بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الحمد لله الذي أعطى كل نفس خلقها وهداها وألهمها فجورها وتقواها؛ وأعلمها منافعها ومضارها وابتلاها وعافاها، وأماتها وأحياها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أرسله رحمة لمن زكاها، ونقمة على من دساها، لقوله تعالى:
{قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها} الآية.
صلى الله عليه وسلم، وعلى آله صلاة دائمة إلى يوم نشرها وبشراها.
قال الشيخ الإمام العالم العامل المحدث الحافظ، أبو عبد الله، محمد بن أحمد ابن عثمان الذهبي:
وبعد، إن الواجب على كل مسلم أن يتقرب إلى الله تعالى بكل ما يمكنه من القربات، ويستفرغ وسعه في القيام بالأوامر والطاعات، وأنفع الوسائل وأنجح القربات، بعد امتثال الطاعات واجتناب المنهيات، ما يعود نفعه على الناس من حفظ صحتهم، ومداواة أمراضهم، إذ العافية أمر مطلوب في الأدعية الشرعية والعبادات.
Bogga 63
وقد استخرت الله تعالى في جمع شيء من الأحاديث النبوية الطبية، والآثار الطبيعية الحكيمة، ما الحاجة إليه ضرورية، في حفظ الصحة الموجودة، ورد المفقودة، مستعينا بالله سبحانه وتعالى، مبتغيا وجه الله تعالى ورضوانه، وهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم:
إن تجد عيبا فسد الخللا ... جل من لا عيب فيه وعلا
Bogga 64
تفسير رموز الكتاب
البخاري: خ، ومسلم: م، والترمذي: ت، وأبو داود: د. والنسائي: س، وابن ماجه: ق. وقد رتبت هذا الكتاب على ثلاثة فنون:
الأول: في قواعد الطب، علمه وعمله.
والثاني: في الأدوية والأغذية.
والثالث: في علاج الأمراض.
[الفن الأول: في قواعد الطب علمه وعمله]
فالأول يشتمل على جملتين:
[الجملة الأولى]: في قواعد الجزء العلمي، وتشتمل على أربعة أجزاء:
الجزء الأول من أجزاء الجزء العلمي في الأمور الطبيعية
فالطب ينقسم إلى جزء علمي وجزء عملي.
فالعلمي أجزاؤه أربعة: العلم بالأمور الطبيعية، والعلم بأحوال بدن الإنسان، والعلم بالأسباب، والعلم بالعلامات.
فالأمور الطبيعية سبعة:
أحدها: الأركان، وهي أربعة: النار، وهي حارة يابسة، والهواء ، وهو رطب حار، والماء، وهو بارد رطب، والأرض، وهي يابسة باردة.
Bogga 65
وثانيها: المزاج، وأقسامه تسعة: واحد معتدل وغير معتدل، إما مفرد، وهو أربعة: حار وبارد ورطب ويابس، وإما مركب، وهو أربعة: حار يابس، وحار رطب، وبارد يابس، وبارد رطب.
فأعدل أمزجة الحيوان مزاجا: مزاج الإنسان، وأعدل أمزجة الإنسان [مزاجا] مزاج المؤمنين، وأعدل المؤمنين مزاجا مزاج الأنبياء عليهم السلام، وأعدل الأنبياء مزاجا مزاج الرسل صلوات الله عليهم وسلامه، وأعدل الرسل مزاجا مزاج أولي العزم، وأعدل أولي العزم مزاجا مزاج سيدنا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحيه وسلم أجمعين.
قلت: والسبب الذي به صار رسول الله صلى الله عليه وسلم أعدل الخلق مزاجا: أن [من] قواعد الأطباء أن أخلاق النفس تابعة لمزاج البدن، فكلما كانت أخلاق النفس أحسن كان مزاج البدن أعدل، وكلما كان مزاج البدن أعدل، كانت أخلاق النفس أحسن.
إذا علم ذلك، والحق سبحانه وتعالى قد شهد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه على خلق عظيم. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن)، فلزم من ذلك أن مزاجه أعدل الأمزجة، وكانت أخلاقه أحسن الأخلاق.
روى البخاري في صحيحه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا).
Bogga 66
وقال أنس: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أف قط، ولا لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته) رواه ت.
وقال ابن عمرو: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا).
وكان يقول: (خياركم أحسنكم أخلاقا).
وروى البخاري: أن أعرابيا جبذ الرداء عن عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم جبذة شديدة حتى أثر ذلك في عنقه، ثم قال: يا محمد: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتف إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء)).
فهو النبي الطاهر المطهر، أحسن الناس خلقا وخلقا، صلى الله عليه وسلم وعلى آله صلاة دائمة لا منتهى لها ولا آخر.
لم يخلق الرحمن مثل محمد ... أبدا وعلمي أنه لا يخلق
شمس ضحاها هلال ليلتها ... در مقاصيرها زبرجدها
وفيه أيضا قال:
فله مقام لم ينله مرسل ... وله عليهم رتبة علياء
والشباب أعدل، والصبيان أرطب، والكهل والشيخ أبرد.
وأعدل الأعضاء مزاجا جلد أنملة السبابة ثم جلد الأنامل.
وأحر الأعضاء القلب ثم الكبد ثم اللحم، وأبردها العظم ثم العصب ثم النخاع ثم الدماغ، وأيبسها العظم، وأرطبها السمين.
Bogga 67
وثالثها: الأخلاط الأربعة: الدم، وهو أفضلها، وهو رطب حار. فائدته تغذية البدن، والطبيعي منه حلو لا نتن به.
ثم البلغم، وهو رطب بارد، فائدته أن يستحيل دما إذا فقد البدن الغذاء، وأن يرطب الأعضاء لئلا تجففها الحركة، والطبيعي منه ما قارب الاستحالة إلى الدموية، وغير الطبيعي منه المالح، ويميل إلى الحرارة، والحامض يميل إلى البرد، والمخ وهو خالص البرد.
ثم الصفراء، وهي حارة يابسة، وعلوها المرارة، وهي تلطف الدم وتنفذه في المجاري الضيقة، وينصب جزء منها إلى الأمعاء فينبه على خروج النجو. والطبيعي منها أحمر خفيف، وغير الطبيعي فالمخي والكراني والزنجاري والاحتراقي. وهو في الزنجاري أقوى من الكراني، فلذلك ينذر بالموت، وتسمى المرة الصفراء، وينصب جزء منها إلى فم المعدة.
ثم السوداء وهي يابسة باردة، وهي تغلظ الدم وتغذي الطحال والعظام، وينصب جزء منها إلى فم المعدة فينبه على الجوع لحموضتها، والطبيعي منها دردي الدم، وغير الطبيعي يحدث عن احتراق أي خلط كان يسمى المرة السوداء.
ورابعها: الأعضاء الأصلية، وهي تتولد من المني.
وخامسها: الأرواح.
وسادسها: القوى، وهي ثلاثة: الطبيعية والحيوانية والنفسانية.
وسابعها: الأفعال، وهي الجذب والدفع.
الجزء الثاني من أجزاء الجزء العلمي في أحوال بدن الإنسان
وأحوال بدن الإنسان ثلاثة: الصحة والمرض، وحالة لا صحة ولا مرض: كالناقه والشيخ.
Bogga 68
فالصحة هيئة بدنية تكون الأفعال معها سليمة، فالعافية أفضل ما أنعم الله به على الإنسان بعد الإسلام، إذ لا يتمكن من حسن تصرفه والقيام بطاعة ربه إلا بوجودها ولا مثل لها.
فليشكرها العبد ولا يكفرها.
وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) رواه البخاري.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن لله عبادا يضن بهم عن القتل والسقم، فيحييهم في عافية، ويتوفاهم في عافية، ويعطيهم منازل الشهداء).
وقال أبو الدرداء: قلت: يا رسول الله لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ([ورسول] الله يحب معك العافية).
وروى الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(من أصبح معافى في بدنه، آمنا في سربه عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا).
Bogga 69
وروى الترمذي أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :
(أول ما يسأل عنه العبد من النعم يوم القيامة أن يقال له: ألم أصح لك جسمك وأروك من الماء البارد).
وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(يا عباس، سل الله تعالى العافية في الدنيا والآخرة) رواه البزار.
وقال صلى الله عليه وسلم :
(سلوا الله العفو والعافية، فإنه ما أوتي أحد بعد يقين خيرا من معافاة) رواه النسائي.
وعنه: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أحب إليه من العافية) رواه الترمذي.
(وسأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: ما أسأل الله تعالى بعد الصلاة؟ قال: (سل الله العافية).
وفي حكمة داود عليه السلام: العافية ملك خفي، وغم ساعة، وهرم سنة.
وقيل: العافية تاج على رؤوس الأصحاء لا يبصرها إلا المرضى.
وقيل: العافية نعمة مغفول عنها.
Bogga 70
وكان بعض السلف يقول: كم لله من نعمة تحت كل عرق ساكن.
اللهم ارزقنا العافية في الدين والدنيا والآخرة.
والمرض حالة مضادة لها، وكل مرض له ابتداء فيزيد، وانحطاط وانتهاء.
الجزء الثالث من أجزاء الجزء النظري في الأسباب
والأسباب ستة:
أحدها: الهواء، ويضطر إليه لتعديل الروح، فما دام صافيا لا يخالطه نتن و[لا] ريح خبيثة كان حافظا للصحة، فإن تغير تغير حكمه، وكل فصل فإنه يورث الأمراض المناسبة له ويزيل المضادة، فالصيف يثير الصفراء، ويوجب أمراضها ويبرئ الأمراض الباردة ، وعلى هذا [القياس] فقس في سائر الفصول.
والهواء البارد يشد البدن ويقويه ويجيد الهضم، والحار بالضد، وعند تغير الهواء يكون الوباء، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
والثاني: ما يؤكل ويشرب، فإن كان حارا أثر في البدن حرارة، وبالضد.
والثالث: الحركة والسكون البدنيان، فالحركة تؤثر في البدن تسخينا، والسكون بالضد.
والرابع: الحركة والسكون النفسانيان، كما في الغضب والفرح، والهم والغم، والخجل، فإن هذه الأحوال تحصل بحركة الروح، إما إلى داخل البدن، وإما إلى خارج، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
والخامس: النوم واليقظة؛ فالنوم يغور الروح إلى داخل البدن فيبرد البدن، ولذلك يحتاج النائم إلى الدثار، واليقظة بالضد.
والسادس: الاستفراغ والاحتباس، فالمعتدل منها نافع، حافظ للصحة.
Bogga 71
الجزء الرابع من أجزاء الجزء النظري في العلامات
فسواد الشعر والبدن دالان على الحرارة، وضد ذلك للبرودة.
وكذلك سمن البدن وفظاظته، وكثرة اللحم دال على الحرارة والرطوبة، وكثرة الشحم دال على الرطوبة والبرد.
وكذلك كثرة النوم للرطوبة، وقلته لليبس، واعتدالهما للاعتدال، وكذلك هيئة الأعضاء؛ فسعة الأعضاء للحرارة وبالضد.
وكذلك الأحلام؛ فرؤية الألوان الصفر والحمر والنيران تدل على الحرارة وبالضد.
وكذلك أحوال النبض، فعظمه وسرعته للحرارة وبالضد.
وكذلك أحوال البول والبراز؛ فحدته وحمرته وناريته للحرارة وبالضد، وكذلك [حدة] رائحته للحرارة، وعدم رائحته للبرد.
الجملة الثانية في قواعد الجزء العملي
والجزء العملي ينقسم إلى حفظ الصحة ومداواة المرض.
ولنبدأ بحفظ الصحة فنقول:
اعلم أن أخذ الغذاء في وقت الحاجة سبب لدوام الصحة، وعلامة الحاجة أن تزكى حاسة الشم، ويقل الريق في الفم، وينصبغ البول، ويحتد ريحه، ويتزايد الطلب، فعند ذلك يجب استعمال الغذاء. والمدافعة به منهكة للبدن مجففة [له]، محرقة لمزاجه، وكذلك أخذ الغذاء من غير حاجة إليه يورث البلادة، وهو أحد الأسباب في حدوث الأمراض.
Bogga 72
قال الموفق عبد اللطيف: كان من سنة الهند أنهم إذا أرادوا تناول الغذاء اغتسلوا ولبسوا الثوب النظيف وشموا الطيب وأمسكوا عن الحركات، وهجروا الرفث ثم أقبلوا على الطعام، وسيأتي الكلام على ما تيسر من هذا الكلام كله. [ليؤكل في الصيف: البارد، وفي الشتاء: الحار.
إدخال طعام على طعام آخر رديء. وكذلك الحركة بعده. قال الأطباء: الحركة قبل الطعام خير كله، كما أنها بعده شر كله].
وينبغي أن يصلح حاره ببارده، وحلوه بحامضه، ودسمه بمالحه، وقابضه بدسمه وتكثير الألوان محير للطبيعة، واللذيذ أحمد لولا الإكثار منه.
وملازمة الطعام التفه تسقط الشهوة وتوجب الكسل، وكثرة الحامض تسرع الهرم وإدمان الحلو يرخي الشهوة ويحمي البدن، والمالح يجفف البدن ويهزله.
وينبغي أن يترك الطعام وفي النفس منه بقية، وملازمة الحمية تنهك البدن وتهزله، بل هي في الصحة كالتخليط في المرض، ومراعاة العادة جيدة إلا أن تكون عادة رديئة فينتقل منها بتدريج، ومن اعتاد استمرار أغذية [رديئة] فلا يغيرها، وليحذر الطعام الخم والفاكهة العفنة.
ولحس الإناء يعين على الهضم ويفتق الشهوة، وكان صلى الله عليه وسلم يلعق أصابعه في الطعام [ثلاثا].
وقال: (إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده حتى يلعقها) متفق عليه.
وقال: (من لحس الإناء استغفر له).
Bogga 73
وقد نهى عن الجمع بين اللبن والسمك، وبين الخل واللبن، وبين الفاكهة واللبن، وبين الجبن والسمك، وبين الثوم والبصل، وبين قديد وطري، وبين حامض وحريف، وبين سماق وخل، وبين خل وأرز، وبين العنب والرؤس المغمومة، وبين رمان وهريسة، وبين غداءين باردين أو حارين أو منفخين.
وينبغي أن يجتنب الخل والدهن إذا باتا تحت إناء نحاس، وكذلك الجبن والشواء، والطعام الحار إذا كمن في خبز أو غيره، وهذا هو أحد الأسباب في تحريم الميتة.
[وكذلك] يجتنب الطعام المكشوف، والماء المكشوف، لئلا يسقط فيه حيوان سمي فيتقل آكله وشاربه، ولنهيه صلى الله عليه وسلم بقوله:
(غطوا الإناء وأوكئوا السقاء، فإن بالسنة ليلة ينزل فيها وباء من السماء لا يصادف إناء مكشوفا إلا وقع فيه من ذلك الوباء). رواه مسلم.
فكان في نهيه ما قالته الأطباء وزيادة خبر السماء [عن ذلك].
ومن أكل البصل أربعين يوما فكلف وجهه فلا يلومن إلا نفسه.
ومن اقتصد فأكل مالحا فأصابه بهق أو جرب فلا يلومن إلا نفسه.
ومن أكل السمك والبيض معا ففلج فلا يلومن إلا نفسه.
ومن شبع ودخل الحمام ففلج فلا يلومن إلا نفسه.
ومن احتلم فلم يغتسل حتى جامع فولد له مجنون أو مختل فلا يلومن إلا نفسه.
[ومن أكل الأترج ليلا فانحول، فلا يلومن إلا نفسه].
ومن نظر في المرآة ليلا فأصابته لقوة فلا يلومن إلا نفسه.
Bogga 74
وروي عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((أصل كل داء البردة). وروي أيضا عن ابن مسعود.
والبردة التخمة، لأنها تبرد حرارة الشهوة، فينبغي الاقتصار على الموافق الشهي بلا إكثار [منه].
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، يحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه).
هذا رواه النسائي والترمذي وقال: حسن صحيح؛ وأكلات جمع أكلة، وهي اللقمة، وهذا باب من أبواب حفظ الصحة.
قال علي بن الحسن بن واقد: وقد جمع الله سبحانه وتعالى الطب كله في نصف آية فقال تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا}.
Bogga 75
وقال عمر رضي الله عنه: ((إياكم والبطنة، فإنها مفسدة للجسم، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد، فإنه أصلح للجسد، وأبعد عن السرف، وإن الله ليبغض الحبر السمين)). رواه أبو نعيم.
قال أبقراط: استدامة الصحبة بعب الماء، ويترك الامتلاء من الطعام والشراب.
وقال: الإقلال من الضار خير من الإكثار من النافع.
قال الشهرستاني في كتاب (الملل والنحل): أبقراط هذا واضع الطب، قال بفضله الأوائل والأواخر. أرسل إليه ملك من ملوك اليونان بقناطير من الذهب حتى يسير إليه فأبى، وكان لا يأخذ على المعالجة أجرا من الفقراء وأوساط الناس، وقد شرط أن يأخذ من الأغنياء أحد ثلاثة أشياء: طوقا أو إكليلا أو سوارا من الذهب.
وقيل له: أي العيش خير؟ قال: الأمن مع الفقر خير من الغنى مع الخوف.
وقال: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه.
ولما حضرته الوفاة قال: خذوا جامع العلم مني: من كثر نومه، ولانت طبيعته، ونديت جلدته طال عمره.
وقال: لو خلق الإنسان من طبيعة واحدة لما مرض، لأنه لم يكن هناك شيء يضادها فيمرض.
ودخل على عليل فقال: [له]: أنا وأنت والعلة ثلاثة، فإن أعنتني عليها بالقبول مني صرنا اثنين وانفردت العلة فقوينا عليها، والإثنان إذا اجتمعا على واحد غلباه.
وقيل لأبقراط: لم ثقل الميت؟ قال: لأنه: كان اثنين، خفيف رافع وثقيل واضع، فلما انصرف أحدهما وهو الخفيف الرافع، ثقل الواضع.
وقال لتلميذ له: ليكن أفضل وسيلتك للناس، محبتك لهم، والتفقد لأمورهم، ومعرفة حالهم، واصطناع المعروف إليهم.
Bogga 76
قال: كل كثير فهو مضاد للطبيعة، فلتكن الأطعمة والأشربة والجماع قصدا.
وقال: من سقى السم من الأطباء، وألقى الجنين، ومنع الحبل، واجترأ على المريض فليس من شيعتي. وله أيمان معروفة على هذه الشرائط المذكورة ستأتي [فيما] بعد إن شاء الله تعالى.
وكتبه كثيرة في الطب، من جملتها كتاب ((الفصول))، وكتاب ((تقدمة المعرفة))، وكتاب ((قبر أبقراط))، وهذا الكتاب يشهد منه العجب. فإنه كان قد دفنه في قبره فجاء بعض ملوك اليونان ففتح القبر فوجد هذا الكتاب معه في القبر.
وسئل الحارث بن كلدة طبيب العرب: ما الدواء؟ قال اللازم: يعني الجوع. وقيل: فما الداء؟ قال: إدخال طعام على طعام.
قال ابن سينا: احذر طعاما قبل هضم طعام.
واعلم أن الشبع بدعة ظهرت بعد القرن الأول.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).
Bogga 77
ولا تدخل الحكمة معدة ملئت طعاما، فمن قل طعامه قل شربه، ومن قل شربه خف منامه، ومن خف منامه ظهرت بركة عمره. ومن امتلأ بطنه كثر شربه، ومن كثر شربه ثقل نومه، ومن ثقل نومه محقت بركة عمره.
فإذا اكتفى بدون الشبع، حسن اغتذاء بدنه، وصلح حال نفسه وقلبه. ومن تملى من الطعام شيئا، غذا بدنه، وأشرت نفسه، وقسا قلبه. فإياكم وفضول المطعم، فإنه يسم القلب بالقسوة، ويبطئ بالجوارح عن الطاعة، ويصم الأذان عن السماع للموعظة، والطعام السخن مذموم، ونهى عنه صلى الله عليه وسلم .
وكذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن الأكل متكئا ، رواه البخاري. قال أبي بن كعب: لأن هذا فعل الجبابرة.
وكان عليه السلام لا ينفخ في طعام ولا شراب ولا يتنفس في الإناء. والتمشي بعد العشاء نافع، وتجزئ عنه الصلاة ليستقر الغذاء بقعر المعدة، فيجود هضمه.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(أذيبوا طعامكم بذكر الله تعالى والصلاة، ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم ولا تكثروا من الحركة عليه فتضروا، ولا تتركوا العشاء فتهرموا). رواه أبو نعيم.
Bogga 78
يروى عن أنس مرفوعا:
(تعشوا ولو بكف من حشف، فإن ترك العشاء مهرمة) رواه الترمذي.
وعن جابر مرفوعا: (لا تدعوا العشاء ولو بكف من تمر، فإن تركه يهرم). رواه ابن ماجه.
وينبغي أن يغسل اليدين من الذفر، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا بات أحدكم وفي يده غمر فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه).
ويروى عنه عليه الصلاة والسلام:
(الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي الهم).
قال أفلاطون: ((من عرض نفسه على الخلاء قبل النوم دام له حسن صورته)).
وقد أمر صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث البراء بن عازب بقوله:
(إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة) الحديث صحيح.
Bogga 79
فصل [في شرب الماء]
ولا يشرب الماء عقيب أخذ الطعام ولا في خلاله، وليشرب نصف ما يرويه فهو أهضم لطعامه، وليجتنب الشديد البرد فإنه مؤذ لآلات النفس، ولا سيما بعد الطعام الحار، وعلى الحلو، وعقيب الفاكهة، والحلوى، والحمام، والجماع، ولا يجمع بين ماء البئر وماء النهر.
(ولا تعب الماء عبا، فإن الكباد من العب) رواه البيهقي.
الكباد: وجع في الكبد. والعب: جرع الماء جرعا كبيرا.
وروي عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الشراب ثلاثا ويقول: إنه أروى وأبرأ وأمرأ. قال أنس رضي الله عنه: وأنا أتنفس في الشراب ثلاثا) هكذا أخرجه مسلم.
وروى أبو نعيم: (أنه كان إذا شرب صلى الله عليه وسلم قطع ثلاثة أنفاس، يسمي الله إذا بدأ، ويحمده إذا قطع).
والشراب هنا هو الماء، لأن الشراب في اصطلاح الأطباء هو الخمر.
Bogga 80
وفي رواية الترمذي: (كان صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا ويشرب مصا).
والمراد بالنفس، في هذا الحديث، الشرب بثلاثة أنفاس، يفصل فاه عن الإناء.
وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن التنفس في الإناء فالمراد به لمن يشرب وهو يتنفس في الإناء من غير إبانة عن فيه، فربما يخرج من الريق شيء في المشروب، وقد ينتن الإناء مع تكرر ذلك، فلا معارضة إذا بين تنفسه وبين نهيه.
وأما تقسيمه الماء، فإن فيه مصلحة عظيمة، وذلك أن الحاجة قد تدعو إلى تناول الكثير من الماء لشدة العطش، فلا يؤمن من تناوله دفعة انطفاء الحرارة، وتقسيمه أمان من ذلك.
وأما فائدة التنفس، فإن التنفس يبطل في زمن الازدراد، والحاجة تشتد إلى الماء والنفس، فإذا تنفس ولج شيء من الماء في مجرى النفس فكانت سببا للاختناق أو الشرق، فإذا تنفس الشارب في خلال شربه أمن من ذلك.
وأما كونه ثلاثة أنفاس، فإنه لا حاجة إلى أكثر من ذلك. وينبغي لكل شارب أن يتنفس ثلاثة أنفاس اقتداء بفعل نبيه صلى الله عليه وسلم .
وأما كونه أروى: أي أشد ريا من تناوله دفعة.
وأما أبرأ فهو من برأ من مرضه إذا صح، أي أشد في البراء لما يشرب من أجله. وأما أمرأ أي أخف لأنه من مرئ الطعام أي أشهى. فهذه دقائق حكمية، وحقائق نظرية، يعجز عن جزالتها غير ذوي البصائر، ويقتصر عليها حكماء الأوائل والأواخر، فصلوات الله وسلامه على هذا النبي الطيب الطاهر، صلاة دائمة لا نهاية لها ولا آخر.
وقال أنس رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائما).
قال الخطابي: هذا نهي تنزيه وتأديب.
Bogga 81
وأجاز الشرب قائما عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وجمهور الفقهاء وكرهه قوم. وقد شرب صلى الله عليه وسلم قائما.
(وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية).
معناه أن يثني رأسها ويشرب منها. رواه البخاري.
وقال ابن عباس: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرب من في السقاء). رواه البخاري.
وعلة ذلك أنه لا يدري ما يأتي إلى فيه، لأنه قد يكون في الماء علقة أو غيرها فتقف في حلقه، وقد حكي مثل هذا.
وقد روى ابن ماجه عن ابن عباس قال:
(كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدح من قوارير يشرب فيه).
قال الموفق عبد اللطيف: الزجاج فاضل للشرب، والهنود تفضله، وملوكها تشرب فيه وتختاره على الذهب والياقوت، لأنه قل ما يقبل الوضر، ويرجع بالغسل جديدا. ويرى فيه كدر الماء وكدر المشروب، وقل ما يقدر الساقي أن يدس فيه السم، وهذا أشرف الخلال التي دعت ملوك الهند إلى اتخاذه.
فصل تدبير الحركة والسكون البدنيين
Bogga 82