The Grammarians' Melodies for Readers
تلحين النحويين للقراء
Daabacaha
مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
١٤٢٦ ه
Noocyada
تلحين
النحويين للقرّاء
أ. د: ياسين جاسم المحيميد
أستاذ النحو والصرف
كلية اللغة العربية - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة: تضمنت كتب النحو واللغة مجموعة من الردود، على قراءات بعض القراء، من غير المتواتر. وكنت لا أستغرب من العالم اللغوي النحوي، أن يرد قراءة ليست متواترة، فلما تصفحت بعض كتب النحو والتفسير، وجدت ردودًا على بعض قراءات الأئمة القراء الكبار، الذين تلقوا قراءاتهم بالأسانيد المتصلة، فوصلت قراءاتهم إلى درجة التواتر، أولئك الذين ارتضتهم الأمة الإسلامية جيلًا عن جيل، وتلقت تلك القراءات بالقبول. فتساءلت عن الأسباب والدواعي، فلم أجد مسوّغًا للنحاة في أن يردوا قراءة متواترة، رويت بالسند المتصل إلى النبي ﷺ. فبادرت بكتابة هذا البحث المتواضع، لأناقش هذا الموضوع مناقشة علمية هادئة، مع أنني على علم بأن هذا الموضوع ناقشه علماء كبار، لكنني أحببت أن أسهم في مناقشة هذا الموضوع، لأن لكل كاتب طريقته في الطرح والمناقشة. أقول: إن الذي دعا النحاة أن يطعنوا ببعض قراءات الأئمة الكبار، هو اعتقادهم أن النحويين أضبط للقراءة من القراء. قال ابن جني: (ت ٣٩٢ هـ): (والذي رواه صاحب الكتاب اختلاس هذه الحركة في (بارئكم) لا حذفها البتة، وهو أضبط لهذا الأمر من غيره من القراء الذين رووه ساكنًا) (١) . وقال الزمخشري: (والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الراوي، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو) (٢) . _________ (١) الخصائص ١ / ٧٢ (٢) الكشاف ١ /
بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة: تضمنت كتب النحو واللغة مجموعة من الردود، على قراءات بعض القراء، من غير المتواتر. وكنت لا أستغرب من العالم اللغوي النحوي، أن يرد قراءة ليست متواترة، فلما تصفحت بعض كتب النحو والتفسير، وجدت ردودًا على بعض قراءات الأئمة القراء الكبار، الذين تلقوا قراءاتهم بالأسانيد المتصلة، فوصلت قراءاتهم إلى درجة التواتر، أولئك الذين ارتضتهم الأمة الإسلامية جيلًا عن جيل، وتلقت تلك القراءات بالقبول. فتساءلت عن الأسباب والدواعي، فلم أجد مسوّغًا للنحاة في أن يردوا قراءة متواترة، رويت بالسند المتصل إلى النبي ﷺ. فبادرت بكتابة هذا البحث المتواضع، لأناقش هذا الموضوع مناقشة علمية هادئة، مع أنني على علم بأن هذا الموضوع ناقشه علماء كبار، لكنني أحببت أن أسهم في مناقشة هذا الموضوع، لأن لكل كاتب طريقته في الطرح والمناقشة. أقول: إن الذي دعا النحاة أن يطعنوا ببعض قراءات الأئمة الكبار، هو اعتقادهم أن النحويين أضبط للقراءة من القراء. قال ابن جني: (ت ٣٩٢ هـ): (والذي رواه صاحب الكتاب اختلاس هذه الحركة في (بارئكم) لا حذفها البتة، وهو أضبط لهذا الأمر من غيره من القراء الذين رووه ساكنًا) (١) . وقال الزمخشري: (والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الراوي، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو) (٢) . _________ (١) الخصائص ١ / ٧٢ (٢) الكشاف ١ /
1 / 1
والذي يظهر لجميع الباحثين أن كثيرًا من القراء هم من النحاة، وأن كثيرًا منهم يتميز بالضبط والدقة في النقل، وأن بعضهم أعلى رتبة من بعض النحاة. فلما رجح ابن عطية الأندلسي (ت ٥٤٦هـ) نقل أبي الفتح ابن جني، على نقل أبي عمرو الداني (ت ٤٤٤ هـ)، رد عليه أبو حيان النحوي (ت ٧٤٥ هـ) فقال: (هذا الذي قاله من أن أبا الفتح أثبت، كلام لا يصح، إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءات ومعرفتها، وضبط رواياتها، واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أئمة القراءات، فضلًا عن النحاة الذين ليسوا بمقرئين، ولا رووا القرآن عن أحد، ولا روى عنهم القرآن أحد، هذا مع الديانة الزائدة، والتثبت في النقل، وعدم التجاسر، ووفور الحظ من العربية، فقد رأيت له كتابًا في (كلا وكلتا)، وكتابًا في (إدغام أبي عمرو الكبير)، دل على اطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أئمة النحاة ولا المعربين، إلى سائر تصانيفه ﵀ (١) .
وإذا كانت القراءة من غير المتواتر المجمع عليه، فلا حرج عندي إذا ردها أحد علماء النحو أو اللغة، إن كان يمتلك الدليل الثابت، لأن كثيرًا منها يحتج له في لغة العرب. أما إن كانت القراءة القرآنية متواترة، قد رويت بالأسانيد الصحيحة التي لا تقبل الشك، فقد نقلت آراء جهابذة العلماء في قبولها، بعد بيان الأدلة على فصاحتها، فهذه القراءات قد روتها الأمة جيلًا عن جيل، عن أفصح الخلق سيدنا محمد ﷺ، ولأنه قرأ بها وأقرأها لأصحابه، بالصورة التي وصلت إلينا متواترة كما هي.
وسوف أناقش هذه المسألة في موضعها - إن شاء الله - بعد أن أعرف بالقراءات، ضمن ما يتطلبه البحث.
_________
(١) البحر المحيط ٤ / ٣٠٩، وينظر دراسات لأسلوب القرآن الكريم ١ / ٢٨
1 / 2
تعريف القراءات
القراءات في اللغة: جمع قراءة، ومعناها الجمع والاجتماع (١) . فالقراءة مصدر من قرأ يقرأ قراءة وقرآنًا، فهو قارئ، وهم قراء وقارئون (٢) .، فالعالم بالقراءة يسمى مقرئًا وقارئًا، ومعناه العابد الناسك (٣) .
والقراءة في الاصطلاح: علم بكيفيات أداء كلمات القرآن الكريم ونطقها، من تخفيف، وتشديد، واختلاف ألفاظ الوحي في الحروف (٤) .
وعرف القسطلاني (ت ٩٢٣ هـ) علم القراءات بأنه: (علم يعرف منه اتفاق الناقلين لكتاب الله، واختلافهم في اللغة والإعراب، والحذف والإثبات، والتحريك والإسكان، والفصل والاتصال، وغير ذلك من هيئة النطق، والإبدال من حيث السماع. أو هي: علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزوًا إلى ناقله) (٥) .
والمقرئ: هو العالم بالقراءات، الذي رواها مشافهة، فلو حفظ التيسير - مثلًا - ليس له أن يقريء بما فيه، إن لم يشافهه ممن شوفه به مسلسلًا، لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة (٦) .
والقارئ المبتدي: من شرع في الإفراد، إلى أن يفرد ثلاثًا من القراءات.
والقارئ المنتهي: من نقل من القراءات أكثرها وأشهرها (٧) .
_________
(١) معجم مقاييس اللغة، مادة قرأ، ٥ / ٧٩
(٢) تاج العروس مادة قرأ، ١ / ١٠١
(٣) أساس البلاغة ١ / ١٠٠.
(٤) القراءات وأثرها في علوم الغربية ١ / ١٦.
(٥) لطائف الإشارات ١ / ١٧٠
(٦) ينظر: منجد المقرئين / ٤٩
(٧) المصدر السابق / ٤٩
1 / 3
واختلاف القراء في القراءات كاختلاف الآثار التي رويت في الأحكام، فمنها المجمع عليه، السائر المعروف، ومنها المتروك المكروه عند الناس، المعيب من أخذ به. إلا أن أبا الخير محمد بن الجزري (ت ٨٣٣هـ) قد فرق بين اختلاف الفقهاء واختلاف القراء، قال: (اختلاف القراء كله حق وصواب، نزل من عند الله، وهو كلامه لا شك فيه، واختلاف الفقهاء اختلاف اجتهادي، والحق في نفس الأمر في واحد، فكل مذهب بالنسبة إلى الآخر صواب يحتمل الخطأ، وكل قراءة بالنسبة إلى الأخرى حق وصواب في نفس الأمر، نقطع بذلك، ونؤمن به) (١) .
وعلم القراءات من أشرف العلوم، لما له من تعلق بكتاب الله. وقد أمرنا الباري ﷾ أن نتعبده بتلاوة كتابه الكريم، تلاوة صحيحة فقال: (ورتل القرآن ترتيلًا) (٢) . ويمكن لنا أن نتعرف على أركان القراءة الصحيحة، التي يجوز للمسلم أن يتعبد بها، والتي تصح فيها صلاة المصلي، بعد أن نعرض بإيجاز عن نشأة القراءات.
_________
(١) النشر في القراءات العشر ١ / ٥٢
(٢) سورة المزمل / ٤.
1 / 4
لمحة وجيزة عن نشأة علم القراءات
لقد نزل القرآن الكريم منجمًا على قلب الرسول ﷺ خلال ثلاثة وعشرين عامًا. قال تعالى: (وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث) (١) . وإن أول ما نزل منه قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم) (٢) . فهذه الآيات هن أول رحمة رحم الله بها الدنيا، وأول نعمة أنعم الله بها على البشرية. وإن آخر آية نزلت في أرجح الأقوال (٣) هي: (واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم توفّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) (٤) . وإنّ نزول القرآن منجمًا هو بمثابة نشوء للقراءات، فقد أقرأ جبريل النبي ﷺ القرآن الكريم من أوله إلى آخره آية آية، وكان رسول الله ﷺ يعلّم الصحابة بعد نزول الآيات مشافهة، وهم بدورهم يعلمونها من سواهم. وكان النبي الكريم يتلو الآيات على أصحابه حسب لهجاتهم الفصيحة، تيسيرًا عليهم. فيأخذونها عنه مشافهة بلهجاتهم التي تختلف من قبيلة إلى أخرى.
ثم إن الصحابة - رضوان الله عليهم - قد اختلف أخذهم وتلقيهم عن رسول الله ﷺ، بسبب نزول القرآن على سبعة أحرف، فلما تفرقوا في البلاد وهم على هذه الحال، اختلف بسبب ذلك أخذ التابعين عنهم، وأخذ تابعي التابعين عن التابعين، وهلم جرّا، حتى وصل الأمر على هذا النحو إلى الأئمة القراء المشهورين، الذين تخصصوا وانقطعوا للقراءات، يضبطونها ويتقنونها وينشرونها.
_________
(١) سورة الإسراء / ١٠٦.
(٢) سورة العلق / ١ - ٤.
(٣) ينظر فتح القدير ١ / ٣٨٠
(٤) سورة البقرة / ١٨١.
1 / 5
وحينما استحر القتل بالقراء في حروب الردة، أي: بعد وفاة النبي ﷺ. طلب عمر بن الخطاب (ت ٢٣هـ) من أبي بكر (ت ١٣هـ) ﵄ أن يجمع القرآن الكريم، فقال: (إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني لأخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. . .) (١) . فلم يزل عمر يراجع أبا بكر حتى شرح الله صدره لذلك. فأمر زيد بن ثابت (ت ٤٥ هـ) مع بعض الصحابة، وهم أبيّ بن كعب (ت ٢٢ هـ)، وعبد الله بن مسعود (ت ٣٢ هـ)، وعثمان بن عفان (ت ٣٥ هـ)، وعلي بن أبي طالب (ت ٤٠ هـ)، وطلحة بن عبيد الله (ت ٣٦ هـ)، وحذيفة ابن اليمان (ت ٣٦ هـ)، وأبو الدرداء (ت ٣٣ هـ)، وأبو هريرة (ت ٥٧ هـ)، وأبو موسى الأشعري (ت ٤٢ هـ) ﵃، أمرهم أن يتتبعوا القرآن ويجمعوه. (٢) .
وقد اعتمدت الأمة في نقل القرآن على الحفاظ، ولذلك أرسل عثمان ﵁ إلى الأمصار كل مصحف مع من يوافق قراءته، في الأكثر. وبعد ذلك قرأ كل مصر بما في مصحفهم، وتلقوا ما فيه عن الصحابة الذين تلقوه عن النبي - صلى اله عليه وسلم - ثم تجرد لأخذ القراءات عن هؤلاء قوم أسهروا ليلهم في ضبطها، وأتعبوا نهارهم في نقلها، حتى صاروا في ذلك أئمة للاقتداء، وأنجمًا للاهتداء، فأجمع أهل بلدهم على قبول قراءتهم. ولم يختلف عليهم اثنان في صحة روايتهم ودرايتهم، وذلك لتصديهم للقراءة التي نسبت إليهم، وكان المعول فيها عليهم. (٣)
_________
(١) صحيح البخاري، رقم الحديث ٤٧٠١، ٤ / ١٩٠٧، وينظر: السبعة في القراءات /٦
(٢) تتمة الحيث ٤٧٠١، والسبعة / ٦
(٣) ينظر: مناهل العرفان / ٤١٢
1 / 6
أركان القراءة الصحيحة:
القراءة الصحيحة ما توافرت فيها الأركان الثلاثة المعروفة لدى القراء، وهي: صحة السند، وموافقة رسم المصحف، وموافقة العربية ولو بوجه من وجوهها. وأول من أشار إلى هذا الضابط هو أبو جعفر الطبري (١) (ت ٣١٠ هـ)، ثم الحسين بن أحمد بن خالويه (٢) (ت ٣٧٠ هـ)، ثم مكي بن أبي طالب القيسي (٣) (ت٤٣٧ هـ)، ثم أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي (٤) (ت بعد ٤٣٠ هـ)، ثم أبو عمرو الداني (٥) (ت ٤٤٤هـ)، ثم أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة (٦) (ت٦٦٥هـ)، ثم أبو الخير محمد بن محمد المعروف بابن الجزري (٧) . قال ابن الجزري: (كل قراءة وافقت العربية ولو بوجهٍ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا، وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة، التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها) (٨) .
وقد نظمها ابن الجزري في طيبة النشر بقوله:
وكل ما وافق وجه نحو ... وكان للرسم احتمالًا يحوي
وصح إسنادًا هو القرآن ... من هذه الثلاثة الأركان
وحيثما يختل ركن أثبت ... شذوذه لو أنه في السبعة (٩)
_________
(١) ينظر: الإبانة / ٦٠، حيث نقل نصًا من كتاب (القراءات) للطبري، صرح فيه بشرط صحة السند، وموافقة الرسم، ويؤخذ موافقة اللغة منهما.
(٢) القراءات، لابن خالويه / ١٨، مخطوط مصور عن معهد المخطوطات العربية بالقاهرة. ينظر: القراءات القرآنية، تاريخ وتعريف / ٤٣، وينظر: القراءات وأثرها في التفسير والأحكام ١ / ١٦٢
(٣) الإبانة / ١٠، ١٠٣، ١٣٩
(٤) المصدر السابق ١ / ٩
(٥) المصدر السابق ١ / ٩
(٦) المرشد الوجيز / ١٤٥، ١٧١
(٧) النشر في القراءات العشر ١ / ٤٤، وينظر: القراءات وأثرها في التفسير والأحكام ١ / ١٦٣.
(٨) النشر في القراءات العشر ١ / ٩.
(٩) النشر في القراءات العشر ١ / ٩، وينظر: شرح طيبة النشر في القراءات العشر / ٥.
1 / 7
وإليك تفسير هذه الضوابط:
١- أن توافق القراءة العربية بوجه من الوجوه. والمراد بما وافق العربية بوجه من وجوه اللغة العربية، سواء أكان أفصح أم فصيحًا، مجمعًا عليه أم مختلفًا فيه اختلافًا لا يضرّ مثله، إذا كانت القراءة مما شاع وذاع، وتلقاها الأئمة بالإسناد الصحيح، وهذا هو المختار عند المحققين في ركن موافقة العربية (١) .
٢- أن تكون موافقة لإحدى المصاحف العثمانية ولو احتمالًا، كقراءة ابن عامر:
(قالوا اتخذ الله ولدًا) في سورة البقرة بغير واو، و(بالزبر وبالكتاب المنير) في سورة (آل عمران) بزيادة الباء في الاسمين، فإن ذلك ثابت في المصحف الشامي. ومثل:
(ملِك يوم الدين) في سورة الفاتحة بغير ألف، فإنه كتب بغير ألف بعد الميم في جميع المصاحف، فقراءة الحذف تحتمله. ويندرج فيه ما وقع الاختلاف في الحركة والسكون، مثل (القدُْس)، وبالتخفيف والتشديد مثل (ينشركم) بيونس، وبالقطع والوصل المعبر عنه بالشكل، مثل (ادخلوا) بغافر، وباختلاف الإعجام مثل (يعلمون)، وبالإعجام والإهمال مثل (ننشزها)، وكذا المختلف في كيفية لفظها، كالمدغم والمسهل والممال والمرقق، فإن المصاحف العثمانية هكذا كلها. ودخل في هذا قراءة ابن كثير في (جنات تجري من تحتها الأنهار) من سورة التوبة، فإنه ثابت بالمصحف الكوفي.
واعلم أن من خالف صريح الرسم في حرف مدغم أو مبدل أو ثابت أو محذوف أو نحو ذلك لا يعد مخالفًا، إذا ثبتت القراءة به، ووردت مشهورة. ألا ترى أنهم يعدون إثبات ياءات الزوائد وحذف ياء (تسألني) بالكهف، وقراءة (أكون من الصالحين)، ونحو ذلك، من مخالف الرسم غير مردود، لتمشيه مع صحة القراءة، بخلاف زيادة كلمة ونقصانها. (٢)
_________
(١) ينظر: النشر في القراءات العشر ١ / ٩، ومناهل العرفان ١ / ٤١٨.
(٢) ينظر: النشر في القراءات العشر ١ / ٩، ومناهل العرفان ١ / ٤١٩.
1 / 8
٣- صحة إسنادها، والمراد بصحة الإسناد أن يروي هذه القراءة عدل ضابط عن مثله، وهكذا إلى الرسول ﷺ، من غير شذوذ ولا علة قادحة. والعلامة ابن الجزري يشترط فوق ذلك التواتر، وهو أن يروي القراءة جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم، وهكذا إلى رسول الله ﷺ بدون انقطاع في السند. وإذا اختل ركن من هذه الأركان فالقراءة تكون عند ذلك شاذة (١) .
وإن كل قراءة اجتمعت فيها هذه الأركان الثلاثة يحكم بقبولها. وهي من المعلوم من الدين بالضرورة، إن كانت تلك القراءة مروية عن الأئمة العشرة. فإذا اجتمعت في القراءة هذه الأركان الثلاث، قطع بصحتها وصدقها، ولا فرق بينها وبين القرآن (٢) .
ويمكن لكل من لم يتحقق من القراءة الصحيحة المكتملة الأركان أن يقع في الخطأ، وقد وقع الأعرابي الذي قرأ في أيام الخليفة عمر بن الخطاب ﵁ في الخطأ.
_________
(١) ينظر: النشر في القراءات العشر ١ / ٩ ...، ومناهل العرفان ١ / ٤٢٠.
(٢) ينظر: مناهل العرفان ١ / ٤٢١.
1 / 9
ذكر ابن الأنباري في نزهة الألباء، قال: (قدم أعرابيّ في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ فقال: من يقرئني شيئًا مما أنزل الله تعالى على محمد ﷺ؟ فأقرأه رجل سورة براءة، فقرأ: (إن الله برئ من المشركين ورسوله) بجر اللام، فقال الأعرابي: أو قد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله تعالى برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فبلغ ذلك عمر فدعاه، فقال: يا أعرابي أتبرأ من رسول الله ﷺ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة لا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني؟ فأقرأني هذه السورة براءة، فقال: (إن الله برئ من المشركين ورسولِه) . فقلت: أو قد برئ الله تعالى من رسوله؟ إن يكن الله تعالى برئ من رسوله، فأنا برئ منه، فقال عمر ﵁: ليست هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: (إن الله برئ من المشركين ورسولُه) بالرفع. فقال الأعرابي: أنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منهم، فأمر ﵁ أن لا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة العربية) (١) .
من خلال هذه الرواية ندرك مدى ارتباط القراءة بسلامة اللغة، ذلك أن الأعرابي بفطرته وسليقته أدرك وجه القراءة الخاطئة من الصائبة.
الفرق بين القرآن والقراءة
يتساءل كثير من الناس: ما الفرق بين القراءة والقرآن؟ ودار حول هذا الموضوع مناقشات ومناظرات، قديمًا وحديثًا. فتعددت الأقوال في ذلك، وسأجمل ما قاله العلماء في قولين مشهورين:
القول الأول: وهو رأي مكي بن أبي طالب القيسي (ت ٤٣٧ هـ)، وبدر الدين الزركشي (ت ٧٩٤ هـ)، وهو التفريق بين القراءة والقرآن. مع اختلاف في وجهات النظر.
فيرى مكي أن التفريق بين القراءة والقرآن له شروط، فإن كانت القراءة:
_________
(١) نزهة الألباء / ١٢٣، وينظر مناهل العرفان ١ / ٤٢٠. وينظر: مواقف النحاة من القراءات القرآنية / ٨
1 / 10
١- منقولة عن الثقات إلى النبي ﷺ.
٢- شائعة في العربية.
٣- موافقة لرسم المصحف.
فهي القراءة التي يقرأ بها، يعني هي قرآن. وإن اختل شرط من هذه الشروط، فليست بقراءة يقرأ به، يعني ليست بقرآن (١) .
ونقل هذا عن أبي عمرو الداني (٢) (ت ٤٤٤ هـ)، وذكره السخاوي (ت ٦٤٣ هـ) في جمال القراء (٣)، وصرح بموافقة مكي أبو شامة في المرشد الوجيز (٤) .
ويرى الزركشي أن هناك فرقًا بين القراءة والقرآن، يفيد أنهما حقيقتان متغايرتان، يختلف عما ذهب إليه مكي، قال: (اعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على (محمد) ﷺ للبيان والإعجاز. والقراءات: هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتبة الحروف، أو كيفيتها، من تخفيف، وتثقيل، وغيرهما. ولا بد من التلقي والمشافهة، لأن القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع) (٥) .
القول الثاني: أصحاب هذا القول لم يفرقوا بين القرآن والقراءة، فكل قراءة عندهم هي قرآن، وهذا القول نقله ابن الجزري في منجد المقرئين (٦)، عن ابن دقيق العيد (ت ٧٠٢ هـ) . ويرى ابن الجزري: أن القراءة المتواترة هي قرآن، كما يرى أن القراءة المشهورة هي قرآن.
_________
(١) الإبانة عن معاني القراءات / ٥٧ - ٥٨ - ١٠٠، وينظر: القراءات وأثرها في التفسير والأحكام ١ / ١١٣ - ١١٤
(٢) ينظر: النشر في القراءات العشر ١ / ٩
(٣) جمال القراء ٢ / ٤٤٠
(٤) المرشد الوجيز / ١٧١ - ١٧٢
(٥) مقدمة البرهان في علوم القرآن ١ / ٥ - ١٣
(٦) منجد المقرئين / ٢٠ - ٢١، وينظر: النشر في القراءات العشر ١ / ١٥
1 / 11
قال معقبًا على القراءات المشهورة: (هذا وشبهه وإن لم يبلغ مبلغ التواتر صحيح مقطوع به، نعتقد أنه من القرآن، وأنه من الأحرف السبعة التي نزل بها، والعدل الضابط إذا انفرد بشيء تحتمله العربية والرسم تلقي بالقبول، قطع به وحصل به العلم) (١) . ويرى ابن الجزري أن القراءات العشرة كلها متواترة مقطوع بها، منزلة على النبي ﷺ - وهي من الأحرف السبعة (٢) .
_________
(١) منجد المقرئين / ١٩، وينظر: القراءات وأثرها في التفسير والأحكام ١ / ١٥٢
(٢) منجد المقرئين / ١٦، والمصدر السابق ١ / ١٥٢ - ١٥٣
1 / 12
والذي يظهر لي أن القراءات المتواترة هي قرآن، نزلت على النبي ﷺ، وأن كل ما وافق السبعة من الثلاثة المعشرة هو قرآن، وأن القراءات الشاذة ليست بقرآن، لأن كثيرًا منها أشبه بالتفسير. أما المتواترة فهي ما رسم في المصاحف. فالمصحف الذي يقرأ به اليوم في معظم العالم الإسلامي هو قراءة حفص عن عاصم، والمصحف الذي يقرأ به في المغرب، هو قراءة ورش عن نافع، والمصحف الذي يقرأ به في السودان، هو قراءة الدوري عن أبي عمرو. فالقرآن هو القراءة المتواترة ولا فرق. وهناك أدلة من السنة المطهرة، تشير إلى أن القراءات المتواترة هي قرآن - مع أنني أعتقد أن هذه الأحاديث لا تفوت العلامة الزركشي وغيره من العلماء، الذين فرقوا بين القراءة والقرآن، ومن هذه الأحاديث: ما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى من حديث أبيّ بن كعب - ﵁ - أن النبي - ﷺ - كان عند أضاة بني غفار، فأتاه جبريل - ﵇ - فقال: (إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين، فقال أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك)، ثم أتاه الثانية، فقال: (إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين)، فقال: (أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك)، ثم أتاه الثالثة، فقال: (إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف)، فقال: (أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك)، ثم جاءه الرابعة فقال: (إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا) (١) .
_________
(١) صحيح مسلم بشرح النووي رقم الحديث (١٩٠٣) ٦ / ٣٤٤ ...
1 / 13
وكذلك حديث عمر ﵁ قال: (سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله - ﷺ - أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه، فجئت به رسول الله - ﷺ - فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال رسول الله - ﷺ أرسله، اقرأ، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله ﷺ: (هكذا أنزلت)، ثم قال لي: (اقرأ، فقرأت، فقال: هكذا أنزلت. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه) (١) .
وعن عبد الله بن عباس ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: (أقرأني جبريل ﵇ على حرف واحد فراجعته، فلم أزل أستزيده، ويزيدني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف) (٢) . فهذه الأحاديث تدل على أن القراءات التي قرأ بها النبي - ﷺ - هي قرآن، لأن القراءات هي امتداد للأحرف السبعة، لا كما يقول بعضهم: إنها تمثل حرفًا واحدًا. والله أعلم بالصواب.
وقد انتهج علماء القراءات - منذ عصر الصحابة - أسلوبًا علميًا دقيقًا، في انتقال قراءة القرآن من المعلّم إلى المتعلّم: فلم يكن الشيخ يأذن لتلميذه بالإقراء إلا بعد أن يسمع التلميذ من الشيخ أولًا، ثم يعرض على شيخه ما سمعه منه. وقد صنع رجال الحديث النبوي الشريف في تحمل السنة شيئًا قريبًا من هذا، غير أنهم اكتفوا في تحمل الحديث بالسماع من لفظ الشيخ، ولا كذلك علماء القراءات (٣) .
_________
(١) رواه البخاري ٦ / ١٠٠، ومسلم ٢ / ٢٠٢، واللفظ لمسلم.
(٢) الحديث رواه البخاري في صحيحه٦ / ١٠٠، ومسلم في صحيحه٢ / ٢٠٢، وينظر: المغني في توجيه القراءات العشر ١ / ٥٠.
(٣) ينظر إتحاف فضلاء البشر / ٥.
1 / 14
فأئمة القراءات هم الذين خدموا الأمة والملّة، وحافظوا على الكتاب والسنة؛ يقول السيوطي فيهم: (لما اتسع الخرق، وكاد الباطل أن يتلبس بالحق، قام جهابذة الأمة وبالغوا في الاجتهاد، وجمعوا الحروف والقراءات، وعزوا الوجوه والروايات، وميزوا الصحيح والمشهور والشاذ، بأصول أصّلوها وأركان فصلوها) (١) .
من هم القراء السبعة؟
لما انتهت رئاسة علم القراءات إلى ابن مجاهد (أحمد بن يوسف بن العباس أبو بكر بن مجاهد ت ٣٢٤ هـ)، شرع في اختيار قراءات، نظر فيها إلى كل إمام اشتهرت قراءته، وفاق قراء عصره ضبطًا وإتقانًا، وطالت ممارسته للقراءة والإقراء، وشهد له أهل مصره بالأمانة في النقل وحسن الدين وكمال العلم، واتباع خط المصحف المنسوب إلى مصره، فأفرد من كل مصر إمامًا هذه صفته، قراءته على مصحف مصره، فكان أبو عمرو من أهل البصرة، وحمزة وعاصم من أهل الكوفة وسوادها، والكسائي من أهل العراق، وابن كثير من أهل مكة، وابن عامر من أهل الشام، ونافع من أهل المدينة، وكلهم ممن اشتهرت أمانته، وطال عمره في الإقراء، وارتحل الناس إليه من البلدان (٢) .
وقد علل مكي بن أبي طالب القيسي (ت ٤٣٧ هـ) سر اختيارهم سبعة، فقال:
(ليكونوا على وفق مصاحف الأمصار السبعة (٣)، وتيمنًا بأحرف القرآن السبعة. . . على أنه لو جعل عددهم أكثر أو أقل لم يمنع ذلك، إذ عدد القراء الموثوق بهم أكثر من أن يحصى) (٤) .
_________
(١) الإتقان في علوم القرآن ١ / ١٠٤. وينظر: الوجيز في أصول القراءات وتوجيهها من لغة العرب / ٢
(٢) الإبانة / ٤٧، ٤٨
(٣) بزيادة مصحف لأهل اليمن، ومصحف لأهل البحرين إلى الخمسة المشهورة، ولم يجد ابن مجاهد إمامين في هذين المصرين، فاستعاض عنهما بإمامين من أهل الكوفة، لكثرة القراء بها، قاله أبو شامة في مرشد المقرئين / ١٦٢، وينظر: من قضايا القرآن / ١٥٧، ١٥٨.
(٤) الإبانة / ٥١
1 / 15
ولعل من المفيد أن نستعرض هؤلاء الأئمة الذين اختارهم ابن مجاهد، حسب ترتيب الإمام الشاطبي لهم في (حرز الأماني)، وحسب ترتيب ابن الجزري لهم في طيبة
النشر:
الأول: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي: اختلف في كنيته، فقيل: أبو رويم، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو الحسن. قال نافع: (قال لي أستاذي أبو جعفر: قد عرفنا اسمك، فما كنيتك؟ فقلت: إن أبي سماني نافعًا، ترى أن تكنيني؟ فقال: أنت وجهك حسن، وخلقك حسن، وقراءتك حسنة، وأنت أبو الحسن) (١)، إمام أهل المدينة في القراءة، قرأ على سبعين من التابعين، وأقرأ الناس دهرًا طويلًا. قال عنه الإمام مالك: نافع إمام الناس في القراءة، (ت ١٦٩ هـ) (٢) .
الثاني: عبد الله بن كثير، بن عمرو، بن عبد الله، بن زاذان، عبد المطلب الداري المكي، أبو معبد، وقيل أبو محمد، وقيل أبو بكر، وقيل: أبو عباد، وقيل: أبو المطلب، إمام أهل مكة في القراءة، تصدر للإقراء وصار إمام أهل مكة في ضبط القرآن. كان فصيحًا بليغًا، قال عنه الأصمعي: كان ابن كثير أعلم بالعربية من مجاهد بن جبر، وما زال هو الإمام المجمع عليه بالقراءة حتى مات سنة (١٢٠ هـ) (٣)
_________
(١) ينظر ترجمته في: وفيات الأعيان ٥/ ٣٦٨ - ٣٦٩، وسير أعلام النبلاء ٧ / ٣٣٦ - ٣٣٨، وغاية النهاية ٢ / ٣٣٠، وتهذيب التهذيب ١٠ / ٤٠٧ - ٤٠٨، وشذرات الذهب ١ / ٢٧٠، وغاية الاختصار في قراءات العشرة أئمة الأمصار ١ / ١٢، ومعرفة القراء الكبار ١ / ١٠٧
(٢) ينظر: غاية النهاية ٢ / ٣٣٠، معرة القراء الكبار ١/ ١٠٨
(٣) ينظر ترجمته في هداية القاري / ٢٨، ووفيات الأعيان ٣ / ٤١ - ٤٢، وسير أعلام النبلاء ٥ ٣١٨ - ٣٢٢، وتهذيب التهذيب ٥ / ٣٦٧، وشذرات الذهب ١ / ١٥٧.
1 / 16
الثالث: أبو عمرو زبان بن العلاء عمار بن العريان بن عبد الله المازني البصري. ولد بمكة، ونشأ بالبصرة، ومات بالكوفة (١)، قرأ بالكوفة والبصرة على جماعة كثر، وليس في القراء السبعة أكثر شيوخًا منه، سمع أنس بن مالك، كان عالمًا بالقرآن والعربية، مع الثقة والأمانة والدين، قال عنه يونس بن حبيب: والله لو قسم علم أبي عمرو وزهده على مائة إنسان، لكانوا كلهم علماء زهادًا، والله لو رآه رسول الله ﷺ لسره ما هو عليه. توفي بالكوفة سنة (١٥٤ هـ) (٢) .
الرابع: أبو عمران عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة اليحصبي الشامي، (من يحصب دهمان) (٣) . عربي صريح النسب، قال عنه الإمام ابن الجزري: بلغت قراءته التواتر، كيف وقارئها ابن عامر من كبار التابعين، الذين أخذوا القراءة عن الصحابة) (٤)، كان إمام جامع دمشق وقاضيها وشيخ الإقراء بها. توفي بدمشق سنة (١١٨هـ) (٥) .
_________
(١) غاية الاختصار ١ / ٣٥
(٢) ينظر ترجمته في هداية القاري / ٦٤٨، ووفيات الأعيان ٣ / ٤٦٦ – ٤٧٠، وسير أعلام النبلاء ٦ / ٤٠٧ – ٤١٠، وتهذيب التهذيب ١٢ / ١٧٨، وشذرات الذهب ١ / ٢٣٧ – ٢٣٨.
(٣) ينظر: جمهرة أنساب العرب / ٤٧٨
(٤) النشر في القراءات العشر ٢/ ٢٦٢
(٥) ينظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء ٥ / ٢٩٢، وغاية النهاية في طبقات القراء ١ / ٤٢٣ – ٤٢٥، وتهذيب التهذيب ٥ / ٢٧٤، وشذرات الذهب ١ / ١٥٦، وغاية الاختصار في قراءات العشرة أئمة الأمصار ١ / ٢٩، والطبقات الكبرى لابن سعد ٧ / ٤٤٩.
1 / 17
الخامس: أبو بكر عاصم بن أبي النجود، واسم أبي النجود: بهدلة، الأسدي، شيخ الإقراء بالكوفة، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد السلمي، فجلس في موضعه، ورحل إليه الناس من الأقطار، جمع بين الفصاحة والإتقان، كان ضابطًا صدوقًا، روى عنه أبو عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد، وعدد كبير من الأئمة، توفي على أرجح الأقوال سنة (١٢٧ هـ) (١) .
السادس: أبو عمارة حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزيات التميمي الكوفي، كانت له الإمامة في الإقراء بعد عاصم، كان حجة ثقةً ثبتًا بصيرًا بالفرائض عالمًا بالعربية، حافظًا للحديث، فقال عنه سفيان الثوري: (غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض) (توفي سنة ١٥٦ هـ) (٢) .
السابع: علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الأسدي الكسائي الكوفي، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد حمزة الزيات، أخذ اللغة عن الخليل بن أحمد، فصار إمامًا في القراءات واللغة والنحو، وإمامًا للمدرسة النحوية الكوفية، توفي سنة (١٨٩ هـ) (٣) .
_________
(١) ينظر ترجمته في تهذيب التهذيب ٢ / ١٠٩، وسير أعلام النبلاء ٥ ٢٥٦، غاية النهاية ١ /٣٤٦ - ٣٤٩، وتهذيب التهذيب ٥ / ٣٨، ومعرفة القراء الكبار ١ / ٨٨، وهداية القاري / ٢٨.
(٢) ينظر ترجمته في: طبقات ابن سعد ٦ / ٣٨٥، ووفيات الأعيان ٢ / ٢١٦، وسير أعلام النبلاء ٧ / ٩٠ - ٩٢، وغاية النهاية ١ / ٢٦١ - ٢٦٣، وشذرات الذهب ١ / ٢٤٠، ومعرفة القراء الكبار ١ / ١١٠، غاية الاختصار ١ / ٥٦، شرح طيبة النشر / ١٠، وهداية القاري / ٦٤٨.
(٣) ينظر: غاية النهاية ١ / ٦٢، ووفيات الأعيان ٣ ٢٩٥ - ٢٩٧، وسير أعلام النبلاء ٩ / ١٣١، وتهذيب التهذيب ٧ / ٣١٣ - ٣١٤، وشذرات الذهب ١ / ٣٢١، ومعرفة القراء الكبار ١ / ١٢٠، وهداية القاري / ٦٨٥.
1 / 18
القراءات في كتب النحويين
القراءات أصل في كتب النحو، لأن القرآن الكريم بقراءاته المتواترة أصل للنحو العربي، ولأن النحو قد ارتبط بالقرآن الكريم منذ نشأته. وقد صرّح بذلك علماء العربية منذ عهد سيبويه (ت١٨٠ هـ)، وحتى المتأخرين من النحاة:
يقول سيبويه (ت ١٨٠ هـ): (في قول الله ﵎ (ما هذا بشرًا) (١)، في لغة أهل الحجاز، وبنو تميم يرفعونها، إلا من درى كيف هي في المصحف) (٢) .
ويعلق الزركشي (ت ٧٩٤هـ) على كلام سيبويه بقوله: (وإنما كان كذلك لأن القراءة سنة مروية عن النبي - ﷺ - ولا تكون القراءة بغير ما روي عنه) (٣) . ويقول سيبويه أيضًا: (فأما قوله ﷿: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) (٤)، فإنما هو على قوله: (زيدًا ضربته، وهو عربي كثير. وقد قرأ بعضهم: (وأما ثمود فهديناهم) (٥) . إلا أن القراءة لا تخالف، لأن القراءة السنة) (٦) .
ويقول أبو عمرو الداني (ت ٤٤٤هـ): (والأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل والرواية. إذا ثبت عنهم لم يردها قياس عربية، ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة، فلزم قبولها والمصير إليها) (٧) .
_________
(١) سورة يوسف /٣١
(٢) الكتاب لسيبويه ١ /٥٩
(٣) البرهان في علوم القرآن ١ /٣٢٢
(٤) سورة القمر /٤٩
(٥) فصلت / ١٧
(٦) الكتاب لسيبويه ١ /١٤٨
(٧) عن المنجد / ٦٥
1 / 19
تلحين النحويين للقرّاء
المعروف أن النحويين احتجوا بالقراءات القرآنية كما احتجوا، بعموم كلام العرب، فلا يوجد كتاب من كتب النحو المعتمدة إلا واستدل بالقراءات القرآنية. وأعتقد أن ما نقل من طعن بعض النحويين في بعض القراءات، هو محمول على أن القراءة لم تثبت لديه بما تقوم به الحجة، أو لأن الذي اجتهد قد غلب على ظنه أن هذه القراءة خطأ، أو وهم من أحد الرواة الذين نقل عن طريقه هذه القراءة التي طعن فيها (١) .
وقد استمد علماء اللغة والنحو قواعدهم من كتاب الله تعالى، وكلام رسول الله ﷺ، وكلام العرب الفصيح. فقعدوا القواعد، لتكون حامية للقرآن والسنة، بل لتكون في خدمة كتاب الله. والحق أنه إذا ثبتت القراءة حسب الأركان التي مرت بنا قبل قليل، فينبغي أن تكون القراءة هي الحكم على القاعدة النحوية، لا أن نرجع نحن بالقراءة إلى القاعدة النحوية، لأن هذه القراءة مسموعة عن أفصح العرب بالإجماع، وهو رسول الله ﷺ، وهو سيد الفصحاء، وسيد أهل البيان.
ومعروف لدى الباحثين - كذلك - أن القراءات المتواترة حجة عند كثير من النحاة، وقد ارتضوها ووافقوا عليها. وأن بعض القراءات لم يرتضه بعض النحويين، فتأولها، أو عارضها معارضة صريحة أو خفية، لسبب من الأسباب
من أسباب تلحين النحويين للقراء
اعتمد النحويون في تلحين القراء على جملة من الأسباب، منها:
١- أنهم كانوا يحتكمون إلى قواعدهم التي قعدوها هم، أو قوانينهم التي سنوها، فرد البصريون قراءات متواترة، كالفصل بين المضاف والمضاف إليه، وهي قراءة ابن عامر، وكالعطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، وهي قراءة حمزة، وغيرها مما سيرد - إن شاء الله - في هذا البحث.
٢- أحيانًا يخفى توجيه القراءة على بعض النحويين، فيسارع إلى ردها، كقراءة
_________
(١) ينظر القراءات القرآنية وأثرها في التفسير والأحكام ١ / ٢٤٩
1 / 20