The Quranic Phenomenon
الظاهرة القرآنية
Baare
(إشراف ندوة مالك بن نبي)
Daabacaha
دار الفكر
Lambarka Daabacaadda
الرابعة
Sanadka Daabacaadda
١٤٢٠ هـ -٢٠٠٠م
Goobta Daabacaadda
دمشق سورية
Noocyada
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
***************
الظاهرة القرآنية
دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان
دار الفكر-دمشق سورية
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الظاهرة القرآنية
1 / 2
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
الظاهرة القرآنية
ترجمة عبد الصبور شاهين
تقديم محمد عبد الله دراز - محمود محمد شاكر
بإشراف ندوة مالك بن نبي
دار الفكر
دمشق-سورية
1 / 3
جميع الحقوق محفوظة
١٤٢٠ هـ =٢٠٠٠م
ط٤: ١٩٨٧م
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في عام ١٩٧١م ترك أستاذنا مالك بن نبي- ﵀ في المحكة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم ٢٧٥/ ٦٧ في ١٦ ربيع الثاني ١٣٩١ هـ الموافق ١٠ حزيران ١٩٧١م، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والادبية. وتحملا مني لهذه الرسالة، ووفاء لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذا لوصية المؤلف " ندوة مالك بن نبي ".
والتسمية هذه دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجا في دراسة المشكلات، كان قد بدأه.
وهي مشروع نطرحه بوصفه نواة لعلاقات فكرية، كان ﵀ يرغب في توثيقها.
وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو غيرها مترجما من قبل المترجمين أوغير مترجم. فقد حملني- ﵀ مسؤولية حفظ هذه الحقوق والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادرمن قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها.
طرابلس لبنان ١٨ ربيع الأول ١٣٩٩هـ
١٥ شباط (فبراير) ١٩٧٩م
عمر مسقاوي
1 / 5
الإهداء
إلى روح أمي ...
إلى أبي ...
الوالدين اللذين قدما لي في المهد أثمن الهدايا ... هدية الإيمان
مالك
1 / 7
تلبية لرغبة العديد من القراء، عمدنا إلى ترجمة المقدمة، التي صدر بها المرحوم فضيلة الدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز، الطبعة الفرنسية من كتاب (الظاهرة القرآنية) عام ١٩٤٧م.
وحينما ننشر "لأول مرة" مقدمة الشيخ دراز للطبعة الفرنسية، نكون قد أتممنا نشر وثائق هذا الكتاب، الذي استقبله قراء العربية بالاهتهام والتقدير.
والأستاذ الدكتور دراز من كبار العلماء الذين خدموا القرآن والفلسفة وعلم الأخلاق، ومن الرواد الأزهريين الأوائل، الذين اتصلوا بالثقافة الغربية، وأوسعوا لها فسيحًا من علمهم وعميقا من تأملهم. وهو من الذين بلغوا الفكر الإسلامي بوسائل الحضارة الحديثة لغة ومنهجا.
لذا تبدو مقدمة الدكتور دراز، صدى لذلك التكوين الفكري المتأثر بالديكارتية بوصفها منهج تفكير. وهي من هذا الجانب، تبرز لنا ما للثقافة الغربية وما لفلاسفتها من نفوذ على مناهج التفكير ذي الأصول الأزهرية في تلك الفترة من الزمن.
على أن أهمية هذه المقدمة تبدو في تلك الإيضاحات التاريخية، على هامش الفكرة الأساسية، التي تنتظم كتاب الظاهرة، وفي تلك الدعوة إلى تطوير وسائل تفكيرنا كلما تطورت وسائل العلم، وفي إبراز المنهج القرآني خطة موضوعية تستهدف الحقيقة المطلقة. وهي إذا أضفناها إلى مقدمة الأستاذ الكبير محمود محمد شاكر استقام لنا كتاب الظاهرة القرآنية خطة في إرساء العقيدة عن طريق العقل والإيمان معًا.
عمر مسقاوي
1 / 8
مقدمة الطبعة الفرنسية
للمرحوم الدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز
عزيزي السيد بن نبي
فرغت لتوي من قراءة كتابك القيم (الظاهرة القرآنية)، ومما أعطى لموضوعك أهمية كبرى أنه قديم وحديث معًا.
ففي ضوء العلم الحديث، ولجت قضية رئيسية ما فتئت تشغل المفسرين في كل زمن. ولعلي أنا لامستها في دراسات عديدة سابقة، سواء ما كان منها بالعربية أو الفرنسية.
إن الغبطة التي شعرت بها وأنا أقرؤه، لهي من العمق بقدر ما أتاحت لي هذه القراءة أن أدرك من جديد، ذلك الجهد الجاد المستقل والمتجرد، يقود الباحثين عن الحقيقة إلى نتائج متماثلة بل موحدة على الرغم من المسافة التي يمكن أن تفصل بينهم في الم كان والزمان.
وإذا نحينا جانبًا أسلوبك الفني في الكتابة، وطريقتك الرائعة في عرض الأشياء، فإننا نجد طرقنا في الدراسة متشابهة بصورة بارزة.
ليس هذا فحسب، بل من غير النادر أن يحمل تفحصنا للأمر المثل نفسه وأن يشير إلى المعنى ذاته.
إن المسألة هي في البحث عن المصدر الحقيقي للقرآن. وأن نعرف ما إذا كان يمكن أن يكون هذا الكتاب قد استخرج من علم أو إدراك من أرسل به. أو من
1 / 9
معرفة بشرية على وجه العموم، أم أنه على العكس من ذلك، هنالك أسباب لا يمكن دفعها تحدونا للأعتقاد بمصدره العلوي الإلهي.
تلك هي المسألة التي جئتَ بدورك تلزم نفسك بالعمل على حلها، بإيجاد الأسس الثابتة والعقلية، للإيمان بالمصدر الإلهي لهذا الكتاب، وتسليط الأضواء عليها.
وإذا كان المفسرون التقليديون، توصلًا إلى الهدف نفسه، قد أكدوا بصورة خاصة على الجانب الأدبي من المسألة، فإن هذا الموقف على كل حال يجد تفسيره وما يسوغه في المسلمة الأعم للقرآن. تلك المسلمة التي تميز بها الأسلوب القرآني في جمال لا يضاهى وجلال مميز، وبالاعتراف الفوري بالعجز عن الإتيان بمثله، وهو الوجه الأقرب منالًا لسائر البلغاء من البدو. على أنه من الصحيح أيضًا أن هؤلاء المفسرين، وهم ينظرون في محتوى القرآن، قد رأوا في اتساع وعمق المعرفة التي يحملها للإنسانية، دليلًا في ذاته على خصائصه التي تتجاوز طاقة البشر، وأن التعارض بين توجيه بعض الآيات، كآية ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب ٣٣/ ٣٧] مثلًا، والمشاعر الشخصية للرسول ﷺ، لشهادة لا تُرَدُّ على استقلالية القرآن عن النبي.
فهل يمكن أن يقال إن هذه النتائج المستخلصة من قبل أجدادنا، تجعل كل محاولة لتفسير جديد عديمة الجدوى؟.
هل يقال إن واجبنا يتحدد من الآن فصاعدًا، بتدوين هذه النتائج الجاهزة، وبالنظر إليها كأنها الكلمة الأخيرة حول حقيقة الأشياء؟.
كلا، ثم كلا.
إذ أنه بقدر ما تتطور معارفنا حول الطبيعة والنفس الإنسانية، وكلما اكتسبنا سببًا جديدًا يحملنا على أن نرى الأشياء من زاوية مختلفة، فإن ذلك
1 / 10
يدعونا إلى أن نضع المشكلات حين ندرسها بما يتفق وهذا الجديد من واقع العلم.
والمسألة القرآنية لا ينبغي لها أن تخرج عن هذه القاعدة.
فإذا كان صحيحًا أن القرآن معجزة مستمرة، وإذا كانت علائم صدقه من ناحية أخرى لا تنحصر في عبارته فحسب، بل في عالمي الطبيعة والنفس أيضًا كما يقول القرآن نفسه ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت ٤١/ ٥٣].
إذا كان الأمر كذلك فإن واجبًا يقع على كل مؤمن متصل بمعطيات العلم.
إنه التقريب بين جانبي روحه: بين معتقده وعلمه. حين يواجه النصوص المنزلة، لا أقول بفرضيات العلماء التي لم تتحقق أو التي لا تقبل التحقيق، ولكن بالنتائج الثابتة والمستخرجة من تجاربهم، وأن يأخذ من تلك الواجهة ما ينتج عنها من دروس.
وإذا كان في الواقع هنالك حقيقتان، فإنه لا يحق لواحدة منهما أن تنكر الأخرى، بل على العكس من ذلك، عليها أن تؤكدها وتشد من أزرها.
وإذا اتفق لمؤمن متعلم أن ملك موهبة الكتابة فوق هاتين الصفتين من الإيمان والعلم، فإن واجبًا آخر يقع على عاتقه: إنه إخراج ثمار علمه بلغة عصره، كما يفعل نبي يخاطب قومه بلغتهم.
إنني أستطيع أن أؤكد بأنك قمت بكلا الواجبين.
فقد تأملت بنضج، ذلك الاتصال بالعقل والتراث، بالعلم والعقيدة ة وأفرغت في عرض جميل واضح ومتماسك شرارة ما تفجر من ذلك اللقاء.
فسداد حكمك، وحرارة عقيدتك، وحداثة مصطلحاتك، وجمال أسلوبك؛ هذه كلها ميزات بارزة لا أستطيع أن أفيك ما تستحق من تهنئة عليها.
1 / 11
ولكني أرى من الواجب أن أوجه كلمة إلى الشباب المثقف كيما يتفادى التباسًا يمكن أن يقع فيه حول الهدف الحقيقي من هذه الدراسة.
أريد أن أقول لهؤلاء الشباب: إن الأمر لا يعني هنا نشرة لجمع المعلومات وتخزينها في الذاكرة، ولكن نموذجًا حيًا من نقاش جدلي، فائدته الحيوية الكبرى بما يذكي من الطاقة الروحية لسائر القراء القادرين على التفكير بمنهجية، كما يضع كل منهم بدوره قضية (الحقيقة) ويبحث بوسائله الذاتية عما يتعين عليه اتخاذه في سبيلها.
فإذا استطاعت نشرة من هذا النوع أن تخدم بوصفها علاجًا للتشكك الديني فتلك زيادة في الخير، إنما يبقى الهدف الأساسي قبل كل شيء محاربة اللامبالاة حول مسألة (الحقيقة العلوية).
على كل حال فإن دراسة كهذه، لا تفكر في أن تفرض نفسها على أنها نوع من العقيدة، نقبله بعيون مغمضة وبغير نقاش. فهذا على ما يبدو لي أبعد ما يكون عن فكر المؤلف، فضلًا عن أنه يتنافى مع المبادئ القرآنية التي يدافع عنها.
فالقرآن لم يعلن فحسب بأن الإيمان لا يفرض من الخارج، ولكنه أدان بقوة كل اتباع أعمى يلقي بزمامه إلى سلطة لا تستند إلى العقل. وقد دعا دائمًا باستمرار إلى التأمل الفردي المنسحب من تأثير الوسط الخارجي والأفكار المسبقة، ومن كل فكرة مستقاة بعفوية دون تمحيص.
إن (ديكارت) لم يفعل غير ذلك، حينما رفض أسلوب الهيمنة، مطالبًا بحق العقل، مؤكدًا واجب كل امرئ بألا يأخذ بغير الثابت والبديهي الذي لامراء فيه.
أكثر من هذا؛ ففي هذا الإطار يبدو لنا المذهب الديكارتي من هذه الناحية، أقل تشددًا وتمسكًا من القرآن.
1 / 12
فمن المعروف بأية عناية أوضح الفيلسوف الفرنسي تأملاته، وهو يضع تلك القاعدة المنهجية التي لا تقبل غير الأفكار الواضحة والمحددة. فهو لم يشأ بذلك التكلم عن الأمور التي تنظر إلى الإيمان والمثل، ولكن عن الحقائق المجردة التي لا يمكن معرفتها إلا بالضوء الطبيعي وحده.
فإذا كان (ديكارت) قد اضطر إلى مثل هذا التحفظ، لأنه يعد الإيمان المسيحي تكتنفه أمور غامضة بوصفه موضوعًا، فمنذا الذي لا يرى أن هذا التحفظ لا محل له في العقيدة القرآنية؟.
مهما يكن من أمر فإنني لا أرى جيدًا السبب الذي يستطيع أن يسوغ التقليل من شأن الفكر الديكارتي. فهناك انطباع بأنك تضعف بطريقة منهجية من شأن هذا الفكر، كما لو أن ديكارت ذلك الوجه الكبير في الفلسفة الحديثة، كان كافرًا أو متشككًا أو رجلًا يعتقد بسذاجة، بكمال الفكر الإنساني واستقلاليته المطلقة تجاه كل تحسس خارجي، مستمد من الطبيعة أو مما هو فوق الطبيعة.
ولهذا أتمنى أن تحمل الطبعات القادمة ما يبدد بعناية هذا الالتباس.
وهناك ملاحظة أخرى صغيرة.
إنها تتعلق بحياة محمد ﷺ.
يبدو لي أنك أخذًا بتأكيدات بعض المستشرقين، قبلت بدون صعوبة افتراضهم حول مدة اعتكاف النبي قبل نزول الوحي.
فنحن نعلم موضوعهم المفضل في هذا الإطار.
إنه يرتكز على القول إنها فترة احتضان وتخمر للأفكار الدينية التي سبقت وضوح القرآن في الوعي المحمدي.
وبما أن فكرة تهدف لعمل واسع عظيم كالقرآن، لا يمكن التصور بأن تتحدد
1 / 13
معالمها بين ليلة وضحاها، ويقتضي لها الوقت الضروري والطبيعي لتحضيرها، فإن هؤلاء الكتاب قد التزموا جانب الافتراض، وافترضوا لهذا الاعتزال مدة تمتد عبر سنين عديدة.
وهكذا تحتم على محمد أن يختفي منذ زواجه في سن الخامسة والعشرين، ليفرغ إلى تأملاته، ولا يعود للظهور إلا وهو يحمل رسالته ذات صباح.
وعلى الرغم من أنك جهدت في تفنيد ورفض فكرة الاعتكاف هذه، فإنك تبدو مع ذلك قد أفسحت المجال لوجود خلفية وسند مادي لها، أعني بذلك انطواء الرسول لمدة خمسة عشر عامًا.
إن فرضية غياب كهذا، ليست فحسب مجانبة لا سند لها، بل إنها غير صحيحة على الإطلاق من الوجهة التاريخية.
فالمصادر الوثيقة جدًا تحدد في الواقع تاريخ هذا الاعتكاف بالضبط بشهر قبل نزول القرآن. كما تحدد بدقة أكثر أن هذا الشهر تخللته عودة إلى منزله مرات عدة كليما يتزود. وقد سبقت هذا الشهر أيضًا رؤى واضحة كان يراها الرسول في منامه ثم ما يلبث أن يجدها حقيقة كفلق الصبح.
لقد حدثت هذه الإرهاصات جميعها في الأربعين من عمره، أي في عام هبوط الوحي.
وإذا ذهبنا بعيدًا، وافترضنا جدلًا أن هذا الشهر من الاعتكاف، قد داوم عليه الرسول في كل عام، منذ زواجه وحتى نزول الوحي؛ يبقى أن نلاحظ بأن أحد عشر من اثني عشر شهرًا من سني حياته في هذه الفترة قد قضاها في محيط اجتماعي، وأمام أعين مواطنيه.
والقرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [يونس ١٦/ ١٠] إنما يستخرج
1 / 14
بالضبط، حجة من استمرار إقامة الرسول بين قومه فترة واسعة وكافية، ليدرك الناس جميعًا ميزاته واهتماماته، وعجزه الشخصي عن القيام بوضع آيات القرآن.
فماذا كانت أعماله في تلك المرحلة الانتقالية؟.
هناك حدث محدد وأكيد على الأقل. ففي نحو الثلاثين من عمره شارك في إعادة بناء الكعبة. ومن المعلوم من ناحية أخرى أنه تحمل بكفاءة ونشاط أعباءه العائلية؛ إذ رزق أكثر أولاده قبل قيامه بالرسالة.
وإذا كنا لا نملك تفاصيل أكبر حول أعماله اليومية قبل البعثة، فمرد ذلك بدون شك، إلى أنه فيما عدا المسلمة البارزة لعظيم أخلاقه، لا نجد في تلك الفترة من الزمن أمرًا منفصلًا عن مألوف وسطه يمكن التحدث عنه.
فسكوت سائر رجال السيرة، عن التفصيلات الإضافية في هذا الخصوص، نقطة نسجلها كما لاحظت بحق، لصالح التراث الإسلامي الذي تحلى دائمًا بأمانة تاريخية متشددة إلى أقصى حد، حين عزف عن كل توسيع أو تقليص، للمعطيات الثابتة التي يجدها في متناوله، سواء كانت هذه المعطيات لصالح قضيته أو في غير صالحها.
بعد هذا كله، أعود لأهنئك مرة أخرى على واسع الجهد، الذي به نجحت في إلقاء ضوء جميل حول المسألة الدينية في عمومها، وحول الفكر القرآني خاصة، كيما تسهم في دعم الأساس العقلاني للإيمان.
فعساك تجد أعظم ثوابك في ذلك النجاح المعنوي الذي يستحقه كتابك. وعسى نداؤك المنطقي والشاعري الذي أطلقته ليلامس أصحاب العقول النيرة، يتسرب إلى عميق نفوسهم فيبعث فيهم من جديد حياة القلب والعقل معًا.
باريس ١٥ أيلول (سبتمبر) ١٩٤٦م
محمد عبد الله دراز
أستاذ في الأزهر الشريف
1 / 15
شكر وتنبيه
كان من فضل الله أن تولى أستاذنا الكبير (محمود محمد شاكر) تقديم كتاب (الظاهرة القرآنية) إلى القراء، هذا التقديم الثمين، الذي يعد بحق من أروع ما كتب في مسألة اتصال بيان العرب في الجاهلية بقضية (إعجاز القرآن).
وإني لأرجو الله مخلصًا أن يتولى عنا جزاء أستاذنا بقدر ما بذل من جهده، وما ضحى من وقته على عظيم تبعاته وخطر مسؤولياته.
وإني لأتقدم بالشكر هنا إلى الأستاذ الدكتور (محمود قاسم) رئيس قسم الدراسات الفلسفية بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة، على توجيهاته التي أفدت منها كثيرًا، وإلى الأستاذ المحدث (محمد فؤاد عبد الباقي) على تفضله بتحقيق ما عسر علي تحقيقه من أحاديث الكتاب، وهي التي رمزنا إليها في الهامش بحرف (ف).
والحمد لله الذي هدانا لهذا. وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المترجم
1 / 16
تقديم
فصل في إعجاز القرآن
للأستاذ محمود محمد شاكر
الحمد لله وحده لا شريك له، حمدا يقربنا إلى رضوانه، وصلاة الله وسلامه على نبيه المصطفى من أبناء الرسولين الكريمين إبراهيم وإسماعيل، صلاة تزلفنا إلى جنته.
...
هذا كتاب (الظاهرة القرآنية)
وكفى، فليس عدلا أن أقدم كتابًا هو يقدم نفسه إلى قارئه. وبحسب أخي الأستاذ مالك بن نبي وبحسب كتابه أن يشار إليه، وإنه لعسير أن أقدم كتابًا هو نهج مستقل، أحسبه لم يسبقه كتاب مثله من قبل. وهو منهج متكامل يفسره تطبيق أصوله، كما يفسره حرص قارئه على تأمل مناحيه. ولا أقول هذا ثناء، فأنا أعلم أن رجلا أثنى على رجل عند النبي ﷺ فقال له: " ويلك! قطعت عنق صاحبك "، قالها ثلاثا. ومالك أعزُّ عليَّ من أن أقطع عنقه بثنائي أو أهلكه بإطرائي.
ولكن أحسبني من أعرف الناس بخطر هذا الكتاب، فإن صاحبه قد كتبه لغاية بيّنها، ولأسباب فصّلها. وقد صهرتني المحن دهرًا طويلًا، فاصطليت
1 / 17
بالأسباب التي دعته إلى اتخاذ منهجه في تأليف هذا الكتاب ثم أفضيت إلى الغاية التي أرادها، بعد أن سلكت إليها طرقًا موحشة مخوفة. وقد قرأت الكتاب وصاحَبتُه، فكنت كما قرأت منه فصلا وجدت نفسي كالسائر في دروب قد طال عهدي بها، وخيل إليَّ أن مالكًا يؤلف هذا الكتاب إلا بعد أن سقط في مثل الفتن التي سقطتُ فيها من قبل، ثم أقال الله عثرته بالهداية فكان طريقه إلى المذهب الصحيح، هو ما ضمنه كتابه من بعض دلائل إثبات إعجاز القرآن، وأنه كتاب منزّل، أنزله الذي يعلم الخبء في المسلموات والأرض، وأن مبلغه إلى الناس، ﷺ، رسول صادق قد بلغ عن ربه ما أمره بتبليغه، وأن بين هذا الرسول الصادق وبين الكلام الذي بلّغه حجازًا فاصلًا، وأن هذا الحجاز الفاصل بين القرآن وبين مبلغه حقيقة ظاهرة، لا يخطئها من درس سيرة رسول الله فاحصًا متأملًا، ثم درس كتاب الله بعقل يقظ غير غافل.
وهذا المنهج الذي سلكه مالك، منهج يستمد أصوله من تأمل طويل في طبيعة النفس الإنسانية، وفي غريزة التدين في فطرة البشر، وفي تاريخ المذاهب والعقائد التي توسم بالتناقض أحيانًا، ولكنها تكشف عن مستور التدين في كل إنسان. ثم هو يستمد أصوله من الفحص الدائب في تاريخ النبوة وخصائصها، ثم في سيرة رسول الله، بأبي هو وأمي، منذ نشأته إلى أن لحق بالرفيق الأعلى. ثم في هذا البلاغ الذي جاء ليكون بنفسه، دليلًا على صدق نفسه، أنه كلام الله، الفارق لكلام البشر من جميع نواحيه.
وخلال هذا المنهج تستعلن لك المحنة التي عاناها مالك، كما عانيتها أنا، وكما عاناها جيل من المسلمين في هذا القرن. بل إنك لتجد المحنة ماثلة في (مدخل الدراسة) وهو الفصل الذي استفتح به كتابه، فقد صور لك مشكلة الشباب المسلم المتعلم في هذا العصر، وما كان قاساه وما يزال يقاسيه، من العنت في إدراك إعجاز القرآن، إدراكًا يرضاه ويطمئن إليه.
1 / 18
وهذا (العقل) الحديث الذي يفكر به شباب العالم الإسلامي، والذي يريد أن يدرك ما يرضيه ويطمئن إليه من دلائل إعجاز القرآن، هو لب المشكلة، فإن (العقل) هبة الله لكل حي، ولكن أساليب تفكيره كسب يكتسبه من معالجة النظر ومن التربية ومن التعليم، ومن الثقافة ومن آلاف التجارب التي يحياها المرء في هذه الحياة. فينبغي، قبل كل شيء، أن نتدبر أمر هذا (العقل) الحديث في العالم الإسلامي، لأن فهم هذا (العقل)، هو الذي يحدد لنا طريقنا ومنهجنا في كل دراسة صحيحة، نحب أن نقدمها إليه حتى يطمئن ويرضى.
فمنذ أول الإسلام، خاضت الجيوش الإسلامية معارك الحرب في جميع أنحاء الدنيا، وخاض معها العقل الإسلامي معارك أشد هولًا حيث نزل الإنسان المسلم. وتقوضت أركان الدول تحت وطأة الجند المظفر، وتقوضت معها أركان الثقافات المتباينة تحت نور العقل المسلم المنصور، وظلت الملاحم دائرة الرحى قرونًا متطاولة، في ميادين الحرب وميادين الثقافة، حتى كان هذا العصر الأخير.
انبعثت الحضارة الأوربية، ثم انطلقت بكل سلاحها لتخوض في قلب العالم الإسلامي، أكبر معركة في تاريخنا وتاريخهم. وهي معركة لم يحط بأساليبها وميادينها أحد بعد في هذا العالم الإسلامي ولم يتقص أحد آثارها فينا. ولم يتكفل بدراستها من جميع نواحيها من يطيق أن يدرس، ولست أزعم أني سأدرسها في هذا الموضع، ولكن سأدل على طرف منها، ينفع قارئ هذا الكتاب، إذا صح عزمه على معاناة دراسته دراسة الحريص المتغلغل.
لم تكن المعركة الجديدة بين العالم الأوربي المسيحي، وبين العالم الإسلامي، معركة في ميدان واحد، بل كانت معركة في ميدانين: ميدان الحرب، وميدان الثقافة. ولم يلبث العالم الإسلامي أن ألقى السلاح في ميدان الحرب، لأسباب
1 / 19
معروفة. أما ميدان الثقافة، فقد بقيت المعارك فيه متتابعة جيلًا بعد جيل، بل عامًا بعد عام، بل يومًا بعد يوم. وكانت هذه المعركة أخطر المعركتين، وأبعدهما أثرًا، وأشدهما تقو يضًا للحياة الإسلامية والعقل الإسلامي. وكان عدونا يعلم ما لا نعلم، كان يعلم أن هذه هي معركته الفاصلة بيننا وبينه، وكان يعلم من خباياها ما لا نعلم، ويدرك من أسرارها ووسائلها ما لا ندرك، ويعرف من ميادينها ما لا نعرف، ويصطنع لها من الأسلحة ما لا نصطنع، ويتحرى لها من الأسباب المفضية إلى هلاكنا ما لا نتحرى أو نلقي إليه بالًا. وأعانه وأيده أن سقطت الدول الإسلامية جميعًا هزيمة في ميدان الحرب. فسقطت في يده مقاليد أمورها في كل ميدان من ميادين الحياة، وصار مهيمنًا على سياستها واقتصادها وصحافتها، أي سقطت في يده مقاليد التوجيه الكامل للحياة الإسلامية، والعقل الإسلامي.
وميادين معركة الثقافة والعقل ميادين لا تعد، بل تشمل المجتمع كله في حياته وفي تربيته وفي معايشه، وفي تفكيره وفي عقائده وفي آدابه وفي فنونه وفي سياسته، بل كل ما تصبح به الحياة حياة إنسانية، كما عرفها الإنسان منذ كان على الأرض. والأساليب التي يتخذها العدو للقتال في معركة الثقافة، أساليب لا تعد ولا تحصى، لأنها تتغير وتتبدل وتتجدد على اختلاف الميادين وتراحبها وكثرتها، وأسلحة القتال فيها أخفى الأسلحة، لأن عقل المثقف يتكون يومًا بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، وهو يتقبل بالتربية والتعليم والاجتماع، أشياء يُسَلَّمها بالإلف الطويل وبالعرض المتواصل وبالمكر الخفي، وبالجدل المضلل وبالمراد المتلون وبالهوى المتغلب، وبضروب مختلفة من الكيد الذي يعمل في تحطيم البناء القائم، لكي يقيم العدو على أنقاضه بناء كالذي يريد ويرجو.
وقد كان ما أراد الله أن يكون، وتتابعت هزائم العالم الإسلامي في ميدان الثقافة جيلا بعد جيل، وكما بقيت معارك الحرب متتابعة سرًا مكتومًا
1 / 20
لا يتدارسه قادة الجيوش الإسلامية وجندها حتى هذا اليوم، بقيت أيضًا معارك الثقافة على تطاولها، سرًا خافيًا لا يتدارسه قادة الثقافة الإسلامية وجندها؛ بل أكبر من ذلك: فقد أصبح أكثر قادة الثقافة في العالم الإسلامي وأصبح جنودها أيضًا، تبعًا يأتمرون بأمر القادة من أعدائهم، عارفين أو جاهلين أنهم هم أنفسهم قد انقلبوا عدوًا للعقل الإسلامي الذي ينتسبون إليه، بل الذي يدافعون عنه أحيانًا دفاع غيرة وإخلاص.
لم يكن غرض العدو أن يقارع ثقافة بثقافة، أو أن ينازل ضلالًا بهدى، أو أن يصارع باطلًا بحق، أو أن يمحو أسباب ضعف بأسباب قوة؛ بل كان غرضه الأول والأخير أن يترك في ميدان الثقافة في العالم الإسلامي، جرحى وصرعى لا تقوم لهم قائمة، وينصب في أرجائه عقولًا لا تدرك إلا ما يريد لها هو أن تعرف، ف كانت جرائمه في تحطيم أعظم ثقافة إنسانية عرفت إلى هذا اليوم، كجرائمه في تحطيم الدول وإعجازها مثلًا بمثل. وقد كان ما أراد الله أن يكون، وظفر العدو فينا بما كان يبغي ويريد.
وقد فصل مالك في (مدخل الدراسة) محنة (العقل) الحديث في العالم الإسلامي، على يد أمضى أسلحة العدو في تهديم بعض جوانب الثقافة، بل أهم جوانبها، وهو سلاح (الاستشراق)، سلاح لم يدرسه المسلمون بعد، ولم يتتبعوا تاريخه، ولم يكشفوا عن مكايده وأضاليله، ولم يقفوا على الخفي من أسرار مكره، ولم يستقصوا أثره في نواحي حياتهم الثقافية؛ بل في أكثر نواحي حياتهم الإنسانية، كيف؟ بل كان الأمر عكس ما كان ينبغي أن يكون، فهم يتدارسون ما يلقيه إليهم على أنه علم يتزوده المتعلم، وثقافة تتشربها النفوس، ونظر تقتفيه العقول، حتى كان كما قال مالك: «إن الأعمال الأدبية لهؤلاء المستشرقين، قد بلغت درجة خطيرة من الإشعاع لا نكاد نتصورها» وتفصيل أثر هذا الإشعاع في تاريخنا الحديث، وفي سياستنا وفي عقائدنا، وفي كتبنا وفي
1 / 21