The Poets of Vagabonds in the Pre-Islamic Era
الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي
Daabacaha
دار المعارف
Lambarka Daabacaadda
الرابعة
Noocyada
مقدمات
مقدمة الطبعة الثانية
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية:
لا تكاد هذه الطبعة الجديدة تختلف عن الطبعة السابقة في شيء أساسي، فلم أدخل عليها إلا تعديلات يسيرة لبعض العبارات، وإضافات قليلة لبعض الشروح. وعلى الرغم من أن صلتي بموضوع البحث "الصعاليك" لم تنقطع طوال هذه السنين التي مضت على ظهور الكتاب، فإن النتائج التي كنت قد انتهيت إليها في هذا البحث لم تتغير، بل لقد زادتني هذه السنون إيمانا واقتناعا بها. حتى المصادر التي أُتيح لي الاطلاع عليها في هذه السنين. ولم تكن الفرص قد أتاحت لي الاطلاع عليها من قبل، لم تقدم لي جديدا يفيد البحث أو يغير من نتائجه.
وقد كنت تمنيت -وأنا أعد هذا البحث- لو أتيحت لي فرصة الاطلاع على ديوان تأبط شرا الذي جمعه ابن جني، والذي يذكر بروكلمان أنه مخطوط في الإسكوريال. ثم أتيحت لي في الأيام الأخيرة فرصة الاطلاع على هذا المخطوط، فلم أجده ديوانا لتأبط شرا ولا شبه ديوان، وإنما هو مختارات قليلة اختارها ابن جني من ديوان تأبط شرا الذي كان موجودا عنده كما يذكر صاحب الخزانة، وهي مختارات لم أجد فيها جديدا أضيفه إلى البحث.
على أني أريد هنا أن أؤكد -بصفة خاصة- فكرة كثر الجدل حولها في هذه السنين، وهي فكرة "اشتراكية الصعاليك" التي أدرت حولها بحثي، وفسَّرت في ضوئها هذه الثورة الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها المجتمع الجاهلي، وخاصة عند عروة بن الورد الذي تراءى لي داعية من دعاة
1 / 7
الاشتراكية في هذه المرحلة المبكرة من تاريخ الإنسانية. فقد ذهب بعض الباحثين إلى أنني تعسفت في تفسير الشعر الجاهلي هذا التفسير الاقتصادي، وأنني حملت النصوص والأخبار القديمة ما تنوء به من مصطلحات حديثة ترتبط في أذهان الناس بمفاهيم خاصة لم يعرفها العصر الجاهلي، ولم تدر في خلد هؤلاء الشعراء القدماء.
وأنا لم أزعم أن ثورة الصعاليك في العصر الجاهلي كانت ثورة اشتراكية قائمة على أساس المذهب الاشتراكي كما تعرفه مجتمعاتنا المعاصرة، فمثل هذا التفسير يعد -بدون شك- تعسفا لا يتفق مع المنهجية الجامعية فما من شك في أن هناك فروقا جوهرية بين الاتجاهين سواء في الفلسفة النظرية أو في التطبيق العملي. وإنما الذي ذهبت إليه هو أن في شعر الصعاليك وأخبارهم، وخاصة عروة بن الورد، أفكارا تتصل بمشكلة الفقر والغنى في المجتمع الجاهلي، وتنادي بثورة المستضعفين من فقراء هذا المجتمع والمضطهدين فيه على طبقة المَالَة من الأغنياء المتخمين وخاصة البخلاء منهم، وأن هذه الثورة كانت تستهدف تحقيق صورة من صور العدالة الاجتماعية والتوازن الاقتصادي في هذا المجتمع. وإذا كانت هذه الأفكار لم تأخذ شكل نظرية علمية دقيقة، أو شكل فلسفة اقتصادية متكاملة، وإذا كان التطبيق العملي لهذه الأفكار سلك أسلوبا فرديا أقرب إلى الفوضوية منه إلى أساليب التنفيد العلمي المنظم في الاشتراكية الحديثة، فإن هذا كله لا يمنع من القول بأن هذه الأفكار كانت تنطوي على إحساس عميق بمشكلات المجتمع الاقتصادية، ومحاولة جادة لحلها، وأن هذا -بدون شك- كان يمثل صراعا بين طبقة الفقراء ممثلة في هؤلاء الصعاليك العاملين، وطبقة المالة ممثلة في هؤلاء الأغنياء البخلاء، وهو صراع كان يضم في أعماقه براعم لم تتفتح تماما من النظرية الاشتراكية الحديثة.
وما من شك في أن الصعلكة عند عروة بالذات كانت -كما قلت في
1 / 8
هذا البحث- "نزعة إنسانية نبيلة، وضربة يدفعها القوي للضعيف، والغني للفقير، وفكرة اشتراكية تشرك الفقراء في مال الأغنياء، وتجعل لهم فيه نصيبا، بل حقا يغتصبونه إن لم يؤد لهم".
وبعد، فكل ما أطمع أن أكون نجحت في إنصاف هؤلاء الصعاليك، ووضعهم في مكانهم الطبيعي في تاريخنا العربي الخالد، وأن أكون قد لفت أنظار الباحثين إلى أن في تراثنا القديم جوانب تحتاج إلى إعادة النظر فيها في أضواء جديدة.
والله نسأل أن يجنبنا الخطأ، ويعصمنا من الزلل.
القاهرة في مايو ١٩٦٦
يوسف خليف
1 / 9
مقدمة الطبعة الأولى:
١- ليست دراسة العصر الجاهلي بالمسألة اليسيرة القريبة المنال، وإنما هي مسألة غامضة ومتشعبة وصعبة.
أما غموضها فيرجع إلى طبيعة العصر نفسه، فهو عصر يمتد القهقرى من ظهور الإسلام إلى حيث لا ندري، أو هو تلك الفترة الغامضة من فترات التاريخ العربي التي يصح أن نطلق عليها "عصر ما قبل التاريخ العربي"، على أساس أن التاريخ العربي في صورته الدقيقة الثابتة إنما يبدأ منذ ظهور الإسلام الذي جعل من العرب أمة واحدة ذات كيان متميز متماسك. تسلك سبيلها في التاريخ، سبيلا واضحة المعالم. فهو عصر أكثر فتراته ضائعة مجهولة، وأقلها مشكوك فيها، وحسبنا أن نقول إننا لا نكاد نعرف عنه شيئا منذ بدايته إلى ما قبل الأساطير والأقاصيص، إن تكن ذات قيمة لطائفة من العلماء فإنها عديمة القيمة تقريبا للباحثين في الأدب العربي. وحين تبدأ معلومات هذا العصر تصل إلينا يقف دون وضوحها والاطمئنان إليها أمران: فهي -من ناحية- تتحدث عن مجتمع بدوي بَعُدَ العهد به، وهي -من ناحية أخرى- معلومات لم تدون إلا في عصور متأخرة، وظلت شفاه الرواة تتناقلها حتى دونت، وبعد أن دخلها -بطبيعة الحال- شيء قليل أو كثير من التحريف والضياع والانتحال. ومن هنا نشأت فكرة الشك فيما وصل إلينا من أخبار ونصوص عن هذا العصر. ومن هنا أيضا وُجدت فكرة الغموض: غموض العصر الذي لا نستطيع تمثله التمثيل الواضح، وغموض المعلومات التي لا تستطيع الاطمئنان إليها اطمئنانا تامًّا.
1 / 11
وهي مسألة متشعبة؛ لأنها تتصل بمجتمع رعوي -في مجموعه - لم يعرف الاستقرار. ومن هنا لم تعرف ظواهره الاجتماعية الاستقرار الذي ييسر على الباحث دراستها دراسة دقيقة كاملة. ثم هو -إلى جانب هذا- مجتمع يدين بالحرية الفردية إلى أبعد حد، لم يعرف -إلا في بعض أجزائه- النظام السياسي الذي يهيئ للباحث تحديد جوانب دراسته؛ لأنه يقف أمام طائفة من الظواهر الفردية تتعدد بتعدد الأفراد والجماعات التي هي في حكم الأفرد، فلم تكن الجماعات التي عرفها المجتمع الجاهلي سوى مجموعات من الأفراد تدين بالحرية الفردية، وإن لم تكن حرية حاول أصحابها -تحقيقا لصورة ما من صور الجماعة- أن يلونها بلون جماعي.
ثم هي مسألة -بعد هذا وذاك- صعبة؛ لأنها غامضة ومتشعبة.
ولكني مع ذلك -ولا أدري لماذا؟ - مفتون بهذا العصر الجاهلي فتنة ترجع إلى عهد بعيد، وكل ما أتمناه أن تتحول هذه الفتنة إلى إيجابية فعالة تحطم من هذه الصخرة العاتية، صخرة هذا العصر.
٢- من هذه الزواية من زوايا النظر لم أحاول -حين فكرت في دراسة العصر الجاهلي- أن أقف منه موقفا عاما شاملا، أو أن أنظر إليه من عَلُ نظرة مشرفة واسعة الأفق، وإنما حاولت أن أتخير -خطوة أولى لدراسته- جانبا من جوانبه أقف عنده وقفة عميقة، وأنظر إليه نظرة ممعنة فاحصة، حتى لا تضل دارستي بين شعاب الصحراء الفسيحة المترامية الممتدة إلى ما وراء مطارح البصر.
وشغلتني مهمة الاختيار هذه فترة من الزمن، كنت في أثنائها أستعرض الجوانب المتعددة لهذا العصر، وكلها يستحق الدرس والبحث. ثم قفز إلى ذهني موضوع "الصعاليك"، وأخذت أسهمه في الصعود.
1 / 12
قفز هذه الموضوع إلى ذهني لأنه موضوع لم يعن به الباحثون من قبل، ولم يقفوا عنده، ولم يشغلوا أنفسهم به، وأخذت أسهمه في الصعود لما كنت أشعر به من أهميته، وطرافته، وتحديده، وتمثيله ظاهرة متميزة من ظواهر العصر الجاهلي.
ويقف موضوع الصعاليك في تاريخ الأدب العربي كتلك المراقب الشم الشامخة التي أطال في الحديث عنها شعراؤهم، والتي لم يكن أحد غيرهم يستطيع أو حتى يجرؤ على الصعود إليها، يحوم حوله الباحثون ثم يتجنبون المغامرة باقتحامه، أو ينظرون إليه نظرة خاطفة دون إقدام على الاقتراب منه، مع اعترافهم بأنه موضوع في حاجة إلى البحث والدرس، كأنه منطقة خطرة من تلك المناطق التي كان الصعاليك يمارسون فيها نشاطهم الدامي الرهيب، وكأنما كتب على هؤلاء الصعاليك الذين لم يلقوا من مجتمعهم عناية أو اهتماما في حياتهم أن تظل اللعنة تلاحقهم طوال تلك القرون المتعاقبة بعدهم، وكأنما كتب على هؤلاء المشردين في آفاق الأرض أن يظلوا مشردين في أعماق الكتب والأسفار.
وفي أذهان الناس عن الصعاليك صورة غامضة غير مشرفة، تكسوها ظلال قاتمة تحجب كثيرا من معالمها وخطوطها، وتغشيها سحب دُكْن تخفي وراءها كثيرا من النور والضياء، وينقصها كثير من الأضواء الكاشفة تجلو عنها ظلالها القاتمة، وتبعد عنها سحبها الدكن، حتى يبين ما يحتجب خلفها من معالم وخطوط وأضواء.
ومهمتي في هذا البحث أن أحاول تجلية هذه الظلال، وإزاحة هذه السحب، حتى يستبين ما وراءها، وتبدو الصورة على حقيقتها واضحة مشرقة.
1 / 13
٣- وقد كان أساس المنهج لبحث هذا الموضوع أن أبدأ غير متأثر برأي أحد من الباحثين، فآثرت في أول الأمر أن لا أقرأ شيئا عنه لأحد من الباحثين، ومضيت إلى أخبار الصعاليك وأشعارهم في مصادرها الأصيلة الأولى في محاولة جاهدة لتكوين رأي لي، وانقضت سنوات وأنا سعيد بصحبة هؤلاء "الفتيان" -كما كان يحلو لهم أن يسموا أنفسهم- وأقرأ وأدون، وأتأمل وأفكر، وأحدد خطوط الصورة، وأنقب عن معالمها، حتى إذا ما كونت لنفسي رأيا في الموضوع، وأخذت خطوط الصورة ومعالمها تتضح لي، مضيت أبحث عن دراسات الباحثين فيه، فراعني أني لم أجد أحد قبلي قد عني بدراسته دراسة شاملة متخصصة، وإنما كل ما عثرت عليه طائفة من المقالات تترجم لجماعة من الشعراء الصعاليك، أو بعض الأبحاث السريعة في هذه الموضوع ترسم الخطوط العامة له، حتى إن "دائرة المعارف الإسلامية" -على ضخامتها وسعتها، وكثرة موادها، وتعدد القائمين بها- لم تعرض لهذا الموضوع على الإطلاق، وإنما كل ما فعلته أنها ترجمت لطائفة قليلة من شعرائه، هم عروة والشنفرى وتأبط شرا.
ونظرت فإذا عليَّ أن أدرس جانبين: حياة هؤلاء الصعاليك كما تتمثل في أخبارهم وأشعارهم لأستخلص منها الجوانب المختلفة لظاهرة الصعلكة، ثم شعرهم من حيث هو نتاجهم الفني المعبر عن آرائهم وأفكارهم لأستخلص منه هذه الآراء والأفكار، ولأسجل في ضوئه الظواهر الفنية التي تميز فنهم. وهكذا انقسم البحث إلى قسمين أساسيين: دراسة للظاهرة، ودراسة للشعر.
ثم نظرت فإذا القسم الأول ممعن في الغموض، فما معنى الصعلكة؟ وما تعريف الصعلوك؟ وهل يتفق المفهوم اللغوي لهما مع ما عرفه المجتمع الجاهلي عنهما؟ فرأيت أن أفرد فصلا للتعريف بهذه الظاهرة، عرضت فيه للتعريف
1 / 14
اللغوي للمادة، ثم عرضت لهذا التعريف على النصوص الأدبية التي وردت فيها، حتى أدرك إلى أي مدى ينطبق عليها، وأدركت أن هذا التعريف اللغوي لا يكفي لفهم هذه الظاهرة، فكان لا بد من المضي إلى المجتمع الجاهلي أتلمس في أخبار صعاليكه وأشعارهم جوانبها المختلفة، ومعالمها المميزة لها.
ثم وقفت أمام هذه الظاهرة وتساءلت: ما السر في نشأتها؟ وما العوامل التي أدت إلى ظهورها؟ ورأيت أن أمضي إلى علم النفس الاجتماعي أسأله تفسيرا لها، فدرست المجتمع، والتوافق الاجتماعي، و"اللاتوافق"، وعُقَد النقص، ودرست الفقر، والمشكلات الاقتصادية، والمذاهب المختلفة التي حاولت أن تجد لهذه المشكلات حلا، وانتفعت بكل هذه الدراسات في تكوين فكرة عن هذه الظاهرة، وانتهيت إلى أن هناك ثلاثة عوامل عملت في نشأتها وتطورها: عامل جغرافي، وعامل اجتماعي، وعامل اقتصادي. فمضيت إلى المجتمع الجاهلي أدرس فيه هذه الجوانب الثلاثة على هذا الأساس، ورأيت أن أفرد فصلا لكل منها، ولم أفرد للتفسير النفسي فصلا خاصا لأنه عامل مشترك بين كل هذه العوامل. وهكذا كان الباب الأول في أربعة فصول.
ثم مضيت إلى مجموعة شعر الصعاليك التي بذلت جهدا كبيرا في جمعها من مصادر متعددة، ورأيت لزاما عليَّ أن أعرض -قبل كل شيء- لتلك المصادر المتعددة التي اعتمدت عليها في جمع ما يصح أن نسميه "ديوان الصعاليك"، وتلك المصادر الأخرى التي لم تصل إلينا إلا أسماؤها، إما لأنها فقدت، وإما لأنها ليست بين أيدينا. كما رأيت من الضروري أن أعرض لمدى صحة ما ترويه المجموعة الأولى من المصادر من شعر الصعاليك، حتى أنتهي إلى رأي فيما يثور حوله من شك في بعض نصوصه، وأفردت لهذه المقدمات الفنية الفصل الأول من الباب الثاني.
ثم نظرت في مجموعة شعر الصعاليك، ورأيت أن أفرد فصلا لموضوعاته، سواء ما كان منها "داخل دائرة الصعلكة"، وما كان منها "خارج هذه
1 / 15
الدائرة"، فكان الفصل الثاني من هذه الباب.
ثم مضيت إلى هذا الشعر أدرس ظواهره الفنية من حيث طبيعة العمل الفني وخصائصه، ومن حيث لغته وأوزانه، وأفردت لهذه الدراسة الفصل الثالث من هذا الباب.
ثم رأيت أن أقدم -أخيرا- دراسة مستقلة لشاعر من الصعاليك يكون نموذجا لهم، أطبق عليه ما وصلت إليه في أثناء البحث من نتائج، ولكني رأيت أن أمامي شخصيتين متميزتين اجتماعيا وفنيا: شخصية الصعلوك الزعيم التي يمثلها عروة بن الورد، وشخصية الصعلوك العامل التي اخترت الشنفرى مثلا لها، وقد اخترت الشنفرى بالذات لأن له ديوانا بين أيدينا مما يجعل التوازن قائما بينه وبين عروة، وله هو أيضا ديوان بين أيدينا، وأفردت لدراسة هذين الشاعرين فصلا مستقلا هو الفصل الأخير من هذا البحث.
ومهما يكن من شأن هذه الدراسة فإني حريص على أن أسجل أن كل ما وصلت إليه فيها من نتائج لا يمكن أن يكون الكلمة الأخيرة في الموضوع، فالكلمة الأخيرة في العلم مستحيلة، ولا يمكن أن أدعي أنني وصلت بها إلى درجة الكمال، فالكمال لله وحده، وإنما كل ما أستطيع أن أقوله هو أن نتائج هذه الدراسة ليست سوى نتائج لما وصل إلي -أو وصلت إليه- من مادة لا شك في أن وراءها مادة أخرى لم تصل إلي، ومن الممكن أن تغير قليلا أو كثيرا من هذه النتائج.
٤- أما الفترة التي اخترتها لدراسة هذه الموضوع، والتي حددتها بالعصر الجاهلي، فإني لا أقصد بها تلك الفترة المحددة التي سبقت ظهور الإسلام فحسب، وإنما يمتد العصر الجاهلي عندي -وأعني به العصر الجاهلي الأدبي- حتى يشمل فترة المخضرمين، فإن هؤلاء المخضرمين لا يمثلون عناصر جديدة في
1 / 16
الحياة الأدبية الإسلامية، وإنما هم امتداد للحياة الأدبية الجاهلية التي اكتملت ملكاتهم الفنية في ظلها. أما العصر الأدبي الإسلامي فإنما يبدأ بأولئك الشعراء الذين لم يدركوا العصر الجاهلي، وبدأ تكون ملكاتهم الفنية في ظل الإسلام.
ومن هنا كنت أرى أن العصر الجاهلي الأدبي ليس محددا بفترة زمنية ينتهي بانتهائها ليبدأ بعدها العصر الأدبي الإسلامي، ولكنه محدد بحياة أولئك النفر من الشعراء المخضرمين ينتهي بالنسبة لكل منهم بانتهاء حياته. وليس معنى هذا أنني أنفي أن هؤلاء المخضرمين قد تأثرت حياتهم الأدبية بالإسلام، فمن المؤكد أنها تأثرت به، ولكن من المؤكد أيضا أن هذا التأثر يمثل مرحلة من مراحل تطورهم الأدبي، ولكنه لا يمثل مرحلة من مراحل تكوينهم الأدبي.
وبعد، فهذا الموضوع الذي أقدمت على دراسته، وأنا أعرف أنها مغامرة كتلك المغامرات التي كان يقدم عليها فتيان الصعاليك، ولكني أنشد مع الشنفرى "ومن يَغزُ يغنمْ مرة ويُشَمَّتِ"، فإن تكن الأولى فما توفيقي إلا بالله، وإلا فحسبي إعذارا لنفسي أنها مغامرة أقدمت عليها، ولأنشد مع أبي الصعاليك عروة بن الورد "ومُبْلغُ نفسٍ عُذرَها مثل مُنْجِحِ".
والله يهدينا سواء السبيل.
يناير ١٩٥٩
يوسف خليف
1 / 17
الباب الأول: الصعاليك
الفصل الأول: التعريف بالصعلكة
في اللغة
...
الفصل الأول: التعريف بالصعلكة
١- في اللغة:
في لسان العرب١: "الصعلوك: الفقير الذي لا مال له، زاد الأزهري ولا اعتماد. وقد تصعلك الرجل إذا كان كذلك. قال حاتم الطائي:
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... فكلا سقاناه بكأسيهما الدهر
أي عشنا زمانا.
وتصعلكت الإبل: خرجت أوبارها، وانجردت، وطرحتها.
ورجل مصعلك الرأس: مدوره.
ورجل مصعلك الرأس: صغيره، وأنشد:
يخيل في المرعى لهن بشخصه ... مصعلك أعلى قلة الرأس نقنق
وقال شمر: المصعلك من الأسنمة: الذي كأنما حد رجت أعلاه حدرجة، كأنما صعلكت أسفله بيدك، ثم مطلته صعدا أي رفعته على تلك الدملكة، وتلك الاستدارة٢.
وقال الأصمعي في قول أبي دؤاد يصف خيلا:
قد تصعلكن في الربيع وقد قـ ... ـرع جلد الفرائض الأقدام
قال: تصعلكن: دققن، وطار عفاؤها عنها، والفريضة: موضع قدم الفارس.
وقال شمر: تصعلكت الإبل إذا دقت قوائمها من السمن، وصعلكها البقل.
_________
١ مادة "صعلك".
٢ حدرج: فتل وأحكم. والدملكة: الاستدارة والملاسة والفتل.
1 / 21
وصعلك الثريدة: جعل لها رأسا، وقيل: رفع رأسها.
والتصعلك: الفقر.
وصعاليك العرب: ذؤبانها. وكان عروة بن الورد يسمى عروة الصعاليك؛ لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم مما يغنم".
من هذا النص اللغوي الذي سجله ابن منظور في لسان العرب، والذي سجل مثله غيره من علماء اللغة في معاجمهم، نستطيع أن نتبين أصلا عاما للمادة تشترك فيه معانيها المختلفة، وتدور حوله، وهو -عندي- الضمور والانجراد١. ونستطيع في سهولة ويسر أن نرد كل معاني المادة إلى هذا الأصل العام:
فالإبل تتصعلك إذا انجردت أوبارها وطرحتها.
والخيل تتصعلك إذا دقت وطار عفاؤها عنها.
والبقل يصعلك الإبل أي يسمنها، وهذا السمن يجعلها تطرح أوبارها وتتجرد منها.
والمصعلك من الأسنمة الذي يبدو كأنما فتلت أعلاه وأضمرته.
وهو يصعلك الثريدة أي يجعل لها رأسا، أو يرفع رأسها، كأنها أضمر أعلاها.
ومن مصعلك الرأس أي صغيرة وضامرة.
وهو يتصعلك أي يفتقر كأنما تجرد من ماله، وبدأ ضامرا بين الناس.
فالصعلكة إذن -في مفهومها اللغوي- الفقر الذي يجرد الإنسان من
_________
١ نحن في هذا نخالف ابن دريد فيما يذهب إليه من أن "أصل الصعلكة الفقر" "انظر جمهرة اللغة: باب ما جاء على "فعلول" ٣/ ٣٨٣ - وانظر أيضا الاشتقاق/ ١٧٠"، ونرى أن الفقر ليس أصلا للمادة، ولكن الطور المعنوي في معناها الذي يأتي بعد الطور الحسي. ويؤيدنا فيما نذهب إليه ما يراه ابن فارس من أن "الصاد والعين واللام أصيل يدل على صغر وانجراد" "انظر مقاييس اللغة ٣/ ٢٨٦"، وهذه الحروف الثلاثة هي أصل مادة "صعلك"، وبين المادتين تشابه في معانيهما، فالصعل: الصغير الرأس من الرجال والنعام، وحمار صعل أي ذاهب الوبر.
1 / 22
ماله، ويظهره ضامرا هزيلا بين أولئك الأغنياء المترفين الذين أتخمهم المال وسمنهم.
ولكن يبدو أن هذا المعنى لا يعبر عن المفهوم اللغوي للكلمة تعبيرا دقيقا كاملا، ولهذا نريد أن نقف وقفة أخرى عند تلك الزيادة التي أضافها الأزهري إلى هذا المعنى اللغوي، وهي قوله "ولا اعتماد"، لنرى ماذا يستفيد المعنى منها؟ وإلى أي مدى تحدد هذه المعنى وتكمله؟ والمعنى اللغوي لهذه العبارات واضح، فاعتمد على الشيء: توكأ أو اتكأ عليه، واعتمد عليه في كذا: اتكل عليه١. وعلى هذا نستطيع أن نقول إن الصعلوك في اللغة هو الفقير الذي لا مال له يستعين به على أعباء الحياة، ولا اعتماد له على شيء أو أحد يتكئ عليه أو يتكل عليه ليشق طريقه فيها، ويعينه عليها، حتى يسلك سبيله كما يسلكه سائر البشر الذين يتعاونون على الحياة، ويواجهون مشكلاتها يدا واحدة. أو هو -بعبارة أخرى- الفقير الذي يواجه الحياة وحيدا، وقد جردته من وسائل العيش فيها، وسلبته كل ما يستطيع أن يعتمد عليه في مواجهة مشكلاتها. فالمسألة إذن ليست فقرا فحسب، ولكنها فقر يغلق أبواب الحياة في وجه صاحبه، ويسد مسالكها أمامه.
هذا هو التعريف اللغوي للكلمة كما نراه في ضوء هذه المحاولة اللغوية لفهم المادة. ونريد -بعد هذا- أن نتتبع هذه المادة في الاستعمال الأدبي القديم في العصر الذي ندرسه لنرى كيف دارت فيه؟ وإلى أي مدى يطابق هذا الاستعمال معناها كما سجله علماء اللغة أو يختلف عنه؟
_________
١ لسان العرب: مادة "عمد".
1 / 23
٢- في الاستعمال الأدبي:
تتردد هذه المادة في أخبار العصر الجاهلي وشعره بصورة واسعة، وتقابلنا كثيرا على ألسنة شعرائه ورواة أخباره، فنراها أحيانا تدور في هذه الدائرة اللغوية التي تحدثنا عنها، على نحو ما نرى في بيت حاتم الطائي الذي يتخذ منه اللغويون موضوعا للاستشهاد على المعنى اللغوي للكلمة، فالمقابلة في هذا البيت بين التصعلك والغنى تدل في وضوح لا لبس فيه على أنه يستعمل التصعلك في معنى الفقر، وهو استعمال يؤيده ذكر الفقر في البيت التالي مرادفا للتصعلك:
فما زادنا بغيا على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
ونراها أحيانا أخرى ترد في بعض المواضع، ولكن مفهومها الذي يتفق مع السياق لا يتفق تماما مع مفهومها اللغوي.
فهذا عمرو بن براقة الهمداني يُغير على إبله وخيله رجل من مراد، فيذهب بها، فيأتي عمرو فيُغير على المرادي فيستاق كل شيء له، ويقول:
قول سليمى: لا تعرض لتلفة ... وليلك عن ليل الصعاليك نائم
وكيف ينام الليل من جل ماله ... حسام كلون الملح أبيض صارم
ألم تعلمي أن الصعاليك نومهم ... قليل إذا نام الخلي المسالم١
فمن الواضح أن جو القصة وسياق الأبيات لا يدلان على أن الصعاليك هنا هم الفقراء، وإلا فما معنى هذه النصيحة التي توجهها إلى الشاعر صاحبته بألا يعرض نفسه للتلف مع هؤلاء الصعاليك الذين ينام ليلة عن ليلهم؟ وما سر المقابلة بين قلة نومهم ونوم "الخلي المسالم"؟ وما دخل المسالمة التي يتحدث عنها الشاعر في حديث عن الفقر والغنى؟ من الواضح أن الصعاليك
_________
١ القالي: الأمالي ٢/ ١٢١-١٣٢، والأغاني ٢١/ ١٧٥.
1 / 24
هنا ليسوا هم أولئك الفقراء المعدمين الذين يقنعون بفقرهم، أو يستجدون الناس ما يسدون به رمقهم، وإنما هم أولئك المشاغبون المغيرون أبناء الليل الذين يسهرون لياليهم في النهب والسلب والإغارة بينما ينعم الخليون المترفون المسالمون بالنوم والراحة والهدوء. فالكلمة إذن قد خرجت من الدائرة اللغوية، دائرة الفقر، إلى دائرة أخرى أوسع منها هي دائرة الغزو والإغارة للنهب والسلب.
وفي أخبار امرئ القيس أنه غزا بني أسد ثائرا بأبيه، "وقد جمع جموعا من حمير وغيرهم من ذؤبان العرب وصعاليكها"١. ونتهم أنفسنا بالسذاجة لو تصورنا أمرأ القيس وقد خرج لثأر أبيه الملك يجمع جموعا من فقراء العرب المعدمين، فما أهمية الفقر في معركة من معارك الثأر؟ وما الذي يحمل امرأ القيس على أن يجمع حوله جموعا من الفقراء ليغزو بهم بني أسد؟ من الواضح أن هؤلاء الفقراء الذي استعان بهم امرؤ القيس في إدراك ثأره لا بد أن تكون حياتهم الاجتماعية قد تطورت تطورا خاصا جعلهم يصلحون للقيام بتلك المهمة الضخمة التي طلبهم إليها، وهو تطور نحس شيئا من سماته ومظاهره في هذا الربط بينهم وبين الذؤبان، فلا بد أن هؤلاء الفقراء كان بيهم وبين الذئاب تشابه في أسلوب الحياة أو أسلوب العيش أو طبيعة الشخصية.
ويشبه هذا ما ورد في أخبار عدي بن زيد من أن النعمان بن المنذر حبسه حتى مات، فأراد ابنه زيد أن يثأر له من النعمان، فدبر مكيدة يوغر بها صدر كسرى عليه حتى يقتله، وترامى خبر المكيدة إلى سمع النعمان، ففر من كسرى ولجأ إلى قبائل العرب، ولكن أحدا لم يجرؤ على إجارته، فقال له سيد من بني شيبان في حديث طويل معه: "فامض إلى صاحبك، فإما أن صفح عنك فعدت ملكا عزيزا، وإما أن أصابك فالموت خير لك من أن يتلعب بك صعاليك العرب، ويتخطفك ذئابها، وتأكل مالك"٢.
فمن الواضح أن الصعاليك هنا ليسوا هم الفقراء، ولكنهم طوائف من قطاع
_________
١ البغدادي: خزانة الأدب ٣/ ٥٣٢.
٢ الأغاني ٢/ ١٢٦، والبغدادي: خزانة الأدب ١/ ١٨٥-١٨٦.
1 / 25
الطرق كانوا منتشرين في أرجاء الجزيرة العربية، ينهبون من يلقونه في صحرائها الموحشة الرهيبة، ويتلعبون به، ويتخطفونه، ويأكلون ماله، على حد ألفاظ ذلك السيد العربي الذي كان -ولا شك- يعرف جيدا طبيعة الدور الذي يقوم به هؤلاء الصعاليك على مسرح البادية العربية، وهو دور تعبر عنه تعبيرا دقيقا هذه الألفاظ.
وإلى جانب هذا نلاحظ أن بعض المصادر العربية تذكر طائفة من الأسماء على أنهم "صعاليك العرب"١، أو تقص أخبارا عن صعاليك بعض القبائل٢، أو تصف بعض الشعراء بأنهم من "صعاليك العرب"٣، بل نلاحظ أن صاحب الأغاني يقول في تقديمه للسليك بن السلكة: "وهو أحد صعاليك العرب ... وأخبارهم تذكر على تواليها هاهنا، إن شاء الله تعالى، في أشعار لهم يُغنى فيها، لتتصل أحاديثهم"٤، مما يشعر بأن هؤلاء الصعاليك كانوا يكونون طبقة متميزة من طبقات المجتمع الجاهلي جعلت أبا الفرج يحرص على أن يذكر أخبارهم على تواليها حتى تتصل أحاديثهم، على حد تعبيره.
وأظن أننا نستطيع بعد هذه الجولة أن نقف لنسجل أن مادة "صعلك" تدور في دائرتين: إحداهما "الدائرة اللغوية" التي تدل فيها على معنى الفقر، وما يتصل به من حرمان في الحياة، وضيق في أسباب العيش، والأخرى نستطيع أن نطلق عليها "الدائرة الاجتماعية"، وفيها نرى المادة تتطور لتدل على صفات خاصة تتصل بالوضع الاجتماعي للفرد في مجتمعه، وبالأسلوب
_________
١ نظر على سبيل المثال: وسائل الخوارزمي/ ١٤١، ١٤٢، والدلجي: الفلاكة والمفلوكين/ ١١٩.
٢ انظر على سبيل المثال: الأغاني ١٨/ ٢١٥، ٢٠/ ٢٠، والبغدادي: خزانة الأدب ٢/ ٤٠٥.
٣ انظر على سبيل المثال: الأغاني ٣/ ٧٣، ١٢/ ٤٩ "بولاق"، ١٨/ ٣٣، وابن قتيبة: الشعر والشعراء/ ٢١٤.
٤ الأغاني ١٨/ ١٣٣.
1 / 26
الذي يسلكه في الحياة لتغيير هذا الوضع. وهذه الصفات هي بعض ما نحاول تبينه في هذا البحث.
ونتساءل بعد هذا: ألم يلتفت اللغويون إلى هذا المعنى الاجتماعي؟ ونعود مرة أخرى إلى النصوص اللغوية نستفتيها، وتلفت نظرنا تلك العبارة الغامضة التي يذكرها بعض اللغويين في ختام تعريفاتهم، وهي قولهم "وصعاليك العرب ذؤبانها". ونتساءل مرة أخرى: ماذا يعني اللغويون بذؤبان العرب؟ ونمضي إلى مادة "ذاب" نسأل اللغويين عن معنى "ذؤبان العرب"، فإذا هم يحيلوننا مرة أخرى على "صعاليك العرب". ففي الصحاح "وذؤبان العرب أيضا صعاليكها الذين يتلصصون"، وفي القاموس المحيط "ذوبان العرب لصوصهم وصعاليكهم"، وفي أساس البلاغة "وهم ذؤبان العرب: من صعاليكهم وشطارهم"، وفي النهاية لابن الأثير "يقال لصعاليك العرب ولصوصها ذؤبان لأنهم كالذئاب".
وهكذا كادت المسألة أن تكون دورا -كما يقول المناطقة- لولا هذه الزيادات القليلة التي أضافها هؤلاء اللغويون إلى تعريفاتهم. ومن هذه الزيادات عرفنا أن هؤلاء الصعاليك كانوا "يتلصصون"١، وأنهم كانوا "شطارا"٢، كما عرفنا أنهم سُموا هكذا لأنهم كانوا كالذئاب. ومع ذلك فما زلنا نشعر بأن هذه الزيادات لم تتقدم بنا كثيرا في داخل هذه "الدائرة الاجتماعية"، وأن علماء اللغة يحومون حول هذه الدائرة دون أن ينفذوا إلى داخلها، مع إحساسهم أن هناك شيئا آخر غير الفقر في مفهوم المادة. وهو هذا الذي حاولوا أن
_________
١ في تاج العروس "مادة لص" "وهو يتلصص -كما في الصحاح وفي الأساس- إذا تكررت سرقته".
٢ في لسان العرب "مادة شطر" "شطر عن أهله ... نزح عنهم، وتركهم مراغما أو مخالفا، وأعياهم خبثا، والشاطر مأخوذ منه". وفي أساس البلاغة "المادة نفسها" "وفلان شاطر: خليع". ومن الأشياء التي تلفت النظر أن الخليع من أسماء الذئب أيضا "انظر لسان العرب: مادة خلع"، وأن الذئب يُشبه في الشعر الجاهلي أحيانا بالخليع، وفي معلقة امرئ القيس "به الذئب يعوي كالخليع المعيل"، وهو من شعر تأبط شرا بدون شك عندي.
1 / 27
يفسروه بذلك الربط بين الصعاليك والذؤبان.
ولكننا لا نريد أن ننتهي من هذا البحث اللغوي دون أن نشير إلى أن أبا زيد القرشي صاحب جمهرة أشعار العرب، قد تنبه إلى أن هناك جانبين لهذه المادة، واستطاع أن يميز بينهما تمييزا دقيقا واضحا حيث يقول١: "الصعلوك الفقير، وهو أيضا المتجرد للغارات"، وهذا التعبير عن مفهوم المادة الاجتماعي بالتجرد للغارات يجعلنا نسجل لهذا العالم المتقدم على أصحاب المعاجم التي بين أيدينا أنه كان أدق من عرف معنى الصعلوك.
وهنا نقف لنتساءل: ماذا فهمنا عن صعاليك العرب؟
أغلب الظن أننا لم نصل إلى أشياء كثيرة، وأننا ما زلنا في بداية الطريق الطويل نتحسس خطواتنا في الظلام تحت أضواء النجوم الخافتة، وأن شوطا بعيدا ما يزال ينتظرنا حتى مطلع الفجر. ويبدو أنه لا بد لنا من أن نمضي إلى مصادر الأدب العربي نسألها: ما أخبار هؤلاء الصعاليك؟ وأين شعر شعرائهم الذي صوروا فيه حياتهم؟ لعلنا نجد فيها وفيه ما نستطيع به أن نرسم صورة أشد وضوحا لهذه الطبقة من طبقات المجتمع الجاهلي.
٣- في المجتمع الجاهلي:
حين نرجع إلى أخبار هؤلاء الصعاليك نجدها حافلة بالحديث عن فقرهم، فكل الصعاليك فقراء، لا نستثني منهم أحدا، حتى عروة بن الورد سيد الصعاليك الذي كانوا يلجئون إليه كلما قست عليهم الحياة، ليجدوا عنده مأوى لهم حتى يستغنوا، فالرواة يذكرون أنه "كان صعلوكا فقيرا مثلهم"٢، وأخوه وابن عمه يقولان له -حين عرض عليه أهل امرأته التي أصابها في بعض
_________
١ جمهرة أشعار العرب/ ١١٥.
٢ التبريزي: شرح حماسة أبي تمام ٢/ ٩.
1 / 28
غزواته أن يفتدوها: "والله لئن قبلت ما أعطوك لا تفتقر أبدا"١، بل أكثر من هذا يذكر الرواة أنه جاء بامرأته إلى بني النضير "ولا شيء معه إلا هي، فرهنها، ولم يزل يشرب حتى غَلِقَتْ"٢. وتكثر في شعره أحاديث فقره، وما يعانيه من حرمان، وما يتكبده في سبيل الغنى من جهد ومشقة، وما يشعر به من ثقل التبعة التي يتحملها إزاء أهله، وإزاء أصحابه الصعاليك أيضا:
ذريني للغنى أسعى، فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير٣
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا٤
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا ... من المال يطرح نفسه كل مطرح٥
وهذا الفقر الذي استبد بحياة الصعاليك حمل لهم في ركابه الجوع، نتيجة طبيعية له، ولعل الجوع أقسى ما يحمله الفقر إلى جسد الفقير، وقد سئل أعرابي: ما أشد الأشياء؟ فقال: كبد جائعة تؤدي إلى أمعاء ضيقة٦. وليس من شك في أن هذه العبارات الساذجة التي صور فيها هذا الأعرابي إحساسه إنما تشير إلى قصة الحياة الأساسية، قصة الصراع بين الحياة والموت. وذلك لأن المسألة تتصل بحاجات الجسم الحيوية الأولى، فالجوع -كما يقرر علماء الاجتماع- أول الدوافع المسيطرة على حياة الإنسان٧. وقد كان من العرب من يغير من أجل الحصول على الطعام٨، بل إن كثيرا من الصراع الداخلي
_________
١ الأغاني ٣/ ٧٧.
٢ المصدر نفسه/ ٣٨، وغلق الرهن في يد المرتهن: استحله، وذلك إذا لم يقدر الراهن على افتكاكه في الوقت المشروط.
٣ ديوانه/ ١٩٨.
٤ ديوانه/ ١٩١.
٥ ديوانه/ ٩٩.
٦ البيهقي: المحاسن والمساوئ. ٣٠١.
٧ Groves; Personality And Secial Adjustment، P. ٢٧٠.
٨ ابن دريد: الاشتقاق/ ٢٤٦.
1 / 29
بين القبائل الجاهلية إنما يرجع -من بعض جوانبه- إلى الفقر والجوع١، وما أكل ضباب الصحراء ويرابيعه وأورالها سوى مظهر من مظاهر هذا الجوع القاتل الذي كان يعانيه عرب البادية حين يجدبون وتتتابع عليهم السنين، وما كان قتل بعض العرب أولادهم خشية إملاق سوى مظهر آخر من مظاهر هذا الجوع القاتل٢.
ويكثر الحديث عن الجوع في أخبار الصعاليك وشعرهم، ففي أخبار عروة أن ناسا من بني عبس أجدبوا "في سنة أصابتهم، فأهلكت أموالهم، وأصابهم جوع شديد وبؤس"، فأتوا عروة يستنجدون به، فخرج "ليغزو بهم ويصيب معاشا"٣. وتنتشر في شعره وأخباره مناقشات بينه وبين صعاليكه حول الجوع الذي كان يجهدهم في غزواتهم٤. ويذكر الرواة أن أبا خراش الهذلي أقفر من الزاد أياما٥. ويحدثنا السليك بن السلكة في بعض شعره كيف كان يغمى عليه من الجوع في شهور الصيف حتى ليشرف على الموت والهلاك:
ومنا نلتها حتى تصعلكت حقبة ... وكدت لأسباب المنية أعرف
وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني ... إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف٦
ويتحدث الأعلم الهذلي عن أولاده الشعث الصغار الذين ينظرون إلى من يأتيهم من أقاربهم بشيء يأكلونه:
وذكرت أهلي بالعرا ... ء وحاجة الشعث التوالب
_________
١ انظر حديث الأصمعي في الأغاني ١٤/ ٣٩.
٢ في القرآن الكريم: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ سورة الإسراء آية ٣١، انظر أيضا سورة الأنعام آية ١٥١.
٣ الأغاني ٣/ ٨١، ٨٢.
٤ انظر على سبيل المثال شرح ديوانه لابن السكيت/ ١٠٣، ١٠٤.
٥ الأغاني ٢١/ ٦٠.
٦ الأغاني ١٨/ ١٣٥ - وأسدف الرجل: أظلمت عيناه من الجوع.
1 / 30