The Phenomenon of Postponement in Islamic Thought
ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي
Daabacaha
دار الكلمة
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م
Noocyada
ـ[ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي]ـ
المؤلف: سفر بن عبد الرحمن الحوالي
دكتوراة بإشراف الأستاذ: محمد قطب، ١٤٠٥ هـ - ١٤٠٦ هـ
الناشر: دار الكلمة
الطبعة: الأولى، ١٤٢٠ هـ / ١٩٩٩ م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي]
_________
رسالة مقدمة لنيل درجة التخصص العليا (الدكتوراه)
جامعة أم القرى - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - قسم الدراسات العليا الشرعية - فرع العقيدة
1 / 1
المقدمة
الحمد لله الذي خلق السماوات وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم على رسوله المبعوث رحمة للعالمين، الذي أوضح الحجة وأبان المحجة وترك الأمة على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.. أما بعد:
فإن التفرق في الدين والتخاصم في رب العالمين سنة الأمم قبلنا وواقع حالنا بعدهم، وقد كانت أول فرقة مرقت من الدين وشقت صفوف المسلمين هي (الخوارج) . وإنما كان ضلالها حينئذ في مسألة الإيمان؛ إذ كفرت المسلمين بالذنوب، واستحلت دمائهم وأموالهم، ثم تتابعت الفتن وظهرت الفرق، وكلما ظهرت البدع وانتقصت الطاعات وارتكبت المحرمات ازداد حال الأمة تفرقًا وذلًا وضلالًا.
هذا ورسول الله ﷺ إنما ربى أصحابه على التسليم والاتباع والسمع والطاعة، فلا تقديم بين يدي الله ورسوله، ولا اعتراض على أمره، ولا تولي عن طاعته، فكانوا خير أصحاب وحواريين كما كان نبيهم ﷺ خير نبي ورسول.
آمنوا بالله ورسوله الإيمان الصادق الحي الذي أثنى الله تعالى عليهم به في كتابه، وما عرفوه فلسفة ولا نظريات ولا جدلًا، وإنما هو الطاعة في المنشط والمكره، والصبر في الرخاء والشدة، والجهاد بكل معنى من معاني الجهاد.
لم يزل هذا الإيمان يكمل ويزداد من زمن الاضطهاد والحصار بمكة، إلى أحداث أحد والخندق بالمدينة، إلى أيام مؤتة وحنين وتبوك، حتى استقامت نفوسهم وزكت قلوبهم وصلحت أعمالهم، فما قبض الله تعالى صفيه من خلقه إلا وقد صاروا أهلًا لحمل الأمانة وإبلاغ الرسالة والقيام بأمر هذا الدين كله.
فاجتثوا خبث المرتدين، ثم ثنوا بالدولتين العظميين فركبوا إليها البر الأجرد والبحر الأخضر، وما كانت إلا سنوات معدودات حتى أنفقت كنوز كسري وقيصر في سبيل الله ﷿، وأصبحت الظعينة تسير من خراسان إلى الأندلس لا تخاف إلا الله، ودفع ملوك الهند والصين الجزية لأتباع خاتم المرسلين، وخمدت نار المجوسية وخنست النواقيس والصلبان إلى غياهب أوروبا الهمجية، وظهر أمر الله وأعداؤه كارهون.
1 / 7
واستمرت تلك الموجة الكبرى والمدة العظمى ما شاء الله أن تستمر، ثم أخذت في الانحسار لما ظهرت الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، واستجاب فئات من هذه الأمة للحاقدين والهدامين من بقايا الأديان المنسوخة وشراذم الفلسفات الممحوقة، وأصابت الأمة سنة الأمم الأولى؛ فتجارت ببعضها الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبة، فما مرقت الخوارج إلا وتزندقت الشيعة وفسقت المرجئة ثم ألحدت القدرية - وهذه الأربع هي أصول الفرق - ثم تتابعت الفتن وتكاثرت الأرزاء، فلولا أن هذا الدين من عند الله وله من جنده المخلصين من يرعاه لما بقيت له من باقية.
ولكن الله جلت حكمته قضى ألا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضيرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله و" جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يتشبه عليهم " (١) .
والخلاف في مسألة الإيمان - مع كونه أول خلاف في الملة - ظل من أعظم قضايا الخلاف بين هذه الأمة في عصورها كلها، وفي مطلع العصر الحديث أصبحت أعظم القضايا التي تشغل بال هذه الأمة وذلك منذ أن ظهرت دعوة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب ﵀ التي أعادت الحنيفية جذعة نقية.
فقد أطبق أعداء السنة على أنها دعوة خارجية وفكرة حرورية لأنها - بزعمهم - تكفر المسلمين، وما كفرت مسلمًا قط، وإنما كفرت المشركين وحاربت المارقين.
ومهما يكن من أمر فقد أحدثت الدعوة المباركة صدى عالميًا كبيرًا اضطر مخالفها إلى إعادة النظر في الإيمان والكفر والشرك والتوحيد.
ثم كانت موجة الحملات الصليبية الأخيرة (الاستعمار) وفتنة الحضارة الغربية الجاهلية، فذهلت الأمة عن دينها ونسيت انتمائها حتى شاء الله تعالى أن تخرج من بقايا دعوة الشيخ أو من أصدائها دعوات وحركات تنادي بالإسلام من جديد.
_________
(١) من مقدمة الرد على الجهمية والزنادقة، للإمام أحمد ﵀.
1 / 8
وفي العقود الأخيرة خاصة ظهرت بواكير عودة صادقة إلى الإسلام الكامل والتخلص من أثار الغزو الحضاري الكافر وتمثل ذلك في شباب فتحوا أعينهم على أمة منهارة متطاحنة تعاني أمراضًا مزمنة في كل منحى ومجال.
أمة ترضى من دينها إلى الانتساب الاسمي بلا عمل ولا جهاد ولا دعوة، وتلقي مسؤولية كل عجز ومرض وتخلف وذل على تخطيط الأعداء ومؤامرات الاستعمار.
ثم وقعت في السنوات الأخيرة أحداث كبرى على الساحة الإسلامية أثبتت الفراغ العقدي الهائل الذي يسيطر على الأمة، والفوضى الرهيبة التي يعاني منها الشباب في التصورات والسلوك.
لقد استطعنا - نحن شباب الإسلام - أن نكسر طوق الولاء المطلق للغرب، وأن نرفض حضارته الزائفة إلى حد لا بأس به وعرفنا الكثير من عدونا وخططه ومؤامراته، لكننا حتى الآن لم نعرف حقيقة من نحن؟ وفي أي طريق نسير؟
نردد: إنا مسلمون وفي طريق الإسلام نسير ... ولكن أقدامنا تصطدم بصخور وركام أنتجتها قرون طويلة من الضلالات والانحرافات.
وعلينا لكي نرتقي بأنفسنا وأمتنا أن نجتاز عقبة شائكة يعترضها ثلاث وسبعون طريقًا، الطريق المنجي منها طريق واحد فقط وما عداه مهلكة، وهذا الطريق الوحيد هو منهج أهل السنة والجماعة الذي نجزم عن دين ويقين أنه منهج الفرقة الناجية الذي لا يقبل الله سواه.
وإن تعجب فاعجب لكون النظرة الغالبة على كثير من شباب الدعوة الإسلامية اليوم هو أن عقيدة أهل السنة والجماعة لا تعدوا أن تكون تصورات نظرية صحيحة لعالم الغيب وقضايا الاعتقاد وليست - مع ذلك - منهجًا للدعوة والإصلاح والتغيير!!
ويجب أن نعترف بأن السبب في هذا الفهم القاصر هو حملة العقيدة - قبل كل شيء - الذين لم يوضحوا معالمها ويكشفوا عن كمالها الذي هو حقيقة كمال الإسلام نفسه.
ولهذا رأيت من واجبي - وقد وفقني الله لأن أتربى على هذه العقيدة وأعرف حقيقتها العلمية وأتمثل منهجها العملي مستوحى من سيرة الرسول ﷺ ووقائع الدعوات التجديدية السنية - أن أسخر حياتي العلمية لهذا الأمر العظيم.
وقد بدأت ذلك برسالة "التخصص الأولى" التي كان موضوعها:
1 / 9
(العلمانية: نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية) ثم ثنيت بهذه الرسالة لنيل درجة "التخصص العليا" فكانت الأولى تعالج فصل الدين عن الحياة، والأخرى تعالج فصل الإيمان عن العمل، كلتاهما على ضوء هذه العقيدة، ومن هنا كانتا تعبران عن قضية واحدة وإن تباعد موضوعاهما ظاهرًا.
وقد كانت الأولى بلا ريب طريقًا للأخرى؛ فمن خلال الدراسة لأسباب العلمانية الطاغية على الحياة الإسلامية المعاصرة رأيت رأي العين أن سبب كل انحراف وذل وهزيمة وفرقة في حياتنا، لا يزيد عن شيء واحد هو البعد عن منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة والسلوك وسبيل الإصلاح.
وانطلاقًا من ذلك كان منهجي في هذه الرسالة يقوم على ثلاثة أسس:
* الأول: دراسة " الإرجاء " على أنه " ظاهرة فكرية " لا " فرقة تاريخية ".
والفرق بين هذين كبير جدًا في طبيعة البحث وفي آثاره ونتائجه؛ فحين نبحث الإرجاء على أنه فرقة من الفرق التي طواها التاريخ فمن أهم ما يفوتنا هو معرفة حقيقة واقعنا المعاصر الذي يسيطر عليه الفكر الإرجائي، وحينئذ لا يزيد البحث عن كونه عملًا " أكاديميًا " يضاف إلى مجموعة المؤلفات التي تتحدث عن تاريخ الفرق وآرائها.
أما حين نبحثه على أنه ظاهرة فكرية نشأت ثم تطورت إلى واقع ضخم يواجه كل دعوة تجديدية، ونفسر بها كثيرًا من أسباب التخاذل والتردي الذي تعاني منه الأمة عامة والدعوة خاصة، فإن النتائج الإيجابية لذلك ستنهال علينا من كل جانب، وحسبنا إن لم نعط القضية حقها أن نثيرها ونبعثها ونخطو في سبيلها ما استطعنا ثم الله يهيئ لها ما يشاء.
ومن هنا انصب الاهتمام على " ركن العمل " وضرورته للإيمان والدعوة وكيف تخلت الأمة عنه مكتفية من الإيمان بالاسم والإقرار.
وهنا لا بد من بيان حقيقة مهمة كان لها أثرها البالغ في منهج البحث: وهي أن الإرجاء لم يكن - في الأصل - دعوة واعية مقصودة لترك العمل والتفلت من الطاعات، وإنما كان تفسيرًا ضالًا لحقيقة الإيمان أنتجته أسباب تاريخية شرحناها في موضعها.
ولكن الأمة وهي تتراخى عن العمل بالتدريج وتنفلت من الواجبات وتنحدر عن قمة الامتثال رويدًا رويدًا فكانت تجد في الإرجاء تفسيرًا مريحًا يبرر لها تراخيها وتفريطها - وهذه حقيقة نفسية معروفة - فكل ما انحسر عنه العمل واقعيًا ستره ثوب الإرجاء الواسع نظريًا.
1 / 10
ولهذا لم يكن المرجئة القدماء بحاجة إلى أكثر من كشف شبهاتهم النظرية وردهم بالدليل العلمي الصريح.
ولكن الحال تغير بعد انتشار الظاهرة وسيطرتها؛ إذ أصبحت الأمة في القرون الأخيرة تتبنى الإرجاء عقيدة ومنهجًا وتعد مخالفه خارجًا مارقًا، وتضبط دينها وأحكام إيمانها بأصوله وقواعده.
فصارت تعتقد أن التصديق القلبي المجرد من قول اللسان وعمل الأركان هو حقيقة الإيمان الذي أنزل به الله الكتب وبعث به الرسل وجعله مناط النجاة من عذابه في الآخرة، وتبني على ذلك لوازم وأحكامًا، أهونها تخطئه السلف في إجماعهم على أنه قول وعمل وعدم تكفير طوائف من المرتدين.
وأصبح معنى كون الصلاة والزكاة والصيام والحج أركانًا للإسلام هو اعتقاد وجوبها والإقرار به وإن لم يعمل من ذلك شيئًا.
ونحو ذلك مما يستغربه الناظر أول وهلة، ثم يتأمل فإذا هو عندهم حقيقة واقعة.
والأدهى من ذلك أن تقوم بعض اتجاهات الدعوة الإسلامية - التي عملها وغرضها في الأصل إعادة الناس إلى حقيقة الإيمان اعتقادًا وعملًا - على هذا الفكر العقيم وتتبناه وتدعوا إليه، كما سنبينه في الفقرة التالية.
من هنا كان لا بد من تغيير منهج العرض والمناقشة لقضية الإيمان وعلاقته بالعمل والدعوة بانتهاج منهج يجمع بين الدليل العلمي النظري من النصوص وكلام السلف، وبين الدليل الواقعي المحسوس من سيرة النبي ﷺ وحقيقة النفس البشرية ذاتها.
وإيضاحًا لذلك نقارن بين نص من كلام أحد رؤوس المرجئة في مرحلة تأسيس الإرجاء، وبين ما يكتبه بعض الدعاة المعاصرين.
يقول عمر بن ذر الهمداني (١) أحد رؤوس المرجئة، وابن ذر ابن عبد الله الهمداني الذي قال عنه الإمام أحمد: إنه أول من تكلم في الإرجاء " لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم ونظر إلى أهل السآمة والغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم من الضجعة والنوم، قاموا إلى الله فرحين مستبشرين بما قد وهب لهم من حسن عبادة السهر وطول التهجد، فاستقبلوا الليل بأبدانهم وباشروا ظلماته بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل وما
_________
(١) انظر: حلية الأولياء (٥/١٠٨- ١١٥)، وتهذيب الكمال، لوحة ١٠٠٨
1 / 11
انقضت لذتهم من التلاوة ولا ملت أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقد ولى عنهم الليل وبربح وغبن.
أصبح هؤلاء قد ملوا النوم والراحة، وأصبح هؤلاء متطلعين إلى مجيء الليل للعبادة - شتان بين الفريقين.
فاعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار والمحروم من حرم خيرهما وإنما جعلا سبيلًا للمؤمنين إلى طاعة ربهم ووبالًا على الآخرين للغفلة عن أنفسهم فأحيوا لله أنفسكم بذكره فإنما تحيا القلوب بذكر الله. كم من قائم في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في حضرته وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله ﷿ للعابدين غدًا فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام رحمكم الله" (١) .
فهذا الرجل كان يقول: الإيمان هو الاعتقاد والإقرار فقط، لكن هل يتصور منه أن يقول: إن مجرد التصديق القلبي دون قول ولا عمل كاف في النجاة عند الله، أم إن القضية عنده شبهة نظرية مجردة لم يكن لها أي مدلول واقعي إلا الهروب من تكفير صاحب المعصية الذي وقعت فيه الخوارج؟
غير إن هذا القول نفسه قاله بعض الدعاة المعاصرين امتدادًا لظاهرة الإرجاء العامة وقد ذكرنا كلامهم في موضعه.
• الثاني: معالجة واقع الدعوة الإسلامية المعاصرة، فالمشاهد اليوم أن أصحاب الدعوة ينقسمون غالبًا - فريقين -، وكل فريق تتوزعه فرق وآراء واجتهادات:
- أحدهما: فطن إلى أصل القضية ومكمن الدواء فأراد أن يصحح الأصول ويجلي بديهيات الدين ويربط ذلك بالعمل وضرورته لكنه سلك في سبيل ذلك حرفة عقيمة في الفهم، وإشارة موغلة في الغلو ظانًا أن هذا هو منهج العزيمة والاستقامة، فوقع في طامة التكفير - أعني تكفير أعيان عوام المسلمين من المخالفين -.
وهكذا نفر من بدعة ليقع في بدعة شر منها وسد على نفسه منافذ الاتصال بالناس وإيصال الحق لقلوبهم فتحولت دعوته إلى نظرة عميقة تتآكل كل يوم وتفرز بدعًا جديدة واستتبع ذلك انحرافًا خطيرًا في منهج التلقي
_________
(١) منقول من الحلية الموضع السابق.
1 / 12
والاستمداد، حيث وضعت أصول ومعايير لا تقل شرًا وخطرًا عن شرائع الطواغيت الوضعية.
- والآخر: انطلق في دعوته بدون منهج واضح ولا تصور اعتقادي متكامل، فلم يتناول الأمر بالتأصيل العلمي بل بالتهويش العاطفي، فكان أن واجهه أصحاب الفريق الأول بأصول وقواعد لا يملك مثلها ولا يستطيع ردها، فهرب من التكفير إلى التبرير، وأخذ يسند هذا الواقع المنحرف ويؤصله بنظريات بدعية، ووجد في مذهب المرجئةـ الذي أصبح كما قلنا هو الظاهرة الفكرية العامة - بغية وسندًا، فنسى نفسه ونسى مهمته الأساس وهو تغيير هذا الواقع لا تبريره.
* فالفريق الأول: أعاد مذهب الحرورية جذعًا.
* والآخر: أحيا مذهب المرجئة غضًا ونقله من الدوائر الأكاديمية التقليدية إلى منهج العمل والتغيير!!
وهكذا أصبحت الكتابة عن هذا الموضوع "حقيقة الإيمان" على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة ضرورية لكبح جماح الغالين ودفع تفريط المقصرين.
• الثالث: وهو كالنتيجة للأولين - اختطاط منهج للبحث يزيد على مجرد البحث العلمي النظري للقضية - أي إيراد الأدلة ونقضها - بإضافة عناصر جديدة تخاطب البديهة والوجدان والعقل معًا، وأهم جانب من ذلك استحضار واقع الجيل القدوة الذي رباه النبي ﷺ، والتأسي بهم في استكمال الإيمان والدعوة إليه والحكم على تاركه، وكذا بيان حقيقة النفس الإنسانية، التي لا تخلو قط من إرادة وعمل، وربط بذلك بحكمة الدين وغايته التي هي إصلاح الإرادات وتزكية الأعمال، مما بين أن الإيمان اعتقاد وعمل على الحقيقة الشرعية والواقعية والنفسية في آن واحد.
على هذا دارت مباحث هذه الرسالة، التي أسأل الله تعالى أن ينفعني بها وإخواني المسلمين، وأن يجعل كل ما بذل فيها من جهد ونَصَب خالصًا لوجهه الكريم. وتبعًا لذلك قسمتها إلى خمسة أبواب:
• الباب الأول: يبحث في حقيقة الإيمان وارتباط العمل به من خلال:
١- دعوة النبي ﷺ وسيرته.
٢- حقيقة النفس الإنسانية.
٣- حقيقة الإيمان الشرعية.
1 / 13
• والباب الثاني: يبحث في التاريخ الفكري للإرجاء منذ نشأته إلى أن أصبح فرقًا كثيرة، ثم ظاهرة فكرية عامة وواقعًا طاغيًا، مع الاهتمام الخاص بقضية " ترك العمل " وحكمها عند المرجئة والأسباب الفكرية لوقوع ذلك.
• والباب الثالث: الإرجاء الظاهرة، وتفصيل الكلام على نوعي الإرجاء، إرجاء الفقهاء والعباد وإرجاء المتكلمين والمتمنطقين، وحكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة.
• والباب الرابع: تفصيل لعلاقة الإيمان بالعمل، والظاهر بالباطن مع الاهتمام الخاص بأعمال القلوب التي كان الانحراف فيها من أعظم أسباب انتشار الظاهرة وشرح نماذج منها وهي بعض شروط لا إله إلا الله.
• والباب الخامس: بيان أن الإيمان حقيقة مركبة من ركني القول والعمل، توصلًا بذلك إلى معرفة بطلان مذهب المرجئة في حكم تارك العمل مطلقًا، وبيان حكم صاحب الكبيرة على ضوء ذلك، وسبب ضلال الفرق فيه.
ثم نقض أهم الشبهات النقلية للمرجئة على أن العمل غير داخل في الإيمان.
هذا ولا يفوتني أن أتقدم بخالص الشكر وعظيم التقدير إلى أستاذي الكريم الأستاذ محمد قطب، الذي بذل من الوقت الثمين والرأي الصائب ما كان له أثره البالغ في إنجاز هذه الرسالة وتقويمها.
كما أشكر للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ولجامعة أم القرى بمكة المكرمة ممثلتين في مسئوليهما كافة، مما أتيح لي من فرصة لطلب العلم وخدمة لتحصيله، وأخص بالشكر الأخوة العاملين بمركز البحث العلمي، وكذا كل من قدم لي خدمة، أو أسدى إلى توجيهات من الأساتذة الكرام أو الأخوة الزملاء.
والحمد لله أولًا وآخرًا.
1 / 14
الباب الأول: حقيقة الإيمان وارتباط العمل به
ويشتمل على:
• دعوة النبي ﷺ (ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة)
• حقيقة النفس الإنسانية
• حقيقة الإيمان الشرعية
1 / 15
الباب الأول: حقيقة الإيمان وارتباط العمل به
مقدمة:
يقول الله تعالى:
«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (١) .
ويقول جل ذكره:
«كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (٢) .
ويقول:
«لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (٣) .
هذه الآيات الكريمة انتظمت أصول الغايات والحقائق الكبرى للدين، وهي:
الغاية من خلق الثقلين وحقيقة مهمتهم.
الغاية من إرسال الرسل وحقيقة دعوتهم.
حقيقة سنة اقتران القوة بالحق لتحقيق تلك الغايات.
فالله ﵎ خلق آدم وذريته مفطورين على الإيمان والتوحيد، وظلت الجماعة البشرية الأولى سائرة على هذا المنهج القويم ما شاء الله أن تسير (٤)، ثم أصابتها السنة الكونية «وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ» (٥)، تلك السنة التي تقتضي وتستلزم من الحكم والمصالح، وظهور آثار صفات الله ﷿ ما يعجز عنه البيان.
_________
(١) [الذاريات: ٥٦]
(٢) [البقرة: ٢١٣]
(٣) [الحديد: ٢٥]
(٤) هذا هو الراجح في تفسير آية: "كان الناس أمة واحدة" [البقرة: ٢١٣]، انظر: الطبري (٢/٣٣٦- ٣٣٧)، وابن كثير (١/٣١٤- ٣٦٥)، وانظر إغاثة اللهفان (٢/٢٠٣)، ويدل له ما في الحديث الآتي "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم" الحديث.
(٥) [هود: ١١٨، ١١٩]
1 / 17
ومنذ أن وقع الشرك الأول في بني آدم والمعركة قائمة لم تهدأ، مستعرة لم تخب بين الحق والباطل وبين الإيمان والكفر.
وقد تمثل الشرك الأول في الركنين الأساسين لمفهوم العبادة وهما:
١- التقرب والتوجه والتنسك.
٢- الطاعة والتشريع والأتباع.
وهما ركنان متداخلان.
وما صح لدينا من أخبار الأمة الشركية الأولى " قوم نوح " يدل على ذلك:
١- قال الله تعالى عنهم: «وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا» (١) .
وهذه الأصنام التي تنسكت الجاهلية الأولى بالتقرب إليها، وهي في الأصل " أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كان يجلسون أنصابًا (تماثيل)، وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد (أول الأمر) حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت" (٢) .
روى مسلم عن عياض بن حمار ﵁ أن رسول الله ﷺ قال ذات يوم في خطبته:" ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته (٣) عبدًا حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا.. " (٤) الحديث.
فهذا انحرافهم في الطاعة والتشريع، المقارن لشركهم في التقرب والتنسك.
_________
(١) [نوح:٢٣]
(٢) (البخاري) التفسير (٨/٦٦٧) . (مع الفتح) .
(٣) أي أعطيته ورزقته.
(٤) الحديث (٢٨٦٥)، وهو حديث جامع عظيم له بقية ستأتي بإذن الله، ووجه دلالته أنهم ظلوا على التوحيد قرونًا - ورد في بعض الروايات أنها عشرة - حتى اجتالتهم الشياطين فأوقعتهم في الشرك، فهذا الجنس البشري عامة، أما الفرد الواحد فإنه يولد على الفطرة لكن أبويه هما اللذان يصرفانه عنها.
1 / 18
ومن ثبات السنن الدالة على وحدة " المعركة " أولًا وآخرًا أن الله بعث محمدًا ﷺ، والعرب واقعة في الشرك في هذين الركنين عينهما، فقد كانت تعبد الأصنام نفسها التي عبدها قوم نوح، إذ " صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد. أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد. ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع " (١)، مع ما أضافه عمرو بن لحي الخزاعي (٢) والطواغيت بعده من أصنام أخرى كاللات والعزى ومناة وهبل، وتشريعات غيروا بها ملة إبراهيم.
فكانت العرب أيضًا واقعة في شرك الطاعة والاتباع، وقد ذكر الله تعالى أمثلة له من " البحيرة والسائبة والوسيلة والحامي " وغيرها مما أفاضت فيه سورة الإنعام مثل: قتل الأولاد واستحلال الميتة وما جعلوا لله - مع شركائهم - من نصيب في الحرث والإنعام، وما جعلوا منها من حجر لا يطعمه إلا من يشاءون - بزعمهم - وما حرموه من ظهورها.. كل ذلك افتراءً على الله وتخرصًا على دينه واتباعًا للشياطين «وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» (٣) .
وهو ما ذكره النبي ﷺ في الحديث السابق عن أصحاب الشرك الأول.
ولمناسبة كون المعركة - من نوح إلى محمد ﷺ واحدة، وقضيتها واحدة، جاء التعبير عن الرسالات جميعًا بأنها " كتاب " واحد - في الآيات السابقة - «وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» (٤)، «وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (٥) .
وقوله: «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ» (٦)، ونحوها.
_________
(١) هو أول الحديث السابق في قصة نوح (٨/٦٦٧) .
(٢) هو أول من أدخل الأصنام إلى بلاد العرب مغيرًا بذلك ملة إبراهيم ﵇. أنظر خبره في البخاري (٦/٥٤٧) و(٨/٢٨٣)، ولمزيد المعرفة عن الأصنام انظر: إغاثة اللهفان (٢/٢٠٣- ٢٢٢) .
(٣) [الأنعام: ١٢١]
(٤) [البقرة:٢١٣]
(٥) [الحديد:٢٥]
(٦) [الشورى: ١٧]
1 / 19
كما جاء التعبير عن رفض دعوة الرسل وعبادة غير الله - مهما تباعدت الأجيال وتنوعت المعبودات - بأنه عبادة للشيطان «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» (١) .
وكذلك جاء وصف أعداء الرسالات من البشر موحدًا كذلك وهو " الملأ " المستكبرون أصحاب السلطان والمال وذلك في آي كثير.
وموجز دعوة الرسل جميعًا أنها دعوة واحدة إلى منهج " التوحيد " بكل فروعه وأنواعه وموالاة أهله، وما يستلزمه ذلك من نبذ الشرك بكل صورة وألوانه، ومعاداة أهله.
وغاية دعوتهم هي مصلحة العالمين أنفسهم، لكي تقوم حياتهم بالقسط في الدنيا وينعموا برضا الله وجنته في الآخرة «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (٢) .
ومن هنا ارتبطت دعوتهم بالجهد والعمل، وارتبط كتابهم بالسيف والحديد.
إن حقيقة المعركة التي خاضها الأنبياء مع أممهم، والسنة الثابتة في دعوتهم، لا تتجلى إلا لمن عرف حقيقتين مهمتين ينبغي لمن أراد الانضمام لموكبهم الكريم وركبهم الناجي أن يجعل معرفتهما منطلقًا لدعوته وأساسًا لمنهجه:
١- طبيعة الدين كما أنزله الله وأراده أن يتحقق في واقع الأرض.
٢- طبيعة الجاهلية التي نزل لإبطالها وحربها.
والآن وقد دار الزمان دورة ثالثة حتى أوشك أن يعود كهيئته يوم أن بعث الله محمدًا ﷺ (حيث تردى الإنسان المعاصر إلا قليلًا في عين ما وقع فيه قوم نوح والعرب من شرك في التقرب والنسك، وفي الطاعة والتشريع) أصبح لزامًا على أولي البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض تجلية هذه الحقائق عن الدين، قبل الدخول في أية تفصيلات أو مناقشات مع الفرق المخالفة أو مع المتلوثين بهذا الشرك الجديد، فالتوحيد هو أول واجب على العبد وأول موضوع للدعوة (٣) .
_________
(١) [يس:٦٠،٦١]
(٢) [الأنبياء: ١٠٧]
(٣) هذا هو الحق الذي لا مرية فيه والذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة. أما الرد على مزاعم المتكلمين قديمًا من أن أول واجب هو النظر أو القصد إلى النظر أو الشك. ومنهج بعض المعاصرين الذين يقتصرون على الدعوة إلى تشريعات الإسلام الاقتصادية والاجتماعية من غير بيان علاقتها بأصل التوحيد - فهذا ما ندعو الله أن ييسر لنا إخراجه قريبًا.
1 / 20
ذلك أن الخلل ليس في العمل والسلوك بل تعداه إلى العقيدة ذاتها، فانحسرت مفهوماتها، وانحصرت مدلولاتها، ونسيت المهمة التي جاء الدين من أجلها وقام عليها، ودرس الإسلام كما يدرس الثوب الخلق حتى لم يبق منه في أكثر البقاع وعند أكثر الناس إلا اسمه، ولم يبق من القرآن إلا رسمه.
وليس أمام " الغرباء " الذين يريدون القيام مقام " الأنبياء " بهداية الناس للحق، ويمثلون " الطائفة المنصورة " الناجية التي كتب الله أن تظل على الحق لا يضرها من خالفها - ليس أمامهم من خيار في البدء بتصحيح العقيدة، وتجلية مفهوماتها من خلال هاتين الحقيقتين، ثم البيان العلمي الواضح لأصول الدين وحقائقه.
وقد دل استقراء نصوص الكتاب والسنة أن هذا الدين يقوم على أصلين:
١- ألا يعبد إلا الله (بالمعنى الشرعي الكامل للعبادة) .
٢- وألا يعبد الله إلا بما شرع (١) .
هذا في حقيقته وذاته، أما أسلوبه العلمي ومنهجه الدعوي (وهو الجانب الذي يهمنا الآن) فقد تضمنته آية الحديد السابقة، التي جعلها شيخ الإسلام ابن تيميه محور كتابه القيم "السياسة الشرعية". قال في مقدمته:
"الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات والهدى، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله قوي عزيز، وختمهم بمحمد ﷺ الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأيده بالسلطان النصير الجامع معنى العلم والقلم للهداية والحجة، ومعنى القدرة والسيف والنصرة والتعزيز" (٢) .
وقال في خاتمته: "إن قوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد الناصر كما ذكره الله تعالى - أي في آية الحديد السابقة - فعلى كل أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن والحديد لله تعالى ولطلب ما عنده " (٣) .
_________
(١) انظر: العبودية، ص ١٧٠، المكتب الإسلامي، ومواضع كثيرة من كتب شيخ الإسلام.
(٢) مجموع الفتاوى (٢٨/٢٤) .
(٣) المصدر السابق (٢٨/٣٩٦) . ومثله في بدائع الفوائد (٢/١٥) .
1 / 21
إن اقتران الحديد بالقرآن من أجل إقامة دين الله في الأرض، ليكشف عن سنة ربانية عظمى في عظمة هذا الدين، وطبيعة الجاهلية المقابلة، وهي أن "هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام كما جاء به محمد ﷺ لا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي الله ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية.
إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر، تؤمن بالله إيمانا كاملًا، وتستقيم عليه بقدر طاقتها، وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها، وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تبقى جهدًا ولا طاقة. تجاهد الضعف البشري والهوى البشري والجهل البشري في أنفسنا وأنفس الآخرين، وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر" (١) .
هذه المجموعة تجاهد الناس بالقرآن «وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا» (٢)، وتجاهدهم بالحديد «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» (٣)، حتى يستقيموا إلى الله ويستقيموا على دين الله، وهذا ما أعلنه رسول الله ﷺ بقوله: " بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم " (٤) .
وقوله: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " (٥) .
_________
(١) طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص ٣٩.
(٢) [الفرقان:٥٢]
(٣) [البقرة: ٢٥١]
(٤) رواه الإمام أحمد، المسند (٢/٩٢) وشرحه الحافظ ابن رجب شرحًا قيمًا، وهو صحيح، وروى البخاري بعضه تعليقًا. أنظر: الفتح (٦/٩٨) .
(٥) رواه البخاري الإيمان (١/٧٥) "الفتح"
1 / 22
مع نصوص كثيرة لا تحصى، وليس هذا خاصًا بمحمد ﷺ، بل هو سنة جارية في الأنبياء قبله وإن اختلفت صور الجهاد والابتلاء، فما عليهم إلا الصبر والدعوة أما النصر والتمكين فمن عند الله.
وقد كان الناس الذين يملكون أثارة من علم يعلمون هذه الحقيقة، قبل أن يقرءوها في كتاب الله تعالى، بل قبل أن ينزل بها.
فهذا ورقة ابن نوفل يقول للنبي ﷺ بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة: " ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك! ".
فيسأله النبي ﷺ في استغراب: " أو مخرجي هم؟ ". فيقول ورقة: " لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي " (١) .
وهذا قيصر الروم يقول في حديثه مع أبي سفيان: " سألتك كيف كان قتالكم إياه، فزعمت أن الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل تبتلى ثم يكون لهم العاقبة " (٢) .
وهذا ما صدقه الله بقوله تعالى:
«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» (٣) .
وفي هذا رد - وأيما رد - على الذين يحسبون الإيمان نظرية تعلق بالفكر، يستوجب صاحبها الجنة بلا ابتلاء ولا زلزلة (٤)، وهو ما تأباه سنة الله الثابتة هذه، وتأباه طبيعة الإيمان نفسها، بل طبيعة الجاهلية أيضًا.
فلا الإيمان كان نظرية مجردة، ولا الجاهلية كانت كذلك، ولا يكون ذلك أبدًا، بل هنالك سنة من سنن الاجتماع البشري، يشهد بها الواقع المحسوس والتاريخ المسطور، وهي أن "هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده، والتي واجهها الداعية العظيم محمد ﷺ بدعوته، والتي واجهها الدعاة في كل زمان وفي كل مكان. إن الجاهلية لم تكن متمثلة في نظرية مجردة، بل ربما أحيانًا لم تكن لها نظرية على الإطلاق إنما كانت متمثلة في تجمع حركي، متمثلة في مجتمع خاضع
_________
(١) الفتح (١/٢٣) وسيأتي بتمامه.
(٢) الفتح (١/٢٠)
(٣) [البقرة:٢١٤]
(٤) كما هو لازم مذهب المرجئة الغلاة قديما؛ الذين قالوا: إن الإيمان هو مجرد المعرفة أو مجرد التصديق. كما سيأتي تفصيله.
وهو مذهب بعض العصريين الذين لا يتعدى الإيمان عندهم النظرية الفلسفية المجردة.
1 / 23
لتصورات وقيم ومفاهيم ومشاعر وعادات، وهو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي، الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك بإرادة واعية أو غير واعية للمحافظة على وجوده والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أي صور التهديد" (١) .
وهذه الطبيعة المتأصلة في الجاهلية جاء الحديث عنها في القرآن في مواضع كثيرة وتصويرها في مواقف كثيرة من أمثال:
«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ» (٢) .
«قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ» (٣) .
«وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ» (٤) .
«وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ» (٥) .
«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا» (٦) .
«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ» (٧) [الأنعام: ١١٢] .
_________
(١) طريق الدعوة في ظلال القرآن (١/١٣٧) .
(٢) [إبراهيم: ١٣، ١٤]
(٣) [الأعراف: ٨٨، ٨٩]
(٤) [النمل:٥٤، ٥٦]
(٥) [غافر: ٢٦]
(٦) [الفرقان: ٣١]
(٧) [الأنعام: ١١٢]
1 / 24
«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ» (١) .
«وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ» (٢) .
وإيضاحًا لهذا الإجمال، وتفصيلًا لهذه الحقائق، رأيت عرض ظاهرة العمل وعلاقتها بالإيمان من خلال:
١- تتبع المسيرة التاريخية لدعوة النبي ﷺ، التي بها تظهر طبيعة هذا الدين في حركته، والصورة المثلى لقيامه وتحققه في واقع الأرض، كما تظهر بها الحقيقة الثابتة في الجاهلية سواء في النفوس أو في الأمم.
٢- دراسة النفس الإنسانية ومعرفة طبيعة همها وسعيها ودوافع ذلك وضوابطه، وربط ذلك بواقع الجيل الأول وحقيقة التوحيد الصافية، إذ بها تظهر حقيقة الإيمان التي أنزله الله ليزكيها ويوجهها فجعله ملائمًا لها متسقًا مع فطرتها شاملًا لكل حركتها.
ثم ننتقل بعد ذلك إلى حقيقة الإيمان العملية والنظرية كما هي في الكتاب والسنة، وعقيدة أهل السنة والجماعة، لنرى مدى التوافق والتطابق والانسجام.
_________
(١) [الأنعام: ١٢٣]
(٢) [الأنفال:٣٠]
1 / 25
دعوة النبي ﷺ: «ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة»
تعد الفترة السابقة لمبعث النبي ﷺ (ق٦ و٧ م) من أحلك القرون في تاريخ الجماعة الإنسانية وأكثرها ضلالًا وضياعًا. ولهذا استحقت المقت من الله تعالى كما أخبر النبي ﷺ في الحديث الصحيح: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" (١) .
فالعالم الأرضي كله يتخبط في ظلمات الأديان المحرفة والوثنيات الكالحة والأنظمة الطاغوتية، وكان هذا العالم ينقسم قسمين كبيرين:
١- القسم البدائي.
٢- القسم المتحضر.
أما القسم الأول: وهو يشمل الشعوب الهمجية التي تقطن غرب أوروبا ووسط آسيا وشرقها ومعظم إفريقية. فحاله غني عن الشرح والبيان، وهو إلى حياة السوائم أقرب منه إلى حياة البشر في كل مناحي الحياة.
والنماذج الباقية منه الآن تعطي صورة مصغرة منه للحال التي كان عليها في ذلك الزمن الغابر.
وأما القسم الأخير: فأبرز من يمثله الدولتان العظيمتان "فارس والروم"، وكلاهما كان يخضع لنظام طاغوتي استبدادي، ويدين بدين باطل منحرف.
فالفرس يدينون بالمجوسية، والروم يدينون بالديانة التركيبية التي أسسها بولس وأظهرها قسطنطين "المسيحية".
والنظام الاجتماعي في الدولتين كلتيهما من أبشع النظم في التاريخ من حيث التمييز العنصري والتفاوت الطبقي.
_________
(١) هو جزء من حديث عياض بن حمار الآتي تخريجه قريبًا.
1 / 27