحْمَده على الِاعْتِصَام بأمتن أَسبَابه وَأشْهد أَن لَا إِلَه الا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة مُؤمن بِيَوْم حسابه وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله المبرز فى لسنه وَفصل خطابه ناظم حَبل الْحق بعد انقضابه وجامع شَمل الدَّين بعد انشعابه صلى الله عَلَيْهِ وعَلى اله واصحابه مَا استطار برق فى أرجاء سحابه واضطرب بَحر باذيه وعبابه
أما بعد فَإِن أولى مَا عني باغي الْعلم بمراعاته وأحق مَا صرف الْعِنَايَة إِلَى معاناته مَا كَانَ من الْعُلُوم أصلا لغيره مِنْهَا وحاكما عَلَيْهَا وَلها فِيمَا ينشأ من الِاخْتِلَاف عَنْهَا وَذَلِكَ هُوَ الْقرَان الْمجِيد الذى لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد وَهُوَ المعجز الباقى على الْأَبَد وَالْمُودع أسرار الْمعَانى الَّتِى لَا تنفد وحبل الله المتين وحجته على الْخلق أَجْمَعِينَ
فَأول مبدوء بِهِ من ذَلِك تلقف أَلْفَاظه عَن حفاظه ثمَّ تلقى مَعَانِيه مِمَّن يعانيه وأقوم طَرِيق يسْلك فى الْوُقُوف على مَعْنَاهُ ويتوصل بِهِ إِلَى تَبْيِين أغراضه ومغزاه معرفَة إعرابه واشتقاق مقاصده من أنحاء خطابه وَالنَّظَر فى وُجُوه الْقرَاءَات المنقولة عَن الْأَئِمَّة الْأَثْبَات
1 / 1
والكتب الْمُؤَلّفَة فى هَذَا الْعلم كَثِيرَة جدا مُخْتَلفَة ترتيبا وحدا فَمِنْهَا الْمُخْتَصر حجما وعلما وَمِنْهَا المطول بِكَثْرَة إِعْرَاب الظَّوَاهِر وخلط الْإِعْرَاب بالمعاني وقلما تَجِد فِيهَا مُخْتَصر الحجم كثير الْعلم فَلَمَّا وَجدتهَا على مَا وصفت أَحْبَبْت أَن أملي كتابا يصغر حجمه وَيكثر علمه أقتصر فِيهِ على ذكر الْإِعْرَاب ووجوه الْقرَاءَات فَأتيت بِهِ على ذَلِك وَالله أسأَل أَن يوفقنى فِيهِ لإصابة الصَّوَاب وَحسن الْقَصْد بِهِ بمنه وَكَرمه
إِعْرَابُ الِاسْتِعَاذَةِ:
﴿أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم﴾
(أَعُوذُ) أَصْلُهُ أَعْوُذُ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الْوَاوِ، مِثْلُ أَقْتُلُ ; فَاسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْوَاوِ فَنُقِلَتْ إِلَى الْعَيْنِ وَبَقِيَتْ سَاكِنَةً. وَمَصْدَرُهُ عَوْذٌ، وَعِيَاذٌ، وَمَعَاذٌ.
وَهَذَا تَعْلِيمٌ وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ: قُلْ أَعُوذُ.
وَ(الشَّيْطَانِ) فَيْعَالٌ مِنْ شَطَنَ يَشْطُنُ إِذَا بَعُدَ، وَيُقَالُ فِيهِ شَاطَنَ وَتَشَيْطَنَ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ كُلُّ مُتَمَرِّدٍ لِبُعْدِ غَوْرِهِ فِي الشَّرِّ.
وَقِيلَ: هُوَ فَعْلَانُ، مِنْ شَاطَ يَشِيطُ إِذَا هَلَكَ ; فَالْمُتَمَرِّدُ هَالِكٌ بِتَمَرُّدِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِفَعْلَانَ لِمُبَالَغَتِهِ فِي إِهْلَاكِ غَيْرِهِ.
وَ(الرَّجِيمِ) فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَرْجُومٌ بِالطَّرْدِ وَاللَّعْنِ.
وَقِيلَ: هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، أَيْ يَرْجُمُ غَيْرَهُ بِالْإِغْوَاءِ.
1 / 2
إِعْرَابُ التَّسْمِيَةِ
قَالَ تَعَالَى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١»
الْبَاءُ فِي: بِسْمِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ ; فَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ الْمَحْذُوفُ مُبْتَدَأٌ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ ابْتِدَائِي بِسْمِ اللَّهِ ; أَيْ كَائِنٌ بِاسْمِ اللَّهِ ; فَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْكَوْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْمَحْذُوفُ فِعْلٌ تَقْدِيرُهُ ابْتَدَأْتُ، أَوْ أَبْدَأُ، فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْمَحْذُوفِ، وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ مِنَ الْخَطِّ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، فَلَوْ قُلْتَ لِاسْمِ اللَّهِ بَرَكَةٌ أَوْ بِاسْمِ رَبِّكَ، أَثْبَتَّ الْأَلِفَ فِي الْخَطِّ.
وَقِيلَ حَذَفُوا الْأَلِفَ ; لِأَنَّهُمْ حَمَلُوهُ عَلَى سِمٍ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي اسْمٍ.
وَلُغَاتُهُ خَمْسٌ: سِمٌ بِكَسْرِ السِّينِ وَضَمِّهَا، اسْمٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّهَا، وَسُمَى مِثْلُ ضُحَى.
وَالْأَصْلُ فِي اسْمٍ: سُمُوٌ فَالْمَحْذُوفُ مِنْهُ لَامُهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي جَمْعِهِ أَسْمَاءُ وَأَسَامِي وَفِي تَصْغِيرِهِ «سُمَيٌّ» وَبَنَوْا مِنْهُ فَعِيلًا، فَقَالُوا فُلَانٌ سَمِيُّكَ: أَيِ
اسْمُهُ كَاسْمِكَ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ سَمَّيْتُ وَأَسْمَيْتُ ; فَقَدْ رَأَيْتَ كَيْفَ رَجَعَ الْمَحْذُوفُ إِلَى آخِرِهِ.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَصْلُهُ وَسَمَ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَسْمِ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ وَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى فَاسِدٌ اشْتِقَاقًا.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أُضِيفَ الِاسْمُ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ هُوَ الِاسْمُ؟ .
قِيلَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْمَ هُنَا بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ، وَالتَّسْمِيَةُ غَيْرُ الِاسْمِ ; لِأَنَّ الِاسْمَ هُوَ اللَّازِمُ لِلْمُسَمَّى، وَالتَّسْمِيَةُ هُوَ التَّلَفُّظُ بِالِاسْمِ.
1 / 3
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفُ مُضَافٍ، تَقْدِيرُهُ بِاسْمِ مُسَمَّى اللَّهِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ اسْمًا زِيَادَةٌ ; وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَقَوْلُ الْآخَرِ: دَاعٍ يُنَادِيهِ بِاسْمِ الْمَاءِ أَيِ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا، وَنُنَادِيهِ بِالْمَاءِ.
وَالْأَصْلُ فِي اللَّهِ الْإِلَاءُ، فَأُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ عَلَى لَامِ الْمَعْرِفَةِ ثُمَّ سُكِّنَتْ وَأُدْغِمَتْ فِي اللَّامِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ فُخِّمَتْ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ، [وَرُقِّقَتْ إِذَا كَانَتْ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ] وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَقِّقُهَا فِي كُلِّ حَالٍ، وَالتَّفْخِيمُ فِي هَذَا الِاسْمِ مِنْ خَوَاصِّهِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَمْزَةُ إِلَاهٍ حُذِفَتْ حَذْفًا مِنْ غَيْرِ إِلْقَاءٍ، وَهَمْزَةُ إِلَاهٍ أَصْلٌ ; وَهُوَ مِنْ أَلِهَ يَأْلَهُ إِذَا عُبِدَ، فَالْإِلَهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ أَيِ الْمَأْلُوهِ، وَهُوَ الْمَعْبُودُ.
وَقِيلَ أَصْلُ الْهَمْزَةِ وَاوٌ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْوَلَهِ، فَالْإِلَهُ تَوَلَّهُ إِلَيْهِ الْقُلُوبُ ; أَيْ تَتَحَيَّرُ.
وَقِيلَ أَصْلُهُ لَاهُ عَلَى فَعِلَ، وَأَصْلُ الْأَلِفِ يَاءٌ ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي مَقْلُوبِهِ لَهِيَ أَبُوكَ ثُمَّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ.
(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) صِفَتَانِ مُشْتَقَّتَانِ مِنَ الرَّحْمَةِ.
وَالرَّحْمَنُ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ. وَفِي الرَّحِيمِ مُبَالَغَةٌ أَيْضًا ; إِلَّا أَنَّ فَعْلَانًا أَبْلَغُ مِنْ فَعِيلٍ.
وَجَرُّهُمَا عَلَى الصِّفَةِ ; وَالْعَامِلُ فِي الصِّفَةِ هُوَ الْعَامِلُ فِي الْمَوْصُوفِ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ كَوْنُهَا تَبَعًا وَيَجُوزُ نَصْبُهُمَا عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي، وَرَفْعُهُمَا عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ.
1 / 4
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
قَالَ تَعَالَى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣»
الْجُمْهُورُ عَلَى رَفْعِ (الْحَمْدُ) بِالِابْتِدَاءِ. وَ(لِلَّهِ) الْخَبَرُ، وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ وَاجِبٌ، أَوْ ثَابِتٌ. وَيُقْرَأُ (الْحَمْدُ) بِالنَّصْبِ، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ أَحْمَدُ الْحَمْدَ ; وَالرَّفْعُ أَجْوَدُ ; لِأَنَّ فِيهِ عُمُومًا فِي الْمَعْنَى.
وَيُقْرَأُ بِكَسْرِ الدَّالِ ; إِتْبَاعًا لِكَسْرَةِ اللَّامِ ; كَمَا قَالُوا: الْمِعِيرَةُ وَرِغِيفٌ ; وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّ فِيهِ إِتْبَاعُ الْإِعْرَابِ الْبِنَاءَ، وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِلْإِعْرَابِ.
وَيُقْرَأُ بِضَمِّ الدَّالِ وَاللَّامِ عَلَى إِتْبَاعِ اللَّامِ الدَّالَ ; وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، لِأَنَّ لَامَ الْجَرِّ مُتَّصِلٌ بِمَا بَعْدَهُ، مُنْفَصِلٌ عَنِ الدَّالِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي حُرُوفِ الْجَرِّ الْمُفْرَدَةِ ; إِلَّا أَنَّ مَنْ قَرَأَ بِهِ فَرَّ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الضَّمِّ إِلَى الْكَسْرِ، وَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْمُتَّصِلِ ; لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ الْحَمْدُ مُنْفَرِدًا عَمًّا بَعْدَهُ.
وَالْـ (رَبِّ) مَصْدَرُ رَبَّ يَرُبُّ، ثُمَّ جُعِلَ صِفَةً كَعَدْلٍ وَخَصْمٍ ; وَأَصْلُهُ رَابَ.
وَجَرُّهُ عَلَى الصِّفَةِ أَوِ الْبَدَلِ. وَقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي، وَقِيلَ: عَلَى النِّدَاءِ، وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ.
(الْعَالَمِينَ) جَمْعُ تَصْحِيحٍ، وَاحِدَهُ عَالَمٌ، وَالْعَالَمُ: اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِلْجَمْعِ، وَلَا
وَاحِدَ لَهُ فِي اللَّفْظِ ; وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْعِلْمِ عِنْدَ مَنْ خَصَّ الْعَالَمَ بِمَنْ يَعْقِلُ ; أَوْ مِنَ الْعَلَامَةِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَفِي (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الْجَرُّ وَالنَّصْبُ وَالرَّفْعُ، وَبِكُلٍّ قُرِئَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي رَبٍّ.
1 / 5
قَالَ تَعَالَى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤»
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يُقْرَأُ بِكَسْرِ اللَّامِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَهُوَ مَنْ عَمُرَ مُلْكُهُ ; يُقَالُ مَلِكٌ بَيِّنُ الْمُلْكِ بِالضَّمِّ. وَقُرِئَ بِإِسْكَانِ اللَّامِ ; وَهُوَ مِنْ تَخْفِيفِ الْمَكْسُورِ، مِثْلَ فَخِذٍ وَكَتِفٍ، وَإِضَافَتُهُ عَلَى هَذَا مَحْضَةٌ، وَهُوَ مَعْرِفَةٌ فَيَكُونُ جَرُّهُ عَلَى الصِّفَةِ، أَوِ الْبَدَلِ مِنَ اللَّهِ، وَلَا حَذْفَ فِيهِ عَلَى هَذَا، وَيُقْرَأُ بِالْأَلِفِ وَالْجَرِّ، وَهُوَ عَلَى هَذَا نَكِرَةٌ ; لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْحَالُ أَوْ الِاسْتِقْبَالُ لَا يَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَرُّهُ عَلَى الْبَدَلِ لَا عَلَى الصِّفَةِ ; لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تُوصَفُ بِالنَّكِرَةِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفُ مَفْعُولٍ تَقْدِيرُهُ: مَالِكِ أَمْرِ يَوْمِ الدِّينِ، أَوْ مَالِكِ يَوْمَ الدِّينِ الْأَمْرَ وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى «يَوْمِ» خَرَجَ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ تَقْدِيرُ فِي ; لِأَنَّهَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَيُقْرَأُ مَالِكَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بِإِضْمَارِ أَعْنِي ; أَوْ حَالًا.
وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ نِدَاءً. وَيُقْرَأُ بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ، أَوْ يَكُونَ خَبَرًا لِلرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ الرَّحْمَنَ، وَيُقْرَأُ مَلِيكُ يَوْمِ الدِّينِ رَفْعًا وَنَصْبًا وَجَرًّا.
وَيُقْرَأُ (مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ) عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ وَيَوْمُ مَفْعُولٌ أَوْ ظَرْفٌ. (وَالدِّينُ) مَصْدَرُ دَانَ يَدِينُ.
قَالَ تَعَالَى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥»
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِيَّاكَ) الْجُمْهُورُ عَلَى كَسْرَةِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ.
وَقُرِئَ شَاذًّا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ لُغَةً مَسْمُوعَةً.
1 / 6
وَقُرِئَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ. وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ حُذِفَ إِحْدَى الْيَاءَيْنِ ; لِاسْتِثْقَالِ التَّكْرِيرِ فِي حَرْفِ الْعِلَّةِ وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الشِّعْرِ قَالَ الْفَرَزْدَقُ: تَنَظَّرْتُ نَصْرًا وَالسِّمَاكَيْنِ أَيْهُمَا عَلَيَّ مَعَ الْغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مَوَاطِرُهُ.
وَقَالُوا فِي أَمَّا: أَيْمَا، فَقَلَبُوا الْمِيمَ يَاءً كَرَاهِيَةَ التَّضْعِيفِ، وَإِيَّا عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ اسْمٌ مُضْمَرٌ ; فَأَمَّا الْكَافُ فَحَرْفُ خِطَابٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لَا مَوْضِعَ لَهَا، وَلَا تَكُونُ اسْمًا ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتِ اسْمًا لَكَانَتْ إِيَّا مُضَافَةً إِلَيْهَا، وَالْمُضْمَرَاتُ لَا تُضَافُ، وَعِنْدَ الْخَلِيلِ هِيَ اسْمٌ مُضْمَرٌ أُضِيفَتْ إِيَّا إِلَيْهِ ; لِأَنَّ إِيَّا تُشْبِهُ الْمُظْهَرَ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ، وَلِطُولِهَا بِكَثْرَةِ حُرُوفِهَا، وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ: إِذَا بَلَغَ الرَّجُلُ السِّتِّينَ فَإِيَّاهُ وَإِيَّا الشَّوَابِّ.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: إِيَّاكَ بِكَمَالِهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ ; لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ يَخْتَلِفُ آخِرُهُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ وَالْغَائِبِ، فَيُقَالُ إِيَّايَ وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْكَافُ اسْمٌ، وَإِيَّا عِمَادٌ لَهُ وَهُوَ حَرْفٌ وَمَوْضِعُ إِيَّاكَ نَصْبٌ بِـ (نَعْبُدُ) .
فَإِنْ قِيلَ إِيَّاكَ خِطَابٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ، فَكَانَ الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ.
قِيلَ: عَادَةُ الْعَرَبِ الرُّجُوعُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَمِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَسَيَمُرُّ بِكَ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارٌ صَالِحٌ فِي الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَسْتَعِينُ) الْجُمْهُورُ عَلَى فَتْحِ النُّونِ. وَقُرِئَ بِكَسْرِهَا وَهِيَ لُغَةٌ ; وَأَصْلُهُ نَسْتَعْوِنُ ; نَسْتَفْعِلُ مِنَ الْعَوْنِ ; فَاسْتُثْقِلَتِ الْكَسْرَةُ عَلَى الْوَاوِ، فَنُقِلَتْ إِلَى الْعَيْنِ، ثُمَّ قُلِبَتْ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا.
قَالَ تَعَالَى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (اهْدِنَا) لَفْظُهُ أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَمُعْرَبٌ عِنْدَ
1 / 7
الْكُوفِيِّينَ، فَحَذْفُ الْيَاءِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَامَةُ السُّكُونِ الَّذِي هُوَ بِنَاءٌ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ هُوَ عَلَامَةُ الْجَزْمِ.
وَ(هَدَى) يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا تَعَدِّيهِ إِلَى مَفْعُولٍ آخَرَ فَقَدْ جَاءَ مُتَعَدِّيًا إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ ; وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ ; وَقَدْ جَاءَ مُتَعَدِّيًا بِإِلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الْأَنْعَامِ: ١٦١] وَجَاءَ مُتَعَدِّيًا بِاللَّامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) [الْأَعْرَافِ: ٤٣] .
وَ: (السِّرَاطَ) بِالسِّينِ هُوَ الْأَصْلُ ; لِأَنَّهُ مِنْ سَرَطَ الشَّيْءَ إِذَا بَلَغَهُ، وَسُمِّيَ الطَّرِيقُ سِرَاطًا لِجَرَيَانِ النَّاسِ فِيهِ كَجَرَيَانِ الشَّيْءِ الْمُبْتَلَعِ.
فَمَنْ قَرَأَهُ بِالسِّينِ جَاءَ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَمَنْ قَرَأَهُ بِالصَّادِ قَلَبَ السِّينَ صَادًا ; لِتَجَانُسِ الطَّاءِ فِي الْإِطْبَاقِ، وَالسِّينُ تُشَارِكُ الصَّادَ فِي الصَّفِيرِ وَالْهَمْسِ، فَلَمَّا شَارَكَتِ الصَّادَ فِي ذَلِكَ قَرُبَتْ مِنْهَا، فَكَانَتْ مُقَارَبَتُهَا لَهَا مُجَوِّزَةً قَلْبَهَا إِلَيْهَا لِتُجَانِسَ الطَّاءَ فِي الْإِطْبَاقِ.
وَمَنْ قَرَأَ بِالزَّايِ قَلَبَ السِّينَ زَايًا ; لِأَنَّ الزَّايَ وَالسِّينَ مِنْ حُرُوفِ الصَّفِيرِ، وَالزَّايُ أَشْبَهُ بِالطَّاءِ ; لِأَنَّهُمَا مَجْهُورَتَانِ.
وَمَنْ أَشَمَّ الصَّادَ زَايًا قَصَدَ أَنْ يَجْعَلَهَا بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِطْبَاقِ.
وَأَصْلُ: (الْمُسْتَقِيمَ) مُسْتَقْوِمٌ، ثُمَّ عُمِلَ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فِي «نَسْتَعِينُ»، وَمُسْتَفْعِلٌ هُنَا بِمَعْنَى فَعِيلٍ أَيِ السِّرَاطُ الْقَوِيمُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْقَائِمِ ; أَيِ الثَّابِتُ.
وَسِرَاطٌ الثَّانِي بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ بَدَلُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكِلَاهُمَا مَعْرِفَةٌ.
1 / 8
وَ(الَّذِينَ) اسْمٌ مَوْصُولٌ، وَصِلَتُهُ أَنْعَمْتَ، وَالْعَائِدُ عَلَيْهِ الْهَاءُ وَالْمِيمُ.
وَالْغَرَضُ مِنْ وَضْعِ «الَّذِي» وَصْفُ الْمَعَارِفِ بِالْجُمَلِ ; لِأَنَّ الْجُمَلَ تُفَسَّرُ بِالنَّكِرَاتِ، وَالنَّكِرَةُ لَا تُوصَفُ بِهَا الْمَعْرِفَةُ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الَّذِي زَائِدَتَانِ وَتَعْرِيفُهَا بِالصِّلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَمَا مَعْرِفَتَانِ وَلَا لَامَ فِيهِمَا فَدَلَّ أَنَّ تَعَرُّفَهُمَا بِالصِّلَةِ وَالْأَصْلُ فِي الَّذِينَ اللَّذِيُونَ ; لِأَنَّ وَاحِدَهُ الَّذِي، إِلَّا أَنَّ يَاءَ الْجَمْعِ حَذَفَتْ يَاءَ الْأَصْلِ ; لِئَلَّا يَجْتَمِعَ سَاكِنَانِ.
وَالَّذِينَ بِالْيَاءِ فِي كُلِّ حَالٍ ; لِأَنَّهُ اسْمٌ مَبْنِيٌّ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَلُهُ فِي الرَّفْعِ بِالْوَاوِ، وَفِي الْجَرِّ وَالنَّصْبِ بِالْيَاءِ، كَمَا جَعَلُوا تَثْنِيَتَهُ بِالْأَلِفِ فِي الرَّفْعِ وَبِالْيَاءِ فِي الْجَرِّ وَالنَّصْبِ.
وَفِي الَّذِي خَمْسُ لُغَاتٍ: إِحْدَاهَا: لَذِي بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ مِنْ غَيْرِ لَامِ التَّعْرِيفِ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِ شَاذًّا. وَالثَّانِيَةُ: الَّذِي بِسُكُونِ الْيَاءِ. وَالثَّالِثَةُ: بِحَذْفِهَا وَإِبْقَاءِ كَسْرَةِ الذَّالِ. وَالرَّابِعَةُ: حَذْفُ الْيَاءِ وَإِسْكَانُ الذَّالِ. وَالْخَامِسَةُ بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ.
قَالَ تَعَالَى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) يُقْرَأُ بِالْجَرِّ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي عَلَيْهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّذِينِ.
1 / 9
فَإِنْ قُلْتَ الَّذِينَ مَعْرِفَةٌ «وَغَيْرُ» لَا يَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لَهُ، فَفِيهِ جَوَابَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ «غَيْرَ» إِذَا وَقَعَتْ بَيْنَ مُتَضَادَّيْنِ، وَكَانَا مَعْرِفَتَيْنِ تَعَرَّفَتْ بِالْإِضَافَةِ ; كَقَوْلِكَ عَجِبْتُ مِنَ الْحَرَكَةِ غَيْرِ السُّكُونِ ; وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ هُنَا ; لِأَنَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِ، وَالْمَغْضُوبَ عَلَيْهِ مُتَضَادَّانِ. وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِينَ قَرِيبٌ مِنَ النَّكِرَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ قَصْدَ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ ; وَغَيْرُ الْمَغْضُوبِ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِالتَّخْصِيصِ الْحَاصِلِ لَهَا بِالْإِضَافَةِ ; فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ إِبْهَامٌ مِنْ وَجْهٍ وَاخْتِصَاصٌ مِنْ وَجْهٍ.
وَيُقْرَأُ (غَيْرَ) بِالنَّصْبِ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا أَنْعَمْتَ، وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الَّذِينَ ; لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ، وَالصِّرَاطُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ فِي الْحَالِ ; وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ يَنْتَصِبُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الَّذِينَ، وَيَعْمَلُ فِيهَا مَعْنَى الْإِضَافَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَنْتَصِبُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الَّذِينَ، أَوْ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَنْتَصِبُ بِإِضْمَارِ أَعْنِي.
وَ(الْمَغْضُوبِ) مَفْعُولٌ مِنْ غَضِبَ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَازِمٌ، وَالْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ
«عَلَيْهِمْ» . وَالتَّقْدِيرُ: غَيْرُ الْفَرِيقِ الْمَغْضُوبِ، وَلَا ضَمِيرَ فِي الْمَغْضُوبِ ; لِقِيَامِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ، فَيُقَالُ الْفَرِيقُ الْمَغْضُوبِينَ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ إِذَا عَمِلَ فِيمَا بَعْدَهُ لَمْ يُجْمَعْ جَمْعَ السَّلَامَةِ.
(وَلَا الضَّالِّينَ): (لَا) زَائِدَةٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لِلتَّوْكِيدِ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ هِيَ بِمَعْنَى غَيْرَ، كَمَا قَالُوا: جِئْتُ بِلَا شَيْءٍ، فَأَدْخَلُوا عَلَيْهَا حَرْفَ الْجَرِّ، فَيَكُونُ لَهَا حُكْمُ غَيْرَ.
وَأَجَابَ الْبَصْرِيُّونَ عَنْ هَذَا بِأَنْ (لَا) دَخَلَتْ لِلْمَعْنَى، فَتَخَطَّاهَا الْعَامِلُ، كَمَا يَتَخَطَّى الْأَلِفَ وَاللَّامَ،
1 / 10
وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَرْكِ الْهَمْزِ فِي الضَّالِّينَ، وَقَرَأَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ، وَهِيَ لُغَةٌ فَاشِيَةٌ فِي الْعَرَبِ فِي كُلِّ أَلِفٍ وَقَعَ بَعْدَهَا حَرْفٌ مُشَدَّدٌ، نَحْوَ ضَالٍّ، وَدَابَّةٍ، وَجَانٍّ ; وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَلَبَ الْأَلِفَ هَمْزَةً لِتَصِحَّ حَرَكَتُهَا لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا (آمِينَ): فَاسْمٌ لِلْفِعْلِ، وَمَعْنَاهَا اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ الْمَبْنِيِّ، وَحُرِّكَ بِالْفَتْحِ لِأَجْلِ الْيَاءِ قَبْلَ آخِرِهِ، كَمَا فُتِحَتْ أَيْنَ ; وَالْفَتْحُ فِيهَا أَقْوَى ; لِأَنَّ قَبْلَ الْيَاءِ كَسْرَةً، فَلَوْ كُسِرَتِ النُّونُ عَلَى الْأَصْلِ لَوَقَعَتِ الْيَاءُ بَيْنَ كَسْرَتَيْنِ.
وَقِيلَ: (آمِينَ) اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَقْدِيرُهُ يَا آمِينَ، وَهَذَا خَطَأٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ لَا تُعْرَفُ إِلَّا تَلَقِّيًا وَلَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ سَمْعٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبُنِيَ عَلَى الضَّمِّ لِأَنَّهُ مُنَادَى مَعْرِفَةٌ أَوْ مَقْصُودٌ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: الْقَصْرُ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَالْمَدُّ وَلَيْسَ مِنَ الْأَبْنِيَةِ الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ هُوَ مِنَ الْأَبْنِيَةِ الْأَعْجَمِيَّةِ كَهَابِيلَ وَقَابِيلَ. وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أُشْبِعَ فَتْحَةَ الْهَمْزَةِ، فَنَشَأَتِ الْأَلِفُ، فَعَلَى هَذَا لَا تَخْرُجُ عَنِ الْأَبْنِيَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
فَصْلٌ فِي هَاءِ الضَّمِيرِ نَحْوَ: عَلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ وَفِيهِ وَفِيهِمْ.
وَإِنَّمَا أَفْرَدْنَاهُ لِتَكَرُّرِهِ فِي الْقُرْآنِ: الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْهَاءِ الضَّمُّ ; لِأَنَّهَا تُضَمُّ بَعْدَ الْفَتْحَةِ وَالضَّمَّةِ وَالسُّكُونِ نَحْوَ إِنَّهُ، وَلَهُ، وَغُلَامُهُ، وَيَسْمَعُهُ، وَمِنْهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ كَسْرُهَا بَعْدَ الْيَاءِ نَحْوَ عَلَيْهِمْ، وَأَيْدِيهِمْ، وَبَعْدَ الْكَسْرِ نَحْوَ بِهِ، وَبِدَارِهِ، وَضَمُّهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَائِزٌ ; لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا كُسِرَتْ لِتُجَانِسَ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْيَاءِ وَالْكَسْرَةِ وَبِكُلٍّ قَدْ قُرِئَ.
1 / 11
فَأَمَّا (عَلَيْهِمْ) فَفِيهَا عَشْرُ لُغَاتٍ، وَكُلُّهَا قَدْ قُرِئَ بِهِ: خَمْسٌ مَعَ ضَمِّ الْهَاءِ، وَخَمْسٌ مَعَ كَسْرِهَا.
فَالَّتِي مَعَ الضَّمِّ: إِسْكَانُ الْمِيمِ، وَضَمُّهَا مِنْ غَيْرِ إِشْبَاعٍ، وَضَمُّهَا مَعَ وَاوٍ، وَكَسْرُ الْمِيمِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ، وَكَسْرُهَا مَعَ الْيَاءِ، وَأَمَّا الَّتِي مَعَ كَسْرِ الْهَاءِ فَإِسْكَانُ الْمِيمِ، وَكَسْرُهَا مِنْ غَيْرِ يَاءٍ، وَكَسْرُهَا مَعَ الْيَاءِ، وَضَمُّهَا مِنْ غَيْرِ وَاوٍ، وَضَمُّهَا مَعَ الْوَاوِ.
وَالْأَصْلُ فِي مِيمِ الْجَمْعِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا وَاوٌ كَمَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، فَالْمِيمُ لِمُجَاوَزَةِ الْوَاحِدِ، وَالْأَلِفُ دَلِيلُ التَّثْنِيَةِ نَحْوَ عَلَيْهِمَا، وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ نَظِيرُ الْأَلِفِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ عَلَامَةَ الْجَمَاعَةِ فِي الْمُؤَنَّثِ نُونٌ مُشَدَّدَةٌ نَحْوَ عَلَيْهِنَّ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَامَةُ الْجَمْعِ لِلْمُذَّكَرِ حَرْفَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُمْ حَذَفُوا الْوَاوَ تَخْفِيفًا، وَلَا لَبْسَ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا مِيمَ فِيهِ، وَالتَّثْنِيَةُ بَعْدَ مِيمِهَا أَلِفٌ وَإِذَا حُذِفَتِ الْوَاوُ سَكَنَتِ الْمِيمُ ; لِئَلَّا تَتَوَالَى الْحَرَكَاتُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ نَحْوَ ضَرْبِهِمْ وَيَضْرِبُهُمْ.
فَمَنْ أَثْبَتَ الْوَاوَ أَوْ حَذَفَهَا وَسَكَّنَ الْمِيمَ فَلِمَا ذَكَرْنَا. وَمَنْ ضَمَّ الْمِيمَ دَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا الضَّمُّ، وَجَعَلَ الضَّمَّةَ دَلِيلُ الْوَاوِ الْمَحْذُوفَةِ.
وَمَنْ كَسَرَ الْمِيمَ وَأَتْبَعَهَا يَاءً فَإِنَّهُ حَرَّكَ الْمِيمَ بِحَرَكَةِ الْهَاءِ الْمَكْسُورَةِ قَبْلَهَا، ثُمَّ قَلَبَ الْوَاوَ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا.
وَمَنْ حَذَفَ الْيَاءَ جَعَلَ الْكَسْرَةَ دَلِيلًا عَلَيْهَا.
وَمَنْ كَسَرَ الْمِيمَ بَعْدَ ضَمَّةِ الْهَاءِ فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُجَانِسَ بِهَا الْيَاءَ الَّتِي قَبْلَ الْهَاءِ.
وَمَنْ ضَمَّ الْهَاءَ قَالَ: إِنَّ الْيَاءَ فِي عَلَيْهَا حَقُّهَا أَنْ تَكُونَ أَلِفًا، كَمَا ثَبَتَتِ الْأَلِفُ مَعَ الْمُظْهَرِ، وَلَيْسَتِ الْيَاءُ أَصْلَ الْأَلِفِ، فَكَمَا أَنَّ الْهَاءَ تُضَمُّ بَعْدَ الْأَلِفِ، فَكَذَلِكَ تُضَمُّ بَعْدَ الْيَاءِ الْمُبْدَلَةِ مِنْهَا.
1 / 12
وَمَنْ كَسَرَ الْهَاءَ اعْتَبَرَ اللَّفْظَ، فَأَمَّا كَسْرُ الْهَاءِ وَإِتْبَاعُهَا بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ، فَجَائِزٌ عَلَى ضَعْفٍ، أَمَّا جَوَازُهُ فَلِخَفَاءِ الْهَاءِ بُيِّنَتْ بِالْإِشْبَاعِ، وَأَمَّا ضَعْفُهُ فَلِأَنَّ الْهَاءَ خَفِيَّةٌ، وَالْخَفِيُّ قَرِيبٌ مِنَ السَّاكِنِ، وَالسَّاكِنُ غَيْرُ حَصِينٍ، فَكَأَنَّ الْيَاءَ وَلِيَتِ الْيَاءَ.
وَإِذَا لَقِيَ الْمِيمَ سَاكِنٌ بَعْدَهَا جَازَ ضَمُّهَا نَحْوَ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ; لِأَنَّ أَصْلَهَا الضَّمُّ وَإِنَّمَا أُسْكِنَتْ تَخْفِيفًا فَإِذَا احْتِيجَ إِلَى حَرَكَتِهَا كَانَ الضَّمُّ الَّذِي هُوَ حَقُّهَا فِي الْأَصْلِ أَوْلَى وَيَجُوزُ كَسْرُهَا إِتْبَاعًا لِمَا قَبْلَهَا.
وَأَمَّا فِيهِ وَبَنِيهِ، فَفِيهِ الْكَسْرُ مِنْ غَيْرِ إِشْبَاعٍ وَبِالْإِشْبَاعِ، وَفِيهِ الضَّمُّ مِنْ غَيْرِ إِشْبَاعٍ وَبِالْإِشْبَاعِ.
وَأَمَّا إِذَا سَكَنَ مَا قَبْلَ الْهَاءِ، نَحْوَ: مِنْهُ، وَعَنْهُ، وَتَجِدُوهُ، فَمَنْ ضَمَّ مِنْ غَيْرِ إِشْبَاعٍ فَعَلَى الْأَصْلِ، وَمَنْ أَشْبَعَ أَرَادَ تَبْيِينَ الْهَاءِ لِخَفَائِهَا.
1 / 13
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الم (١» هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا اسْمٌ ; فَأَلِفٌ: اسْمٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ مِثْلِ الْحَرْفِ الَّذِي فِي قَالَ. وَلَامٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْحَرْفِ الْأَخِيرِ مَنْ قَالَ. وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا أَسْمَاءٌ أَنَّ كُلًّا مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ ; لِأَنَّكَ لَا تُرِيدُ أَنْ تُخْبِرَ عَنْهَا بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا يُحْكَى بِهَا أَلْفَاظُ الْحُرُوفِ الَّتِي جُعِلَتْ أَسْمَاءً لَهَا فَهِيَ كَالْأَصْوَاتِ نَحْوَ غَاقٍ فِي حِكَايَةِ صَوْتِ الْغُرَابِ.
وَفِي مَوْضِعِ (الم) ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الْجَرُّ عَلَى الْقَسَمِ، وَحَرْفُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ، وَبَقِيَ عَمَلُهُ بَعْدَ الْحَذْفِ ; لِأَنَّهُ مُرَادٌ فَهُوَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ كَمَا قَالُوا اللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ فِي لُغَةِ مَنْ جَرَّ وَالثَّانِي مَوْضِعُهَا نَصْبٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْقَسَمِ كَمَا تَقُولُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ، وَالنَّاصِبُ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ الْتَزَمْتُ اللَّهَ أَيِ الْيَمِينَ بِهِ. وَالثَّانِي هِيَ مَفْعُولٌ بِهَا تَقْدِيرُهُ: اتْلُ الم. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَوْضِعُهَا رَفْعٌ بِأَنَّهَا مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهَا الْخَبَرُ.
قَالَ تَعَالَى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢»
قَوْلُهُ ﷿: (ذَلِكَ): ذَا اسْمُ إِشَارَةٍ، وَالْأَلِفُ مِنْ جُمْلَةِ الِاسْمِ.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ الذَّالُ وَحْدَهَا هِيَ الِاسْمُ، وَالْأَلِفُ زِيدَتْ لِتَكْثِيرِ الْكَلِمَةِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: ذِهِ أَمَةُ اللَّهِ ; وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ اسْمٌ ظَاهِرٌ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ اسْمٌ ظَاهِرٌ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ حَتَّى يُحْمَلَ هَذَا عَلَيْهِ، وَيَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي التَّصْفِيرِ: ذَيًّا فَرَدُّوهُ إِلَى الثُّلَاثِيِّ، وَالْهَاءُ فِي ذِهِ بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ فِي ذِي.
1 / 14
وَأَمَّا اللَّامُ فَحَرْفٌ زِيدَ لِيَدُلَّ عَلَى بُعْدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ.
وَقِيلَ هِيَ بَدَلٌ مِنْ هَا ; أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ هَذَا، وَهَذَاكَ ; وَلَا يَجُوزُ هَذَلِكَ.
وَحُرِّكَتِ اللَّامُ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ سَاكِنَانِ، وَكُسِرَتْ عَلَى أَصْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَقِيلَ كُسِرَتْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ اللَّامِ وَلَامِ الْجَرِّ، إِذْ لَوْ فَتَحْتَهَا فَقُلْتَ: ذَلِكَ، لَالْتَبَسَ بِمَعْنَى الْمِلْكِ.
وَقِيلَ: ذَلِكَ هَاهُنَا بِمَعْنَى هَذَا. وَمَوْضِعُهُ رَفْعٌ، إِمَّا عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الم، وَالْكِتَابُ عَطْفُ بَيَانٍ، وَلَا رَيْبَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ هَذَا الْكِتَابُ حَقًّا أَوْ غَيْرَ ذِي شَكٍّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُبْتَدَأٌ، وَالْكِتَابُ خَبَرُهُ، وَلَا رَيْبَ حَالٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ عَطْفَ بَيَانٍ، وَلَا رَيْبَ فِيهِ الْخَبَرَ، وَرَيْبٌ مَبْنِيٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ ; لِأَنَّهُ رُكِّبَ مَعَ لَا، وَصُيِّرَ بِمَنْزِلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَعِلَّةُ بِنَائِهِ تَضَمُّنُهُ مَعْنَى مِنْ، إِذِ التَّقْدِيرُ لَا مِنْ رَيْبٍ، وَاحْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ مِنْ لِتَدُلَّ لَا عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ فَتَنْفِيَ الْوَاحِدَ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ، فَإِذَا قُلْتَ لَا رَجُلٌ فِي الدَّارِ، فَرَفَعْتَ وَنَوَّنْتَ، نَفَيْتَ الْوَاحِدَ وَلَمْ تَنْفِ مَا زَادَ عَلَيْهِ إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرَ.
وَقَوْلُهُ: (فِيهِ) فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ لَا، وَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ لَا رَيْبَ كَائِنٌ فِيهِ، فَيَقِفُ حِينَئِذٍ عَلَى فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَا رَيْبَ آخِرَ الْكَلَامِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ، فَتَقُولُ فِيهِ هُدًى، فَيَكُونُ هُدًى مُبْتَدَأٌ، وَفِيهِ الْخَبَرُ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ هُدًى فَاعِلًا مَرْفُوعًا بِفِيهِ، وَيَتَعَلَّقُ فِي عَلَى الْوَجْهَيْنِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ.
1 / 15
وَأَمَّا هُدًى فَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ ; لِقَوْلِكَ: هَدَيْتُ وَالْهُدَى.
وَفِي مَوْضِعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: رَفْعٌ، إِمَّا مُبْتَدَأٌ، أَوْ فَاعِلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ; وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ; أَيْ هُوَ هُدًى ; وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِذَلِكَ بَعْدَ خَبَرٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ فِي فِيهِ ; أَيْ لَا رَيْبَ فِيهِ هَادِيًا، فَالْمَصْدَرُ فِي مَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَعْنَى الْجُمْلَةِ تَقْدِيرُهُ: أُحَقِّقُهُ هَادِيًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى التَّنْبِيهِ وَالْإِشَارَةِ الْحَاصِلُ مِنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلْمُتَّقِينَ) اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: كَائِنٌ أَوْ كَائِنًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْهُدَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ اللَّامُ بِنَفْسِ الْهُدَى ; لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالْمَصْدَرُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ، وَوَاحِدُ الْمُتَّقِينَ مُتَّقِي، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ وَقَى فَعَلَ، فَفَاؤُهَا وَاوٌ، وَلَامُهَا يَاءٌ، فَإِذَا بَنَيْتَ مِنْ ذَلِكَ افْتَعَلَ قَلَبْتَ الْوَاوَ تَاءً، وَأَدْغَمْتَهَا فِي التَّاءِ الْأُخْرَى، فَقُلْتَ: اتَّقَى، وَكَذَلِكَ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ، نَحْوَ مُتَّقٍ وَمُتَّقًى.
وَمُتَّقٍ: اسْمٌ نَاقِصٌ، وَيَاؤُهُ الَّتِي هِيَ لَامٌ مَحْذُوفَةٌ فِي الْجَمْعِ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ حَرْفِ الْجَمْعِ بَعْدَهَا ; كَقَوْلِكَ: مُتَّقُونَ وَمُتَّقِينَ وَوَزْنُهُ فِي الْأَصْلِ مُفْتَعِلُونَ ; لِأَنَّ أَصْلَهُ مُوْتَقِيُونَ، فَحُذِفَتِ اللَّامُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فَوَزْنُهُ الْآنَ مُفْتَعُونَ وَمُفْتَعِينَ، وَإِنَّمَا حُذِفَتِ اللَّامُ دُونَ عَلَامَةِ الْجَمْعِ ; لِأَنَّ عَلَامَةَ الْجَمْعِ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنًى، إِذَا حُذِفَتْ لَا يَبْقَى عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى دَلِيلٌ، فَكَانَ إِبْقَاؤُهَا أَوْلَى.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣»
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) هُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِمَّا عَلَى مَوْضِعِ لِلْمُتَّقِينَ، أَوْ بِإِضْمَارِ أَعْنِي.
1 / 16
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى إِضْمَارِهِمْ، أَوْ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى) . وَأَصْلُ (يُؤْمِنُونَ) يُؤَأْمِنُونَ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْأَمْنِ، وَالْمَاضِي مِنْهُ آمَنَ، فَالْأَلِفُ بَدَلٌ مِنْ هَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ قُلِبَتْ أَلِفًا كَرَاهِيَةَ اجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ، وَلَمْ يُحَقِّقُوا الثَّانِيَةَ فِي مَوْضِعٍ مَا لِسُكُونِهَا، وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا. وَنَظِيرُهُ فِي الْأَسْمَاءِ: آدَمُ، آخَرُ.
فَأَمَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا تَجْمَعْ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا الْأَصْلُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي بِكَ فِي الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ثَلَاثِ هَمَزَاتٍ: الْأُولَى هَمْزَةُ الْمُضَارَعَةِ، وَالثَّانِيَةُ هَمْزَةُ أَفْعَلَ الَّتِي فِي آمَنَ،
وَالثَّالِثَةُ الْهَمْزَةُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ، فَحَذَفُوا الْوُسْطَى كَمَا حَذَفُوهَا فِي أُكْرَمُ ; لِئَلَّا تَجْتَمِعَ الْهَمَزَاتُ، وَكَانَ حَذْفُ الْوُسْطَى أَوْلَى مِنْ حَذْفِ الْأُولَى ; لِأَنَّهَا حَرْفُ مَعْنًى، وَمَنْ حَذَفَ الثَّالِثَةَ: لِأَنَّ الثَّالِثَةَ فَاءُ الْكَلِمَةِ: وَالْوُسْطَى زَائِدَةٌ.
وَإِذَا أَرَدْتَ تَبْيِينَ ذَلِكَ فَقُلْ: إِنَّ آمَنَ أَرْبَعَةُ أَحْرُفٍ، فَهُوَ مِثْلُ دَحْرَجَ، فَلَوْ قُلْتَ: أُدَحْرِجُ لَأَتَيْتَ بِجَمِيعِ مَا كَانَ فِي الْمَاضِي وَزِدْتَ عَلَيْهِ هَمْزَةَ الْمُتَكَلِّمِ، فَمِثْلُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي أُومِنُ، فَالْبَاقِي مِنَ الْهَمَزَاتِ: الْأُولَى، وَالْوَاوُ الَّتِي بَعْدَهَا مُبْدَلَةٌ مِنَ الْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ، وَالْهَمْزَةُ الْوُسْطَى هِيَ الْمَحْذُوفَةُ، وَإِنَّمَا قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ السَّاكِنَةُ وَاوًا لِسُكُونِهَا وَانْضِمَامِ مَا قَبْلَهَا، فَإِذَا قُلْتَ " نُؤْمِنُ، وَتُؤْمِنُ، وَيُؤْمِنُ، جَازَ لَكَ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْهَمْزُ عَلَى الْأَصْلِ.
1 / 17
وَالثَّانِي: قَلْبُ الْهَمْزَةِ وَاوًا تَخْفِيفًا، وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ الْوُسْطَى حَمْلًا عَلَى أُومِنُ، وَالْأَصْلُ يُؤَأْمِنُ، فَأَمَّا أُومِنُ فَلَا يَجُوزُ هَمْزُ الثَّانِيَةِ بِحَالٍ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَ(الْغَيْبِ) هُنَا: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَيْ يُؤْمِنُونَ بِالْغَائِبِ عَنْهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ ; أَيِ الْمَغِيبِ كَقَوْلِهِ: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ) [لُقْمَانَ: ١١] ; أَيْ مَخْلُوقُهُ. وَدِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ أَيْ مَضْرُوبُهُ.
قَوْلُهُ ﷿: (وَيُقِيمُونَ) أَصْلُهُ يُؤَقْوِمُونَ، وَمَاضِيهِ أَقَامَ، وَعَيْنُهُ وَاوٌ ; لِقَوْلِكَ فِيهِ يَقُومُ، فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ كَمَا حُذِفَتْ فِي أُقِيمَ لِاجْتِمَاعِ الْهَمْزَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا فِيهِ حَرْفُ مُضَارَعَةٍ لِئَلَّا يَخْتَلِفَ بَابُ أَفْعَالِ الْمُضَارَعَةِ. وَأَمَّا الْوَاوُ فَعُمِلَ فِيهَا مَا عُمِلَ فِي نَسْتَعِينُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَأَلِفُ الصَّلَاةِ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ لِقَوْلِكَ صَلَوَاتٌ. وَالصَّلَاةُ مَصْدَرُ صَلَّى. وَيُرَادُ بِهَا هَاهُنَا الْأَفْعَالُ وَالْأَقْوَالُ الْمَخْصُوصَةُ، فَلِذَلِكَ جَرَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ غَيْرِ الْمَصَادِرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ): مِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ (يُنْفِقُونَ)، وَالتَّقْدِيرُ: وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ; فَيَكُونُ الْفِعْلُ قَبْلَ الْمَفْعُولِ كَمَا كَانَ قَوْلُهُ (يُؤْمِنُونَ) وَ(يُقِيمُونَ) كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ الْفِعْلُ عَنِ الْمَفْعُولِ لِتَتَوَافَقَ رُءُوسُ الْآيِ. وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَرَزَقْنَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَقَدْ حُذِفَ الثَّانِي مِنْهُمَا هُنَا، وَهُوَ الْعَائِدُ عَلَى مَا، تَقْدِيرُهُ رَزَقْنَاهُمُوهُ، أَوْ رَزَقْنَاهُمْ إِيَّاهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِمَعْنَى شَيْءٍ ; أَيْ وَمِنْ مَالٍ رَزَقْنَاهُمْ ; فَيَكُونُ رَزَقْنَاهُمْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةٌ لِمَا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ لَهُ مَوْضِعٌ ; لِأَنَّ الصِّلَةَ لَا مَوْضِعَ لَهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةٌ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُنْفِقُ
1 / 18
وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ غَايَةِ الْإِنْفَاقِ.
وَأَصْلُ (يُنْفِقُونَ) يُؤَنْفِقُونَ ; لِأَنَّ مَاضِيَهُ أَنْفَقَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤»
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وَمَا هَاهُنَا بِمَعْنَى الَّذِي وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً أَيْ بِشَيْءٍ أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِأَنَّهُ لَا عُمُومَ فِيهِ عَلَى هَذَا وَلَا يَكْمُلُ الْإِيمَانُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِجَمِيعِ مَا أُنْزِلَ إِلَى النَّبِيِّ وَمَا لِلْعُمُومِ وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الْإِيمَانُ.
وَالْقِرَاءَةُ الْجَيِّدَةُ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَةِ. وَقَدْ قُرِئَ فِي الشَّاذِّ (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ.
وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ سَكَّنَ لَامَ أُنْزِلَ، وَأَلْقَى عَلَيْهَا حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ فَانْكَسَرَتِ اللَّامُ وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ فَلَقِيَتْهَا لَامُ إِلَى فَصَارَ اللَّفْظُ بِمَا (أُنْزِلْ لَّيْكَ)، فَسُكِّنَتِ اللَّامُ الْأُولَى، وَأُدْغِمَتْ فِي اللَّامِ الثَّانِيَةِ، وَالْكَافُ هُنَا ضَمِيرُ الْمُخَاطَبِ، وَهُوَ النَّبِيُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الْجِنْسِ الْمُخَاطَبِ، وَيَكُونَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي آيٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبِالْآخِرَةِ) الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ (يُوقِنُونَ)، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْمَلَ الْخَبَرُ فِيمَا قَبْلَ الْمُبْتَدَأِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ جَائِزٌ، إِذِ الْمَعْمُولُ لَا يَقَعُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقَعُ فِيهِ الْعَامِلُ، وَالْآخِرةُ صِفَةٌ، وَالْمَوْصُوفُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَبِالسَّاعَةِ الْآخِرَةِ، أَوْ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ: (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) وَقَالَ: (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [الْبَقَرَةِ: ٦٢، ١٢٦، ١٧٧] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُمْ يُوقِنُونَ) هُمْ مُبْتَدَأٌ ذُكِرَ عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ، وَلَوْ قَالَ وَبِالْآخِرَةِ يُوقِنُونَ لَصَحَّ الْمَعْنَى، وَالْإِعْرَابُ، وَوَجْهُ التَّوْكِيدِ فِي هُمْ تَحْقِيقُ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَذْكُورِينَ لَا إِلَى غَيْرِهِمْ، وَيُوقِنُونَ الْخَبَرُ،
1 / 19