ومِنْ هَذَا العَرْضِ المُوجَزِ نَرَى أَنَّ حيَاةَ النَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ البِعْثَةِ كَانَتْ أمْثَلَ حيَاةٍ وأكْرَمَهَا، وأحْفَلَهَا بِمَعَانِي الإِنْسَانِيَّةِ، والشَّرَفِ، والكَرَامَةِ، وعَظَمَةِ النَّفْسِ، ثُمَّ نَبَأَهُ اللَّهُ تَعَالَى وبَعَثَهُ، فنَصَتْ هَذِهِ الفَضَائِلُ وترَعْرَعَتْ، وما زَالَتْ تَسْمُو فُرُوعُهَا، وتَرْسُخُ أُصُولُهَا، وتَتَّسِعُ أفْيَاؤُهَا حتَّى أضْحَتْ فَرِيدَةً في تَارِيخِ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا.
إِنَّ هذِهِ الحَيَاةَ الفَاضِلَةَ المُثْلَى لَمِنْ أكْبَرِ الدَّلَائِلِ عَلَى ثُبُوتِ نُبُوَّتِهِ ﷺ، فَمَا سَمِعْنَا في تَارِيخِ الدُّنْيَا قَدِيمِهَا، وحَدِيثِهَا أَنَّ حَيَاةً كُلَّهَا فَضْلٌ وكَمَالٌ، وهُدًى ونُورٌ، وحَقٌّ وخَيْرٌ، كحَيَاةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، ولَمْ يُعْهَدْ في تَارِيخِ البَشَرِ أَنَّ شَخْصًا يَسْمُو عَلَى كُلِّ مُجْتَمَعِهِ وهُوَ يَعِيشُ فيهِ، ويَنْشَأُ مُبَرَّءًا مِنْ كُلِّ نَقَائِصِهِ ومَثَالِبِهِ، وهُوَ نَابِعٌ مِنُه، ولا أَنَّ نُورًا يَنْبَعِثُ مِنْ وَسَطِ ظُلُمَاتٍ، ولا طَهَارَةً تَنْبُعُ مِنْ وَسَطِ أدْنَاسٍ، وأرْجَاسٍ، ولا أَنَّ عِلْمًا يكُونُ مِنْ بَيْنِ جَهَالَاتٍ وخُرَافَاتٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ لحِكْمَةٍ، وأَمْرًا جَرَى عَلَى غَيْرِ المَعْهُودِ والمَأْلُوفِ، ومَا ذَلِكَ إِلَّا لِإِعْدَادِ النَّبِيِّ ﷺ لِلنُّبُوَّةِ (١).
قَالَ البُوصِيرِيُّ:
كَفَاكَ بِالعِلْمِ في الأُمِّيِّ مُعْجِزَةً ... في الجَاهِلِيَّةِ والتَّأْدِيبِ في الْيُتْمِ