The Major Issues
القضايا الكبرى
Daabacaha
دار الفكر المعاصر بيروت-لبنان / دار الفكر دمشق
Lambarka Daabacaadda
١٤٢٠هـ ٢٠٠٠م / ط ١
Goobta Daabacaadda
سورية
Noocyada
ـ[القضايا الكبرى]ـ
المؤلف: مالك بن الحاج عمر بن الخضر بن نبي (المتوفى: ١٣٩٣هـ)
إشراف: ندوة مالك بن نبي
الناشر: دار الفكر المعاصر بيروت - لبنان / دار الفكر دمشق - سورية
الطبعة: ١٤٢٠هـ ٢٠٠٠م / ط ١: ١٩٩١م
عدد الأجزاء: ١
أعده للشاملة/ العبد الضعيف الراجي عفو ربه: أبو ياسر الجزائري.
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
_________
[ملاحظة: قال فضيلة الشيخ محمود الأرناؤوط:
تفضل السادة الأفاضل أصحاب دار الفكر بدمشق بتقديم هذا (الْمَسْرَد) لي للنظر فيه وتخريج ما ورد فيه من الأحاديث، فقمت بذلك حبًا بهم وبدارهم صاحبة الفضل في نشر الكثير الكثير مما ينفع الناس من كتب التراث العزيز وسواها من الدراسات المعاصرة، والله أسأل أن ينفع بعملي في هذا (المَسْرَد) وبأعمالي كلها، وأن يجعلها مقبولة لديه يوم العرض عليه، إنه تعالى خير مسؤول وأسرع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
دمشق في الثامن من ذي القعدة لعام ١٤١١هـ.
محمود الأرناؤوط]
Bog aan la aqoon
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
القضايا الكبرى
دار الفكر المعاصر بيروت - لبنان
دار الفكر دمشق - سورية
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
القضايا الكبرى
1 / 2
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
القضايا الكبرى
بإشراف
ندوة مالك بن نبي
دار الفكر المعاصر
بيروت - لبنان
دار الفكر
دمشق - سورية
1 / 3
إعادة
١٤٢٠هـ = ٢٠٠٠م
ط ١: ١٩٩١م
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في عام ١٩٧١م ترك أستاذنا مالك بن نبي- ﵀ في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم ٢٧٥/ ٦٧ في ١٦ ربيع الثاني ١٣٩١ الموافق ١٠ حزيران (يونيو) ١٩٧١م، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية.
وتحملًا مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذًا لوصية المؤلف (ندوة مالك بن نبي).
وهي مشروع نطرحه كنواة لعلاقات فكرية، كان ﵀ يرغب في توثيقها.
وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجمًا من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني، ﵀، مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيه إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها.
طرابلس لبنان
١٨ ربيع الأول ١٣٩٩هـ
١٥ شباط (فبراير) ١٩٧٩ م
عمر مسقاوي
1 / 5
هذا الكتاب:
بقلم: عمر كامل مسقاوي
ــ
نقدِّمه إلى القارئ تحت عنوان (القضايا الكبرى). لم يكن هذا العنوان من اختيار بن نبي وإنما وقع في يدنا عرضًا طبعة باللغة الفرنسية تحت عنوان (Les grands thèmes)، أصدرها بعض تلاميذ بن نبي في الجزائر عام ١٩٧٦م، وقدّم له وعلَّق عليه الأستاذ نور الدين بوقروح بتكليف من السيد عمر بن عيسى.
وحينما اطَّلعنا على مضمون هذا الكتاب باللغة الفرنسية، وخصوصًا مقدمته لفت نظرنا ذلك الاهتمام الكبير بفكر بن نبي، والذي يعكس المكانة اللائقة التي احتلتها أفكار بن نبي لدى الشباب.
ثم تبيَّن لنا أن (القضايا الكبرى) هذه اشتملت على فصول خمسة: الثلاثة الأولى منها نشرت عام ١٦٦٤م باللغة الفرنسية، وترجمت تحت عنوان (آفاق جزائرية: للحضارة، للثقافة، للمفهومية).
ترجمها الأستاذ الطيب الشريف، وأصدرتها مكتبة النهضة الجزائرية.
أما الفصلان الأخيران، فقد صدر الرابع منهما (الديمقراطية في الإسلام) ضمن سلسلة محاضرات بعنوان (تأملات) أصدرتها دار الفكر بدمشق، والفصل الخامس صدر مستقلًاّ في كتيب تحت عنوان (إنتاج المستشرقين).
وإذ نحن في صدد إعادة نشر مؤلفات بن نبي فقد أغرتنا فكرة الطبعة
1 / 7
الفرنسية التي صدرت تحت عنوان (Les grands thèmes، القضايا الكبرى) لكي نعيد طبع سائر هذه المقالات تحت هذا العنوان، وبذلك يدخل كتاب (آفاق جزائرية) ضمنها للاعتبارات التالية:
ـ[الاعتبار الأول]ـ: أن عنوان آفاق جزائرية يوحي بأنه يطرح مشكلة خاصة بالجزائر فيما هو فكر بن نبي، يتناول مشكلة الحضارة في العالم المثالث عمومًا.
فعبارة (القضايا الكبرى) بدت لنا أكثر اتفاقًا مع توجهات بن نبي، لأنها تشتمل على تحديد منهجي للمفاهيم التي تناولتها هذه المحاضرات المجموعة بين دفتي الكتاب.
ـ[الاعتبار الثاني]ـ: أن هذه الطبعة الصادرة بالفرنسية تشتمل على المحاضرات الخمس التي تترابط فيما بينها وحدة المنهج الفكري لمالك بن نبي.
إذ أنها تناولت مفاهيم الحضارة والثقافة والأيديولوجية، بما ينسجم مع طرح بنية فكرية وسلوكية تتصل بأصول الحضارة الإسلامية ومكوناتها الاجتماعية، التي شرحها في المحاضرة الرابعة تحت عنوان (الديمقراطية في الإسلام). ثم جاءت هذه المجموعة تتحدث عن المدى الذي صاغته الحضارة الغربية في تكوين الفكر والثقافة في مجتمعنا الحاضر عبر (إنتاج المستشرقين). وبذلك ترتسم فكرة بن نبي في تحديد مشكلة الحضارة التي لابدّ لنا في حلِّها من أن نطرح القضايا المرتبطة بفعالية البناء، وأن نُقَوِّم جهود المستشرقين الذين ألهموا فكر النخبة فينا، ونضعها في إطار الصراع الفكري الذي من خلاله تعامل العالم الاستعماري مع العالم المثالث، تعامل استغلال لموارده واسترخاء في إرادته.
ـ[الاعتبار المثالث]ـ: أن الطبعة الفرنسية اشتملت على تقديم يشير بوضوح إلى
1 / 8
نضوج فكر بن نبي في مدارك الشباب الجزائري المثقف، وذلك مؤشر لابدّ من دفعه إلى المدى الذي يؤهل فكر بن نبي ليكون منطلق الفكر والرؤية في جيل الشباب الذي لا يزال منغمسًا في فوضى الاتجاه وضبابية الرؤى وابتسار الحلول.
فالمقدمة التي وضعها الأستاذ بوقروح قد طرحت المشكلة في عمقها الحاسم، ومن أجل بناء رؤية تعيد صياغة فكر النهضة عبر جيل لا يستطيع أن يتجاهل طويلًا كما قال الأستاذ بوقروح مالك بن نبي.
وأمام هذه الرؤية التي طرحها مقدِّم الكتاب والمعلِّق عليه نجد لزامًا، أن يطّلع القارئ العربي على هذه الآفاق التي تضع فكر بن نبي في موقعه الملائم.
ـ[الاعتبار الرابع]ـ: إزاء هذه الاعتبارات رأينا من المفيد للقارئ العربي أن يدرك المرامي البعيدة التي طرحها بن نبي في مختلف كتبه، والتي تتمحور حول محور واحد هو مشكلة الحضارة، وقد تضافرت في هذه المحاضرات الخمس حيث ألقيت الثلاثة الأولى منها في الجزائر عام ١٩٦٤م، إثر عودته إليها بعد الاستقلال مفعمًا بالأمل في بناء دولة الاستقلال بعد أن تحقق استقلال الدولة.
ولا نحب في هذه المقدمة أن نشير إلى الإحباط الشديد الذي أحاط ببن نبي حين ساهم كمدير للتعليم العالمي في الجزائر، مما نجد صداه في مجموعة المقالات التي نشرها في مجلة (La révolution africaine) خلال عقد الستينات كما نجده في كتبه التي صدرت في تلك الحقبة، وبالخصوص كتاب (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي).
لكننا وأمام هذا التجاهل الذي كان الأشد على نفسه، نرى في بادرة الشباب الجزائري عزاء لفكر بن نبي الذي لا يزال لاعتبارات تتصل بالصراع الفكري في البلاد المستعمرة يُسام الإغفال من مخططي الثقافة ويُلقي على فكره ستارٌ كثيفٌ يحول بين الأجيال والمنهج الفاعل في بناء نهضتها.
1 / 9
مالك بن نبي وقد مضى على وفاته سبعة عشر عامًا لا يزال يفتقده شبابنا المعاصر في ظلمة الشتات الفكري، ولكننا نرقب في هذه الظلمة أشعة اهتمام وإعجاب نراها في بعض المقالات والدراسات، وإن كانت لم تشكل حتى الآن تيارًا فاعلًا في خطى المستقبل.
ففكر بن نبي لا يزال ينادي الجيل من مكان بعيد، لكنه يقترب رويدًا رويدًا كلما استفحلت في عالمنا الهزيمة. فما كان غريبًا على فهم القارئ من طروحات بن نبي في زمن الرومانسية المتفائلة التي ضجّ بها عالمنا منذ الخمسينات، بدا اليوم أقرب إلى إدراك الجيل، الذي أطبقت من حوله الآفاق وبات وجهًا لوجه أمام مخاطر الاجتياح الإسرائيلي، والتخلي العالمي عن قضاياه، في ظل التوافق الدولي.
فبِنْ ني إذا كنا قد جحدناه في حياته أبًا يرسم لنا شروط النهضة الفاعلة المستلهمة خطى الحضارات وتعاقبها؛ فإننا وكلما أفلسنا بالشعارات الرائجة في سوق العالم الغربي المعاصر نقترب من ذلك اليوم الذي يثرينا ميراثه بفعالية الإنجاز وسلامة الاتجاه.
هذا الكتاب الذي يضم مجموعة محاضرات نشرت ثلاث منها في كتاب (آفاق جزائرية)، يحتوي على سائر المقدمات والتعليقات التي تضمنها ذلك الكتاب ترجمة (الطيب الشريف)، ثم إنه يحتوي على سائر المقدمات والتعليقات التي تضمنتها الطبعة الفرنسية التي يأتي هذا الكتاب ترجمة لها.
وسوف نشير إلى تعليقات آفاق جزائرية التي نوردها أولًا، ثم نردفها بتعليقات الطبعة الفرنسية بإشارة ط. ف أي الطبعة الفرنسية. وإنني أشكر الدكتور بسام البركة الذي قام بجهد كبير في ترجمة تعليقات الطبعة الفرنسية وساهم في تحقيقها.
طرابلس ١٩ رمضان ١٤١٠هـ
١٤ نيسان ١٩٩٠م
عمر مسقاوي
1 / 10
مقدمة الطبعة الفرنسية
ترجمة عمر كامل مسقاوي
ــ
كان جيلي في الثانية عشر من العمر حين أزف الاستقلال.
واليوم إذا كان لم يعد على مقاعد الجامعة فهو مع ذلك يستفيق كل صباح على صوت النفير ليقدم التحية في وقفة انضباط، للعلم الوطني ساعة رفعه.
وإذا كان لم يعد في المدرجات، أو في ثياب العمل، يُصَادَفُ في المصنع، في حقل، أو هو منتظم لِتَوِّه في مشروع عام؛ إلا أنه حيث يوجد، فهو يعبر عن قوة الإرادة في الجزائر، يتعلم فن العيش في حياة وطن، وهو ممتلئ بالتعاون.
إنه الآن جاهز لحمل رسالة.
عبر الماضي وفي أماكن أخرى من المعمورة أعطيت أجيال أخرى منحة نادرة، ساقتها العناية الإلهية المسيِّرة للعالم، حين جاءت إلى الوجود في اللحظة التي يبدو فيها أن شيئًا ما مخيفًا، يأتي ليزحزح مركز الاستقطاب والثقل، في توازن النشاط الإنساني في العالم.
تلك فرصة فائقة أن تجد نفسك بين الأحياء في اللحظة الحاسمة حين تستعد الإنسانية لتشهد تجديدًا، ولادة ثانية كالتي عرفت في منعطفات التاريخ حين تتوارى سريعًا حضارة لتظهر من جديد حضارة في حلّة جديدة.
لطالما قيل، إن هنالك الإنسان وليس الإنسانية. ولمزيد من الإيضاح،
1 / 11
ففي ظل الإمبراطورية الرومانية مثلًا، فالإنسانية لم تكن جميع الشعوب المعروفة، بل النخبة المنتقاة. وبالطريقة نفسها في القرن التاسع لم يكن للإنسانية مفهوم غير ذلك الجزء الإنساني المثبت في الإطار الإسلامي. وهذا ما يفسِّر لنا أنه وحتى يومنا الحاضر حين نستدعي معنى الإنسانية نفكر في الجزء الشمالي من البسيطة وليس في القبائل الأسترالية.
فالناس- الجنس البشري- لم يجتازوا يومًا كتفًا بكتف مختلف مراحل التاريخ العالمي. وظلام القرون الوسطى لم يكن شاملًا العالم كله. والقرن العشرون ليس قرن الفضاء لسائر الشعوب.
والشعوب لم تصعد مجتمعة أية درجة. وهي لم تكن جميعها في العالم كله وفي وقت واحد في العلاء.
القرن الحادي والعشرون، ربما كان هو الذي سوف يستطيع أن يستعمل كلمة إنسانية، التي لم تكن تشير حتى يومنا هذا، إلا إلى جزء يسير في الغالب مم المجموع الإنساني المسمى (حضارة)، بيد أن ذلك مشروط مسبقًا بقدرته على محو الفروقات النفسية والثقافية، فضلًا عن التقنية. تلك الفروقات التي ما زالت تجعل الإنسان يضع قدمًا في القمر، وأخرى في جزيرة مجهولة.
...
إن جيلي سيكون من أولئك الذين لا يعدهم حصر. والذين سيختمون الألف الثاني من التقويم الذي تعتمده مختلف الدول الحديثة.
اختتام ألف عام!!
دون أي ارتباط، أو علاقة، أو صلة، بذلك الهذيان التهديدي للألفية، فإن لدينا يقينًا مؤسسًا على مؤلفات تتمتع بنفوذ معترف به، وعلى إرهاصات
1 / 12
الحضارة السائدة، يسمح بالتأكيد على أنه منذ الآن وإلى عام ألفين ستحدث تحولات عميقة على مستوى الشعوب، تؤدي لتجديد في أنماط حياة الإنسانية في داخلها كما في خارجها.
وإلى أن يحين هذا، فإن الظّن بأن تغييرًا أو انقلابًا يحدث حتمًا بطرفة عين، وفجأة في ساعة الصفر صبيحة عام ألفين هو تفكير صبياني.
معطيات هذا الانقلاب، هي في التطور التاريخي الذي بدأ منذ زمن ليس بقصير. فهل أدرك ذلك جيلي والذي سيعقبه والسابق عليه؟
إن عصرنا، يبدي كل أمارات الإرهاق، والانحلال البطيء. لكن في بعض أجزاء من كوكبنا قوى جديدة تتوقع تنتظر، وتعمل على سدّ الفراغ عبر أجهزة نفسية معاصرة ابتدعتها عبقريتها. وهذا ما يحدث بشكل رئيسي في الصين، وفي العالم المثالث، حيث الجزائر تحتل المركز الذي أهلتها له مواهبها أو إنجازاتها.
إن عصرنا كما قيل، هو عصر مِفْصَل. إنه الوقت الملائم للتغيير، للثورة على الصعيد الكوني.
وأمامنا، كما هو أمام سائر القوى، التي أشرنا إليها أمران حسب تعبير بن نبي لا ثالث لهما: رسالة أو خضوع.
﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد ٤٧/ ٣٨).
وخطاب القرآن الكريم هذا موجه إلى الشباب المسلم، العربي، شباب العالم المثالث، فمجموع الطاقات الجديدة هي التي ينبغي عليها أن تعيد من جديد صنع عالم مُهان مُذَل، في ظله لم تعش الإنسانية يومًا موحدة وكلية.
لقد سقط الغربما، إذ بدلًا من أن يستجيب للخطاب الإنجيلي القائل:
1 / 13
«لقد جعلتك لتكون نور الأمم، لتحمل الخلاص حتى أطراف الأرض» (أعمال الرسل: ١٣ - ١٤).
إذا به يبنى فوضى كونية حاملًا الحرب والعبودية والاستغلال إلى أقاصي المعمورة.
وها إن أبناءه انتهوا إلى لعنه، والهروب منه، وتدميره مؤكدين نبوءةٌ أخرى للإنجيل «سيكرهون بعضهم بعضًا. بسبب الفظائع التي ارتكبوها ولسبب سائر خطاياهم» (قزحيا: ٦ - ٩).
الغرب يموت، لكن بغير توبة ضمير، فها هي أميركا الكبرى تتهاوى تحت ضربات موجهة إليها من الداخل من (الشباب الغاضب)، من السود، ومن الرأي العام الذي يطرد رئيسا غير نزيه، ويمنى بالهزيمة في فييتنام.
أما أوروبا، فلم تعد سوى ظل نفسها فهي قد سقطت من الزمن.
إن قارِعَ منتصف الليل يقترب في الظلام.
...
يحدث أكثر من مرة في حوليات الفكر، أن رجلًا عظيمًا يمر وهو شبه مغمور في زمنه؛ نيتشه عرف الإهانة حين نشر مؤلفاته على نفقته. بينما مرت ستة قرون قبل أن يعترف لابن خلدون كأب لفلسفة التاريخ (بعض الطروحات تدعي عكس ذلك، إذ تعتبره أبًا لعلم الاجتماع، ونحن لا نعتقد ذلك، لأننا نرى فيه، وإن كان أول عالم اجتماع أكثر من عالم اجتماع. فهو المنشئ للتوقع والرؤية المسقبلية).
وفي بعض الأحيان فإن مجرى الأمور في عالمنا يؤدي إلى ظلم وإجحاف كبيرين عندما لا يبدو الفكر العالمي يستأهل بصورة مؤكدة التمجيد بعد الموت.
1 / 14
سنوات، عقود، بل قرون يمكن أن تمر قبل أن تأتي مصادفة سعيدة تنفض عنه غبار النسيان.
وهكذا نرى، أن العبقرية الإنسانية تهيم طو يلًا قبل أن تكتشف حصادًا تركه واحد من أبرز وجوهها. أوَلم تأخذ به علمًا من قبل؟
...
إن جيلي يحب أن يدرك بأنه سادر في التنكر للمفكر الوحيد، ذي المدى العالمي الذي لم تنجب مثله الأرض الجزائرية.
فأولئك الذين هم من أبناء جيلي، وبالطبع من أبناء الأجيال الأخرى، الذين يبذلون أنفسهم للبحث من أجل تكوين الفكر الجزائري لم يعد باستطاعتهم أن يتجاهلوا (مالك بن نبي) أكثر من ذلك.
وليس المكان هنا لإعطاء نبذة عن حياته، أو حتى القول بدقة ماذا يمثل بن نبي بالنسبة لمختلف التيارات الفكرية العالمية.
ولن يستخفنا المقام، لكي نعتبر أنفسنا مؤهلين في الوقت الحاضر إلى إحلاله في المقام الذي يعود إليه بين ابن خلدون، وهردر، وبوخار، وشبنجلر، وتوينبي، وباقي المفكرين والفلاسفة في هذا الوجود.
يكفينا أن نلفت الانتباه، إلى أنه من الضروري لكي نفهم الأعمال (البنابية) محتواها وتوجهاتها، أن ندرس بعناية المؤلفين الذين أشرنا إليهم هنا وفي الشروحات اللاحقة والتعليقات.
ليس هذا سوى إشارة أولى. فالمطلوب عمل وبحث، بكل معنى الكلمة من أجل أوسع معرفة حول مصائر مختلف المجتمعات والحضارات المعروفة.
1 / 15
فعندما نستذكر بن نبي فهذا يعني أننا نتكلم عن معنى الوجود، عن فن بناء الأمة، عن مستقبلنا التاريخي، فن بناء مفهوم الإنسانية في نهاية القرن ...
هذه الطبعة (القضايا الكبرى) لا تعني أننا بدأنا بأهم أعمال بن نبي بكل معنى الكلمة.
فالموضوعات التي عولجت في هذا الكتاب لا تشكل في الواقع، سوى الجزء اليسير من إنجاز بن نبي. فليس هنا سوى بعض النصوص، محاضرات ألقيت في الأصل في الجزائر وفي الخارج.
وقد اعتقدنا أنه من المفيد أن نضيف إليها شروحًا لبعض النقاط. لأن ذلك يضيء لقارئ بن نبي لأول مرة، ويرفده بالعناصر الوثائقية الملائمة لمزيد من البحث الجاد.
ولسنا بحاجة لأن نضيف، بأننا نأمل ألا نكون قد شوهنا فكر طبيبنا طبيب الحضارة، حين نعطي تفسيرات قد تكون خاطئة، أو نقحم فيه تعليقات في غير موضعها، أو نخضعه لمقارنات تحكمية.
هذا أكثر ما نخشاه.
أما فيما تبقى، فنحن أول من يدرك أن عملنا لا يخلو من قصور، وعلى كل فإن ما كتبه بن نبي هو وحده المهم.
...
الآن، لا بد للقارئ أن يعرف من كان وراء هذا العمل، مشروع طبع الأعمال الكاملة لمالك بن نبي. إنهما صديقان هما عمر بن عيسى، وعبد الرحمن بن عمارة، اللذان يكنان الإخلاص لبِنْ نبي ويمحضانه جهودهما، وهما بذلك يعطيان المثل لجيل باحث في العمق، في الطابع الثقافي لبناء وطننا.
1 / 16
إنني أحييهما، وأشكرهما على ما أولياني من شرف القيام بمهمة دقيقة هي تقديم ثمرة من ثمرات والتعليق عليها.
إذ كيف يمكن أن نرى في هذا العمل، غير المهمة التي تكشف للجيل الصاعد الروح التي تضع الجزائر في رؤية عليا للتاريخ، في أفق عالمي يتمازج مع الاتجاه الشامل للعالم.
نور الدين بوقروح
1 / 17
الإهداء
... إلى الأمير عبد القادر
إلى البطل الأُسطوري للملحمة الوطنية الذي يجسّد شخصُه، في فترة فاجعة من تاريخنا، مصيرَ: وطن، وثقافة، وحضارة ...
مالك
1 / 19
مقدمة
بقلم الدكتور: عبد العزيز خالدي
ــ
في سنة ١٩٣٩كانت الجزائر تعلم أن المقامرة على مصير العالم ستجري في ذلك الصدام الذي كان على الأبواب آنذاك.
ولكي يعلم الوضعية التي تكتنف مصيره الخاص، كان الشعبُ يتتظر كلمةَ الأمر من مُسَيِّريه.
ولكن (زعماءَنا) كانوا أكثر تعلُّقًا بما يُحَاك داخل: (كهف علي بابا) (١)، من الاهتمام بالطفرات التي كانت تَعْتَمِلُ في أعماق الوعي الشعبيِّ.
فقد تُرِكَ الشعب وشأنه إلى الإدارة، حتى يُقَدَّم كَمُحْرَقَةٍ لِفُوهاتِ المدافع.
ولقد أراد الاستعمار أن ينتهز الظروف لكي يضع أقفال ضمان أُخرى يغلق بها وعي (رعاياه).
وعند نزول الحلفاء في الثامن من نوفبر (تشرين الثاني) سنة ١٩٤٢م، بينما كان جميع الطامعين في النفوذ يتآمرون بالجزائر العاصمة، لم تبدر أقلُّ حركة عن أيِّ شخص من (مُسَيِّرينا).
ولكن العاصفة التي اجتاحت العالم، طوال حمس سنوات كانت قد فككت مفاصل الأقفال.
_________
(١) يعني مقر الحكومة الفرنسية بالجزائر العاصمة في تلك الأثناء (المترجم).
1 / 21
فقد كان الشعب الجزائري الذي احتفظت ذاكرتُه ببعض نُبَذٍ من التصريحات المغرية التي صدرت زمن الحرب، واعيًا لمصيره.
ولكي يُنْسيه تلك التَّصريحات، عمد الاستعمار إلى إغراقه في حَمَّام من الدِّماء، وغَمْسِه في محفل خليع من الانْتِخابات المضلِّلَة التي كان يرمي من ورائها إلى صرف الجماهير الجزائرية عن وجهتها، وإلى تقديم بديل خادع للخارج، يجعل الرأي الدُّولي المتواطئ أو السيِّئ الاطِّلاع، يعتقد أن الجزائر كانت تُقْبِلُ على عهدٍ ديموقراطيٍّ تحت رعاية الوالي نجلان ورينه مايير (Le gouverneur Naegelen et René Mayer) .
ولكنها كانت ساعة التحدي المنقذة التي أرغمت الشعب الجزائري على أن يمتلك ذاته لكي يجد نفسه من جديد. فقد فهم أنه يتعين عليه لكي يتخلص من عهد يسوده الالتباس و(البوليتيك) (١)، ويبرز إلى وضح النهار، أن يستعيد القيم التقليدية التي انبنى عليها تاريخه حتى سنة ١٨٣٠ (٢).
وكان ذلك يقتضي أن يوجد العقل الموضوعي الذي يستطيع تحرير هذه التقاليد من ارتهانها «لأوشاب ما بعد عهد الْمُوَحِّدين».
لقد قام الشيخ بن باديس ومدرستُهُ بجهد محمود في هذا الاتجاه، وإن كانا لم
_________
(١) (Boulitique): اصطلاح شعبي محض، يطلقه الإنسان الشعي في بلدان المغرب العربي عمومًا على احتراف الدجل السياسي والاعتباط (démagogie) الرامي إلى اقتناص النفوذ لتحقيق أغراض شخصية خسيسة، عن طريق التضليل السياسي للجماهير. (المترجم).
(٢) يمثّل إنشاء منشورات مكتبة (النهضة) مساهمة في ذيوع هذه الحركة الجزائرية، كما يلتقي خطُّ سيرها مع فكرة الشيخ بن باديس التي يقولُ فيها: «إن الذي يكوِّن الأمّة، هو العقيدة، والثقافة، والاعتزاز بالماضي: وما دام أحد الشعوب لم يفقد هذه المقوِّمات، فهو حيّ ولو كان مستعبدً». (المقدم).
1 / 22