The Literary Image: History and Criticism
الصورة الأدبية تاريخ ونقد
Daabacaha
دار إحياء الكتب العربية
Lambarka Daabacaadda
-
Noocyada
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفصح الخلق أجمعين سيدنا محمد ﷺ وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.... وبعد.
١- فالصورة في اللغة تحتاج من الباحث إلى الكشف عما يحول في حروفها من معان، وما يترقرق فيها من أضواء وظلال، وما توحي به من بوارق إشارات، وما تهدف إليه من غاية وشرف.
فمادة "الصورة" بضم الصاد، بمعنى الشكل. فصورة الشجرة شكلها، وصورة المعنى لفظه، وصورة الفكرة صياغتها.
والشكل هو ذلك المحس التي تراه، أو تسمعه الأذن، أو تشمه الأنف أو يتذوقه الفم، أو يشعر به الجسم، فهو الذي ينبه الحاسة، ويدفعها إلى الإعمال، ويمسح بالتسجيل، وعلى ذلك تكون الصورة الأدبية هي الألفاظ والعبارات، التي ترمز إلى المعنى، وتجسم الفكرة فيها، أو هي مدلول اللفظ الحسي، فكل لفظ يرجع في الأصل إلى مصدره الأول في اللغة، وهو الشيء المحسوس، فالأحمر مثلا يرجع إلى اللون المتميز القائم بجسم معين؛ لأن المعنى المجرد للون+ الأحمر لا يتحقق في الخارج، إلا قائمًا بالشيء، المحسوس وكذلك لفظ الشجرة يرجع إلى ذات الشجرة النامية على وجه الأرض، في جذورها وجذوعها، وفروعها وأوراقها وثمارها وأزهارها.
1 / 3
فالصورة على ذلك، تتحقق فيما توحي به الألفاظ من محسات متخيلة في النفس.
وقيل: إن مادة "الصورة" بضم الصاد، بمعنى النوع والصنف من الشيء.
فصورة الحمام، غير صورة النسور، وصورة الإنسان، غير صورة الأسد، فهذا نوع وذلك نوع آخر.
وعلى ذلك إذا أطلقت الصورة الأدبية، فإنها ترجع إلى أنواع الأدب من شعر ونثر فني ومقال ومسرحية، وقصة وأفصوصة، والأول أقرب لموضوعنا هذا؛ لأن الصورة توجد في كل الأنواع، فالشعر فيه صورة، والنثر الفني فيه صورة، وهكذا في القصة والمسرحية وغيرها من أجناس الأدب المختلفة؛ ولأن النوعية لا تتأتى إلا بعد أن يأخذ المجرد المطلق شكلًا يعرف به، وصورة يظهر فيها خارجًا عن الذهن، حتى يستطيع الشخص أن يتفاهم به مع غيره بالأشكال المتعارف عليها.
وبعد الشعر والنثر الفني والقصة إلى آخر الأقسام أجناسًا للأدب، يقوم كل جنس فيه على التشكيل بالصور والمحسات في الألفاظ والتراكيب، كما يؤلف الرسام فتاة أحلامه الساحرة في صورة غنية بالألوان والأشكال، والمخطوط والظلال، والأحجام، والأضواء، في تناسق وانسجام، وكذلك الشاعر في تصويره الأدبي.
٢- هذا ما يتصل بالمعنى اللغوي، وأما المعنى الذي اكتسبته المادة اللغوية من الاستعمال الأدبي، وما توحي به، حينما تنتقل في رياض الفنون في الأدب والشعر من روضة إلى أخرى، فالوصول إلى المعنى، ليس باليسير الهين، ولا السهل
1 / 4
اللين ومن قال ذلك قد احتجبت عنه أسرار اللغة وجمالها المكنون المستمر، وروحها المتجددة النامية وليس لها -كما عند المناطقة- حدود جامعة، ولا قيود مانعة.
واللغة لسان الأحياء، وعقل الخلق، في تقلب دائم، وحركة مستمرة إلى الأمام، والعقل والإحساس في نمو مطرد، يختلف من وقت لآخر، ومن أمة إلى أمة وهما معها في جبل يختلفان عن نفسيهما معًا في جبل آخر، وهو شأن اللغة بصفة عامة، فما بالك لو ارتقى الإنسان إلى أسمى -وفي السمو تيه وغموض- ما في اللغة، وهو التصوير والإبانة بدقة عما في النفس، وكنهها الدفين المبهم، فلا شك أن المشقة في تحديد التصوير ستكون أعظم، والجهد أوفر وأضخم، وخاصة إذا كان بإيجاز في سطر أو سطرين، وفقرة أو فقرتين، على ما جرى عرفًا واصطلاحًا في التعاريف والحدود.
وأرى أن في هذا الاتجاه تقليلًا من شأن التصوير، وعبثا بمفهومه الواسع وعجزًا عن فهم حقيقته الممتدة الرحبة، رحابة الجمال واللذة والألم، التي لن يصل إلى كنهها إلا من غاب في الوجود -وهو حي بين الناس- ولا يستطيع أن يفهم أحدًا ولا يفهم منه أحد.
والأمر كذلك إن بقي مطمع في الإيجاز والتجديد، وهو ما لا يقره الذوق الصادق والعقل الناقب في القديم والحديث.
والمقدمون في النقاد والأدباء ومن تكلموا في الجمال -كالغزالي مثلًا- لم يقصدوا -ولا كان من قصدهم- التحديد والتركيز لمعنى الصورة الأدبية، بل لم يقع لبعضهم وإن وقع للبعض الآخر، فمنهم من جرت على لسانه عفوًا، ومنهم من قصدها ولم يضع لها حدًّا موجزًا، كما حدد الاستعارة والتشبيه وغير ذلك، ولو أوشك
1 / 5
أحدهم على الإتيان بالمفهوم الصحيح، كالإمام عبد القاهر الجرجاني، لظهر قصوره في الإحاطة والشمول كحد مانع، وإن وفى الصورة في تحليلها الأدبي، ووقف على منظم منابع الجمال فيها.
وأما موقف المتأخرين من النقاد حديثا في بيان مفهوم الصورة، فلا شك أنهم قطعوا شوطًا طويلًا، بقدر الزمن الذي باعد بينهم وبين المتقدمين، ولكنهم أيضًا لم يحددوها في إيجاز ببغيه المنطق، ولم يعرفوها في تركيز العلوم والرياضة؛ لأنهم فهموا جلال القضية، وسموا شأنها وقد لف الكثيرون حولها وداروا، فمنهم من اهتدى إلى كشفها وإيضاحها وتحليلها، وإلى مصادر الجمال فيها، ومنهم من ضل فلم يحسن التحديد، وند عنه التوضيح، وزاد من تيههم جميعًا في بيان المفهوم للصورة الشعرية، تلك الصراعات الذهبية الواردة حديثًا في الأدب والنقد، حى صار التوضيح هو الآخر صعبًا وشاقًّا، ولعل في هذا حفزًا للهمم، وقتلًا للفراغ، وحضا على مواصلة العلم والبحث، ما دامت الدنيا: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾ .
وأخشى أن يظن ظان أنني أضع العقبات لأصرفه عن التعمق في هذا البيان، أو على الأقل لينفرد الباحث هنا -بما وصل إليه- بالسبق والتقدير.
وأحسبني أنني لا أقصد هذا ولا ذاك، ولكن لأكشف عن حقيقة الخوض في هذا البحر العميق الذي لا قاع له ولا قرار في ذلك، هو سر الخلود والروعة والجلال.
ولا يظن أحد أيضًا أن المحدثين بانصرافهم عن التحديد والتركيز إلى التحليل والتوضيح قد عجزوا، ولكنهم باتجاههم هذا وصلوا في قوة ودقة إلى الكشف عن معالم الصورة، وبيان مظاهر الجمال فيها، فكان ذلك أكثر رفاء لنبل الصورة وتقديرًا لروعتها، وتوضيحًا لمغزاها وأثرها.
1 / 6
وهذا ما يجعلني أن أستبطن اتجاهات النقد في الصورة قديمًا خاصة ثم حديثًا لأوضح وجهة نظرهم فيها من خلال اتجاهي نحوها، وإبراز الكشف عنها.
ومن المقرر عند الجميع أن رأس الأمر في هذا يرجع إلى الأذواق، التي تختلف من ناقد لناقد، ومن أمة لأمة.
لذلك تناولت المفهوم لها متخذًا هذا المنهج، ليكون واضحًا -وعلى عجل- فالصورة الأدبية بحث مستقل متكامل، أجول فيه هنا وهناك، وأنقب وأثقب بالتحليل والموازنة والاستنتاج والاختراع وخطواتي ستترك علامات ما دمت في الطريق، وقلمى سيترك بصمات تميز صاحبها عمن قطع فيه شوطًا أو أشواطًا، والله ﷾ أسأل أن ينفع به، وأن يسدد خطانا، والله ولي التوفيق.
دكتور/ علي علي مصطفى صبح.
1 / 7
الفصل الأول: الصورة الأدبية في النقد الأدبي القديم
قبل أن أبدأ الحديث عن موقف القدماء من الصورة الأدبية، أستميح القارئ عذرًا في استعمال لفظ الصورة مع بضع القدماء؛ لأن البعض ربما كان لا يقصدها في حديثه عن الشعر، وغالبًا ما يقصد اللفظ أو الشكل، والأسلوب أو الصياغة والعبارة أو التركيب والنظم أو التأليف، إلى غير ذلك مما تسمح له ظروف التعبير والحياة، ومدى قدرته للإصابة فيه.
والذي قد يجيز لي التعبير بلفظ الصورة عندهم هو مقام البحث عنها في آرائهم وهل قد أصابوا في الوقوف على معناها أولًا؟ لأكشف من خلال ذلك مفهومها عند كل منهم غالبًا، هذه ناحية.
وناحية أخرى، وهي أن من البدهي ألا أرتقى فجأة إلى مفهوم الصورة الأدبية عند الإمام عبد القاهر الجرجاني، الذي أوشكت أن تبلغ الكمال لديه، أو أغفله هو كذلك وأبدأ بالنقد الحديث فيها، كما قام بذلك بعض الباحثين المحدثين١ ظنا منهم أن مفهومها لم يصل إليها النقاد القدامى من العرب إلا نادرًا، فرأيت من الضروري أن أعرض الصورة في النقد القديم قبل النقد الحديث، وهي أولًا بذرة، ثم أوضح كيف نبتت وترعرعت؟ وشبت واستوت، ونضجت واستقام أمرها.
_________
١ د. مصطفى ناصف في "الصورة الأدبية" والدكتور ماهر حسن فهمي في "المذاهب النقدية" ص ٢١١.
1 / 9
وليس من المعقول أن نفصل الصورة قديمًا عن قضية اللفظ والمعنى، وهي جوهرها ولبها وما اللفظ إلا الشكل؟ وما المعنى إلا المضمون؟ وهما اللذان أثارهما النقاد المحدثين. وكيف لا يتناول النقد الأساس الأول الذي قامت عليه المذاهب الأدبية في العصر العباسي فوجدنا منه شعرًا مطبوعًا، وآخر مصنوعًا، شعرًا يهتم بالمعنى، وآخر يهتم باللفظ. يقول نقادنا عن الشعر: إنما هو عواطف الشاعر وشعوره يركبها خيال وملكات قادرة ومقدرة فنية موهوبة في صور من الألفاظ والأساليب١.
ولا مبرر لدعوة الذين يغمضون أعينهم عن هذه القضية، مدعين أنها دراسة عميقة لا قيمة لها في الصورة، وتبدأ القيمة عندهم من ابن رشيق وعبد القاهر، بل هما أيضًا كانت نظرتهما قاصرة، لم توف بالغرض المنشود.
وهذا بعد عن الصواب، ونكران للحقيقة، وهم أشبه في ذلك بالذي سقط فجأة على ثمرة ناضجة، فقطفها، وأعمل أضراسه فيها، ولم يوجه انتباها لكيفية وجودها عندما كانت بذرة، ثم تحولت إلى جذور وجذوع، وسيقان، وفروع، وأوراق وأزهار، ثم مضى على ذلك وقت طويل، ونشط إليها من تعهدها ورعاها لتصير ثمرة شهية، تسيل لعاب المتذوق ويتلفظ بها في الآكل.
وهكذا فلندعهم سادرين في غيهم، مخدوعين بما سمعوا وقرأوا، فهم أناس ألفوا الراحة، واكتفوا بما تحت أيديهم من غير جهد ولا تعب، أو تعقب للمراحل السابقة، قبل الوصول إلى نهاية الطريق، ثم يدعون باطلًا أن المراحل السابقة لا قيمة لها ولا وزن، ولا أهمية ولا اعتبار إلا للنتيجة النهائية في مفهوم الصورة الأدبية التي انتهى إليها النقاد في العصر الحديث.
_________
١ دراسات في تاريخ الأدب العربي في أزهى عصوره: د. محمد عبد المنعم خفاجي، د. عبد الرحمن عثمان -القسم الأول ص ١٢٣ مطبعة المدني ١٩٧٢.
1 / 10
مفهوم الصورة في العصرين الجاهلي والإسلامي:
يكون من الصعب قبل عصر التدوين أن نقف بدقة على مدى الفهم للصورة الأدبية في العصر الجاهلي وفي بداية عصر الإسلام؛ لأن تعليقاتهم الموجزة على الشعر كانت في الغالب غير مدونة، فأصبحت عرضة للضياع، فإذا كان الشعر قد ضاع معظمه، ولم يبق إلا أقله، وليس هو مظنة الضياع، لتمكنه من النفس والعقل معًا، فكيف بالنثر الذي قيل حوله: ولو انتهى إلينا خبر عن بعض النقاد في العصر الجاهلي يبين مدى اهتمامه بالصياغة والصورة، فقد يسرب الشك فيه وفي نقله، كما حدث فيما ورد عن النابغة الناقد في سوق عكاظ تحت القبة الحمراء، ليصدر حكمه في شعر وقع لمشاهير ثلاثة الأعشى والخنساء وحسان، قد فاضل بينهم على الترتيب السابق، فسأله حسان عن سر تفوق الخنساء عليه، وهي في نفس الوقت دون الأعشى في الحكم، فقال النابغة لحسان: "قلت: الجفنات، وهي جمع قلة لو قلت: الجفان، لكان أفضل، وقلت: يلمعن، واللمعان يختفي ويظهر، ولو قلت: يشرفن لكان أفضل وقلت: بالضحى وكل شيء يلمع في الضحى، ولو قلت: بالدجى لكان أفضل، وقلت: يقطرن، ولو قلت: يجرين لكان أفضل.
كان مثل هذا يحدث من نوابغ الشعراء النقاد كالنابغة، حين أظهر اهتمامه بالصياغة، واختيار الصورة المناسبة للمعنى الذي عبر عنه حسان، ووضح في المجاورة النقدية التي تمت بينهما ما هبط فيه شعر حسان، وكشف النابغة عن أسرار الضعف في اختيار الألفاظ غير الملائمة للمعنى، مما أدى إلى نزول شعره إلى المرتبة الثالثة.
ويزيد من اهتمام النقاد في العصر الجاهلي بالصورة والصياغة، ما اتجه إليه بعضهم من الصناعة الشعرية، كزهير ابن أبي سلمى، زعيم مدرسة الصنعة في الشعر.
1 / 11
آنذاك -ومعلوم أنه إذا أطلق لفظ الصناعة في الكلام، إنما يتجه إلى الصياغة والتصوير؛ لأن زهيرًا ومن اعتنق مدرسته كانوا يعكفون على القصيدة حولًا كاملًا -حتى سميت القصائد بالحوليات- فيغير اللفظ ويوضع مكانه لفظ آخر، أو يعدل الأسلوب، أو تضاف استعارة، أو يحذف تشبيه ويستبدل آخر، وهكذا، ومثل هذا الصنيع، يجعلنا نحكم على المدرسة بأنها تهتم بالصياغة والصورة، ليشرف المعنى. يقول الجاحظ:
"ومن شعراء العرب، من كان يدع القصيدة، نمكث عنده حولًا كريتًا، وزمنًا طويلًا يردد فيها نظره، ويحيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه اتهامًا لعقله، وتتبعًا على نفسه فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره، إشفاقا على أدبه، وإحرازًا لما خوله الله من نعمته، وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمقلدات -والمنقحات والمحكمات، ليصير قائلها خنذيذًا وشاعرًا مفلقًا"١.
لذا يقول الدكتور خفاجي: "وكان ارتباط الشعر الجاهلي بالغناء ورغبة بعض الشعراء في التجويد والتجديد في المعاني من أسباب نشأة هذا المذهب الفني"٢.
وقال أيضًا: "كان زهير بن أبي سلمى يسمي كبار قصائده بالحوليات، ولذا قال الحطيئة: خير الشعر الحولي المحكك، وقال الأصمعي: زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، وكذلك كل من جود في جميع شعره، وووقف عند كل بيت قاله وأعاد فيه النظر، حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة"٣.
_________
١ البيان والتبيين: الجاحظ ج٢ ص٩. د. محمد عبد المنعم خفاجي ١٩٥٨.
٢ الحياة الأدبية في العصر الجاهلي ص ٢٥٠.
٣ المرجع السابق ج٢ ص١٣.
1 / 12
لهذا كله كان النقاد في العصر الجاهلي، يحكمون على الشعراء بمقدار جودتهم في الصياغة، ويصفونهم حسب أسلوبهم تصويرهم، فيقولون: إن ربيعة بن عدي كان يسمى المهلهل؛ لأنه أول من هلهل الشعر وأرقه١، وكذلك المرقش لتحسينه شعره وتنميقه٢، وكذلك قالوا: الأفوه، والمثقب، والمنخل، وسموا القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات٣.
ويدل هذا على اهتمام مدرسة الصنعة بالأسلوب والصياغة، وعنهما كانت الصورة الأدبية بعد ذلك وهكذا استمر مذهب التثقيف وطول التهذيب مذهبًا فنيًّا يسير عليه بعض الشعراء حتى بعد العصر الجاهلي، وكان أساسًا لمذهب البديع الذي نشأ على يد مسلم وأبي تمام من المحدثين٤. وقد غالى من رمى الشعر الجاهلي ونقده بالشك وعدم صحة الإخبار عنه٥. ولست معهم في هذا الشك المطلق، ما دام هناك في الأدب العربي صناعة شعرية، وللصناعة في أي فن، مادة وشكل، ومعنى وصورة.
لذلك نجد ذا الرمة الشاعر الإسلامي، يعجب بالصورة والشكل في أبيات للكميت ولم يصرح بهذا اللفظ، وإن ذكر خاصة تتصل بالصورة لا المعنى، قال: "أحسنت ترقيص هذه القوافي"٦.
_________
١ الأغاني: الأصفهاني ط دار الكتب ج٥ ص٥٧.
٢ المفضليات للضبي ج١ ص٤١٠.
٣ البيان والتبيين: الجاحظ ج٢ ص٩.
٤ الحياة الأدبية في العصر الجاهلي: د. محمد عبد المنعم خفاجي ص٢٤٤، ٢٤٧. طبعة ثانية ١٩٥٨م.
٥ مثل د. طه حسين في كتابه "في الأدب الجاهلي وغيره".
٦ المذاهب الأدبية: د. ماهر حسن فهمي ص٢٧.
1 / 13
كما تعجب الكميت من تصوير ذي الرمة حينما أنشد قوله:
دعاني ما دعاني الهوى من بلادها ... إذا ما نأت خرقاء عني بغافل
فقال الكميت: لله بلاء هذا الغلام، ما أحسن قوله وأجود وصفه يقول: الأستاذ الدكتور خفاجي: "وهذا يدل على إنصاف الكميت في النقد وتمييز الجيد من الرديء في الشعر"١.
بشر بن المعتمر والصورة الأدبية:
أول من تنبه من النقاد العرب القدامى إلى النظم، وهو بشر بن المعتمر٢ في صحيفته المشهورة٣، فهو لا يرتفع باللفظ وحده، ولا بالمعنى وحده، ولكن يقصدهما معًا وفي نفس واحد، ولا يفصل أحدهما عن الآخر، ويشهد بهما معًا ممهدًا لنظرية النظم يقول:
"إياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك".
فالتعقيد من سمات اللفظ والمعنى معًا وهو يفسد الصورة ويخل التعبير بفقد روح التأثير فيها، ويقول بعد ذلك:
"ومن أراد معنى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما".
_________
١ دراسات في النقد الأدبي: د. محمد عبد المنعم خفاجي من ١٠٠ طبعة أولى.
٢ هو أبو سهل بشر بن المعتمر المتوفى عام ٢١٠هـ زعيم فرقة من المعتزلة تدعى "البشرية" تنسب إليه وكان شاعرًا.
٣ البيان والتبيين: الجاحظ تحقيق السندوبي ج١ ص٨٢ وما بعدها، وتحقيق عبد السلام هارون ج١ ص١٣٤ وما بعدها.
1 / 14
فموطن الجمال عنده في العمل الأدبي، يرجع إلى ارتباط اللفظ بالمعنى، فلا بد للمعنى الشريف من لفظ شريف، ويريد بذلك أن يفصح عن العلاقة بينهما، فليس في اللفظ وحده، ولا في المعنى وحده، ولكن في العلاقة بينهما، وهي محل الصورة الأدبية التي توضح المعنى، وتسمو بالصياغة والتعبير، وليسمها بشر علافة، أو اهتمام باللفظ والمعنى كما يشاء، لمناسبة التسمية مع ذوق أدباء عصره، ونشأة النقد الأدبي قبل أن يعرف المصطلحات الأدبية.
وهذا الاتجاه قريب من مفهوم الصورة التي تحددت معالمها فيما بعد، بل أضاف لما سبق معالم جديدة في مفهومها، منها التلاؤم بين اللفظ والمعنى، وقوة العاطفة، والوحدة الفنية، وتلاؤم الصورة مع العاطفة والمقام والغرض التي ذكرت من أجله.
يقول أبو سهل بشر بن المعتمر في مناسبة اللفظ للمعنى والتلاؤم بينهما: "ومن أراد معنى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف. إلى قوله: أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا وقريبًا معروفًا".
أما قوة العاطفة في الأسلوب والصورة يقول فيها: "خذ من نفسك ساعة نشاطك" وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرًا، وأشرف حسبًا وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، من فاحش الخطأ، وأجاب لكل عين وفرة من لفظ شريف، ومعنى بديع، وأعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة".
أليس هذا حديث العاطفة في الكلام؟ فإنها لا تتولد إلا ساعة النشاط والحيوية والحرارة والانفعال، وعند ذلك تعطي الكثير في وقت قليل كما وكيفا في النظم والتصوير، وتتوافر لديها المعاني البكر والألفاظ الغرر.
1 / 15
وفي غير هذا الوقت الذي تتوهج فيه العاطفة، يعاود الأديب ويطاول سليقته، ويتكلف ويجاهد نفسه وجسمه، حتى يحقق نظمًا وصياغة، لا يخلو من كلفة وفتور عاطفة.
والعاطفة القوية هي التي تلهب التصوير، وتسري حرارتها في الصورة الأدبية وتبعث في النظم قوة التأثير وهو ما أراده بشر وإن لم يصرح بلفظها، أليس من الحق بعد وضوح معالمها وتحديد مفهومها حديثًا أن تقرر التشابه بين الحديث عنها عند بشر وفي العصر الحديث؟ ألم يكن بينهما توافق كبير؟ فحديث العاطفة في الصورة اليوم هو نفسه حديث أبي سهل عنها منذ اثني عشر قرنًا من الزمان؟ أظن أنه لا فرق في الجوهر واللب، وإن كان هناك فرق بينهما في التصريح بالعاطفة وعدمه.
ويتحدث أبو سهل عن الدعامة الثالثة للصورة الأدبية، أو النظم والكلام البليغ وهي الوحدة الفنية أو مناسبة الكلمة لموقعها، يقول:
"فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسنح لك عند أول نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصر إلى قرارها، وإلى حقها من أماكنها المخصوصة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها، ولم تصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها، نافرة من موضعها، فلا تغصبها على اغتصاب الأماكن، والنزول فيغير أوطانها. فإن ابتليت بأن تتكلف القول وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة، وتعصي عليك بعد إجالة الفكرة، فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة، إن كانت هناك طبيعة أو جرت من الصناعة على عرق".
فالشعر عند أبي سهل ليس ميسورًا، وصياغته ليست سهلة، والتصوير لمعنى
1 / 16
ما يحتاج إلى دقة، وبراعة، وعلى الشاعر بعد اختيار الألفاظ والمعاني الكريمتين أن يختار لكل كلمة موقعها من الصورة، لتستقر في مكانها المخصوص لها، وكذلك القافية لا بد أن تقع في نصابها، وتتوازن مع نظائرها، وتتشاكل مع أخواتها، وبذلك يصير كل من الكلمة والقافية غير قلق في مكانه، ولا نافر من موضعه، وغير مكره على اغتصاب، ولا مضطرب في غير أوطان.
وإذا لم يتيسر للشاعر التناسب في الصورة الأدبية والوحدة الفنية بين الألفاظ فيها بحيث لا توافق الكلمة أختها، بأن تعبر إحداهما عن العشق والصبابة والأخرى عن الحماسة والفخر، مما يهلهل النسج، ويضعف التماسك، وعلى الشاعر حينئذ خوفًا من الخلط والاضطراب أن يترك العمل الأدبي يومًا أو ليلة، حتى يستطيع أن يحكم النسج، ويضع كلا في مكانه المناسب، فتقع الكلمة مع أختها، لا مع الغريبة عنها وبذلك يتم التلاؤم بين أجزاء الصورة، ودور الصياغة المنثورة، وتتحقق الوحدة الفنية فيها.
وليسمها بشر بن المعتمر تناسبًا بين الكلمات، وتوافقًا في القوافي، حين تأخذ الكلمة موطنها، وتتلاءم القافية مع أخواتها، فيتحقق من عناصر الصورة دلالة الألفاظ في مدلولها وبموسيقاها على غرض الشاعر، وقد أخذ اللفظ والقافية مكانهما من النظم أو البيت وليسمها النقاد اليوم الوحدة الفنية أو العضوية، مما يدل على التناسب بين الكلمات في التركيب، والتلاؤم بين الأجزاء في التصوير.
ويتحدث أبو سهل عن الدعامة الرابعة للصورة الأدبية، أو عن النظم والتأليف.
1 / 17
بين الكلم وهي تلاؤم الصورة أو التركيب، مع المقام والغرض الذي يهدف إليه الشاعر فيقول:
"وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، ولكل حالة من ذلك مقامًا، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات. فإن كان الخطيب متكلمًا، لم يتجنب ألفاظ المتكلفين، كما أنه إن عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفًا أو مجيبًا أو سائلًا، كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين، إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحسم، وبها أشغف".
وعالم البلاغة عندما يسمع حديث بشر يحكم عليه هنا بأنه لا يصلح إلا لمطابقة الكلام لمقتضى الحال، لارتباطه القوي بالبلاغة، ولا يمت للصورة الأدبية إلا بأدنى ملابسة. والحق أن كلام بشر السابق وما قبله لا يستطيع أحد ألا يلحقه بعلم البلاغة فحديثه وثيق الصلة بها، وينبغي أن يدخل في باب الصورة الأدبية؛ لأن الغرض من التصوير هو التأثير في النفس بحيث يسيطر على العقل والمشاعر، وهذا التأثير للصورة لا يتم ولا يقوى إلا إذا اتفقت مع الحالة التي تعبر عنها، في المقام الذي يبرزه الشاعر المصور مثل قول ابن الرومي في "الثقيل البارد".
يا أبا القاسم الذي ليس يدري ... أرصاص كيانه أم حديد
أنت عندي كما بئرك في الصـ ... ـيف ثقيل يعلوه برد شديد
وأجزاء الصورة هنا تبرز معالم الثقل في شخص أبي القاسم، فهو ثقيل النفس عديم الحركة فاقد الإنسانية، ميت الشعور، بارد العاطفة، كالرصاص أو الحديد
1 / 18
اللذين لا ينتفع الناس بكل منهما، إلا إذا انصهر في النار واتخذ أشكالًا وجسومًا تصلح للاستعمال والانتفاع.
فأبو القاسم بارد كهذين المدنيين، اللذين يظهر فيهما تأثير البرودة واضحًا وبسرعة، فهما جيدا التوصيل، كما يقول علماء الطبيعة حديثًا، بخلاف الخشب فهو رديء التوصيل ولكي يبلغ ابن الرومي الغاية في الصورة، ويمنحها القدرة على التأثير، أضاف إلى البرودة السابقة برودة أشد وأقوى، وهي برودة الماء التي ترتفع فيه الدرجة لسيلانه وليونته، ثم يرتفع بها إلى معدم غير عادي، وهو ما بعد الصفر، فيصور الماء في بئر تحت الأرض، بعيدًا عن حرارة الشمس، وفي ظل دائم، ثم أخيرًا يكسبه بطبقة من الجليد والبرد.
وقد اختار الألفاظ في النظم التي تتناسب مع أبي القاسم، واستقطب الأجزاء في الصورة التي تتلاءم مع حالة الثقل البارد من الرصاص والحديد وماء البئر في الصيف، والثقل والبرد الشديد كل ذلك ليؤدي الشاعر الغرض الذي من أجله كانت الصورة ويتآلف مع مقام الهجاء العفيف، الذي أراده الشاعر، فقد رمى أبا القاسم في صورته بثقل النفس، وجمود العاطفة وتجريده من الإنسانية وموت الشعور فيه، مما يتناسب مع مقام الإقذاع والتنكيل به.
وهذا هو نهاية ما يتطلبه بشر بن المعتمر من التركيب والتصوير، وما اهتم العلماء بالبلاغة إلا ليبلغوا بالكلام والصور مبلغ التأثير والإيقاع، ولعل هذه الشبهة هي التي وقفت دون النقاد عن فهم ما يقصده بشر من صحيفته المشهورة من العناية بالنظم، وإيضاح معالم التأليف والصور، حتى تكون جديرة بوصفه إياها بالبلاغة وقوة التأثير في النفس. وإن كانت هذه إشارات خاطفة منه في مفهوم النظم والتصوير، إلا أنها نبهت من بعده، فأخذ ينميها ويعمقها، ليبلغ بها الغاية في الدقة والكمال وقوة التأثير والإمتاع.
1 / 19
موقف الجاحظ من الصورة الأدبية:
بعد أن نشط التدوين، وراجت الكتابة، وتسابقت الأقلام، أصبح من السهل أن نقف على آراء النقاد في الصورة والشكل، وكان أول من أثار هذه القضية هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ١. وبعثها كنظرية نقدية، وظاهرة أدبية، وقضى فيها بما يراه لائقًا بالأدب والشعر، وما عداه مناطًا للحسن والجودة، ومرتقى للسبق والفضل والتفوق.
ووضح موقفه منها، حينما انتهى إلى سمعه أن أبا عمرو الشيباني استحسن بيتين من الشعر معناهما، مع سوء العبارة التي تصورهما، فقال الجاحظ وهو يهجم عليه: "ذهب الشيخ إلى استحسان المعنى، والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صياغة، وضرب من التصوير٢.
فهو يرى أن المعاني ممتدة واسعة. بعكس الألفاظ، فإنها محصورة محدودة، يقول: "المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدة إلى غير نهاية"٣.
ويبين أن البلاغة والجمال، إنما يرجعان إلى اللفظ؛ لأن المعنى الشريف قد يؤدي باللفظ الرديء يقول: "ومن الدليل على أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ أن الخطب الرائعة، والأشعار الرائقة، ما عملت لإفهام المعاني فقط؛ لأن الرديء من اللفظ، يقوم مقام الجيد منها في الأفهام"٤.
_________
١ هو أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني المتوفى سنة ٢٥٥هـ.
٢ الحيوان: الجاحظ ج٣ ص٤٠ تحقيق عبد السلام هارون.
٣ البيان والتبيين ج١ ص٤٣ تحقيق محب الدين الخطيب.
٤ المرجع السابق ص٢٥٣.
1 / 20
والجاحظ في اتجاهه يفصل بين اللفظ والمعنى "وينظر إلى اللفظة والجملة"١، هذا حديث المضمون والشكل، والمحتوى والصورة، وأن المعنى قد يكون واحدًا، ولكنه يعرض في صور مشددة، وصياغات مختلفة؛ لأن الشأن في الصياغة، والشعر ضرب من التصوير، ونطاق الصياغة والتصوير ضيق صعب، لا يليه، إلا لمن وهب القدرة والموهبة، بخلاف المعنى فهو ممتد ميسور، يقع للغبي والذكي.
ويقصد الجاحظ بالصورة في حديثه الأسلوب والصياغة، وإحكام النسخ في العبارات وتخير الألفاظ والأوزان؛ لأن الحديث عنده نبع من الهجوم على أبي عمرو الشيباني نصير المعنى، ونعى عليه اتجاهه، وأقر بأن اللفظ هو مقياس الجمال وحده.
وهذا الرأي ردده كثير ممن أتى بعده من أنصار اللفظ، الذين انتصروا له وأيدوا الصورة، بينما كان هناك من اهتم بالمعنى بجوار اللفظ، وانتصر لكل على حدة، حتى جاء بعد ذلك من انتصر لهما معًا بدعوة النظم، ورأى أن الصورة إنما تكون في النظم، لا في اللفظ المفرد، ولا في المعنى المفرد.
موقف ابن قتيبة من الصورة الأدبية:
كان ابن قتيبة من أنصار المعنى الذي شايعوه، ولم يعتبروا اللفظ إلا بشرف معناه، ولم يرفعوا الشكل إلا بنبل مغزاه، فلا قيمة للصورة عندهم إلا بشرف مضمونها، ولكنهم تفاوتوا في النظرة إلى درجة الجودة في اللفظ والمعنى، فمنهم من سوى بينهما في الشرف والجودة، ومنهم من رجح المعنى على اللفظ.
_________
١ أبو عثمان الجاحظ: د. عبد المنعم خفاجي ص ٢٢٩ -طبعة أولى- المطبعة المحمدية بالقاهرة.
1 / 21
ويرى ابن قتيبة١ أن القصيد يعلو ويهبط، ويسمو ويقبح حسب قيمة اللفظ والمعنى فيه، ولكنه رجح جانب المعنى في الشعر على جانب اللفظ حينما قسمه على أربعة أضرب:
أولًا: ضرب حسن لفظه وجاد معناه.
ثانيًا: ضرب حسن لفظه وحلًا، فإذا فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى.
ثالثًا: ضرب جاد معناه، وقصرت ألفاظه عنه.
رابعًا: ضرب تأخر معناه، وتأخر لفظه٢.
ويظهر ترجيحه للمعنى حينما ينقد أبيات كثيِّر المشهورة التي يقول فيها:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على حدب المهارى رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
فهي عنده خالية من كل معنى مفيد، على أنه يعجب بمثل قول أبي ذؤيب:
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
وذلك لتضمنه معنى أخلاقيًّا٣، ومن هنا يظهر "فساد رأيه في العلاقة بين اللفظ والمعنى"٤. وهذا الاتجاه يوضح عدم اعتداده بالصورة الأدبية إلا إذا صور الشاعر بها معنى لطيفًا ومغزى شريفًا، ما التي تحمل معنى وسطًا أو ساقطًا -وإن اكتملت عناصرها وتلاءمت أجزاؤها- فلا تعد صورة عنده، ولا يقيم لها وزنًا كأبيات كثير السابقة؛ لأن الأساس عنده في الشعر هو شرف المضمون.
_________
١ هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفى سنة ٢٧٦هـ.
٢ الشعر والشعراء: ص٧ وما يليها.
٣ الشعر والشعراء: ابن قتيبة ص١٠، ١١.
٤ دراسات في النقد الأدبي: د. محمد عبد المنعم خفاجي ص١٣٠.
1 / 22
ابن طباطبا والصورة الأدبية:
ويؤيد ابن طباطبا١ ما جاء به بشر بن المعتمر في صحيفته المشهورة فيقول: "إذا أراد الشاعر بناء قصيدة، فحضر المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا أو أعد له ما يلبسه إياه، من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي سلس له القول عليه، فإذا اتفق له بيت، يشاكل المعنى الذي يرومه، ابتدأ وعمل فكره في شغل القوافي، بما تقتضيه من المعاني، على غير تنسيق للشعر، وترتيب لفنون القول فيه، بل يعلق كل بيت، يتفق له نظمه، على تفاوت ما بينه وبين ما قبله فإذا أكملت له المعاني وكثرت الأبيات، وفق بينها بأبيات تكون نظامًا لها، وسلكًا جامعًا لما تشقت منها، ثم يتأمل ما قد أداه إليه طبعه، ونتجته فكرته، فيستقصى انتقاده، ويرم ما وهي منه، ويبدل بكل لفظه مستكرهة، لفظة سهلة نقية، وإذا اتفق له قافية قد شغلها في معنى من المعاني، واتفق له معنى آخر مضاد للمعنى الأول، وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني، منها في المعنى الأول، نقلها إلى المعنى المختار، الذي هو أحسن، وأبطل ذلك البيت، أو نقض بعضه، وطلب لمعناه قافية تشاكله، ويكون كالنساج الحاذق، الذي يفوف وشيه بأحسن التفويف ويسديه. ولا يهلهل شيئًا منه فيشينه، وكالنقاش الدقيق الذي يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم نقشه، ويشبع كل صبغ منها، حتى يتضاعف حسنه في العيان، وكناظم الجواهر، الذي يؤلف بين النفيس منها، والثمين الرايق ولا يشين عقوده، بأن يفاوت بين جواهرها في نظمها وتنسيقها، وكذلك الشاعر إذا أسس شعره على أن يأتي فيه بالكلام البدوي والفصيح، لم يخلط به الحضري المولد، وإذا أتى بلفظة غريبة أتبعها أخواتها٢".
_________
١ هو محمد بن أحمد بن طباطبا المتوفى سنة ٣٢٢هـ.
٢ عيار الشعر: ابن طباطبا ص ٢٣ في القاهرة ١٩٥٦م.
1 / 23